الخميس، 28 أبريل 2011

شعلة الثورة العربية الكُبرى

بنغازي في : 26/4/2011

أوقِدت شُعلة الثورة العربية في "تونس" باحتكاك كفّ شرطية مُتغطرِسة، بخدِّ الشهيد الشاب "محمد البوعزيزي" إثر صفعتها له، وبعد نجاح الثورة هناك، مدّ الشعب المصري يده فوق الأرض الليبية، ليستلم الشعلة من أخوه التونسي، واضعاً إياها في ميدان التحرير- الذي اقترحت على شباب الثورة في "مصر"، إبان ثورتهم في إحدى مقالاتي المنشورة على المواقع الإلكترونية، أنْ يسموه ميدان التغيّير، وهذا ما قام به اليمنيون، الذين ألقوا هذه التسمية على ميدان التحرير في العاصمة "صنعاء"- ليستقر بها المقام في ذلك الميدان لمدة ثمانية عشر يوماً، وبمجرد أنْ أسقطت رأس النظام فيها، تلقتها ثلاثة شعوب عربية، وتوزعت جذوتها بين ثلاث دول، هي "اليمن" و"ليبيا" و"سوريا"، أي في ثلاث دول تخضع وترزح تحت ظلم أنظمة، تتشابه كثيراً في طبيعتها، ولها إرث دكتاتوري عتيد، حيث إنّ واحدة منها "سوريا" حدثت فيها ظاهرة التوريث منذ عام 2000 ميلادية، أما الأخريان، فقد كانتا تعدان للتوريث، كما أنّ هذه الأقطار الثلاثة، يجتمع فيها قاسم مشترك واحد، يتمثــّـل في اسم لمدينة واحدة، هي "البيضاء"، ومن المعروف أنّ منظومات الحكم في هذه الأقطار، تربطها تحالفات عميقة منذ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وقد أدّعت بأنها من دول المواجهة والمناهضة للهيمنة الأمريكية، وقد عاشت واقتاتت على هذا الشِعار الفضفاض طويلاً.
وقد كان من الأصوب، أنْ تؤجّل اثنتان من هذه الأقطار انتفاضتهما، حتى تتكلل بنجاح الثورة في الثالثة- ومن ثم- تستلم الشعلة الواحدة تلو الأخرى بالتناوب، ذلك كي تــُوجّه الأنظار إلى كل واحدة منها بتركيز، وتحظى باهتمام المنظمات الدولية جميعاً، ولتستفيد كل ثورة شعب فيها من تجربة الشعبين الآخرين، وتفوّت على كل نظام منها فرصة القمع، ولا تنجيه من أن يخرج على الدنيا في شكل شاذ عن الأنظمة السياسية في العالم، فمادام أنّ هناك اثنين آخرين يقومان بما يقوم به، فهذا من شأنه أنْ يعتم صورة ما يفعله، فها نحن في هذه الأيام، نرى ما يقوم به "بشار الأسد" من كبح لجماح هذه الثورة المندلعة في بلاده، مُتبـِعاً في ذلك منهاج "القذافي" في القمع، وكذلك ما يقوم به الرئيس اليمني في حق ثورة الشعب اليمني السعيد بثورته، بعد أنْ شاهدنا موفد الأخير، يزور خيمة "القذافي" عشية انعقاد مجلس الجامعة العربية للبحث في الأزمة الليبية، أي قبيل تحويلها لقرارها ناحية المجلس الأمن، وبكل توكيد قد نصح "القذافي" الرئيس اليمني عبر موفده، بممارسة ما في استطاعته لإخماد شعلة الثورة هناك، فبهذه الكيفية الكبحية، استطاع ثلاثتهم تشتيت أبصار العالم، لتوزع كرة اللهب المشتعلة واستحالتها إلى كـُريات أصغر، منذ أنْ أذكاها "البوعزيزي" في "تونس"، وزاد إيقادها بوقود دماء الثائرين القانية في "مصر"، حتى كبر حجم هذه الشعلة، فلو قـُيض لأحد الشعوب في هذا الثالثوث الإجرامي، أنْ يلتقف جذوتها كاملة، لكان لمسرح التطور الثوري، مسارٌ آخرٌ، ولزاد من حماسته، خصوصاً وأنّ أيدي الشعوب الأخرى، تدعو له بالنصر والوصول سالماً إلى خط النهاية وهي تنتظره بالورود، كي تستلم منه هذه الجائزة المُشتعلة على أحر من جمرها.
غير أنّ ما جرى نتيجة عفوية هذه الثورات الشعبية، والتنافس على التسجيل في قائمة الشرف العربي، أعطى الدافع، لأنْ يُجدِّد هؤلاء الحُكّام الثلاثة تحالفهم وربط زوايا مثلثهم بمد أضلاعه، ولكنْ في هذه المرة ضد شعوبهم، أي بعكس ما كانت تدّعي، وأنْ يكتسب كل واحد منهم الخبرة الإجرامية في كيفية التعامل مع الشعب، بفضل وفعل، ما اكتسبه من أخطاء وقع فيها الآخران.
عموماً، ستعود هذه الشعلة إلى منطلقها الأول، بعد أنْ تمرّ بأكثر من بلد عربي، ترتفع السواعد فيه لتقبض على هذه الوقدة، ليحتفل العرب جميعاً عند ضريح "البوعزيزي" بتكامل ونجاح ثورتهم.

 






صراع الإقناع

صراع الإقناع
بنغازي : 27/4/2011
الافتراض غير النسبي
هو أنْ يأتيك أحدهم عقب نهاية أية مباراة، ويناقشك في مسائل ضعف أو قوة الفريق الذي يميل إليه، فيعلق بعد أنْ حُسِمت نتيجة المباراة بالتعادل: "لو أنّ الكرة التي اصطدمت بالقائم، دخلت للشباك، لفـُزنا" مثل هذا الافتراض، أراه افتراضاً غير نسبي، لأنه يقوم على احتمال من جهة واحدة، ويلغي أية فرضية أخرى، قد تحدث من الطرف الآخر، حال اعتماد الافتراض الأول، وغالباً ما كنا نسلم بهذا الافتراض من دون اعتراض، ولا يدور في خلد الواحد منا، أنّ يدحضه بهكذا تعقيب: "وما أدراك، فربما افتراضك هذا لو حدث، قد يدفع بالفريق الآخر إلى الاستماتة من أجل التعديل؟ أليس كذلك؟".
مثل هذا الافتراض غير النسبي، علا صوت الصادحين به في هذه الفترة الراهنة من عمر بلادنا، وما تشهده من ثورة عارمة ضد جلاوزة الطغيان، وخصوصاً ممّن تحركت وارتعشت في أجسادهم روح الانهزامية والتخاذل، حينما تلقي بلومك على من تقاعس عن القيام بدوره، وبما يتوجب عليه، لأجل نصرة هذه الثورة المُضفرة بحول الله، إنْ عاجلاً أو آجلاً، فيقول لك: "لو كانت في بنغازي خمس كتائب أمنية، لعزّ على شبابها تطهيرها" وعندما أحاول أنْ أدخل معه في صراع الإقناع، عادة ما تواجهني عواصف الصدّ والتعنت من طرفه، لذلك آتيه من الأخير، سائلاً إيّاه: "هلّا أفدتني، ما هي النتيجة التي صارت عليها بنغازي؟" فيجيبني: "لقد تحرّرت" حينها تأتيني الحجة لأنْ أدّحض كلَّ ما جاء به، بهذه النتيجة: "طالما إنّ الله أراد النصر لهذه المدينة، فإنّه حاصل لا محالة، حتى لو كانت في بنغازي أكثر من عشر كتائب للقذافي" وسرعان ما يحتج عليّ، ويحاول أنْ يفحُمني بفحم قلبه الأسود: "ولكنْ كيف توصلت إلى ذلك؟ وهل أتاك الله من علم الغيب؟" فأجيبه من منطلقنا الأول، وهو تحليلي لمفهوم الافتراض غير النسبي، الذي حاول به من خلال سؤاله الخبيث، أنْ يُعطي المستكين ذريعة لتخاذله، ويبيح له هذا الهوان، بيد أنّ هذا المفهوم، يتمثـّل بكل معناه في هذه المسألة، التي دار حولها جدل كبير، حجّم بعض الشيء، من دفعة مسيرة الثورة، فالافتراض غير النسبي، الذي طرحه باستدراكه، يتلخص في أنه قام بمضاعفة عدد الكتائب في بنغازي، خمس مرات على ما كانت عليه، من دون أنْ يُحرِّك ويزيد من القوة التي تحصل عليها الثوَّار من مخازن الجيش الليبي في المدينة، فمثلما أراد الله النصر والتحرير لهذه المدينة الباسلة- بمعنى الشجاعة- والمالحة بسباخها، بالظروف التي كانت عليها، فإنه كان سينصرها، حتى لو كانت بها خمس كتائب- كما افترض ذلك الشخص- فهل ستعجزه عن نصرها، بأنْ يمدها بخمس أضعاف الأسلحة التي كانت موجودة بين أيدي شبابها؟.
بتفصيلنا لهذا المفهوم، نستطيع أنْ ننطلق إلى مسألة أخرى، حدث حولها خلط ولغط آخران، لهما المردود الكبحي نفسه، فالإعداد من أجل نجاح الثورات، يختلف عن الإعداد للدخول في ساحات الحروب المنظمة، لكون الثورات غالباً ما تأتي عفوياً، وتخرج شرارتها الموقوتة من حجري صوّان، لا يعلم بحجمهما ومكانهما وكثافتهما إلا الله تعالى، وتـُدفـَع الشعوب إليها مُكرهة، من دون أنْ تحتسب ولا ترغب، وعادة ما تتخذ الثورات الصفة المسلحة، إذا حاول العدو الداخلي المستبد مواجهتها بما يحوزه من أسلحة وجبروت، فالثورة لا تعرف الرجوع، ولا ترضى بأن تـُكبح أمام أعتى وأظلم الجبابرة، ولا أنْ تنكسر على صخورهم الصلبة والصلدة، التي لا تلبث أنْ تنفجر أمام سيلها الدافق، من ينابيع الحقّ، إذ لا يمكن أنْ تثور الشعوب- لكي تخلق حالة من الفساد- ومن طبيعة تدفق الموائع، أنها لا ترجع إلى منابعها الأولى، بل تسير وتسير، وتحطم كل الحواجز التي في سبيلها، حتى تصل إلى مصباتها، لكنها تظلُّ في حاجة دائمة إلى الدافع والزخم، اللذين يحددهما عدد الملتحقين بالسابقين.
الثورة تتباين مع الحرب، ولا تخضع لمعاييرها من حيث الاستعداد بالعدة والعتاد، وفي مسمى آخر مهم، وهو أنّ الثورة هي في الغالب الأعم- بل على الدوام- إرادة الجميع وإدارة الجموع، وعلى كل الفروع أنْ ترفدها، مهما قصرت قامتها وقلت همتها، ولكم في الإسلام مثلاً على الثورات، لكونه أكبر ثورة تصحيحية في تاريخ البشرية من لدن آدم عليه السلام، إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، فقد جابهت عتاة الكفر، بأقل الإمكانيات وبأقوى الإرادات.
هذه القناعة، جعلتني في الأيام الأولى للثورة في بنغازي، كلما قذفنا وقصفنا "القذافي" بالقذائف المُضادة للطائرات (م/ط) ونحن العُزّل من أي سلاح، أسمع دوي سبطاناتها يقول: "م/ط.. معمر طاغوت".. فلا أخشى من حشوة مواسير مدافعه.










