الجمعة، 2 يوليو 2010

أنا و المجنونان




' انبيوة ' و ' انجيوة ' شابان طيبان ، تعرفت إليهما منذ سبع سنوات خلت ، في إحدى المناسبات الاجتماعية ، و صرت كلما التقيهما ، أتبادل معهما أطراف الضحك بشدة ، حتى تتشقق أشداقنا من فرطِه .. يعجبني فيهما إقبالهما على الحياة ، و تطلعهما إلى مستقبل واعد و سعيد ينتظرهما .. بعد أنْ أكملا دراستهما في أحد المعاهد العالية ، دعياني إلى حضور حفل تخرجهما ، الذي أقاماه في بيت ' انجيوة ' الفسيح المُعدِّ لمثل هذه المناسبات ، حيث إنهما اشتركا في هذا الحفل ، لكون أصدقاء ' انجيوة ' هم أنفسهم أصدقاء ' انبيوة ' و احتفظ كل منهما بحقّ دعوة أقاربه و معارفه ، كان حفلاً مهيباً ، لم يغِب عنه أحد من أصدقائهما و لا معارفهما و لا أقاربهما ، فبارك لهم الحضور بهذا النجاح البارع ، وسط تدفق زغاريد النسوة ، و قام البعض منهم ، من النافذين ، بعرض خدماته عليهما ، لأجل إيجاد وظيفة لكليهما ، و سمعت ' انبيوة ' يردّ : ( بشرط تلقولنا عمل في مكان واحد ) فيدعو الجميع : ( ربي ايخليكم لبعضكم و ما ايفرّقكم ) .

 
بعد ذلك الحفل غير العادي - الذي خُتم بـ ( قرّاية ) شارك فيها الجيران من شباب الخلوة بحي السلماني ، شـُكرانة لله على هذا النجاح ، و في ختامها ، رفعوا أيديهم لله ابتهالاً : ( ربي ايوفقكم و ما ايفرّقكم ) – بشهر واحد ، التقيتهما عند عمارات الحميضة ، مع صديقهما ' سالم ' حاملين ملفين لأداء فريضة الخدمة الوطنية ، و كان كلُّ ما يهمهما ، أنْ يجتمعا في معسكر واحد ، و قد غضّا الطرف عن مسألة الإعفاء ، فلا وساطة لديهما ، فسألتهما : ( أ لم يعرض عليكم البعض من معارفكما الخدمة في يوم الحفل ؟ ) فجاوبني ' انجيوة ' : ( انكان صاحبك عسل ما تلحسش كله .. قلنا نعفوهم من الموضوع هضا .. بيش نقصدوهم في موضوع الوظيفة ) .. ( باهي ربي ايوفقكم و ما ايفرّقكم ) ودعتهما بهذا الدعاء ، حتى لقاء آخر بهما .



بعد هذا اللقاء بثمانية أشهر ، دعوتهما إلى حفل زفاف ابن خالتي ' ميدو ' في عمارات الـ ( 7000 ) بحي ( 1 / 9 ) هو لا يعرفهما ، لكنه أعطاني بطاقتي دعوة ، يحقُّ لي بهما دعوة أصدقائي ، فوجهتهما إليهما ، هناك في العرس ، أخبراني بأنهما أنهيا الخدمة الوطنية ، و قدّما ملفيهما إلى إدارة القوى الباطلة ، و أخرج ' انبيوة ' من جيبه الخلفي ، إيصالاً من هذه الجهة من داخل محفظته ( تزدانه ) الملون بلون قوات الصاعقة ، مع تعليق ' انجيوة ' : ( اللي يرجى .. خير م اللي ايتمنى .. و كيف الناس لا باس ) و أعلماني بأنهما ريثما يعينان ، يعملان بالتجارة ، فقد اشتريا سيارة ( قلع خضرة ) يزودان بها المحال التجارية ، ببعض ممّا أنتجت أيديهما من معجنات و حلويات ، فقد اتفقا مع بعض المحال التجارية على تزويدهما بـ ( الكعك ) الذي ظنّنت ، بأنّ أخواتهما هنّ من يصنعنه لهما ، فيقومان بتسويقه ، فابتسم ' انجيوة ' و أخبرني بأنهما صارا بنفسيهما ( ايكعكو و يرمو فيه في كوشة ) اشتراها بالدين الآجل من صديق لهما في أحد محال نادي الهلال ، و هو نفسه من اقترح عليهما هذا العمل ، بعدما قصداه ، ليجد لهما عملاً في أحد هذه المحال ، فتحجّج بأنّ السوق راكد ، و لديه عدد كبير من العمّال ، وقد اكتفى به .. و أردف ' انبيوة ' : أنهما بدءا عملهما بصناعة البشماط و الخلوط ، ثم تركاهما ، لأنّ الأول صار غير مرغوب فيه كثيراً ، أما الثاني ، فلا يُقبل عليه الليبيون لغلاء سعره ، و أصبحا يبيعان كيس الكعك المنكه بقشور البرتقال و الزعفران و الكمون الحلو و الجلجلان بنصف دينار - بسعر الجملة - و يفكران بتوسيع نشاطهما بإعداد الغريّبة و المعمول ، و إذا استلزم الأمر ، ربما سيطوران شغلهما ، و يدخلان على المقروض ، لذا طلبا مني أنْ أحضر لهما مقادير هذه الحلواء ، التي تذوقا طعمها في فرح ' ميدو ' و حلّفاني ألا أغشهما ، فهما يريدان مقروضهما يظهر بالنكهة نفسها .. و بعدما سألتهما : ( كيف صار أمالا ما كلمتوش جماعتكم ع العمل ؟ ) .. ' انبيوة ' و هو يبتسم ، حتى بانت ثنياته العليا و السفلى : ( يا راجل خلك من الكلام الزايد .. راهو ما فيش حد واصل .. و ما تنخدعش فـ اللي ايخبطو في صدورهم .. و يجنتلو قدام الناس .. راهو كله كذب في كذب .. الله غالب .. كيف ما ايجيك الزمان تعاله .. بصراحة درنا امتحان مقابلة في وحدة من الشركات ، و ' انجيوة ' نجح فيه و نا لا .. لكن ما بش يشتغل .. قال : يا نشتغلو نحنا الاثنين يا بلاش ) .. ( باهي سلم صاحبك .. و ربي ما ايفرّقكم ) .

