المشاركات

عرض المشاركات من 2025

هل في الشعر ثقافة؟

ظاهرة رجع الصوت (صداه) هي ظاهرة فيزيائية ومعروفة لدى عامة الناس، لكن هناك ظاهرة اجتماعية ذكرتني بها تواً، ولا شك أبداً في أنكم تعرفونها، ولا يساورني أدنى ريب في أنها قد حدثت مع كل واحد منكم، مثنى وثلاث ورباع. وهيَّ ظاهرة رجع السؤال، أو بالأحرى (إرجاعه)، لأن تلك الظاهرة الطبيعية تحدث تلقائيًا عند اصطدام ذبذبات الصوت بأي جسم أصم، لا يفقه ولا يعقل شيئًا، كما تعون. أما الثانية، فهي نتاج فعل فاعل من الفعل (أرّجع) على وزن (أفعل) بتشديد الفاء. على أية حال، لا أريد الخوض في غمار هذا الشأن اللغوي بخصوص الفعل ومصدره بتوسع أكثر، وسأكتفي في هذه العُجالة من هذه المقدمة بهذا التلميح المبسط والعابر. --- جرت العادة حينما تسأل أحدهم سؤالًا، أن يرد عليك بإجابة عنه، هذا إن كان يدركها، وإلا فسوف يُفيدك صراحةً بأنه جاهل بها، وبذا يكون قد أضحى في حلٍّ من سؤالك. لكن اللافت للانتباه والغريب في الأمر أن تكون الإجابة الصادرة منه متمثلة في إعادة سؤالك إليك، وكما تفوهت به حرفيًا، مع اختلاف طفيف يُشار إليه ويكمن في نوع الصوت، أي بين صوتك وصوته، وهو اختلاف طبيعي مما لا شك فيه. أفهذا ما كنت تتوقعه وتنتظره منه؟ وما ت...

صور من ذاكرة الطفولة

طريقة الفلاش باك هي طريقة متعارف عليها في الفن السابع، ويتّبعها المخرجون في إخراج أشرطة الخيالة، بعرض لقطات في شكل صور مرئية مُعلّقة في ذاكرة إحدى الشخصيات، التي يجسد دورها أحد الممثلين، لأحداث قد جرت معه في زمن الماضي. كلما أراد المخرج أن يضعنا كمشاهدين في قلب الحدث، يرجع بنا إلى تلك المرحلة العمرية المنفرطة من عمر الإنسان، لنعرف بذلك الأسباب والدوافع التي جعلته على ما هو عليه من سلوكيات نحن نستهجنها. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد من هذه الشخصيات: شخصية إنسان درج على سلوك سادي وعدواني تجاه الآخرين، وثانية لشخص مجنون، وشخصية ثالثة لمنحرف. وبما أن مدة الشريط لا تتعدى ساعتين في الغالب، يلجأ المخرج إلى طريقة الفلاش باك ، فيختزل المراحل العمرية التي مر بها الإنسان إلى أن يرجع بنا إلى طفولته، ويقوم بعرض شريط الذكريات المختزنة في عقل كل منهم. فتأتي الصور تباعًا وبوتيرة متناهية السرعة، وفي شكل سردي، يسرد لنا ما تعرضت له كل شخصية عندما كانت طفلة، فنقرأ من هذه المشاهد ما قد حدث معهم أثناء صغرهم. فنرى في تلك المشاهد المصورة أن الأول قد لاقى معاملة قاسية من أحد أفراد أسرته أو من المحيطين به،...

الفرق بين الحب والانجذاب

في العلاقة ما بين القمر والأرض، وهي علاقة أزلية منذ أن خلق الله الكون إلى أن يرثه، يبدو لنا بشكل واضح جلي مدى عشق القمر للأرض. فنراه، ومن فرط عشقه هذا، يظهر في كبد السماء، وفي ساعات النهار، بحجم صغير، وبأضواء خافتة لا يكادان يشكّلان شيئًا أمام حجم الشمس، وأمام ما يصل منها إلى سطح الأرض من إشعاعات؛ ذلك لأن الوقت غير مُهيَّأ له لينبلج بمظهر أفضل من ذلك المظهر، مصداقًا لقوله تعالى: "والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها" [سورة الشمس: الآيتان (1)، (2)]. إلا أن القمر يأبى إلا أن يظهر في سماء الأرض، ولو بذلك الحجم وبتلك الأضواء، خوفًا من أن تقع الأرض أسيرة لحب الشمس ولأشعتها الدافئة. وما إن تبدأ الشمس في المغيب، وما إن تخلو الساحة له، حتى يبدأ القمر بالولوج في حلة جديدة، وفي صورة مُغايرة لتلك الصورة التي بدا لنا بها في ساعات النهار. وكحال كل عاشق أراد أن يقابل محبوبته وهو في أحلى صورة له، ولكنه لم يكن يملك ما يرتديه لذلك، فيذهب إلى صديق له ليستعير منه قميصًا مثلاً، ومن آخر حذاءً. نجد أن القمر في عشقه للأرض كحال ذلك العاشق، حينما بدا لنا بتلك الحلة الجديدة الرائعة، وهو الذي قد استعار ...