الشعب الليبي مرابط

بنغازي: 27/4/2011

بعد أنْ ضاق "القذافي" ذرعاً بالشعب الليبي، نتيجة المسؤولية الضخمة التي وقعت على عاتقه من دون أن يحبّ، ونظراً لأنّ هذا الشعب، لم يصل إلى مستوى تطلعات هذا المفكر الإستراتيجي الفذ، خرج ذات يوم ليرغـّبهم في الذهاب إلى "أفريقيا" واصفاً لهم غاباتها وأنهارها وشلالاتها، وملخصاً وصفه في جملة واحدة، وهي أنها جنة الله على الأرض، بل إنه تمادى في وصفها كشاعر ضليع، لما جعلها في أعلى مرتبة في هذه الجنة، حيث سجّل على اللافتات في الميادين وعلى مباني الدوائر الحكومية، عبارته هاته: "أفريقيا الفردوس والنعيم الأرضي" مُشعِراً الليبيين، بأنّ بلادهم لا تنفع للعيش ولا تصلح للمقام، لكونها مجرد قطعة أرض على جزيرة الملح الممتدة من حدود ليبيا الشرقية إلى أقصى المغرب العربي الكبير، لذلك اشتغل هذا المُخطِّط الإستراتيجي على هدف واحد، منذ أنْ انتخبه الشعب الليبي، وسلّمه مصيره والأجيال القادمة، وأبى إلا أنْ يُمدّد له فترة حكمه، عند منسلخ كل ولاية رئاسية، حتى ساوت عشرة ولايات قياسية متعاقبة، مدة كل ولاية منها أربع سنوات، فهذا المُصلح السياسي ذو الحكم العادل والرشيد، لا يمكن تعويضه، وقد عقمت بطون الليبيات على إنجاب مثله، وتحسدنا عليه شعوب العالم كلها، فجعل من أهم أولوياته طيلة فترة حكمه، هو مدّ حبال تأثيره على أرجاء هذه القارة، التي استعمرها الأوربيون لمئات السنين، وما تركوها وأعطوا شعوبها استقلالاتها، حتى جعلوها مثل ليمونة معصورة، بعد أنْ جففوا ما في بطنها من موارد، واحتكروا ما على سطحها من خيرات لمصانعهم، وفيما كان ينصح الليبيين بذلك، فتح الحدود الجنوبية لليبيا للأفارقة من دون حتى وثائق سفر ومسوغات قانونية، ليعيشوا على أرضنا، ثم جعل من بلادنا القاعدة الأمامية لهم لينطلقوا عبر شواطئها إلى أوربا، مُتجِّجاً كلما عاتبه الاتحاد الأوربي على فتح أبواب وضفاف بلادنا على هذه الهجرة غير الشرعية أمام هذه الأقوام الزاحفة باتجاه الشمال، بأنّ للأفارقة حقاً تاريخياً على الأوربيين، فهم في هجرتهم إلى أوربا يريدون أنْ يردوا ما نهبه الاستعمار الغربي من قارتهم الغنية، حتى أنه فيما بعد، استغل هذه القضية ليبتزّ الأوربيين إذا ابتغوا منه تعاونه للحدّ من هذا التدفق البشري، وألزمهم بدفع ما قيمته خمسة مليارات دولار، وقد استثمر "القذافي" هذه القضية أيضاً، لتشويه ثورة شباب 17 فبراير، لليّ ذراع الأوربيين وبخاصة الإيطاليين، الذين تخوفوا كثيراً من زوال حكمه، أنْ تتسع رقعة هذه الهجرة، فقد أوحى لهم كثيراً، بأنه صمام أمان وحائط صدّ، ضدّ هذه الهجرة الشرعية، وشريك نزيه وحليف مُهم لهذه المَهمة، وغاب عن دول الاتحاد الأوربي، أنّ "القذافي" هو من ساعد على تفاقم هذه الأزمة، حتى صارت أمراً مؤرقاً لها، والبرهان على ذلك، أنّ مشكلة الهجرة غير الشرعية، لم تـُعرف في هذه المنطقة إلا في العقد الأخير، وبالتحديد عند توجّه "القذافي" الأخير إلى القارة الأفريقية، بدايةً من تاريخ: 9/9/1999 ميلادية، وقبل ذلك لم يكُ لهذه المشكلة أيُّ وجود، من شأنه أنْ يُعكِّر صفو مياه البحر الأبيض المتوسط، وهذا أمر بديهي، طالما أصبحت الحدود الليبية القبلية من دون رقيب، ومفتوحة على مصارعها أمام وشمال الأفارقة.
أضحكني أحدهم، حينما نصح- بل أمر- الآمر والناهي الوحيد في ليبيا "معمر" الشعب الليبي، بأنْ يغتنم الفرصة ويغرُب- ويجنـُب (اشتققت الفعل من لفظة الجنوب.. لو صحّت لغوياً)- عن وجهه القبيح والمتشقق، نتيجة السخط، الذي هو عليه، من جرّاء أعماله وأقواله، أنْ قال: "والله ما اتهون علينا.. معقولة عاد نمشو لجنة أفريقيا.. وانخلوك بروحك زي البومة في جزيرة الملح!.. اللي بينا بيك".
أما الآن، وبعد أنْ اكتشفنا قيمة بلادنا، إثر ثورتنا المجيدة، وأنها حُبلى بالخيرات، ولم تعقم إنجاب المغاوير، جاء الدور علينا، لأنْ ننصح "معمر"، بأنْ يحزم أغراضه وملياراته الدولارية، ويضع عصاه على كتفه، بعدما شققنا عصا طاعته، المكسورة أصلاً، ويصطحب معه أبناءه، إلى فردوس الله على الأرض، في هجرة غير شرعية وعكسية، في موسم الهجرة إلى الجنوب، حيث الغابات الاستوائية والمواسم المطيرة، وجوز الهند الأفريقي، بعد أن (صقــّع) علينا (سويسرا) ووقع في شرّ أعماله، لأنه أعلن الجهاد عليها، اذهب يا معمر، واصطلِ بحمم براكين أفريقيا وحروبها الأهلية، فسوف تجد في انتظارك ضحايا جرائم حروبك الأهلية هناك، فقد قرّرنا أنْ ننفيك ونـُفنيك في أدغال أفريقيا، اذهب وذريتك، فأنت قد صرت منفياً من أرضنا ومن قلوبنا ومن مخيلاتنا، ومنفياً بأدوات النفي النحوية من أبجديتنا وإعرابنا، فبلاد العرب لست منها، ولا تنتسب إليها بأية وشيجة، ولا تتشرف بك، اذهب، فقد مكر الله بك، وأصابك دعاؤنا، دعاء الثكالى والأرامل واليتامى، وسنظلُّ مرابطين ببلادنا، بلاد أجدادنا.













الثلاثاء، 19 أبريل 2011

لعبة سيف الإسلام القذافي في مشهد الحكم في ليبيا

بنغازي في : 18/4/2011

بعد مؤتمر (لندن)، الذي اجتمعت فيه أطياف المعارضة الليبية، واتفقت على رأي واحد، جاء في مُقدمة جُملة قراراتها، وقد تمثــّـل في ضرورة تنحي العقيد "معمر القذافي" من تلقائه، عن سُدة الحكم في "ليبيا"، حينما ارتأت أنّ لا مناص من ذلك، ففي مسألة بقائه، وتواجده في منصبه غير الشرعي، تأزمٌ في الحياة السياسية وتدهورٌ للحالة الاقتصادية ، وتأخرٌ في معدلات النمو، لأنه يقف حائلاً دون ذلك، فحتى تمضي البلاد إلى مستقبل جيد، وتخرج من أزمتها وركودها، اللذين تسبّب فيهما بسياساته الحمقاء والرعناء، لا بد من تحقيق هذا المطلب، الذي يُجمع عليه الليبيون كلهم، من دون أخفض ريب، وقد لاقت قرارات هذا المؤتمر، تأييداً كاملاً من الشعب الليبي، لأنها أتت مُحقــِّـقة لطموحاته، لأجل مستقبل زاهر لأولادهم، ممّا دفع نظام الحكم كدأبه الدائم، إلى تسيّير بطانته ومريديه من المنتفعين، في مظاهرات حاشدة- راجلة وراكبة- جابت الشوارع والجادات، مُندِّدة بهذه المعارضة، وهي تنعتها بالعمالة للأمريكيين، فقامت المخابرات الليبية، بمحاولة خرق صفوف هذه المعارضة بمشاربها المختلفة، التي تنادت في ذلك المؤتمر، الذي عقب سقوط "بغداد" في 9/4/2003، مع إنها رفضت بحزمٍ، التغيّير بالمجيء على أظهر دبابات الأجنبي، على خلاف ما جرى في "العراق".
منذ ظهور "سيف الإسلام معمر القذافي"على سطح المشهد السياسي، الذي يحتكره والده، بعد مُقررات مؤتمر (لندن) مباشرة، وهو يرفع شعار الإصلاح، ليخطف روح المبادرة من المعارضة، وينادي بما نادت به هي، إذ أنه دعا- في كل شهر أغسطس من كل عام، الذي احتكره لنفسه، كما احتكر القذافي الأب، أول شهر سبتمبر لأفراحه، بذكرى انكلابه المنكوب عام 1969، ويوم 28 منه، لأحزانه على روح مورثِه القومية العربية، الرئيس المصري "عبد الناصر" طيلة أربعين سنة- إلى كتابة الدستور، الذي محاه أبوه، وإقامة دولة القانون، التي دمرها أبوه، وفصل السلطات، التي جمعها أبوه في قبضة يده، والاستهزاء بكل ما كان كائنا، منذ تعدّي والده على مفاصل الحكم في البلاد، بما في ذلك الإعلام الموّجه والصحف الليبية التابعة لمؤسسة الصحافة، التي نجحت في شيءٍ واحد، وهو أنها الصحف الوحيدة، التي تطبع بكثرة ولا يتصفحها أحدٌ، لكزنها تـُستمد من منهلٍ واحدٍ، ويُغنيك عنها، استماعك إلى نشرة الأخبار المُقدَّمة في (الراديو) الليبي، على تمام الساعة الثانية والنصف، بعد شُربك لشاي الغداء، أو إلى نشرة الساعة التاسعة والنصف، في التلفزيون الليبي الرسمي، فأراد بذلك اللعب على عواطف الليبيين، وخداعهم من ناحية مهمة، لما صار متحدثاً بألسنتهم عن واقع الحالة المُزرية، التي يحيونها في ظلَّ ظلام وظلم أبيه، وحينما قارنوا بينه وبين فعالية المعارضة، ووجدوا أنّ المعارضة، في موقف وموقع أضعف، كي يحقق رموزها ما توصلوا إليه في مؤتمر (لندن)، لكون "سيف الإسلام القذافي" هو في موقع السلطة، والأمكن والأوفر حظاً ومنصباً، من تحقيق هذه المطالب، خصوصاً أنه ابن أبيه، فانضم الكثيرون إلى مشروعه الواهي والوهمي (ليبيا الغد) الذي تكفّل بحسب المعلن عنه، بتحقيق هذه الحزمة من الأهداف السامية.
وبعد مُضي أكثر من أربع أو خمس سنين، على تدشين وبعثرة مطويات هذه الدعاية والمشروع الفاشل في كل مكان، لم تتحرك ساعة واحدة من (ليبيا الأربع وعشرين ساعة/ ليبيا الغد) إلى الأمام، بل صارت الساعة الواحدة منه، تـُقدَّر بأعوام طِوال، فلم يجنِ الليبيون- وبالأخص منهم شريحة الشباب- شيئاً ممّا انتظروا، وجعل الابن تعلـّة فشله المقصود، هي المعارضة الداخلية في النظام (الحرس القديم)، وفي الحقيقة ليس في "ليبيا" مثل هذه الجهة أبداً، لأنّ الأبِّ هو الحاكم المطلق، وهو الآمر والناهي، وهذا يؤدي بيّ وبكم، إلى حقيقة واحدة فقط، تفيد بأنّ هذا المشروع غير المشروع، جاء من باب إفقاد وإفراغ المبادرة، التي طرحها مؤتمر المعارضة من مضمونها، وفضّ التفاف الشعب من حولها، والدليل على ذلك، يكمن في هذا التساؤل: لماذا لم يقـُم بهذا الإصلاح الأب بنفسه، طالما أنه هو الحاكم الفعلي، وهو من يُمثــّـل الحرس القديم داخل كواليس النظام؟ أي بقصدٍ آخر، أنّ الأب، الذي صرَّح وصرخ كثيراً، بعدم وجود مفهوم للمعارضة في "ليبيا" كحالة طبيعية وصحية في أي نظام سياسي في العالم، أدرك بأنه في عالم الاتصالات والديموقراطيات، صار من العبث والسخف الإصرار على هذه التخرصات، وأنه لا مفرّ من الاعتراف بهذه التكوينة السياسية ونشوئها، واستغلالها بما سيخدم ويعزز بقاءه في السلطة، لذلك بحث لنفسه عن مخرج، وليته لم يفعل، لأنه صار في موقف حرج، لما سمع بما وصل إليه المؤتمرون في (لندن)، ولكي يُبطل مفعول هذه المعارضة، قام باحتكارها لنفسه، كما احتكر الحكم والثروة والسلاح قبلاً، في خطوة لم يسبقه إليها أحد من أعتى الديكتاتوريين على مرِّ التاريخ، فهذه هي حقيقة وأسباب والمغزى من وراء ظهور أو إظهار الابن على المشهد السياسي الليبي.
لذلك انقلب كل من جرى كثيراً وراء مشروع الابن، عليه، حينما أدرك أنه أُستغِل في لعبة قذرة، ما كان الهدف من وراءها الإصلاح، وإنما كسب الوقت في اتجاه تأخير التغيّير، فلا ثمة إصلاح في البلاد، وإنما (إصلاع) سيصيب رأس البلاد، إنْ استمر الأب والابن في الحكم أبعد من ذلك، فبتصوري، الإصلاح هو بيد الأب لو أراد ذلك، بمرسوم منه، وتيقن هؤلاء المُستغلون في أخر مرحلة من هذه اللعبة، بأنّ الإصلاح الحقيقي، يكمن في التغيير الجذري، وقلع جذور الفساد، بلهب الثورة، وكانت في السابع عشر من فبراير، التي استغرقت حتى يوم كتابتي لهذه المقالة ستيناً من الأيام.


الاثنين، 18 أبريل 2011

الجمعة الأخيرة .. كسكسو بلا كوسا

بنغازي: 5/4/2011
موسى كوسا
"ما أطيب شعبي، وما أطيب أكلاته الشعبية وخصوصاً الكسكسو"، كأني بـ"القذافي" هكذا كان يقول في قرارته، بعيداً عن الافتخار بنا، بل وهو يتندر مع زبانيته وأولاده، لأننا قد صبرنا على أذيته، وتجلدنا في ذلك بالله عليه، كي يرتدع من تلقائه، وقاسينا من وراءه، سنوات من الحصار، من دون أن يكون لنا أيُّ دخل ولا ضلع في المسؤولية على جرائمه وحماقاته وانتهاكاته للقوانين الدولية، وتحملنا حتى الغارة الجوية، التي قام بها الأسطول السادس الأمريكي، زمن إدارة الرئيس الأسبق (ريغان) في سنة 1986 ميلادية، وأُستشهِد منا من أستشهد، وفي نهاية المطاف، جعل من نفسه الضحية الوحيدة لتلك الغارة، التي تسبب فيها بعد اعتدائه على الملهى الليلي في (برلين/ألمانيا) وتدخلاته في شؤون الدول الأخرى، وتمويله لعصابات العالم والإرهابيين، ودعمه للحروب الأهلية والبينية (بين دولة وأخرى) في أوج جنونه وشبابه في السبعينيات والثمانينيات، مُصوِّراً لليبيين، بأنه سيرقى ببلدهم إلى مصاف الدول العظمى بهذه الأساليب الإجرامية، عوضاً عن خلق القاعدة العلمية والاقتصادية، والنهوض بالمجتمع الليبي إلى سلم المجتمعات الإنسانية، بالحرص على توفير أسباب الحياة الكريمة للشعب الليبي، الأمر الذي لم يتحرك في اتجاهه خطوة واحدة، بل أنه، سبق الحصار، الذي نتج عن قضية (لوكربي)- الذي قضى بالحظر الجويّ، وبمنع قطع الغيار عن الطائرات المدنية الليبية- بحصار داخلي، بخلق معركة وهمية مع أعداء الخارج، امتدّ إلى أكثر من عشرين عاماً، تحت شعار: "نعيش بالخبز والماء" بربط الأحزمة حتى أخر ثقب، وبشعار قمعي آخر، أراد من خلاله إسكات أيِّ صوتٍ مناوئ له، وهو: "لا صوت يعلو على صوت المعركة" وتنوع حصاره لنا هذا، في شتى المجالات، لكي يُعطِّل عجلة الدوران والتقدُّم في ليبيا، إذ أنه شمل الجانب الاقتصادي والثقافي والرياضي والفني وجوانب أخريات، وضرب به شرائح عديدة من المجتمع، فكان له مردودٌ خطير على البلاد، فهمّش وهشّم أساسات وأساسيات بنيتنا التحتية، وهذا ما جعل نظامه، يخرج قوياً ولا يتأثر كثيراً بالحصار الأممي المذكور، لأنه استمرأ سياسة الحصار الداخلي، وتأقلم معها أصلاً، وعرف كيفية درأ الأزمات الداخلية التي قد تنجم عن أيِّ حظر، فأدار ماكينته الإعلامية لخداع الشعب الليبي، وفبرك حكاية استهداف الاستعمار لنظامه، لكونه ممانعاً للغطرسة والعنجهية الإمبريالية- فأطلق على جماهيريته اسم العظمى- وبمراجعة سريعة لما قام به، نجده ما فعل ذلك إلا لتطويع القِوى الداخلية لسلطته وإخضاعها إليه، وآية ذلك، أنه بمجرد أن رُفِع الحصار عن ليبيا، بعد تسليمه لمواطنيه المدانين في قضية الطائرة الأمريكية (بانام) وبدأ الليبيون يتنفسون الصعداء، حلّ عليهم من وراء الشاشة، ليعلن بأنّ سعر صرف الدولار في المصرف، سيكون مثل سعره في السوق السوداء- 3.5 دينار ليبي- بدلاً من أنْ يشكرهم على صبرهم، ويجعلهم يتعاملون بسعر الدولار الأصلي (0.33 دينار ليبي).لقد تسبّب حصار "القذافي" المتنوع لشعبه المسلح غير القابل للحصار والهزيمة والتجويع- كما زعم ويزعم حتى الآن- في تجويعه وتجهيله، وتردي أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، ما حمل الشعب الليبي على أن يثور في وجهه، وها قد بدأت الثورة تؤتي أكلها، بانفراط عقد رجال "القذافي" وانصرافهم من حوله، بعد الضربات الموجعة للثوار، وصدمات الرعب، التي تلقتها جرذانه في باب عزيزيته المخلوع، وأسهم نضال الليبيين في انشقاق وزير خارجيته "كوسا" عنه، وبقية الخضّراوات المخضرَّة بلون كتابه الأخضر، ستندلق من صحن (سلاطته) وسُلطته الشعبية، وستليه إن شاء الله، مع أنني لا أعوّل كثيراً على مثل هذه الانشقاقات، فالأنظمة الديكتاتورية الشمولية- ومعمر أنموذجاً- باقية ومستمرة، حتى ترى رؤوسها قد أينعت، وحان اقتطافها، أو برحيلها.