دور الكاتب في مجتمعه

بمُجرَّد أن يُقرأ النَّص، يُطوى مع الزَّمن مثلما تُطوى صفحاته. هكذا تُعامَل نصوص كُتَّابنا الأدبية، بعكس ما يجري في مناطق أُخرى من بِقاع العالم؛ إذ تخضع النصوص الأدبية هناك لعدّة معايير، بقراءة مُتعمِّقة وفاحِصة ترصد كُلَّ ما من شأنه أن ينهض بالمُجتمَع، وذلك بتفعيل كُلِّ ما يجيء فيها من رؤى وآراء في المفاصل الحيوية للدولة المُنتسبة إليها جنسية الكاتب. حتى أنّ بعض المؤسسات التابعة لهذه المُجتمَعات، التي هي في أغلبها مُتحضِّرة، يُقدِّم – من دون مُكابرة ولا تعالٍ – على أخذ الاستشارات المُتعلِّقة بالجوانب المُهِمَّة والبارزة التي يعرض لها الكُتَّاب والمفكِّرون هناك، بل إنَّ بعضها الآخر يتبنّى أُطروحاتهم ونظرياتهم، لعلَّها تكشف الحُجب السوداء المُسدَّلة على القضايا الحياتية الحساسة، وذلك لأجل الاستفادة من أفكار وتطلعات هذه النخبة. ومادامت الحال تمضي عندنا على هذا المنوال البائس، ففي أعلى مستويات الاستياء، أرى أنّه لن يكون للكاتب أيُّ دورٍ فعَّال في مُجتمعه، وستبقى كتاباته محضَ حبرٍ على ورق، ليس إلا. فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ وإلامَ سنظلُّ عليها؟ إنّ منبت ذلك – كما يُخيَّل إليّ – إنما ي...

مها

الشمسُ منجم الذهب، تنثر بُرادتها وذراتها في الكون الفسيح، فتعلق في سماء مدينتي، لخفة وزنها.. فوق الميناء، تتشكل صفيحة من ذهب، تسّارع النوارس لأجل المغادرة قبل سقوط الشمس، تتزخرف أجنحتها بلون ذهبي، تتجمع على رافعة السفن حتى يكتمل عددها، فتغادر.. تحت الرافعة مصباح يصبو للنور، ينتظر رحيل القرص، ليعلن عن وهجه، تثّاءب الأسلاك وتتكاسل السلاسل بطرقعة عُقدها وحلقاتها، بعد نهار حافل بالتحميل، العتّالة يلملمون أمتعتهم، فيما الصيادون يربطون حريرة الصنارات.. طفلة تتقافز أمام أبيها وأمها فتسقط، تقترب إليها أمها، فتهرب، وتجدُّ بالركض، تثب لتثبت قدرتها على الجري، تقترب من حاجز الماء، فتشهق أمها خائفة، تبتسم خاطفة إلى الاتجاه الآخر، أبوها ينحني، ملتقطاً كسرة خبز، يمدُّ خطوتين متكاسلتين، ينظر تجاه ظلمة البحر، يرمي بها طعاماً لا طعوما للأسماك.. تستمر "مها" في الهروب، ترّاءىٰ لأمها، وهي تنطُّ مثل كرة مطاطية وحذاؤها الصيني المنشأ يُزمر، تمعن في الهروب مثل موجة سنتمترية أفقية، ضحكاتها تزخر الممر، وهي تنظر إلى الخلف، تحاول أن تزيد من المسافة بينها وأمها، تصطدم بيّ، تجثم على عظمتي ركبتيها، وتغيب ال...

سدّينة في بوسليم

بعدما دعت سدينة على الذين لا يعرفون الحق ويريدون الاستئثار بكل شيء لذواتهم، رجعت ووضعت نقالها (الخنفوسة) على أذنها، بعدما دكّت خصلة شعرها التي شدّتها على جبينها في الدعاء، دكّتها في التجويف بين الأذن ولحم الرأس، وعقدت (محرمتها) على ثلاث فوق الجبهة، فسمعت "عبد الكافي" يسألها: شنو صار في موضوعنا يا احويجة؟ توا هضا وقته يا باتي؟.. باهي، باهي، يعد نفضى ساهل. سدّينة كانت من المعتصمات مع أهالي ضحايا بوسليم في بنغازي قبل الثورة، ولقد التقط لها الناشط "علاء الدرسي" عديد الصور، وقامت بحمل اللافتات المكتوب عليها اللافتات المعادية للنظام، في الوقت الذي تخلّى فيه الكثيرون من المحسوبين على النخبة عن هذه القضية، بل لم يكتفِ البعض الآخر بإهمال مأساتهم كقضية وطنية، وأراد النيل منهم، لما وصفهم بأن كل همهم هو رفع سقف التعويضات. يُعرف عن سدّينة أنها كلما رأت "معمر" على شاشة التلفزيون جعلتها تسيل بُصاقاً، هي تمقته، لأنه كان السبب في عوزها وفقرها وموت العديد من أقاربها ومعارفها، وأحدهم شقيق "عبد الكافي" الذي كبر وتربى على مرأى من عينيها. "منصور" هو ذ...