الأحد، 17 أبريل 2011

في قمة دمشق .. حذر القذافي من المخطط الخارجي

بنغازي: 12/4/2011

بعدما أقام في مدينة "طرابلس" معرضاً مُصوَّراً، يؤرّخ لجرائم "صدّام حسين" بحقِّ الشعب العراقي، بُعيد سقوط "بغداد" بتاريخ 9/4/2003 بيد القوات الأمريكية، تباكى واحتجّ "القذافي" في قمة (دمشق/2008ميلادية)، على الطريقة الشنيعة، التي أُعدِم بها الرئيس العراقي "صدّام حسين"- في أول أيام عيد الأضحى المبارك- الذي رأى في شخصِه، وسياساتِه القمعية ونهاياته المأساوية، انعكاسات على أفعاله الشّاذة، في تصرف متناقض وغريب، كغرابة أعماله، التي ألِفها الليبيون، وقد قدّم لكلمته المُطوَّلة- التي أغمضت لها جفون الحاضرين المتكومين أمامه مللاً- بعرض فكاهي، نال فيه من هيبة رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عبّاس" حينما نبزه بالغباء هو وقادة الصهاينة، لأنهم لم يضعوا نهاية للنزاع العربي/الإسرائيلي، واقترح عليهما، وعلى أمانة الجامعة العربية، مشروعه الكتاب الأبيض، الداعي إلى قيام دولة (إسراطين)، جاء وحذر- فيما بعد- زملاءه في منتدى الدكتاتورية من الحكّام العرب، من المُخطَّط والمصير، اللذين يتهدَّدانهم من مخابرات الدول الإمبريالية، وتغافل عن الشعوب، التي لها الكلمة الفصل والفاعلة، على الرغم من تحكُّم هؤلاء في مصيرها، ظناً منه، بأنها قد تخاذلت، واستمرأت الركون إلى سياسات مستبديها، واستغرقت في غفوتها وغفلتها، اللتين طالتا، كأنه أمِن غضبتها وقولتها، فالثورة العربية الأخيرة، تتباين مع الثورة العربية الكُبرى، التي اندلعت في بدايات القرن المنفرط، ضدّ استبداد (فرامانات) السلطنة العثمانية، فثورة العرب ضد الرجل المريض، الذي ملأ حياتهم قيئاً وصديداً، تبنتها المملكة البريطانية، ودَعَمتها بالسلاح، ودعّمتها بجنودها وضباطها وقادتها في مراحلها، منذ بدايتها حتى نهايتها، أما الثورة العربية الراهنة، فقد تفاجأت بها حتى دول الغرب، وأصابتها بربكة شديدة، حتى أنها لم تعرف الإجراء، الذي تتخذه حيالها، من حيث الدعم أو الاشتراك في إجهاضها، جنباً إلى جنب، مع المُتحكِّمين في مصير الشعوب العربية، من أبناء جلدتها، لأنها لم تضع خططاً مستقبلية للتعامل معها، لكون التقارير الاستخباراتية، التي أمدَّها بها الحكام العرب على نحو دوري، كانت تفيد دائماً، باستقرار الأوضاع وخنوع الرعيّة، ومع تحرُّك إرادة الشعب العربي التونسي بثورته، بادرت وزيرة الخارجية الفرنسية- على خلفية التقارير الصادرة عن أقبية المخابرات التونسية الحاكمة- إلى مساندة الرئيس التونسي المخلوع "زين العابـ(ر)ين بن علي" وحكومته، حتى آخر لحظة، فأساءت إلى سُمعة بلادها، من دون أنْ تحتسب، ما جعلها لاحقاً، تقدِّم استقالتها مُرغَمة، إزاء تنديد القوى الشعبية الفاعلة في (فرنسا) أم الثورات، من موقفها المتخاذل حيال هذه الثورة الشعبية العارمة، التي صارت رائدة الثورات في المنطقة العربية، واتبع وزير خارجية (فرنسا) الذي حلّ محلها (ألان جوبيه)، نهجاًً آخراً، وسياسة مُغايرة لها، بدأت تباشيرها، بمعاضدتها للثورة الفتيّة في "ليبيا"، مُنتصِراً لإرادة الشعب الليبي الأبيّ.
لم ولن يُستهدَف "القذافي" من العدو الخارجي البتـّة- وأظنه عنى الغرب، لا الصين والبرازيل- ذلك أنه لم يناصبه العداء في يوم من الأيام، منذ اغتصابه للسلطة، فحتى من كان يظنُّ، بأنه انتهج التيار اليساري، وانضم إلى المعسكر الشيوعي (الشرقي) في الفترة الأولى من حكمه، ضد قِوى الاستكبار في العالم وعلى رأسه دول الغرب- ما يُعرف بأوربا الغربية وأمريكا، المشكلة لرابطة حلف النيتو- لم يكـُن ظنُّه في محله، لأنّ القرائن والشواهد، تثبت ما يتنافى مع هذا الطرح، وأرض الحدث، كانت في (أفريقيا)، حيث واجه "القذافي" الأنظمة الشيوعية هناك- ومن ضمنها نظام الإمبراطور الأثيوبي (هيلاسيلاسي) المُتشيّع للشيوعية ورجل الاتحاد السوفييتي الأول في هذه القارة- إلى درجة إعلان الحرب عليها، وإرسال الليبيين، من الجيش والطلبة المختطفين إلى حتوفهم في أدغالها، ما يدلل على حقيقة واحدة، هي أنّ هذا الشخص، لا ينتسب ولا ينتمي إلى ليبيا قط، ولا تعنيه سلامة الشعب الليبي، وإلا ما الذي حمله على إبادة أبنائنا، والمغامرة بأرواحهم؟ إلا لأجل كسب ودِّ من نصّبوه علينا؛ وللتفريق بين من هو ليبي الأصل وشذاذ الأفاق، ذروني أحكي لكم هذه الحادثة: روى ليّ والدي رحمه الله، أنه بينما كان في حضرة الملك الراحل "إدريس السنوسي" في زيارة رسمية له، أنْ سمِعا جلبة بالخارج، ولما تحرّى الملك عن مصدرها، أبلغوه بأنّ ثمة مجموعة من المواطنين تريد، التطوّع للمشاركة في حرب 1967 بمصر، حينها انتفض وقال: "مصر لا ينقصها الرجال، مصر ينقصها المال.. دعوهم يرجعون إلى بيوتهم" ثم اقترح- ولم يأمر- على البرلمان، دفع قيمة سنوية للجيش المصريّ، دعماً له في تلك الحرب، فرحمة الله على هذا الملك الصالح، الذي حرص دائماً على أرواح مواطنيه، ولم يسمح بالزجّ بهم في أوار تلك الحرب، على الرغم من رغبتهم بذلك، لسداد وحصافة رأيه الرشيد.
وليتعرض كلَّ من نصحه "القذافي" في ذلك اليوم المنحوس، من جلاوزة الطغيان في المنطقة العربية، إلى المصير ذاته، وأول من لحقت به لعنة ذلك التحذير، الرئيس السوري، الدكتور الدكتاتور والطائفي "بشار الأسد"، الذي استأنف بعد أبيه، نهش الشعب السوري بمخالبه وأنيابه المُهترئة، بعد لعبة الدستور المعروفة، التي تلاعب بها، وحوّلت "سوريا" قلب العروبة والإسلام النابض، من جمهورية إلى جملوكية، على خلفية تلك الوصية، التي أوصى بها "حافظ الأسد"، وهو مُمدَّاً على فراش الحكم، مجلس الشعب السوري، الصوري التأسيس، بها لابنه؛ يحضرني في هذا المقام، أنّ "القذافي" علَّق ذات مرة، حينما سُئِل في لقاء صحفي، عن رأيه بخصوص هذه السابقة- وأظنه جازماً، قد أراد بتعليقه، تبرير توريث أحد أبنائه الحكم في ليبيا- هذا ما استشفته من قوله: "وما الضير في أنْ يخلف بشار أباه، إذا كان ذلك في مصلحة سوريا" من دون أنْ يكترث برأي الشعب السوري المقموع في عهد أبيه، ليواصل الابن مسيرة قمع هذا الشعب البطل- حتى انطبق عليه المثل العربي المعروف، وبتصرُّف مني: "هذا البشـّار من ذاك الأسد"- الذي غُيّب عن قضايا أمته، لما يزيد على أربعين سنة، كانت سبباً في هوان العرب، فـ"سوريا" حاضرة الشام، هي الرباط الأمامي المدافع عن قضايا المسلمين على مرّ التاريخ، من زمن الأمويين إلى عهد "صلاح الدين الأيوبي" وقلعته في "حلب"؛ إنّ في عودة "سوريا" المُحرَّرة إلى حضنها العربي، بعد زوال حكم أسرة الأسد، نقلة نوعية، سيكون لها الأثر الملموس، في رفعة شأن العرب والمسلمين ونصرة قضاياهم، لذا، يحاول "بشار الأسد" قمع هذا الشعب بالأسلوب نفسه، الذي قام به "مبارك" في مصر، و"القذافي" في ليبيا، وقبلهما زين العابـ(ر)ين بن علي في تونس، فنسخة القمع في مطابع الدكتاتورية العربية، هي واحدة، وبكربون باهت، تبدأ كعادتها، بكيل الاتهامات المُغرِضة إلى بعض الأطراف الخارجية المُندسَّة، والتخويف من فزّاعة التنظيمات الإرهابية والإسلامية المُتشدِّدة، بالتواقت مع سطوة البلطجة، ثم بمسدسات وغازات الشرطة، وبعد ذلك نزول الجيش إلى الشوارع فوق دباباتهم، وما يقابلها من تفاعل الدول الكبرى، هو كذلك واحد، يبدأ بنصيحة هذه الحكومات بضبط النفس، ثم بالكفّ عن إيذاء الشعب، وبعد ذلك المطالبة بتنحي الحكّام؛ فمن الضرورة بمكان، أنْ يحفظ كل شعب، ما يزال يرزح تحت وطأة من نصحهم "القذافي" في تلك القمة من طـُغاة، هذه الخطوات العملية، وما ينجم عنها من مواقف دولية، ليكتسب الخبرة اللازمة، كي تنجح حركته الثورية التقويضية.
كأنني بالقذافي، ومن جلس إليه في تلك (الغمّة)- هكذا يلفظها السودانيون- على الطاولة المستديرة، لم ينصتوا في يوم ما إلى هذا النشيد، الذي ألـّفه الشاعر "بيرم التونسي"، ولحنه وأنشده "فريد الأطرش"، لكثرة ما استمع إليه من مدَّاحيه، الذين غنوا له (رجال ونسوان قائدنا ماشيين معاه) و(يا قائد ثورتنا على دربك طوالي)، ولم يكلف أحدهم نفسه قبل أنْ (يعوي) بهذه الأضاليل والأحابيل المُغناة، إلى أين سيمضي بنا هذا المعتوه؟.. فراهن على أجهزة قمعه، وأمِن العدو الداخلي، الذي قام باستعدائه على مرّ اثنتين وأربعين سنة، بظلمه له، وهو الشعب الليبي، الذي انتفضّ من حوله، وانتفض على بُطلانه، وستنتفض الشعوب العربية كلها، لأنّ روح الإباء فيها، وقد قيل فيها هذه القصيدة، من عهدٍ بعيد:



شعبُنا يوم الفداء



فعلـُه يسبقُ قولـَه



لا تقـُـل ضاع الرجاء



إنّ للباطلِ جولة



***



ما لعدوانٍ مقرُّ



والوغى كرٌّ وفرُّ



نحن للتاريخ أمجاداً بنينا



ورسالاتُ الهُدى بين يدينا



نحن شعبٌ لا يُبالي



يتسامى للأعالي



بكفاحٍ ونضالِ



وجنودُ اللهِ حوله



إنّ للباطلِ جولة



***



فوق أرضي لن يمرّوا



وبها لن يستقرّوا



في طريقِ النصرِ



لن نحني الجبينَ



لن يهون العزم فينا



أرضُنا للحقِّ مهدٌ



وانتصارُ الحقِّ وعدُ



لم يدُم للظُلمِ عهدٌ



لم تعِش للظُلمِ دولة



إنّ للباطلِ جولة..








القذافي .. من الملكية الدستورية إلى الملكية الاستبدادية

بنغازي: 12/4/2011
"الشعب يريد أنْ يحكم" بوقود هذا الشعار، الذي أوجده من غياهيب المجهول، ولــََّد "القذافي" مُحرِّكات ديناميكية منظومة حكمه السياسي، ونضّدها بروافد أخرى من شعارات زائفة وزائلة، لا أثر لها في قواميس المجتمعات السياسية والمدنية الدولية، منذ أنْ خلق الله آدم إلى خاتم عليهما وعلى ما بينهما من رسل، أشرف صلاة وأزكى تسليم، وبه شتـّت اهتمام الشعب الليبي عن أولوياته في الحياة، مُختزِلاً تجارب الشعوب، في هذا المطمح الطوباوي، وصانعاً منه، ميداناً لمعركة وهمية زجّ في رحاها- واستنزف- جهد ووقت ومال الليبيين، فيما لا ينفع، ولا يأتي في أدنى مقامات اعتباراتهم، ليحيوا على نحو طبيعي، مثلما شعوب العالم قاطبة، فخصّص دوائر ومربعات ومثلثات إعلامه المفصلية والمُسيطرة على أذرُع البلاد، لبثّ هذه التخريجة الشّاذة والغريبة، التي ظهر بها طِوال فترة حكمه، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من نهايته، بعد أنْ فطن الشعب إلى ضروراته السياسة، الكامنة في وجود نظام حكم، لا يجعله يحكم، بقدر ما يوفر له مقومات التنمية المُستدامة، ليعيش في ظلِّ حياة كريمة.
تحوُّل "القذافي" إلى النظام الجماهيري، كأطر سياسي عقيم في "ليبيا"، أعقب انكلابه، وأتى بعد عهدٍ ملكي دستوري ورشيد، وبعد ثماني سنين من مرحلة الجمهورية، التي توسطتهما (1969-1977) وكانت جمهورية وليدة مُشوَّهة، غاب فيها عامل التداول على السلطة، ذلك أنها لم تخضع لأبجديات الحكم الجمهوري المعروف من النماذج الغربية، فمدة ثمانية أعوام، لو قورنت وقيست بمثلها في أيّة جمهورية حديثة، تعني أنها تساوي ولايتين متتاليتين على أقل تقدير، غير أنّ ما جرى في بلادنا أعوامئذٍ، لم يكُن في حُكم الحكم الجمهوري، بقصده الحقيقي والعام، فترأس "القذافي" البلاد طيلة هذه الفترة، من دون اللجوء إلى صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة، ولم يحاول كغيره من الحكام العرب، تلميع سلطته بانتخابات مزوّرة بنتيجة (99.99%) من أصوات المُرشحين، في تحدِّ سافر وغادر لإرادة الشعب.
والناظر إلى النظام السياسي الجماهيري البديع- و"كل بدعة ضلالة وكل ضلالة صاحبها في النار"- الذي اختلقه مُنظره من توهماته، لا يلفي أية فروق بينه وبين النظام الجمهوري، الذي عملت به أغلب دول العالم لتنظيم حياتها السياسية- ومن ثم- الاقتصادية والاجتماعية، فهو كذلك نظام تمثيلي برلماني، وكل ما هنالك، هو تغيّير المُسميات فحسب، فصار مجلس الشعب (البرلمان) في المفهوم الجمهوري، بتعريف آخر (مؤتمر الشعب العام) في النظام الجماهيري المسخ، والوزراء في الأول، يُناظرهم أمناء اللجنة الشعبية في الثاني، غير أنّ سعة التمثيل ازدادت في نظام "معمر" على ما هي عليه في الآخر، ما أنشأ شيئاً من الفوضى والبيوقراطية، اللتين أودتا بالبلد إلى حالة من الشلل، نحن هنا نقارن من حيث الشكل والتنظيم والخصوصيات، لا التنفيذ والنجاعة بينهما، فذلك مضيعة للوقت وإنهاك للعقل فيما لا يُثمر، لأنّ "القذافي" لو أراد خلق نظام ديموقراطي بصدق، لأعتمد النظام الجمهوري السائد في العالم قبل مجيئه ولصار عليه، طالما أنّ هذا النظام قد أثبت وحقـَّق الديموقراطية في الدول التي انتهجته على قدرٍ كبير.
خريطة الطريق، التي يرسمها لنا الاتحاد الأفريقي- الذي أسّسه "معمر" على أنقاض منظمة الوحدة الأفريقية، التي أسهم في تفتيتها وخرابها، بما يجيء ضد الطبيعة، طبيعة صيرورة الحياة، ففي حركة وتسلسُل الأطوار السياسية الاندماجية المعاصرة، غالباً ما تأتي الوحدة بعد طور الاتحاد، كتتويج له في تاريخ تضحيات الشعوب- الذي على الرغم، من تغنـّي "القذافي" بموارد بلدانه الطبيعية، حتى ألـَّف في مدحها القصائد، ووصفها بفردوس الله على الأرض، وهي كذلك، فشل في أنْ يستورد لنا من جنانها، بأموالنا التي ذهبت كهدايا وعطايا لمأجوريه هناك، نوعاً واحداً من الفواكه، التي تزخر بها- ولو جوز الهند والأناناس، ولا حتى جالون ماء عذب من بحيرة (فيكتوريا)، ولأنّ علاقته بـ(أوغندا)، مرّت بفترة شدّ أعصاب وتوتر في سنين طوال، ماذا كان سيخسر لو جلبه لنا من بحيرة (تشاد)، طالما أنّ (إدريس دبي) صديقه وحليفه في منطقة الساحل والصحراء (س-ص)؟ لكنه لم يجلب لنا من هناك سوى المرتزقة- في حين، أنّ الأوربيين هم من استفادوا من خيرات هذه القارة كلها، وعمّت عليهم فوائدها، على أية حال، فإنّ في تضاريس هذه الخرائط، التي تأتي من الاتحاد الأفريقي وغيره، نجد إقراراً رسمياً- منه وابنه- بضرورة إدخال الدماء الجديدة- بدعوى للإصلاح- على المشهد السياسي الليبي بآلية الانتخابات، في محاولة منه لالتفاف على ثورة الشعب الليبي، وتمهيد الطريق أمام ابنه ليخلفه ويرثه.
المُدّهِش هو انصياعه وقبوله بهذه الوسيلة الديموقراطية المُثلى- الانتخابات- بعد تعنـُّته واختلاقه لمعارك عقائدية وفكرية وهمية، أضاعت أنفس كثيرة من الشعب الليبي، فقط لاختلافهم معه، حول ما أتى به من أوهام وأفكار سياسية هدّامة وضالة، وغيّبت على الوطن فرصة النمو والتطور؛ أما عنصر الإدهاش الأكبر، فيتجسد في أنه لم يرضَ بإعلان الحكم الملكي الدستوري في ليبيا في فترة ماضية من تسلطه، وقبل بأنْ يملك قارة بأسرها، لما لـُقِب بملك ملوك أفريقيا، وهو لقب غير رسمي، كما زعم، والحقيقة البائنة، هي أنه يرى في شخصه أنه أكبر من أنْ يصبح ملكاً لليبيا، ولا حتى رئيساً لها.
ما يعني أنّ "القذافي" هو المستبد الأول في العصر الحديث، لأنه حكم "ليبيا" بصفته رئيساً للجمهورية العربية الليبية، ثم قائداً لثورته المزعومة، وأخيراً ملكاً مقنعاً ومتوجاً بصولجان مرصع بالعقيق الأحمر، المُستمِد لونه من دماء الليبيين، حتى لو أنه لم يقرّ بذلك.








ماذا بعد مؤتمر الدوحة؟

بنغازي: 15/4/2011
سبق التئام مؤتمر "الدوحة" الأخير، يوم الأربعاء الموافق 13 أبريل 2011، انعقاد مؤتمر (لندن) بأسبوعين، وكلاهما خُصِّص لمتابعة مستجدات الأزمة الليبية، وقد جاء الأول بعد عشرة أيام من بدء العملية العسكرية، لتقييم نتائجها على قوات العقيد "القذافي"، ودعا فيه المؤتمرون بإجماع، إلى ضرورة العمل على تحقيق قراري مجلس الأمن 1970-1973، وبما يضمن مبادئهما، على الرغم مما شاب هذه الحملة، من تقصير لحماية المدنيين، إثر تسليم دفة تطبيق القرار الثاني إلى طائرات حلف النيتو، التي قزّمت من محدودية فعاليتها، بعض التداخلات الاقتصادية والتدخلات السياسية، من قِبل بعض الدول المُرتبطة مع "القذافي"، فيما اجتمعوا في المؤتمر الثاني، لدراسة أمر تسليح الثوَّار باعتباره إحدى الوسائل المُحقــِّـقة لمبدأ حماية المدنيين، بتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم في ظلِّ قواعد الاشتباك، التي انتهجها حلف النيتو، وما أدعاه أمينه العام (أندرس فوغ راسموسن) عن صعوبة التصدّي للقوات التابعة للقذافي، لأنها صارت تتبع تكتيكات عسكرية جديدة، إثر الغارات الأولى، وما لحق بها من خسائر في الآليات والأرواح، حيث صارت تختبئ بالقرب من المدنيين، وتستعمل السيارات المدنية لتفادي استهدافها، ما دفعه إلى التصريح في أكثر من مناسبة، باستحالة الحلِّ العسكري، وعن ضرورة خلق السُبل الواجبة، لوضع خارطة طريق سياسية توافقية، تـُرضي الأطراف كلها، لحلِّ الأزمة الليبية الراهنة، وليس من شك في أنّ هذا التصريح، ليس من اختصاصه، لكونه مجرد أمين عام لجهة تنفيذية، تم إيكال مسؤولية العمل الحربي إليها، وعليه أنْ يمضي فيما أُنيط به، ويترك الشأن السياسي لأهله، والمسؤولين عنه، حتى يأتيه الأمر بإنزال طائراته من السماء إلى مرابضها، من الجهة التشريعية ذاتها، التي أقرَّت الشروع في هذا العمل، فجاءت نتائج المؤتمر، تدعو صراحةً إلى تقديم الدعم الكامل وغير المشروط للثوَّار، وإلى ضرورة تنحي "القذافي" عن سُدة الحكم، وإعطاء الشعب الليبي الفرصة لتقرير مصيره، كتحصيل حاصل، وكصياغة تؤكد المبدأ الأول لقراري مجلس الأمن المتعلقين بليبيا، قبل انعقاد هذين المؤتمرين، غير أنّ المؤتمر، لم يشِر لا من قريب ولا بعيد إلى مسألة تسليح الثوّار، وربما يُعزى ذلك إلى التقيُّد بتطبيق قرار مجلس الأمن 1970 القاضي بحظر وصول الأسلحة إلى البلاد، وكان من ضمن النتائج، الدعوة إلى اجتماع آخر في العاصمة الإيطالية (روما)، لم يُحدَّد موعدٌ له بعد.

فالتدرج، الذي دأبت عليه خطوات هذين المؤتمرين، يضعنا حيال عملية تراتـُبية، تطمح إلى سدّ الفجوات والذرائع أمام "القذافي" ونظام حكمه، الذي صار في عِداد المُستهدفين، ويشي بخطة من الواضح أنه قد أُعِد لها سلفاً، وبما يتواءم مع القرارين الأمميين، لعزل "القذافي" وتضييق الخناق الدولي على منظومته المتهاوية، وبتصوري، سوف يرشح عن مؤتمر (روما) القادم، العمل على تنحية "القذافي" مباشرة، وجعل الخطة الحربية مُختصَرة ومُقتصرة على هذا الهدف، بعدما لم يمتثل إلى مبدأ وقف إطلاق النار وتجاوزه في غير مرة، وعدم وجود أية بادرة منه، توحي بتخليه طواعية عن السلطة، وقبل ذلك اختصار الأزمة في شخصه، وأعتقد بأنّ المؤتمر، لن يبتعد موعد انعقاده، عمّا ستسفر عنه نتائج محكمة الجنايات الدولية الناظرة في جرائم الحرب، التي ارتكبها "القذافي"، يوم 15/5/2011 ميلادية.
فأنظار الليبيين والعالم ككل، تتوجَّه إلى مؤتمر (روما) الذي سيكون له دورٌ ملموسٌ، في وضع نهاية جذرية لهذه الأزمة الليبية، بعدما تمّ تشخيص علّتها في شخص العقيد "القذافي".