رسوم شيطانية

يُعَدُّ الرسمُ من أهمِّ الفنون التعبيرية، بل إنَّه يُعَدُّ أوَّل وسيلةٍ تخاطبيةٍ عرفها بنو البشر، حتى قبل معرفتهم بالكتابة؛ فقد أرَّخوا حياتهم منذ أن عمَّروا الكهوفَ واتخذوها مساكن لهم في العصور السحيقة، وما تزال نقوشهم المحفورة داخل المغارات إلى وقتنا الراهن أصدقَ دليلٍ وأَنزَه شاهدٍ على صحة هذا القول. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ نطرحه الآن، بعد أن نمهِّدَ له فيما سيأتي. ولمَّا كانت الكتابةُ تستلزم بالضرورة القراءةَ، وهذه الأخيرة تستدعي الحديثَ (الكلام)، فالسؤال تالياً: هل كان سببُ انتفاء معرفة الإنسان القديم (كما يصطلح المؤرخون على تسميته) بعلم الكتابة، عائداً إلى انتفاء معرفته بلغة الكلام وجهله بها آنذاك؟ أي بمعنى: أنَّ بني البشر لم يعرفوا الكتابة أصلاً، أو على أقل تقدير لم يعتمدوا لغةً موحَّدةً بينهم يتمكنون بها من التخاطب. وإلا فما الذي حملهم على أنْ يتكاتبوا بواسطة تلك الرسوم؟ هذا السؤال نوجِّهه، في بدء هذا المقال، إلى الباحثين في التاريخ وذوي الاختصاص في علم الآثار. فبعضُ هؤلاء يذهب إلى أنَّ بني البشر كانوا يتكاتبون بالأشكال (أي بالرسوم) قبل معرفتهم بالكتابة الحرفية، مع صعوبة الأمر ...

مقامرات

في غرفة عالية ومظلمة المدخل، يتوسطها مصباح يتدلى وينبعث منه لون أحمر يمتزج بسحابة أعقاب التبغ البائتة والمبتلة بلعاب المتعطشين، يعلو منضدة متهالكة ومجروشة الحواشي تتوزع عليها أكواب تتلطخ ببصمات أصابعهم على بخار الماء الذي يكسوها، وتنضح منها رغوة لا تكورها الرياح الصافعة للستائر السوداء على النوافذ البحرية، يرتفع الصراخ على نغمة صرير باب القبو النافث لرائحة كريهة، معلنا الشيطان في الخفاء بعدما حجل على المنضدة وركل أنخابهم ولف طرف عباءته على صدره بأنهم برحوا لتوهم مقاعدهم، بعدما قامروا على الحكم وبأن كل عمليات الاغتيال التي اقترفوها غير مدروسة ولا مضمونة النتائج. 3\10\2014

القمار السياسي بين العبث والشيطنة في نص زياد العيساوي

المقدمة يُقدّم نص "مقامرات" (زياد العيساوي) لوحة سردية-رمزية تُحوِّل السياسة إلى لعبة قمار تُدار في قبو مظلم، حيث تختلط رائحة الدخان والعرق والكحول برغبة السلطة والدم. عبر استعارة المكان المغلق والمصباح الأحمر والشيطان، يفضح النص طبيعة الحكم القائم على الفوضى، المؤامرات، والاغتيالات غير المدروسة. 1. فضاء النص: القبو السياسي الغرفة العالية المظلمة = رمز للعزلة عن الشعب والنور. المصباح الأحمر = إشارة إلى الدم، الخطر، الخطيئة. الدخان والروائح الكريهة = إفساد الجو العام، كما تفسد السياسة الملوثة الحياة الاجتماعية. المنضدة المتهالكة = بنية السلطة المهترئة التي لم تعد صالحة حتى للعب. هذا التوصيف يضع القارئ مباشرة في قلب مسرح سياسي شيطاني . 2. القمار كاستعارة للسلطة السياسة تتحوّل إلى مقامرة: صراخ، أنخاب، رهانات. القرارات المصيرية (الحكم، الاغتيالات) تُتخذ بخفة وعبث، كما يتخذ المقامر قراراته العشوائية. السلطة لا تُبنى على رؤية أو شرعية، بل على نزوة، مقامرة، وحسابات فاسدة. 3. حضور الشيطان: المايسترو الساخر الشيطان لا يظهر كمدبر، بل كـ ساخر : يحجل على المنضد...