في الشّاشة المربعة .. ثلاث عواصم عربية وبنغازي

بنغازي: 8/4/2011
هي قناة (الجزيرة مباشر) من قسَّمت سطح شاشتها إلى أربعة مربعات متساوية المساحة ومتطابقة الأبعاد، لرصد ما يجري في السّاحات العامة، من مظاهر ثورية ومطالب شعبية، ففي المربع الأول بدت "صنعاء"، و"تونس" و"القاهرة" في المربعين الثاني والثالث، وفي الربع الرابع من مربع الشاشة الكبير، حلّت "بنغازي" بمتاريس مينائها الحجرية، وبزرقة بحرها، وزبد وهدير أمواج جماهيرها، وتلاطمها ببعضها البعض، الهاتفة للحرية والمساواة، وبخيم معتصميها المُمتدَّة على طول الكورنيش، كلٌّ بحسب رابطته ونقابته المهنية، في مشهدية متزامنة لنقل صور الاعتصامات يوم الجمعة الماضية في البلدان العربية، التي تفجّرت فيها براكين الثورات، وسالت على سفوحها، حِمم غضبة شعوبها التوّاقة للتحرُّر من دنس أنجاس القهر والاستبداد، ونجحت فيها نجاحاً باهراً، ذكرتني هذه الشاشة المربعة، بأيام الطفولة، وبأغنية في برنامج (افتح يا سمسم): "هيا انظروا، هيا اعرفوا، ما ذاك الشيء المختلف؟.. إنْ تنظروا أو تعرفوا مرحى لكم، وتلك كل القصة"، الاختلاف بدا واضحاً- ولا مراء- في "بنغازي"، لأنها حلَّت بدلاً من مدينة "طرابلس" العاصمة، التي كانت قنوات النظام الليبي، تنقل منها حفلاً ساهراً وماجناً- مُعاداً وغير مباشر- للرقص والهتاف لـ"معمر" في وسط ساحة شهدائها، في حين، رأيت- على الهواء مباشرة- مربع القناة الخاص ببنغازي، ينقل شعائر صلاة الجمعة في ساحتها، التي حُرِم الطرابلسيون من أدائها على نحو طبيعي.
الخوف شعور إنساني وغرائزي، لا يُلام المرء عليه، إذا لم يُمعَن ويُفرِط في الاستشعار به، وذلك بأنْ يجعل لخوفه حدَّاً، بمقياسٍ معينٍ، ويحاذر من وصوله إلى درجة التخاذل، حيال من يقمعه، فقد يصبح خوفه في غير محله، ولا مُبرّر له، وقتما يمارس عليه هذا الخوف، جبانٌ وعربيدٌ، لا رهبة ولا قيمة له، خصوصاً إذا أدّى به إلى التفريط في مقدساته ودينه وكرامته، وحال تمكـُّن الخوف من أحاسيسه، ما عليه إلا أنْ يعقد الفرق بين ما ستؤول إليه حاله، حال خضوعه لعقدة الخوف والعيش في مذلة، وبين ما قد تفضي إليه، إذا أراد الحياة في عزّ وعزّة.
بينما كنت سادراً وسارداً في حديثي مع نفسي بهذه الرؤى- عن حقيقة الخوف ومردِّه ومردوده وتأثيراته الشديدة على النفس البشرية، إذ أنه يُجافي ما بين المرء وحقوقه، ويردعه عن المطالبة بأبسطها، لأنه دافع ذاتي سلبي، اتجاهه دوماً إلى الخلف، ونتيجته الهوان- سألني طفل مغربيّ الجنسية، أمه جزائرية النسب، بصحبة أبيه: هل "بنغازي" هي عاصمة "ليبيا"؟ أجبته بما تعرفون، فكوّن سؤاله المتوقع: فما هي عاصمتكم؟ وأينها؟.. "وأين رباطكم وداركم البيضاء ومرّاكشكم وفاسكم و(بأسكم)؟ هذا السؤال، لو أنّ أبيه، هو من سألني، لواجهته ووجهته إليه، ولشقــّـقت منه ثانياً: ولمَ لم نرَ من أصهارك أيَّ تضامن مع ثورة الشعب الليبي، بالتظاهر في شوارع "الجزائر" بسبب ما تتداوله الأنباء من تورطٍ لحكومتها في دعم نظام "القذافي"، أهذا هو ردّ جميل الشعب الليبي، الذي ضحّى بكل ما يملك لأجل تحرير "الجزائر"؟ مع إحساسنا بتضامنهم الضمني مع ماساتنا، كشعور عربيّ متأصل، يحسّ به أي عربيّ.
إنّ "الجزائر" مُطالبة هي و"مصر" بأكثر ممّا قدّمته دولة "قطر" وأيُّ قطر عربي آخر، فلا يكفي من "مصر" أنْ تفتح حدودها أمام وكالات الأنباء والمساعدات الإنسانية، التي أغلبها تصل من دول العالم، والمؤسسات المدنية التابعة للمجتمع الدولي، أما "الجزائر" فنعلمها، وهي التي لم تمنح الشعب الليبي أية مساعدة إنسانية، إلى الآن، إننا سوف لن نكتفي منها بشيءٍ من ذلك، لو أسدته إلينا، بل هي مُلزمة- انطلاقاً من كوننا من إقليم المغرب العربي، حيث تجمعنا والشعب الجزائري، أواصر ووشائج الأخوّة والدين الإسلامي والمذهب الفقهي الفرعي الواحد- بحماية الشعب الليبي من مرتزقة "القذافي" فلماذا لا تكون هي و"مصر" في مستوى حميّة الدول الأفريقية، التي تنادت إلى مؤازرة (تشاد) في الحرب، التي نشبها وشنها عليها "معمر" في نهاية سبعينيات القرن المنفرط، حينما دخلت جيوش كل من (زائير) و(أوغندا) و(أثيوبيا) وغيرها لصدِّه، منطلقة من مبدأ: (أنّ الجيش الليبي من العرب، وهو غريب على أدغال ووسط أفريقيا، ولحماية الشعب التشادي من جرائمه).
ندرك ما تعانيه "مصر" من فوضى وانتفاء الاستقرار، بعد ثورة 25 يناير، لكنّ هذا لا يمنع ولا يعطي أيِّ عذر شرعي للشعب المصري من تقاعسه عن الوقوف بجدية مع شقيقه الليبي، فعلى أقل تقدير، يجب عليه أنْ يقوم بدعم الليبيين بالسلاح اللازم لردع كتائب "القذافي" من المرتزقة، ولأني مُدركٌ بالحالة الاقتصادية الصعبة، التي يمرُّ بها الشعب المصري، أناشده بشحن الأسلحة إلينا على فواتير آجلة السداد، إلا أنني أعوّل كثيراً، على الشعب الجزائري البطل، خصوصاً وأنّ "مصر" أوقفت بلاء "القذافي" عنا، لأنها لم تذعن لمطالبه إليها، وتجاهلتها على الرغم من المغريات، التي عرضها على المجلس العسكري الحاكم المنبثق عن مرحلة الفترة الانتقالية، التي نجمت عن الثورة هناك، غير أنّ "الجزائر" صارت هي القاعدة الخلفية "للقذافي" من حيث تصدير الوقود إليه، والأمامية لمرتزقته، بفتحها لأجوائها ومعابرها أمام قوافلهم، التي لا تنتهي، وإذا شدّد نظام الجنرالات في "الجزائر" الإجراءات أمام دخول معونتكم إلينا، اعلموا بأنّ نظامكم نظام فاسد، عليكم أنْ تثوروا عليه، لتتحرروا من ربقته، ولتشغلوه عنا، كما فعل إخوانكم في "سوريا" حينما ثاروا على نذالة "بشّار الأسد" الذي أظـّاهر به "القذافي" على إخوتكم في "ليبيا"، بقيّ أنْ أُذكـِّر، بأنّ تاريخ كتابتي لهذه المقالة، يسبق بأسبوع واحد تقريباً، ذكرى مرور ربع قرن، على الغارة الجوية الأمريكية، التي شـُنـَّت على مدينتي "طرابلس" و"بنغازي" من جرّاء حماقات العقيد "القذافي" الذي جعل من حياته، هدف هذه الغارة الوحيد- وتناسى عن قصد ضحايانا، الذين لم يطالب بدمائهم، كما طالب الأمريكيون بدماء أبنائهم ضحايا حادثة (لوكربي)- ومن قصره بـ(باب العزيزية) بطرابلس، عام 1986 ميلادية، أعلن عن إسقاط مضاداته أربعين طائرة أمريكية، هذه الفريّة، التي فكـّهت الحاج "إبراهيم التريّة" الذي حضر فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا، ووقائع الحربين العالميتين، اللتين دارتا فوق أرضها، وجعلته يُعلِّق ساخراً، وساحراً من معه، بخفـِّة ظلـِّه: "يكلا أربعين طيارة!.. أمالا ايطيّح في رطب".. تلك الغارة التي صدّع رؤوسنا بها، وخرج علينا يومها، يطلب إلى الشعب الليبي الحرِّ، أنْ يتحداها بالرقص والغناء والفرح، في سُخفٍ ما بعده ولا قبله سُخف- فظهر علينا المدّاح "أحمد حلمي" يتغنى فوق أشلاء وأرواح قتلانا، ودماؤهم الزكية، لم تكـَد تجفّ بعد: (نفرح ونقاتل وانغني.. يا بو كف رقيق امحني)- الطلب نفسه الذي جدّده إلى الشعب الليبي، بعد خمس وعشرين سنة، وهو على أسوار السراي الحمراء، ليرقص ويغني على أرواح شهداء ثورة 17 فبراير، مخاطباً زمرته في الساحة الخضراء، التي لن تعود إليها تسميتها الأولى (الشهداء) إلا بعد أنْ تمورَ وتفورَ وتثورَ "طرابلس" مجدداً، بشبابها وشيبها على هذا الطاغوت، لئِلا يصدّع رؤوسنا من جديد، ويظهر نفسه كبطل، ويجعل من بقايا وأطلال خربته، محجاً لزائريه من المأجورين والأوغاد، ولصوص النصوص (الأبواق من كتـَّاب السلطة) ولصوص الفصوص الشرهين لكنوزه، من العالم قاطبة، الذين يجدون متعة، لا تضاهيها أية متعة، في التقاط الصور التذكارية عند مجسم القبضة البرونزية المُمّسِكة بالطائرة المحطّمة- كرمز لتحديه، جدير بالذكر، أنه في كلمته النارية والنازية لسكان "بنغازي"، خرج صوته من وراء الشاشة، على خلفية تلك القبضة البرونزية- في قصره بـ(باب العزيزية)، لأنه تصدَّى لغارات قوى التحالف، على حساب حياتكم، التي غامر وقامر بها، حينما أخذكم دروعاً بشرية لحمايته.
اعلموا يا شباب "طرابلس" بأنّ في عمر ثورات الشعوب، لم تخذل ثورة مرة واحدة، إذا ما توافر لها الزخم والإصرار اللازمين والمنوطين بالمواطنين، خصوصاً من فئة الشباب، التي يقع على عاتقها الدور المحرّك، وأنكم لمسؤولون أكثر من غيركم، على أخذ الزمام، لتتشرفوا بأنْ تكونوا أبناء العاصمة، التي يُعوَّل عليها، أيما تعويل، لحسم الموقف لصالح إخوانكم في سائر البلاد، يا أبناء العاصمة حجم التضحية مهما كبر، فهو في تاريخ الشعوب، وفي سبيل انعتاقها، يظل رقماً صغيراً، وفي خانة الآحاد، فتحرّروا من عقال ووهم الشيطان، الذي يهوّل لكم قوة كتائب "القذافي"، فو الله وأنا مسؤول عمّا أقول: لو عقدتم العزم، وعملتم بنصائح إخوانكم المتحرّرين، لن يقدر قامعوكم على ردِّكم لأكثر من ثلاثة أيام، فاحرقوا الإطارات في الشوارع، واستخدموا كل ما تمسكه أيديكم، من حجر وقطع الحديد والزجاج، وارموا بما في قبضاتكم وسيسدد الله رميتكم، فتلقون الرهبة في قلوبهم، انتقموا لمن أُستشهد منكم، ولا تجعلوا دماءهم تذهب سُدى، فلو علموا بتوليكم في هذه الأيام الحاسمة، لن يسامحوكم.. تسلحوا بالإيمان، ولا تخرجوا كما في انتفاضتكم الأولى، مُجردين حتى من العصي.
"الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية" هذا هو الاسم الرسمي، الذي اختاره "القذافي" لبلادنا، بعد إعلانه ما يُسميه قيام سلطة الشعب، أو هو القيامة على الشعب في 2 مارس 1977 ميلادية، وأضاف إليه كلمة (العظمى) لأنه تصدّى لإغارة جوية من قوة عظمى، وخرج منها منتصراً بمعنى سالماً، وأني لأجزم لو أنه فضّل الفرار من (ليبيا) بأنه سيسمي نفسه (القائد الأعظم) لأنه قاوم ثورة شعب عظيم، وخرج من نيرانها سالماً.
إخواني في "طرابلس" أناشدكم، وأنشد معكم مطلع من كلمات الشاعر الراحل "محمود درويش" تغنى به المطرب اللبناني"مارسيل خليفة" لعلّه يحرك في دواخلكم ونوازعكم، مشاعر ومشاعل الثورة:
أناديكم

أشدُّ على أياديكم

وأبوس الأرض تحت نعالكم

وأقول أفديكم

حملت دمي على كتفي

وما نكست أعلامي

وصنت العشب الأخضر

فوق ظهور أسلافي.












معركة إجدابيا الأخيرة .. بدأت في سرت

بنغازي: 9/4/2011
يتعذر عليّ إيجاد تفسيراً واحداً، لمحدثات الأمور العسكرية، التي طرأت مؤخراً على الواجهة الليبية، وبوتيرة مُتسارِعة، جاءت على غير المتوقع، فإثر استهداف طائرات التحالف لآليات "معمر" بسيلٍ من الغارات المُكثـَّفة في عملية (فجر الأوديسا)- بقيادة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية- التي بدأت، بمجرد أنْ وطأت أرجل رجاله- مجازاً لا حقيقة، أي من حيث الجنس لا الأفعال، فهم ليسوا برجال- الضواحي الغربية لمدينة "بنغازي" بل وولوجها إلى أحيائها، واستمرار هذه الغارات، حتى فكـَّها للحصار المُدرَّع المضروب على مدينة "إجدابيا"، ظنّ الثوّار، بأنّ الغارات الجوية، تصبُّ في مصلحتهم، وبأنها أتت بقصد تمهيد الخطوط أمامهم إلى غربيّ البلاد، فزحفوا حثيثاً، حتى وصلوا إلى منطقة "هراوة" على بعد 70 كيلو متر، من مشارف مدينة "سرت" في ظرف أيام معدودات، وكانت الطريق أمامهم وتحتهم سالكة، ومُغريَّة بمواصلة الزحف، الذي انتقل إلى مرحلة المسير، ثم الهرولة، فالعدو خلف العدو المدحور، إلا أنهم فوجئوا- فيما بعد- ومن حيث لا يدرون، بانقلاب ورجحان كفـّة الميزان لصالح عصابات العدو، بعد تراخي عمليات حلف النيتو، وبانعكاس نتائج المعركة عليهم، وسُرعان ما انكفؤوا وتقهقروا إلى الوراء، ليعود الموقف إلى مُعطياته الأولى ومربعه الأول، وهنا قصد حلف شمال الأطلسي، برئاسة أمينه العام (أندرس فوغ راسموسن) استمرار عناء الثوّار، ومن وراءهم الشعب الليبي بأجمعه، بين حذرٍ وترقــُّبٍ طويلين، بسبب حالة المراوحة، التي شهدها الوضع الميداني العسكري في الجبهة، بين منطقتي "البريقة" و"إجدابيا"، وحدوث بعض الاختراقات للمدينة الثانية، التي تـُمثــّل بموقعها الإستراتيجي، القاعدة الأمامية لمدينة "بنغازي" معقل الثوّار، على الرغم من مطالبة المجلس الوطني الانتقالي من الحلف، صدِّ هجوم كتائب "القذافي"، التي لا تنقرض، لكأنها خنافس، تخرج من تحت رمال الصحراء في موسم الفقس، وإعادة النظر في قواعد الاشتباك مع آليات "القذافي"، التي اعتمدها الحلف في الأيام الأولى، وحتى الآن.
أعلن حلف الـنيتو مؤخراً- بعد أنْ وجَّه إليه اللواء الركن "عبد الفتاح يونس" عبر المؤتمر الصحفي، انتقاداً لا لبس فيه، لأدائه المتراخي- عن عراقيل وقيودٍ كثيرة، تواجه تحركاته وتقف دون القيام بواجبه، لكنه لم يُحدِّد طبيعتها وماهيتها، والواضح أنها لا تتعلق بمسائل عسكرية، بقدر ما هي سياسية صِرفة، فمن المعلوم، أنّ القرار، يُتخـَذ في منظومة هذا الحلف، بآلية الإجماع لا الأغلبية، وهذا يُنبئ بصعوبات شائكة داخل هذه الرابطة الأطلسية، نجمت عن تردّد بعض الدول المنضوية تحت نجمته- شعار الحلف في موقعه بمدينة (بروكسل/بلجيكيا)- الغريب، أنْ يُستغَل القرار 1973 داخل أروقة هذا الحلف وكواليسه، لتصفية حسابات دولية بين أعضائه، مع أنه قرار دوليّ، والحلف ليس سوى أداة تنفيذية له، فقد حُسِم أمر القرار في الجهة التشريعية (مجلس الأمن)، ووجه الغرابة، يكمن في أنّ الدول التي كانت تمانع استصداره، ليست دائمة العضوية، ولم تـُتح لها فرصة لتطعن في شرعيته، فحاولت أنْ تمارس الضغط على قيادته عند تنفيذه، لما تتمتع به من قوة اقتصادية، مثل (ألمانيا)، وأخرى غلـَّبت مصالحها الآنية والشخصية على القانون الدولي، مثل (تركيا)، وثالثة صارت تحنُّ إلى ماضيها الشيوعي الأول، وتحالفاتها مع "القذافي" مثل (بولندا) وميلها وتعلقها بذيل الإستراتيجية الألمانية، نظراً لارتباطها الاقتصادي الوثيق مع (ألمانيا) التي بيّنتُ موقفها من هذه الضربات، ما يجعلني أخرج بقراءة واحدة، لا ثانية لها، وهي أنه بتجاهل الحلف لنداءات المجلس الوطني الانتقالي، إلى الحدِّ الذي يصل فيه إلى تعريض المدنيين لنيران كتائب الإجرام في مصراتة والزنتان وبقية أنحاء الجبل الغربي، والتلاعب بأعصاب المدنيين، من خبر قدوم كتائب الخراب التابعة للنظام، إلى مشارف المدن والقرى المُحرَّرة، يرمي إلى غاية واحدة، وهي أنْ يُعيد الثوّار حساباتهم، ويعدوا إلى المليون، قبل أنْ يفكروا- مجرد التفكير- في معاودة الكرّ نحو "سرت" وما وراءها، فحقيقة أنه ليس ثمة أيُّ تنسيق بين قيادة الثوّار وحلف الـنيتو، يعني أنه لم يعطِها أية إشارة خضراء، لتدفع بالثوّار إلى الأمام (الغرب)، وإنْ تقدّموا من أنفسهم، فسوف يتركهم لهذا المصير، أي من دون تسليح ولا تقديم العون لهم.
لذا، قبل أنْ يمضي الثوّار صوب الغرب، يفترض بهم أنْ يتركوا وقتاً كافياً، لتقوم فيه قوات التحالف بتحطيم الآلة العسكرية للقذافي، ففي تواصل وتكثيف الغارات على آليات "القذافي" في مرابضها، إشارة واضحة لتقدُّم الثوّار نحو "طرابلس" حتى من دون أي تنسيق، وإذا ما أخذنا في الاعتبار، تصريح قيادة الحلف، بخصوص أنها تمكنت في ظرف أسبوعين من بدء العمليات العسكرية من تدمير ما نسبته 30% من قوة "القذافي"، فهذا يعني إنّ ما تبقى منها، سيستلزم شهراً آخراً، حتى يتم الإجهاز عليه، حتى بالوتيرة المتراخية نفسها، فلننتظر أيها الثوّار، شهراً من الأيام، ليكون لنا رأياً مستجداً، تفرضه مُجريات الأحداث.




من وحي هذه الصورة .. سيزول حكم القذافي بزوال دعامته اليُمنى

بنغازي في : 17 /4/ 2011

لما أمعنت النظر في هذه الصورة المرفقة، التي من الواضح، بأنها قد أُلتقِطت كتذكار للخيبة في ختام إحدى القِمّم العربية، مُلطـَفة ومُلطـَخة بابتسامات شخوصها، بفعل إحدى طرائف "القذافي"، المُتجسِّدة في إلقاء جسده على قامتي الرئيسين المصري واليمني، بقصد تسفيه القِمّم العربية، بإظهارها في شكل الهرج والمرج الفكاهيين، وللنكاية في الشعوب العربية، التي تترقب نتائجها، لأنها عادة ما تصحب الخطوب، وتكون بصفة طارئة، وأظنها قد انعقدت في "ليبيا"- كأول وآخر قِمّة، تـُقام ها هنا في جماهيرية القذافي، الذي لطالما أدّعى العروبة، ولم يجتمع العرب لديه إلا مرة واحدة في عُمرهم، وكانت (وبره) ووبالاً عليه وعليهم- وسبب اعتقادي، هو مشاركة بعض الرؤوساء الأفارقة بها، بعد أنْ مرَّر "القذافي" مشروع قرار، يدعو إلى انضمام دول الساحل والصحراء (س/ص) المُتاخِمة للحدود القبلية للدول العربية، وكذلك دول الجوار الإسلامي (تركيا وإيران) كمراقبين لمجلس الجامعة العربية.
بالإمكان تخيُّل هذه الصورة بشكل ثانٍ، عند تحريفها، من دون الخشية من الملاحقة القانونية، بطلب من صاحبها، ففي حقوق التصوير، تضيع أحقية مالك الصورة أو ملتقطها هباءً، بمجرد إزالة الألوان منها، أو حتى باستدارتها- هذه المعلومة، أمدَّني بها الصحفي الشاب "عاطف الأطرش" فكّ الله أسره، وأعاده إلى أسرته سالماً غانماً- فنصبح بذلك في حلٍّ من أية مساءلة قانونية، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التبرير، لن نفعل شيئاً عملياً كهذا، وسوف نقوم بتخيُّل ذلك، ولن يحاسبنا أحد على مخيلتنا، بعد رفع العين العوراء للسلطة الرقابية لأجهزة القذافي عنا، كثمرة يانعة من ثمرات هذه الثورة المباركة؛ ففي هذه الصورة المُرفـَقة، تظهر الدّعامة اليُسرى للقذافي، مُمثــَّـلة في شخص الرئيس المصري "محمد حسني مبارك"، وقد تهاوت على عروشها، بتنحيه، وقلع أخر مسمار في إمبراطورية حزبه الوطني- ودقـّه ودكـّه في نعش منظومة حكمه- الذي أسّسه المقبور "محمد أنور السادات"- كما كانت تذكر وكالة الأنباء الليبية (أوج)، التي يسميها بعضنا (وج)، لشدة كذبها وتلفيقها، حينما تأتي على ذكر الرئيس "السادات" على الأشهاد، في صلف وشماتة وبمهنية مُهينة، لا معنى لها، ولا أخلاق ولا شجاعة فيها، حيث إنه لا شماتة في الموتى، ولم يسلم من لسانها وقلمها السليط، حتى "مبارك" نفسه، إذ عُرف من خلالها، بنبز "البارك" أو "لا مبارك"، وربما يكون "السادات" خير عند الله، من صاحب القدر الأعظم في العرض الصوتي والمرئي والمقروء لتلك الوكالة، في أبجديات خطابها التقليدي- لنا أنْ نقول، إنّ الصورة الواقعية للمشهد السياسي العربي، قد تغيّرت بعد ثورة 25 يناير في "مصر"، فشطبت من صورتنا، شخص "مبارك"، وجعلت مكانه خواء، من شأنه أنْ يُحرّف الصورة إلى إعوجاج في قامة وجسد "القذافي" وسقوطه من الجهة اليسرى للصورة، إلى درجة تشعلقه بكلتا يديه بكتف الدعامة الثانية، التي يستند إليها "القذافي" بمرفقه الأيمن في هذه الصورة، وهي دعامة الرئيس اليمني أو اليماني "علي عبد الله صالح"، الذي أخذ نظامه في الاهتزاز والتخلخل، تحت وقع زلزال الشعب في "اليمن" برجاله ونسائه، الذي بدأ بالثورة هناك قبل ثلاثة أشهر من الآن، وقبل أنْ يهبَّ الشعب الليبي في ثورته العارمة، وبقيّ أنْ نرى النهاية، التي ستمضي إليها الثورة اليمنية، التي باتت قاب قوسين وأدنى، وفي المرحلة الأخيرة لرسم خاتمة نظام حكم، استمر إلى حوالي ثلاث وثلاثين سنة، منذ توليه السلطة في عام 1978 ميلادية.
قبل انعقاد جامعة الدول العربية، للنظر في المسألة الليبية، التي تسبّب في تأزمها "معمر القذافي"، لم نرَ أحداً من الدبلوماسيين العرب، يصل إلى "ليبيا" ليتباحث معه بخصوص السُّبل المؤدية إلى حلِّ هذه المشكلة، غير أحد المسؤولين اليمنيين، وأظنه ما وصل إلى هنا إلا حاملاً معه رساله من مرؤسه، ليستشير "القذافي" لربما يجد له حلاً، يفضي إلى إجهاض الثورة المُندلِعة في "اليمن"، وبكل توكيد، قد نصحه بالقمع، غير أنّ الرئيس اليمني على سوئه، كان أكثر رحمة ورأفة بشعبه من "القذافي"، الذي أدرك بعد هذه الرسالة، بأنّ من اتكأ على كتفه في الصورة، هو أيضاً بحاجة إلى من يتكئ عليه، خصوصاً بعدما تطورت مطالب الشعب اليمني من مغادرته للسلطة، إلى سوقه إلى المحاكمة الشعبية، لذا أرى أنّ النظام في "اليمن" سيسقط قبل حكم "معمر" الذي لن يُعمَّر طويلاً، وسيزول بزوال دعامته اليمنية (اليُمنى).
نلحظ في الصورة أيضاً وفي خلفيتها، وجها أفريقياً مألوفاً، شاهدناه منذ أيام في خيمة "القذافي"، وهو رئيس منظمة الاتحاد الأفريقي- القاعدة الثانية، التي يعتمد عليها "القذافي" بعد زوال هذين الرئيسين العربيين- الظاهر في هذه الصورة، بين كلٍّ من "عمرو موسى" و(زوما) رئيس (جنوب أفريقيا)، وقد التقط مع "القذافي" صورة في باب العزيزية، بناءً على رغبة الأخير، المُترجَّمة في الإشارة إليه، كي يتموضع ويتموقع إلى جانبه- بإسلوبه العسكري: (اجمع.. تعال جاي.. تعال جاي.. هذي أخرلك صورة اتصورها احداي)- ليتحرَّك- من ثم- ومن فوره، من الخلفية في هذه الصورة، إلى الجهة اليسرى له أمام الخيمة- مُتخذاً محل "مبارك"- ومن الصفوف الأخيرة إلى المُتقدِّمة، لما انفضّ اجتماعه مع الوفد الأفريقي، مُحملاً إياه، مبادرته- التي ليس فيها أية بادرة خير منه- إلى المجلس الوطني الانتقالي، فرفضها هذه الجمع الموقر، تلبية لرغبة الشعب الليبي الثائر، وسُرعان ما انصرف هذا الأفريقي صُحبة الرؤساء الآخرين، لئلا تصيبه لعنة "معمر" كما أصابت "مبارك"، فأياكم أنْ تأمنوا يُمناه أو تتــّيسّروه.