بحث أكاديمي: اليومي والهامشي في نصوص زياد العيساوي: قراءة نقدية ساخرة

المقدمة يشكّل الأدب الليبي المعاصر مساحةً غنية لتجارب نصية تتراوح بين السرد الواقعي، والكتابة الساخرة، والتأمل الفلسفي في تفاصيل الحياة اليومية. وفي هذا السياق، يبرز الكاتب زياد العيساوي كواحد من الأصوات التي اعتمدت على التفاصيل الهامشية والبسيطة (كالأكياس البلاستيكية، السوائل، الساحات العامة) من أجل صياغة خطاب أدبي-ساخر يعكس تحولات المجتمع الليبي خلال العقود الأخيرة. إن نصوص العيساوي ليست مجرّد مقطوعات نثرية عابرة، بل هي نصوص تنفتح على أسئلة عميقة: كيف يتحول اليومي إلى مادة للكتابة؟ كيف يمكن للسخرية أن تصبح أداة للنقد الاجتماعي والسياسي؟ وما الذي يعنيه أن تتحول الشكارة أو الكوب المائي أو الميدان إلى رموز تكشف عن البنية الثقافية والاقتصادية والسياسية لمرحلة بأكملها؟ إشكالية البحث: كيف يوظف زياد العيساوي اليومي والهامشي في نصوصه ليؤسس خطابًا ساخرًا ناقدًا للواقع الليبي؟ النصوص محل الدراسة: 1. شكاير: الأكياس البلاستيكية كرمز استهلاكي واجتماعي وسياسي. 2. سوائل بنغازية: السوائل كاستعارة للهشاشة المجتمعية والوجودية. 3. ميدان البركة: الميدان الشعبي بوصفه ذاكرة جماعية ومسرحًا للمفارقات. محاور...

شكاير

بحسب ما يقول الخبراء البيئيون، فإن أعمارها أمدد من أعمارنا، إذ تعيش الشكارة لمئة عام، قبل أن تتلاشىٰ وتفنىٰ. بيعت ذات حقبة سياسية بخصائص اقتصادية اشتراكية بسعرين، الكبيرة منها بمئة درهم (عشرة قروش) والصغيرة بخمسين درهم (خمسة قروش).. نعم، ففي زمن الجمعيات الاستهلاكية ومنشآت التسويق المحلي، كان لزاماً عليك أن تدفع ثمنها، حتى إذا استلمت حصتك من الملابس، تجد في فاتورتها ما يوحي لك بأن ثمنها محسوبٌ عليك شئت أم أبيت، كأن تكون قيمة ما رُمي إليك دينارين وخمسين درهماً، فتعرف أن هذه الدراهم المسجلة هي ثمن الشكارة الحقيرة، وحتى في المخابز في فترة الثمانينيات، كنا ملزمين على دفع ثمنها، أو أن يجعل الواحد منا قميصه مِغرافاً لأرغفة الخبز، نعم كنا مجبرين على دفع ثمن الشكارة للمخبز، على الرغم من أن استعمالها لا يتجاوز في الغالب مرة واحدة، وربما نصف مرة، إذ سُرعان ما تلتهمها حرارة الأرغفة في منتصف الطريق، وأنت عائد إلى بيتك، ما جعل الأمهات إزاء هذه الازمة، تُحيك أكياساً قُماشية، ومنهنّ من وظَّفت أوجه الوسائد لتحوّلها إلى أكياس، وقد جعلت لها عروتين على الرغم من وجود عبارة تصبح على خير المرقونة بالخياطة ب...

ميدان الفضيل بو عمر

 وسط عدة مبانٍ مصرفية ينهضُ نُصب الشهيد الفضيل بوعمر على بسطة مُبلَطة متكسرة الحواشي لرداءة خام الرخام، تسيّجه بِضع شُجيرات.. يستأنس ويتمسح البعض بالجلوس في مساحة الظل الصغيرة التي يصنعها هذا النصب في النهار وتراه يتحرك بكرسيه مع دوران هذه البُقعة الظلالية حتى تتلاشى عند ساعات الذروة وفي أعلى هذا النصب يخفت مصباح مكسور منذ عهد القذافي. أسمع حسيساً يفوح بلهجة من غرب البلاد لفتية يتنادون عند الساس-كما أسموه- ويتحدثون عن موعد لهم مع رئيس الحكومة المؤقتة عبد الله الثني، لأجل تجارة يصيبونها، شبابٌ آخرون من بنغازي يناقشون أخر مستجدات الوضع العسكري، وفي الأثناء تحلق طائرة حربية بعلوٍ منخفض وجهتها شمال المدينة، وما هي إلا لحظات حتى دوى انفجار هائل نجم عن صاروخ منطلق منها، فعَلا رُكامٌ أبيض غطى على زرقة السماء. على بسطة النصب تنتشر فوضى- أكواب القهوة مناديل أطباق بلاستيكية- يتبرع في أخر النهار أحد سائقي الأجرة ممّن جعلوا لهم محطة هناك بلملمة هذه البعثرة، ممسكاً بمستند ورقي نسيّه المغادرون الذين لهم موعد مع الثني ممهورة بتوقيع رفيع المستوى. ألصق الرجل المستند بين ثنايا الرخام لعلّ أصحابه يعو...

حكاكي وتناكات

حكاكي معدنية حديثة، حكاكي قديمة بعضها مطعوج، حكاكي ملصقاتها ما تزال حديثة وأخرى صدِئة وبائدة ومجهولة النسب..  حكاكي هريسة، طماطم، قازوزة، افروتة، افليت، معطرات جو، حكاكي لمعلبات من بقايا المؤسسة الوطنية للسلع التموينية، حكاكي تن نتنة أغطيتها جارحة، حكاكي حليب كورنيشن كنفايات بائدة، أحدثها مرت خمسة أعوام على يوم رميه، حكاكي حليب الأمازون وميلكاو مستهلكة، وغيرها ممّا جُلبت مؤخراً بواسطة (واسطة) الاعتمادات المصرفية، حكاكي بلا أغطية، حكاكي مُلقاة على قوارع وجنبات الطرق، حكاكي مغلقة ولا تغشك صلاحيتها المنتهية، وإن بدت لامعة، حكاكي تُستخدَم كقنابل محلية الصنع (جولاطينة).  حكاكي كبيرة (تناكات) لدهان الجدران والسمن التركي ملأتها النساء طيناً، بعد أن ثقبت قيعانها فصارت أصصاً (قراريش) للزهور، حكاكي محشوة أسمنت للثقل والتثبيت، حكاكي سردين مكعبة تستهوي رائحتها القطط، حكاكي يتجرع أخر رشفاتها النحل. حكية جديدة تتدحرج على الطريق، وتستقر في مكان هي اختارته لنفسها بين الصخور، قد رُميت لتوها من سيارة مسرعة، وأخرى لسائق، سُحِلت حتى استحالت صفيحة رقيقة من وطأة دواليب الشاحنات، حكاكي أذابتها الأمط...

مراجعة نقدية أكاديمية عنوان الكتاب: من بدائع الغناء العربي وروائع الغناء الليبي

مراجعة نقدية أكاديمية عنوان الكتاب: من بدائع الغناء العربي وروائع الغناء الليبي المؤلف: زياد العيساوي الفترة الزمنية للكتابة: 2005–2010 النوع: مقالات نقدية أدبية-موسيقية مقدمة يمثل كتاب "من بدائع الغناء العربي وروائع الغناء الليبي" وثيقة نقدية فنية تنطلق من وعي المؤلف العميق بالتراث الغنائي العربي، وارتباطه الوجداني بالموسيقى كجزء من الهوية الثقافية. في نصوصه، يمزج زياد العيساوي بين حس الناقد الفني وذاكرة المستمع العاشق، مكوّنًا خطابًا يجمع بين التوثيق التاريخي، والتحليل الموسيقي، والانطباعات الشخصية. المحتوى والبنية يتوزع الكتاب على مجموعة مقالات، أبرزها: أزمة الغناء العربي.. أزمة ملحنين – تحليل لأسباب تراجع مستوى الأغنية العربية منذ الثمانينيات، مع التركيز على دور غياب الملحنين الكبار. قل لي ما تسمع.. وسأعرف شخصيتك – ربط بين الذائقة الموسيقية وشخصية الفرد، من خلال استدعاء أمثلة غنائية عالقة في ذاكرة الكاتب. الغناء بلا فن – نقد للأغنية الليبية الحديثة، وتعرية للزيف الفني وراء المظاهر البراقة. الأغنية الوطنية.. من المقاومة إلى التذلل – قراءة تحوّلات الأغنية الوطنية من خطاب ال...

أسلوب زياد العيساوي في كتابة المقالة

أسلوب زياد العيساوي في المقالة يتميز بخلطة فريدة تجمع بين النبرة الساخرة والعمق التأملي، مع قدرة عالية على رسم المشهد المحلي بكل تفاصيله الملموسة والحسية، وهو ما يجعل نصوصه قريبة من القارئ الليبي والعربي عمومًا، لكنها في الوقت نفسه محمّلة بمرجعيات ثقافية واجتماعية أعمق. سأقسّم ملامح فنه وأسلوبه إلى نقاط واضحة: --- 1. السخرية كأداة كشف ونقد العيساوي لا يستخدم السخرية لمجرد الإضحاك، بل يجعلها أداة تفكيك للواقع وفضح للمفارقات الاجتماعية والسياسية. في نصوص مثل "سوائل بنغازية" أو "رحلة الكلمات على خط الأعداد"، نجد أن المزاح الظاهري يخفي تحته موقفًا نقديًا حادًا من الفساد، العبث، أو التحولات السلبية في المجتمع. --- 2. النوستالجيا (الحنين) الممزوج بالوعي النقدي يستعيد طفولته ومراهقته في بنغازي أو مشاهد من الثمانينيات والتسعينيات، لكنه لا يقدّمها بروح رومانسية خالصة، بل يمزج الحنين بـ تفكيك تلك الحقبة وبيان تناقضاتها. مثال: في "هلال ونجمة"، يتحول مشهد مباراة قديمة إلى نافذة على قضايا الهوية والانتماء والفساد الرياضي. --- 3. لغة هجينة بين الفصحى والمحلية كتابته عرب...