السبت، 16 أبريل 2011

مسيرة الانتصار من بنغازي إلى طرابلس

بنغازي: 28/3/2011

مازال ثوّار 17 فبراير، يتفنـَّون ويحسنون صنعاً، بتلقين "القذافي" وأزلامه، دروساً وعلوماً عملية في تضحيات الشعوب وتكاثفها، والتفنُّن في كيفية إدارة المعركة وقيادتها لنفسها ذاتياً، قصيَّاً عن سياسات التدجين والتدجيل باسم القيادة الثورية، وحملات التعبئة والتبعية لأمر الحاكم الفرد المُطلق، فقد علّم شعبنا هذا العربيد "القذافي"، معنى التلاحم والتراحم والتكافل والتآزر، فيما بين مكوناته، وكيف باستطاعته، تنظيم الجيش الوطني المُؤسَّس على عقيدة الدفاع عن الوطن، والولاء للشعب، ليدافع عن نفسه بنفسه، حينما يجدّ الجّدّ، من دون إخضاعه لتعذيب التدريب العام، الذي ما كان الهدف من وراءه، سوى تكوين جيشٍ لا يتبع لمؤسسة عسكرية مستقلة، وخاضع لأوامر القائد العام، لإذلال أبنائنا داخل صفوفه ومعسكراته- بعد تخوينهم، وتجريمهم بتهمة انتفاء التحاقهم بنداءاته لهم- التي مارست قمعاً غير قمع الأجهزة البوليسية، ولإنزال الرعب في قلوبهم، وقتل روح المقاومة والإباء فيهم، بعد بعث روح الانهزامية في دواخلهم إزاء جبروته وطغيانه، وللزّج بهم في أتون حروب الاستنزاف، هذا الجيش غير الوطني، المُعدّ والمجهز بعقيدة حماية "القذافي" لا الوطن، بعد أنْ قام بتهميش وإخضاع البنية العسكرية بمختلف أركانها، لسلطته، وجعل من (كراديسه) رهن عروضه العضلاتية في احتفاله بمناسبة (1/9) من كل عام، وبإطلالة العام الذي يعقبه، حتى عزف الجيل الجديد من الشباب عن الانضمام إلى فصائله وأرتاله، بعدما شاهدوا وسمعوا بما لحق بالأجيال السابقة من أبناء ليبيا- نتيجة لقانون الخدمة الإلزامية- تحت لوائه المُنكَّس وبيارقه الخضراء الفضّفاضة، ليحوّل الشعب الليبي- فيما بعد، ونتيجة لهذه السياسات التي اتبعها- إلى شعب (مُشلـَّح) قابل للهزيمة والحصار والتجويع بالآلة التابعة لهذا الجيش، الذي سُمي لاحقاً بكتائب"القذافي"، وإلى شعبٍ فاقدٍ للإحساس بالوطنية والشعور بالكرامة فوق أرضه، وهو يتحسّس الغربة في بلاده، بدلاً من مقولته "الشعب المسلح غير ... إلخ".
نظـّر "القذافي" عن مفهومه لمعنى الثورة مديداً، حتى أنه ألف ألاف الكتب الصفراء لذلك، والشعب الليبي ينصت إليه مُضطرّاً ومُكرَّهاً، لكأنه لم يكُن ليعي، بأنّ هذا الشعب مجبولٌ على الثورة، وقد خرج حديثاً، وهو يداوي جراحه- إبان مجيء القذافي- من جرّاء ثورة عارمة، عُرفت بالجهاد الليبي ضدّ المستعمر الاستيطاني الإيطالي البغيض، أخذت أشكال الحرب والعصيان ونبذ الانصياع لأكبر قوة غاشمة آنذاك، وهو الفقير والأعزل، وقد حصدت هذه الثورة أكثر من نصف أرواحه، وهي ضريبة كبيرة، إذا ما قورنت بأية ضريبة لأيِّ شعب آخر في مقابل نيل استقلاله؛ ثم قام "معمر" في مرحلة متأخرة، بالتنظير للقومية العربية، وأنشأ القنوات الإعلامية اللازمة لذلك، في فترة الإعلام الموّجَّه، الذي لم يغِب عن سماء المشهد الثقافي والإعلامي في "ليبيا" طيلة فترة حكمه وإلى الآن، أي في أواخر أيامه، التي ما يزال يطوّع فيها قنواته وقواته الإعلامية، لأجل تعزيز بقائه في السلطة بالزيف والبهتان، وبإطالة نزيف دماء الشعب الليبي الحرّ، ولم يكُن لما قام به أي داعٍ، لأنّ الليبيين معروفٌ عنهم بُعدهم العربي والقومي ومناصرتهم للقضايا العربية والإسلامية، بل قد يتجاوزونهما إلى مناصرة القضايا الإنسانية العادلة، أينما كانت، وما حرب تحرير الجزائر ببعيدة عن المعاصرين لها، وقتما تنادى الليبيون- رجالاً ونساءً- لمؤازرة الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي بالمال والعتاد، ولا يفوتنا دعمهم للقضية الفلسطينية منذ نكبة 1948 ميلادية، وحتى نهارنا هذا، ببذل النفيس والرخيص من أرواحهم وأموالهم، وهنا تحضرني كلمة صريحة وجهتها منذ عامين، على وجه التقريب، إلى أحد الضُّباط المنضمين إلى حركة الضُّباط الوحدويين (الأشرار) وهو من متابعي كتاباتي، حينما حاولت أنْ أعرف منه، مصير ليبيا إلى أين يتجه، في ظل حالة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تمرّ بها بلادنا، فأخبرني بأنه ينزلق إلى الهاوية، وعن رأيه الشخصي، في إيجاد مخارج ناجعة وناجحة لهذه الأزمة، وقد أبدا حيرته، فردّدت عليه: "لمَ قمتم بالثورة- الانقلاب- طالما أنّ كل شيء، كان يمضي على ما يرام، وما لزوم وأهمية كل التوجهات العبثية، التي قمتم بها تحت قيادة ذلك الشخص؟" فما كان منه إلا أنْ بُهـِت، وشردت أفكاره إلى مسافة زمنية خلفية، تقدر بأربعين عاماً.
وهناك فنٌّ آخرٌ، درج "القذافي" عليه، طيلة عقود حكمه الأربعة، وهو تنظيم المسيرات، التي غالباً ما تكون لمساندته والهتاف باسمه، أو تلك التي تكون تحت إشرافه، ويريد من خلال حناجر وخناجر ولافتات المُسيرين- لا المخيرين- على الأقدام والأوهام بالأصفاد في مسيراته، التي عادة ما توصف في نشرات أخبار قنواته بأنها (منقطعة النظير) إيصال رسالة ما، لخصومه في الداخل والخارج على حدِّ سواء، في الوقت الذي لا يسمح فيه، بخروج أية مسيرة احتجاجية على الأوضاع المعيشية، وهذا ما دجّل به طويلاً، بأنّ هذا الأمر، هو دليل على امتلاك الشعب الليبي لسلطته، فما حاجته لأنْ يتظاهر، طالما أنّ شؤون البلاد الداخلية والخارجية مُوكـَلة إليه، فيا للسخف.
هذا الفنُّ التعبوي، أعاد الشعب الليبي هيكلته وأحسن توظيفه، بعد أنْ استتب له الأمر، بتفجُّر ثورة السابع عشر من فبراير، وصار يُسيّر المظاهرات الضّخمة، الواحدة تلو الأخرى، كلما لزم الأمر، ودعت الحاجة إليها، وبطريقة عفوية، فينظمها طوراً في شكل مسيرة نسائية، وفي طور آخر، ينظمها الرجال، وقد تكون مُختلطة، وكذلك الأطفال كان لهم نصيبهم من هذه المسيرات الحضارية، أما "معمر" فما برح يستغل هذه الوسيلة الديموقراطية والظاهرة التظاهرية، لأجل الحفاظ على إمبراطوريته المتهاوية والمتهالكة، إذ أنه ومنذ أيام، ينادي إلى مسيرة كبرى، تخرج من "طرابلس" تحت شعار "لم الشمل" داعياً- كما يدّعي- أنصاره المُسيرين والمستترين من جيشه إلى حمل أغصان الزيتون، وقد رأيناهم من قواعد انطلاقتهم، وهم يهتفون بـ: "الله ومعمر وليبيا وبس" وهذا ما يجعلنا نبلغهم، بأننا لن نلتم معهم، تحت هذا الشعار، حتى لو قدّمنا أرواحنا فداء لذلك، وانتظر يا "معمر" درساً جديداً من الشعب الليبي في تخصّص آخر، ألا وهو المسيرات، حينما يُنظـّم المسيرة المُضادة لمسيرتك، منطلقة من مدينة بياننا الأول وبيانك الأخير "بنغازي" كقاعدة أمامية، وسترى كيف ستلتحم بها جموع جميع المدن، وقد وصلت إلى حاضرة وخاصرة ليبيا، من كلِّ فجٍّ بعيد، رامية بعلم الاستغلال، وحاملة علم الاستقلال، المُزركش بألوان الجهاد والنماء والحداد، ليزرع فوق كل دار في العاصمة الليبية "طرابلس" بعد الانتصار الكبير.

















إرشادات ثورية للمجلس الوطني الانتقالي

بنغازي: 29/3/2011

تأتي هذه المقالة الإرشادية، من باب الحرص على سلامة مولودتنا الثورة، والتذكير بالشيء وتبيانه، ولست أمارس من خلالها دور الوصاية عليكم، من خلال التشكيك في مصداقيتكم، خصوصاً وأنكم قد حزمتم الأمر منذ البداية، وحزتم على الأهلية والشرعية الشعبية في المدن المحرَّرة، والتي تنتظر التخلص من ربقة هذا النظام التسلطي، الذي تسلَّط على رقاب الشعب الليبي، كما أنني لا أبتغي من وراءها اصطياد زلاتكم، ولا عقد المقارنة والمفاضلة بين حجم المسؤولية والشعور بالوطنية والثورية بيننا، إنْ هو إلا واجب وطني، يُحتــّم عليّ صياغة هذه الإرشادات، لتعزيز وتفعيل دوركم من خلال مجلسكم الشرعي المُوقـَر، والمُؤهَل لتمثيل شعبنا في هذه الظروف التاريخية الحرجة والصعبة، من خلال هذه النقاط:
أولاً : فيما يتعلق بالقرار الأممي رقم 1973
يجب أنْ ندرك بأنّ هذا القرار اكتسب مشروعيته، من خلال مطالب الشعب الليبي لحمايته من وحشية "القذافي" ومباركته لأيِّ عمل عسكري دوليّ، من شأنه أنْ يردع، ويردّ عنه الهجمة الهمجية للقذافي وميليشياته البربرية، وقد لاقى هذا المطلب الموافقة الأساسية من منظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، التي اعترفت بأحقية شعبنا في تحقيق مطالبه، وسدّدت الكرة بقدم أمينها العام "عمرو موسى" من "القاهرة" إلى ناحية مجلس الأمن، الذي أكسى هذه المطالب، الصفة الدولية، بعد تدويله، ما يعني أنْ توجيه الغارات الجوية على آليات كتائب "القذافي"، هو قرار دوليّ، ولا مندوحة من تجاهله، وليس في أمر تطبيقه، أيّة منـَّة على شعبنا، من أيّة جهة في العالم بأسرة، طالما أنها مُتقيدة حقـَّاً بتشريعات هذه المنظومة الدولية، وما تنصُّ عليه قراراتها، بل إنّ هذا القرار، يُلزم الجميع علانية بتطبيقه، ويعاقب من يتهاون في تحقيقه على أرض وفي سماء الواقع، ويعطي للدول المشاركة جواز تطبيقه فرادى، بإخطار السكرتير العام للأمم المتحدة، كما أنه في الأساس، يقضي بأنْ يقوم (بان كي مون) بتمويله والسهر على إنجاحه، ولو أدّى ذلك إلى فتح باب المساهمات الدولية، لأجل توفير الغطاء المالي له، خصوصاً وأنّ الدولة الليبية، قد قدّمت- فيما سبق- من عمر هذه الهيأة، المساعدات المالية الضخمة والمقدَّرة بملايين الدولارات- من أموال الشعب الليبي- كمساهمة منها بصفتها دولة غنية في المجهود الإنساني، وربما حتى العسكري، لتطبيق القرارات الدولية المنبثقة من هذه المظلَّة بفروعها كافة، المُمثــِّلة للأسرة الدولية وللعالم الحرِّ.
لذا فمن واجب الأسرة الدولية، أنْ تقوم بتنفيذ هذا القرار الخاضع للفصل السابع لميثاق مجلس الأمن بلا هوادة، مادام شعبنا هو من سيدفع تكلفة هذه العمليات من أمواله المُجمّدة في ثلاجات مصارف بعض الدول المشاركة، متخلياً ومتنازلاً بذلك عن حقوقه، وموفراً على خزانة هيأة الأمم المتحدة، عناءَ وتكاليف تطبيقها لهذا القرار، للتعجيل بتسديد هذه الضربات، التي ستضع خاتمة سوداء لنظام الملازم "معمر"، وهناك حالة مطابقة لحالتنا الليبية، حين قيام مجلس الأمن بتطبيق القرار الخاص بتحرير دولة (الكويت) من قوات جيش "صدّام حسين" حيث موّلت حكومتها من منفاها الاضطراري، ومعها بقيّة دول مجلس التعاون الخليجي، المجهود العسكري، وقامت قوات التحالف (الثلاثيني) بالإسراع في تنفيذه، وقد بلغ حجم التمويل مئات البلايين من الدولارات.
عليه، يجب أنْ يكون لكم دورٌ فاعلٌ أعمق الفعل، في تصويب نيران وصواريخ طائرات التحالف نحو وجهتها، والعمل على الحصول على التنسيق اللازم، الذي يضمن نجاعة المجهود العسكري، بحماية المواطنين والثوّار من الأخطاء التكتيكية العمياء، التي قد تطالهم، وذلك من خلال الحرص على فتح قنوات الاتصال والتواصل بين قيادة حلف النيتو، وقوات الجيش الوطني، بقيادة اللواء "عبد الفتاح يونس" والضُّباط الذين تحت إمرته، من دون أي شعور بالنقص ولا الهوان، والمطالبة باستحداث لجنة دولية لمتابعة تحقيقه، أو بالدعوة لجلسات دورية طارئة لمجلس الأمن، للوقوف عن كثب لتقييم هذه الغارات الجوية ومدى جدواها، فالقرارُ قد تحصلنا عليه بإجماع نسبته 75% من أعضائه، والمال هو من كيسنا، والأرض أرضنا، والسماء سماؤنا، والعدو عدونا، ونحن المتضررين من هذا النظام، والمعنيين بأمر هذه الغارات الجوية، حتى يتحقق لنا ما نصبو إليه، وحتى نستثمر هذا القرار الأممّي، فيما يحرز تطلعات شعبنا.
ثانياً : الإعلام الثوري
حريٌّ بشُعبة التثقيف والتعبئة الإعلامية داخل الجناح العسكري وكذلك المدني بالمجلس الوطني الانتقالي- إنْ تمّ إنشاؤها- الانتباه إلى عدة أمور، منها الحذر الواجب من مقاطع (الفيديو) التي يبعثها أفراد كتائب "القذافي" إلى المواقع الإلكترونية عن عمد، وبعلم قادتهم العسكريين، ثم تصطادها القنوات الفضائية لتبثــَّها، فلهذا العمل تأثيران، أحدهما إيجابي، من شأنه أنْ يجعل الرأي العالمي، يتفطن إلى ما يرتكبه "معمر" من جرائم في حقّ الشعب الليبي والأسرى من ثوّاره، وهو لا يبالي بذلك- لسببٍ سنسبر غوره، ونتعرف عليه بعد قليل- مثل ذلك المقطع المرئي، الملتقط بعدسات هواتف عناصر هذه الميلشيات، الذي أظهر قتلهم بوحشية للمواطن الأسير المهندس "أحمد" رحمه الله وأحسن إليه، نعم هو مهندس، وليس كما ورد على شاشات القنوات الفضائية، بأنه طبيب، والآخر سلبي، يهدف إلى ترهيب قوات الثوّار، وزلزلة الأرض من تحت أقدامهم، حتى يفروا من مواقعهم، لتخلو لهؤلاء المجرمين، هذا أولاً، أما التأثير السلبي الثاني والأخطر، فهو يرمي إلى أنّ يحذو الثوّار حذوهم، لتظهر هذه الثورة في شكل ثورة دموية انتقامية، ستصطدم لاحقاً برفض الآخرين لها ولمبادئها.
في المقابل- ولأنهم ليسوا إسوة لنا- على هذه الشعبة، أنْ تشتغل على بثّ مقاطع مصوّرة للأسرى من كتائب الفاضح أبداً، الذين تم ويتم إلقاء القبض عليهم وأسرُهم، وهم يعاملون معاملة طيبة، من شأنها، أنْ تحمل الآخرين على تسليم أنفسهم طواعية، ومن دون الرجوع إلى قادتهم، وكذلك عليها تسيير الصحفيين ووكالات الأنباء العالمية، لزيارة المستشفيات المليئة بالجرحى- كما يفعل إعلام "القذافي" وهو يظهر المصابين من جراء الغارات الجوية على المدنيين، كما يعلن ويدّعي، لينال بعضاً من التعاطف الدولي، لأجل تقويض هذه الحملة العسكرية، التي أصابته وقواته في مقتل- لكسب مناصرة الشعوب لقضيتنا العادلة في التحرُّر.
ثالثاً : التحرُّك السياسي
هذا الإرشاد له شقان، أحدهما يتعلق بالموقف العسكري، والآخر سياسي، إذا لا يمكن الفصل بينهما في إدارة الأزمات، فالوضع العسكري، هو من يجبر الخصم على الجلوس على طاولة التفاوض السياسي، ويعمل على نهاية هذه الأزمة الإنسانية، فعند الاكتفاء بالزحف على الهلال النفطي الخصيب، أكرّر وأؤكد على ضرورة ألا تقوم قوات الجيش الوطني مدعوماً بالثوار، عند ذاك بتجاوزه، وأنْ تحرص كل الحرص على تحصينه عسكرياً، وذلك بعد إصلاح الأعطاب، التي لحقت بالمرافق الحيوية في المنشآت الواقعة في هذا الهلال الإستراتيجي، نتيجة العمليات العسكرية واستهداف كتائب "القذافي" لها، والتعجيل في ضخ النفط الخام إلى الدول التي تحتاجه، وما أكثر من يسيل لعابه له، باستدعاء الشركات النفطية العالمية لإبرام العقود، أو باستئناف التعامل مع الشركات السابقة، عملاً بما تعهد به المجلس الوطني الانتقالي في بيانه الأول، المُتعلِّق بالأفق والسياسة الخارجية له، الذي نصّ فيه على تحمله لمسؤولياته، وضمان احترامه للاتفاقيات الدولية، التي أجراها النظام في فترات سابقة، مع الدول والشركات والمؤسسات، التي ترتبط بعلاقات وثقى وتعاملات اقتصادية معنا، فهو بذلك يكسب ثقة المجتمع الدولي، ويعجّل من الاعتراف به دولياً.
فزحفُ "القذافي" الأخير- الذي أُصيب بشلل- على المنطقة الشرقية، وإصرار فلوله على التمسك والتمترس عند الناحية الغربية لمدينة "البريقة"، ضامناً- من ثم- حيازته وسيطرته على منطقة "رأس نالوف" وميناء "السدرة"، دليلٌ على علم وعمل "القذافي" على هذه الناحية، و إدراكه لهذه الورقة الرابحة- الجول في لعبة الورق- واللعب حتى الحصول على المكتسب التفاوضي من موقع القوة والثقة.
ومهما تكـُن الانتصارات العسكرية لصالح الثوّار كبيرة، فلا يجب أنْ يُلهيّها عن الدور السياسي، المنوط بممثل الشؤون الخارجية في المجلس الوطني الانتقالي، بحيث عليه العمل حثيثاً، لأجل كسب تأييد ومؤازرة قِوى العالم الحرّ لثورتنا، خصوصاً بعد أنْ أعلن العالم قاطبة، فقدان فاقد العقل "القذافي" لمشروعيته المفقودة تلقائياً منذ استيلائه على السلطة، الأمر الذي لا يعطيه مشروعية التعامل مع أية شركة نفطية، وتبقى المشروعية للمجلس الوطني الانتقالي، الذي في يده إجازة العبور والمرور (النفط)- مادةً وحقولاً ومصافي وأرضاً- التي تفتح أمامه الطرق المسدودة إلى بوابات وإدارات صنع القرار في العالم.
كذلك، يجب- أقولها من باب النصح لا الأمر- على هذا الممثل الدبلوماسي، أنْ يتعامل بحزم وحسم مع الأطراف الدولية على حدٍّ سواء، ولا يعطي أية جهة أكبر من حجمها، الذي تحدّده مصداقية تعاملها مع الشعب الليبي، وتقديمها ليد العون اللازم، فلا يُشكر ويثنى على أحد، من دون أنْ يكون فعله ذا قيمه، فمثلاً ما تقوم به "مصر" الآن من أعمال إنسانية بإدخال الاحتياجات الطبية والصحفيين ومندوبي وكالات الأنباء، هو عمل إنساني، تستوجبه اتفاقية (جنيف) للحقوق الإنسان، لدى نشوب الحروب، وفي حالة انتفاء قيامها بذلك، ستساءل أمام اللجنة العليا لهذه الاتفاقية الدولية، على أية حال، فإن ما تقوم به دولة "مصر" بعد الثورة هناك، تجاه الشعب الليبي هو عمل جيد، ويتباين كثيرا مع موقفها الآن، وما قامت به أيام حكم الرئيس السابق "مبارك" الذي صار في حلٍّ من بنود هذه الاتفاقية، عندما قام بتطبيق حصار مُطبق على أسوار "غزّة"، لكنْ هذا لا يكفي، وينبغي الضغط على المجلس العسكري، الذي يمثّل السلطة الحاكمة في "القاهرة" مجسداً في شخص المشير "طنطاوي" لنزع الاعتراف منه بالمجلس الوطني الانتقالي، ولو عن طريق مناشدة شباب ثورة 25 يناير، ليقوموا بهذا العبء الأخوي، بعد أنْ يعوا جيداً أنْ ببقاء "القذافي" في السلطة، تكمن خطورة على سلامة ثورتهم، التي كلفتهم تضحيات جـِسام، لكون "مصر" بالنسبة للمدن المُحرّرة شرقاً، هي الطرف الحدودي الوحيد.