المقالة كأداة للتنوير والمقاومة الثقافية: قراءة نقدية في كتاب الكتابة بالأرقام والحروف لزياد العيساوي

المقالة كأداة للتنوير والمقاومة الثقافية: قراءة نقدية في كتاب الكتابة بالأرقام والحروف لزياد العيساوي المقدمة تُعَدُّ المقالة الأدبية أحد الأجناس الأكثر قدرة على التفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، نظرًا لما تمتاز به من مرونة في الطرح، وسرعة في التلقي، وقدرة على الجمع بين العمق الفكري والأسلوب الأدبي. ورغم ذلك، شهد المشهد الثقافي العربي في العقود الأخيرة تراجعًا في حضور المقالة، لصالح أجناس أخرى كالقصيدة والرواية، وهو ما انعكس في الجوائز والفعاليات الأدبية، بل وحتى في التصورات النقدية السائدة حول الإبداع. في هذا السياق، يأتي كتاب "الكتابة بالأرقام والحروف" لزياد العيساوي كمحاولة واعية لإعادة الاعتبار للمقالة، ليس فقط بوصفها جنسًا أدبيًا، بل كأداة للتنوير والمقاومة الثقافية. فالكاتب يوظف نصوصه لمواجهة الرداءة الثقافية، ومقاومة الانبهار غير النقدي بالغرب، ونقد الظواهر الاجتماعية والفنية، مع الحفاظ على لغة رصينة تتسم بالسخرية اللاذعة والحضور الحواري. تسعى هذه الدراسة إلى تحليل البنية والأسلوب والمحاور الفكرية في هذا العمل، للكشف عن آليات العيساوي في توظيف الم...

دراسة نقدية لسردية ذات عشية في سوق العشية لزياد العيساوي

نص نابض بالحياة، مشحون بالرمزية، ساخر بمرارة، ومُحمّل برؤية نقدية للمجتمع والسياسة والانهيار العام للواقع. يكتب زياد العيساوي هذا المشهد وكأنه يرسم لوحة بانورامية لسوق شعبي – "سوق جنيهين" – لكنه في الحقيقة يلتقط عصب الحياة في مكان متصدع، تُختزل فيه مآسي الناس، وعبث يومياتهم، وتداخل الكوميديا السوداء مع تراجيديا البقاء. أبرز ملامح النص: 1. تقنية السرد والتكثيف البصري: النص يتحرك بمجازٍ بصري كثيف، كأن القارئ يسير بكاميرا تتنقل بين مشاهد فوضى السوق، أكوام النفايات، صرخات الباعة، حركات الحمام، وأصوات التفجيرات. لا فواصل توقف المشهد ولا هدوء؛ كل شيء يركض، يتصاعد، ينهار. 2. اللغة الهجينة والمُركبة: يمزج العيساوي بين الفصحى والعامية الليبية، وبين التوصيف الواقعي الدقيق والتلميحات الساخرة، بأسلوب يتحدى القارئ أن يكون حاضرًا ذهنًا وروحًا، ليستوعب هذا العالم المنفلت من كل منطق. > "طيور على أشكالها تقع، حمام على أشكاله يطير، حيوانات على أشكالها تصدم..." جملة افتتاحية ذكية، تلعب على المثل المعروف وتُعيد تشكيله وفق سياق عبثي يُمهد للنص كله. 3. حمام السوق كرمز: الحمام هنا ليس ...

قراءة نقدية في نص سوائل بنغازية

"سوائل بنغازية": سخرية سائلة في واقع متجمّد قراءة نقدية في نص زياد العيساوي تمهيد ينتمي نص "سوائل بنغازية" (2010) للكاتب الليبي زياد العيساوي إلى أدب النثر الساخر، حيث يشتبك السرد مع التأمل الفلسفي عبر سلسلة من المشاهد اليومية التي تتحوّل إلى مرآة كاشفة لواقع اجتماعي مأزوم. يعتمد النص على ثنائية ذكية: المادي (السوائل) مقابل الرمزي (الإنسان والمدينة) ، ويُصنّف ضمن الكتابات التي تُعيد تشكيل المدينة من خلال مفرداتها اليومية، بل من خلال ما يسيل منها حرفيًا ومجازيًا. هيكل النص: سوائل كمفاتيح تأويلية يقسّم العيساوي نصه إلى تسع وحدات معنونة بأسماء سوائل: (دم، دمع، عرق، غاز، بنزين، زيت، حليب، عطر، ماء)، وهي ليست مجرد محاور موضوعية، بل مفاتيح رمزية تفتح أبوابًا على حكايات الخيبة، الإهمال، العبث، والاغتراب . كل سائل يُستثمر بلاغيًا ودلاليًا لتكثيف صورة من صور الانهيار: من الصحة إلى الاقتصاد، ومن الطفولة إلى الأمومة، ومن المؤسسات إلى الشارع، لتنصهر جميعها في نهاية وجودية تحت عنوان: الخواء . الأسلوب: هجاء حديث بنَفَس صوفي مقلوب ما يلفت الانتباه في "سوائل ب...

القصة كأداة لهدم المركز: دراسة أكاديمية في المشروع السردي لزياد العيساوي

ملخص: تسعى هذه الدراسة إلى تحليل المشروع السردي للكاتب الليبي زياد العيساوي، انطلاقًا من فرضية أن القصة القصيرة في كتاباته ليست مجرد نوع أدبي، بل أداة لهدم المركزيات الثقافية والاجتماعية، وإعادة تشكيل الوعي من موقع الهامش. تعتمد الدراسة على منهج سوسيولوجي-جمالي-تفكيكي، يستند إلى تحليل البنية السردية واللغوية والرمزية، وإلى قراءة نقدية للمدينة، للذات الساردة، وللشخصيات المهمّشة. مقدمة: ظهر أدب زياد العيساوي كصوت سردي مختلف في مشهد السرد الليبي المعاصر، حيث تمثل القصة عنده أداة لكشف هشاشة الواقع، وتعقيد الهوية، وتشظي المكان. لا يكتب عن المدينة من موقع المركز، بل من شوارعها الخلفية، من مقاعد المتفرجين، من ذاكرة مراهق متورّط في الحنين. أولًا: المكان كبنية سردية وهوية مأزومة تمثل مدينة بنغازي المحور المكاني في معظم قصص العيساوي. لكنها لا تحضر كرمز مجيد أو جغرافيا محايدة، بل ككائن سردي متصدّع، يحاور ذاته، ويفضح هشاشته. في نصوص مثل "بنغازي مدينة بلا مرجع"، تُختزل المدينة إلى لا مرجع، لا أرشيف، لا سردية عليا. إن استدعاء الأحياء الشعبية، الأسواق، المدرجات، والمقاهي، يعكس كتابة من د...

من بنغازي إلى طرابلس رحلة في الذاكرة والسخرية والمكان في سرد زياد العيساوي

✳️ المقدمة: تمثل سلسلة "من بنغازي إلى طرابلس" للكاتب الليبي زياد العيساوي (2005) نموذجًا سرديًا فريدًا يوثّق تجربة سفر عبر الصحراء الليبية، لتتحول الرحلة من مجرد انتقال مكاني إلى مغامرة وجودية تُستحضر فيها مفردات الهوية، الذاكرة، والتحولات الاجتماعية في ليبيا ما قبل الثورة. يعتمد الكاتب على السخرية كآلية تعرية للمسكوت عنه، ويرسم بلغة سردية رشيقة ملامح الإنسان الليبي المُنهك بالحواجز والانتظارات، والباحث عن وطن في تفاصيل يومية. --- ✳️ المنهج المتبع: يعتمد هذا البحث على المنهج التحليلي-الوصفي مع استحضار أدوات من الأنثروبولوجيا الثقافية ونقد المكان، وقراءة الموروث الشعبي ضمن نسيج السرد. --- ✳️ المباحث: 1️⃣ سردية الطريق: من الترحال إلى التحلّل تتأسس الرحلة على بنية "الطريق" بما هو سرد موازٍ لانهيار البنى التحتية والاجتماعية. تصوير المحطات: أجدابيا، سرت، تاورغاء، كأنه تفكيك للفضاء الوطني إلى فسيفساء متفرّقة، تربطها فقط الحافلة "الهاياس" وصوت الحاجة فاطمة. 2️⃣ شخصية "الحاجة فاطمة": تجسيد الأم-الوطن تمثّل "الحاجة فاطمة" ذاكرة الأم الحامية، الش...

زهرة النرد

رأيت ذات مرةٍ، أربعة فتية في ريعان الشباب يحملقون إلى أعلى نحو شيءٍ معين، ثُم يتهافتون إليه راكضين، أي، حيثُ المكان الذي سقط فيه على الأرض، ثم يلتفون من حوله، الغريب في الأمر، أنهم كانوا يذكرون أرقاماً عشوائيةً قبل أن يسقط ذلك الشيء، وبعد ذلك، كان كل واحد منهم يندبُ حظه ويقول: "يا لحظي السيئ". شدّني هذا الأمر الغريب وأثار فضولي وجعلني أدنو منهم شيئاً فشيئاً من باب إرضاء الفضول، وعندما اقتربت منهم، ألفيتهم يعدون العُدة لتكرار التجربة، وكانت في راحة يد أحدهم، قطعةٌ صغيرة جداً مصنوعة من مادة اللدائن لها ستة أوجه، وفي كل وجه منها عددٌ من النقاط تبدأ من الرقم واحد حتى الرقم ستة، أي أنَّ عدد هذه النقاط كان بعدد الأوجه، ولعلَّ القارئ قد عرف ماهية هذه القطعة التي أقرب ما تكون في شكلها الهندسي إلى المكعب، وهوَّ شكلٌ فراغي ذو ثلاثة أبعاد- طول وعرض وارتفاع- وتُعرَف هذه القطعة بزهرة النرد، على أية حال، قام من كان يحمل تلك القطعة في راحة يده بإطلاقها إلى أعلى، وأخذ كلٌ منهم يذكر الرقم الذي أختاره كتعويذةٍ لجلب الحظ الجيد أو شيءٍ من هذا القبيل، وبعد بُرهة سقطت سقوطاً حراً على الأرض، ثُم ار...