الدينار السياسي

"مُذ رأيت صورته جالساً، وهو يرتدي الجرد، ويضع كفـَّه على خدِّه، ويضحك أمام مريديه، الذين يتبادل وإياهم دور الاستخفاف، فهو يستخفهم بدجله، وهم يستخفونه طرباً بهتافهم له، أدركت أنه ليس طيباً"، هذه كلمة للحاج "إبراهيم التريّة" رحمه الله، عن رأيه الشخصي في شخص وأخلاق "القذافي"، الغريب أنّ تلك الصورة التي يعنيها، هي عينها، التي صكَّها صاحبها على العملة الليبية النقدية (الدينار) لتؤرخ لحكمه.
في العُرف السياسي الإسلامي، ومنذ أنْ استولى الخليفة الأموي الأول "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما، على الحكم، استحوذ على بيت مال المسلمين، بعدما كانت ملكيته تعود لهم، وتـُصرَف فيما يرضي الله، ويعود عليهم بالخير والرفاة، من دون أيِّ وجه تفريق، فمنذ زوال عهد الخلافة الراشدة، صار صكِّ العملات النقدية باسم الحاكم، أمراً متداولاًً وعُرفاً سياسياً شائعاً بين الولاة، إلى وقتنا الراهن- في تقليد واضح لإباطرة الروم ودولتهم- يجاريه في ذلك بناء مسجد للسلطان، وهذا ما قام به حضرة العقيد بخصوص العملة، وما لم يفعله فيما يتصل بأمر المساجد، فالقذافي، ينفي حتى يومنا هذا، تمثيله لأيِّ منصب سياسي في ليبيا، والواقع يقول بأنه منذ توليه الحكم الفعلي، باستيلائه على السلطة في عام 1969 ميلادية، احتكر هذه القوى الناعمة، لتسيّير عجلة طموحاته ومشاريعه السلطوية الفاشلة، ولتعزيز حكمه بشراء الذمم والأمم، وتصريف أعماله، بصرف أمواله التي هي من حقـِّه- هكذا يرى- في غير أوجهها اللازمة، حتى وصل تأثير هذه القوة إلى الجانب الدعائي والإعلامي في الداخل والخارج، وقد لمسنا تأثيرها على هذا الصعيد، في تزمير وتطبيل الأبواق وكـُتـَّاب السلطة له، ماضياً وحاضراً، ولعلّ ما يؤكد ذلك، ما نشاهده في الفترة الأخيرة، أي بعد تفجُّر ثورة السابع عشر من فبراير، هو غياب الأقلام العربية الكبيرة عن شاشات القنوات الفضائية المشهورة في برامجها التحليلية المتعلقة بالشأن الإخباري والسياسي، بعكس ما كانت تقوم به في أحداث ثورتي "تونس" و"مصر"، حيث لم ينقطع حضورها في تلكم الأيام، إلا بانقطاع البثِّ الناجم عن التشويش، الذي تقوم به الأجهزة الاستخباراتية التابعة لنظام "القذافي"، في تحدٍّ صارخ منه للثورات العربية، حيث إنّ قمع وظلم هذا النظام، لم يسلم منه أحد، وتعدَّى واعتدى حتى على وسائل الإعلام الحرّة، بتسخير الأموال الطائلة أيضاً، لهذا الغرض المُغرِض، باستجلاب الفنيّين والخبراء من أصقاع العالم، والبذخ عليهم من أموال الشعب الليبي، بلا رقيب ولا حسيب ولا وازع من ضمير حيّ، وهو الذي طبع عليه، نصَّ الآية الكريمة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
سيّس ودوّل "القذافي" الدينار الليبي، وعوَّمه لتنظيف وإخفاء جرائم زبانيته وزبالته من منعدمي الإنسانية، وسخـَََّر سِحر هذه القوة الناعمة، على كل ما من شأنه، أنْ يطيل من عمر بقائه في الحكم، ولإخراجه من أزماته السياسية المتفاقمة، وأخطائه الفادحة، منذ قفزه على هرم السلطة في ليبيا، فكلما تعرّض لمحنة سياسية، رأيناه يلجأ إلى خزانة الشعب الليبي، لسداد المخالفات والضرائب السياسية لشرطي العالم الأول (الولايات المتحدة الأمريكية) شريطة إعطائه الآمان وانتفاء ملاحقته القانونية، وهذا ما لم يقـُم به تجاه ضحايا الداخل من الليبيين، ولا المُتضرّرين من حماقاته التحوُّلية الشاذة، من دفع التعويضات وجبر الضرّر، وحتى وقت قريب تمنيت على ضحايا مجازر "القذافي" في حرب (تشاد) وسجن (بو سليم) والطائرة الليبية التي أسقطها فوق "طرابلس"، وكذلك قضية حقن الأطفال بالإيدز، ألا يقبلوا بالتعويض المالي، لأنه في النهاية سوف لن يدفع من كيس "القذافي"، بل من مال الشعب الليبي، لست أقول هذا بدافع الحسد- فلسنا في مقام التحاسد، وليس ثمة ما يحسدون عليه- بل إنني، مع تعويض أسر الضحايا، بأكثر ممَّا دُفِع لأسر الضحايا الفرنسيين في حادثة تفجير طائرة الـ(UTA) فوق (النيجر) حيث بلغت قيمة التعويض مليون دولار أمريكي، وأكثر حتى مما سُدِّد لكل أسرة أمريكية من أسر الضحايا، في حادثة تفجير طائرة الـ(بانام) حيث ساوى التعويض عشرة مليون دولار أمريكي، لكل عائلة، وللعلم، فقد أعلن النظام مسؤوليته الأدبية والجنائية على الحادثتين، ودفع ما دفع، بعد وساطات دولية، ضمنت له سلامة رأسه، لكنّ ما لم يقنعني، هو عبث "القذافي" بأموالنا وتوظيفها لمصلحته الشخصية، فمن المعروف في العُرف الليبي، أنّ من يُقدِّم على ارتكاب جريمة قتل عن عمد، أو نتيجة حادث سير وبلا قصد، أنْ يلتزم بدفع الديّة من جيبه الخاص أو من صندوق عائلته، أو من خلال مؤسسة التأمين- في الحالة الثانية- لقاء أقساط سابقة، دفعها آلياً لهذه الجهة العامة، فما دخل الشعب الليبي، كي يتحمل وزر جرائم "القذافي"؟، فبتصوري، عند قبول الشعب الليبي بهذا التبذير لثروته، لأجل فرد غير مسؤول على ثروته، يكون ومن حيث لا يدري، قد اعترف ضمنياً بمشاركته في هذه الجرائم، وقد شرعن وسنّ قانوناً وضعياً، يصبُّ في مصلحة هذا السفيه، يخوّل له التصرُّف في أموال الشعب، لدفعها يميناً وشمالاً، من دون وجه حق، ولا مسوّغ قانوني، إذ من البديهي، أنْ يُقدَّم هذا المجرم للعدالة، وتأخذ مجراها، لينال الحكم العادل، بعد تجريمه، وإلا عليهم بالصبر، حتى تتبدل الأوضاع القائمة.
ولم يتوقف "معمر" عند هذا الحدِّ، بل تجاوزه إلى مراحل أخرى، في فترات فائتات، حيث إنه موَّل بالدينار- في الداخل- والدولار والفرنك والليرة والين- في الخارج- الكثير من الميلشيات، لخلق حالة من الفوضى السياسية في عدة نواحي في غير قارة، وبها أنشأ المشاريع الاقتصادية الاستثمارية، لإغراء واستعباد بعض الأنظمة، واستبعاد البعض الآخر المناوئ له، واعتقدَ بأنّ نجاحه الذي استمر لفترة سيدوم، غير أنه صار في كل مرة، يتفاجأ بارتداد الموالين له، ما يجعله يموّل خصومه كنكاية فيهم، ولمجرد العناد، ليس إلا، ما سبّب في استنزاف مال الشعب الليبي في غير فائدة، وعلى أعمال طائشة- لا تصدر إلا عن متهور وأهوج- تأتي حسب مزاجه الخاص، وما حكاية الاستثمارات الليبية في الخارج المُتكتـَّم عنها، وعن مردودها وجدواها، حيث علمت منذ عشر سنوات قد خلت، بأنّ حجم وأصول الاستثمارات الليبية في الخارج، يُقدَّر بألف بليون- أي ما يساوي مليون مليون- من الدولارات، وأنّ الدخل العام الليبي، يساوي في مجموعه تسعة بلايين دولار، خمسمئة مليون- أي نصف مليار- دولار منها، هي عوائد الاستثمارات في الخارج، ما يعني أنّ ثمة هدراً كبيراً في طاقة هذه الاستثمارات، لم نتبين حجم الفاقد من دخولها، ما يعني أنّ أصل هذه الأصول المالية، لم يستثمر لأجل الرُّقي بالشعب الليبي، وإنما ذهب كمال سياسي، أُريد منه توظيفه فيما يعود على النظام بالفائدة، ويحقـّق طموحاته الشرهة، ويجعل له وزناً دولياً، حتى لو لم يكُن له أية (كريزمة) ولا أية رؤية سياسية ذات قيمة، في زمن صار فيه الأسوأ هو الأفضل، في كل مجال، ويقدَّر وزن الرجال، بوزن ما يملكون من قناطير الذهب والفضة والدنانير السياسية.