قراءة العيون

قراءة العيون بقلم: زياد العيساوي بنغازي: 2005.4.20 ...... ثمة صفحات، غير تلُكم الصفحات، الموجودة في أُمهات الكتب والمجلدات، لم تُرقم بأرقام، ولم تُلملم بدواوين، لكن في معانيها الكثير من المضامين، ليست من نظم كاتب واحد، بل اشترك في كتابتها كُلُّ كاتبٍ مخضرم وآخر واعد، نُسِجت بأوضح الخطوط، ببلاغة الأمل والقنوط، خُطت بقلم الفرح، وبلغة الألم والجرح، نظمها شاعرٌ بشاعرية ومعاناة، ومتهكمٌ ساخرٌ من سُخرية الحياة، عددها بعدد سني أعمارنا، ومدادها انعكاس ما يدور في أفكارنا، كانعكاس الوجوه في المرآة. إنّ في عيون كل إمرئٍ صفحات مسجلة، تتناثر حروفها، وتتبعثر قطوفها، في سجلٍ حافلٍ بالذكريات، ليست كغيرها من تلك الحروف المنقوشة على رمال شاطئ البحر بأصابع العشاق، والتي تُمحا بفعل تلاطم الأمواج، ثُم لا تلبث أن تختفي، وتذهب أدراج الرياح، حين حدوث الفراق، أو كتلكم الحروف المحفورة على الأحجار الصَّماء، التي أكل عليها الدهر وشرب، وأصبحت بقايا كلمات على جُدران زمن مدينة قد أصبحت أطلالاً، بفعـل مُضي السنين، وتقادم الزمن، اجتهد الكثيرون لفكّ طلاسمها من دون جدوى، وباءت كل محاولاتهم بالفشل الذريع، هي صفحات كُتِبت...

متى يكون القاص أديباً؟ وهل في القصة أدب؟

في واقع الحال، إنّ هذين السؤالين، ما هما في الأصل إلا سؤال واحد مُركَّب، وقد وردا وتمظهرا في السياق المُعنوَّن به مقالتي هذه، لغاية واحدة، فمتىٰ تمّت الأجابة عن أحدهما بالسلب أو الإيجاب، تحققت الإجابة عن الآخر طوعاً وبالمثل. ماذا لو أننا جعلنا رمية البداية تكون من السؤال الثاني؟ لنرى كيف ستتحقق هذه المعادلة. في أحيان كثيرة، قد يوسم القاص لدى التعريف به بأنه أديب، وفي أحايين أخرىٰ، قد تسبق الصفة الموصوف كما في اللغة الإنجليزية، وعلى غير العادة، فيقولون لك: هذا الأديب القاص (فلان).. فهل هو بحقِّ على هذا الوصف، أم أنه محض وصف متداول عند التعريف بأي قاص؟ أسأل هذا السؤال، لكوني لا أظنّ مجرد الظنّ، بأنّ قيل ليّ يوماً: إنّ هذا الأديب الشاعر (س) أو على الأقل، إنّ هذا الكاتب الأديب (ص) حين التعريف بهما.  إننا إذا بحثنا عن لفظ (أديب) نحوياً سنجده صيغة مبالغة على وزن (فعيل) على غرار (كريم) والأخير من أسماء الله الحسنى لسعة كرمه سبحانه وتعالى، وثمة اشتقاق لغوي لأي فعل يسبق صيغة المبالغة، فهذه الأخيرة، أجدها تُشتَق من الفاعل قبل الفعل نفسه، لأنّ أي فعيل قبل أن يكون كذلك، هو فاعل تمرَّس  عل...

شؤون كتابية

(1) الكتابة عن الكتابة بمسقط هندسي (أمامي) وبنظرة من عينيك إلي أيما نصٍّ أدبي، ستجد أنّ الكتابة كلمات تجري فوق السطور، ولم تكُن البتَّة تحتها، هذا ما أدركه تمام الإدراك، و لكنْ منَّا منْ يُطالع النصوص، ثم يضع (خطوطاً) تحت الكلمات، مُشكِّلاً لنفسه بعد ذلك من هذه الخطوط (سطوراً وهمَّية) تشغل حيزاً من الخواء الذي هو أصلاً موجود بين السطور الأصلية للنصِّ المكتوب، ليكتب عليها فيما بعد، عن موضوع النصِّ الذي قرأه، لأنه وكما يدَّعي قارئ حاذق، وليس كمثله قارئ، لكونه يعرف جيداً كيف يُطالع ما بين السطور، حتى ليجعل فرائسك ترتعد، إثر استماعك إلى عبارته هذه التي لا تخلو من حدس (بوليسي) فتتصور بأنّ ثمة من يكتب بالحبر السّري، ثم يأتي من بعده، من هو على شاكلة الأول بعدسة مجهرية، لينقب ويكتشف بها بواطن النصوص، وما إدعاؤه الذي صاغه في الحقيقة إلا مسوّغ منه، كي يجد لذاته موطأ قلم، وليقحم أنفه في الصُّحف والمجلات، والثانية هي من تُشكّل الأغلبية في نشر مثل هذه الكتابات التي يُسميها بنفسه (قراءات) ولا يجرؤ أبداً على أن يُسميها (نقديات) فهو أعرفُ بقدراته من الآخرين، الأمر الذي يحدُّ من بروز أسماء جديدة لديها ...