 
***



مشهد متكرر :



( قلع خضرة ) - مليئة بأكياس الكعك و المعمول و المقروض و الغريّبة و المثرودة و الدبلة و المسمنة المجففة النيئة ، كلما مشيت و وقفت أجدها أمامي ، في البركة ( اللي عويلتها فزّاعة وقت العركة ) و الكيش ( حطني وسط أحبابي و ما اتدورنيش ) و الماجوري ( ياويلك من اعويلتها لما اينوض عليهم البوري ) و البلاد ( اللي تحلى فيه اللمة و الميعاد ) و سيدي حسين ( اللي كل ناسه حلوين ) و أرض ازواوة ( اللي هلها احضور وبداوة ) و الحدايق ( اللي فيها الجو رايق ) و المساكن ( اللي فيهن الغالي ساكن ) و السلماني الشرقي و الغربي و راس اعبيدة و حي السلام و الليثي و الفويهات - تمر أمامي بسرعة ( اتكرّط ) ، هي ( قلع ) ' انبيوة ' و ' انجيوة ' يتبادلان مهمة القيادة و الحسابات ، يطوفان بها أرجاء بنغازي ، بعد أنْ توسعت دائرة نشاطهما ، بل اتسعت حتى شملت المنطقة الشرقية كلها ، و وصلا بسيارتهما حتى المرج و البيضاء و درنة و طبرق ، سعياً وراء الرزق .

 
بعد فترة :


( اقلوعة صفر و خضر و حمر .. اتقول اشكارة حلوة من مصنع كانون مطرطشة في شوارع بنغازي ) ايزرن بسرعة ، واحدة تبيع الخبزة و أخرى ( التشيبس ) و ثالثة ( البوطاس ) و رابعة و خامسة و سادسة و سابعة و ثامنة و تاسعة و عاشرة ، تبيع ما يبعه ' انجيوة ' و ' انبيوة ' .

 
بعد فترة :

 
( قلع خضرة من غير امشمع ) فارغة من الأكياس و مخبوطة من الخلف ، كلما مشيت رأيتها أمامي واقفة أمام أحد المحال ، هي قلع صديقيّ المكافحين .





بعد فترة :


' انجيوة ' و ' انبيوة ' ( معش كلوا خبزة و لا كعك مع جماعة القلوعة الأخرى ) فصارا يجمعان ديونهما المتبقية بخسارة الربح من المحال التي يتعاملان معها ، لإظهار فرحهما ، فقد خطبا أختين جميلتين ، ليكونا عديلين ، و يمسي أبناؤهما أبناء عم و خالة في الوقت ذاته .. ( و ربي ما ايفرّقهم ) .




***

 
يوم : 15 / 8 / 2008 م

الساعة : 10:00 صباحاً

المكان : عند مصرف الادخار – سيدي حسين .

 
كان لقائي بهما ، خارجين بإيصالين في يديهما فرحين ، من المصرف ، و حينما شاهداني ، قرنو الروس عليا :



انبيوة : أمالا جاي اتقدم ع قروض الشباب ؟ .

أنا : لا و الله .. ما انتبعش في الحاجات هذين .. كنت في عيادة السكر ناخذ في احبوب السكر للعزوز .

انجيوة : معقولة يا راجل ما قدمتش في القروض ؟

أنا : و اللهي طايحين على روسكم .. من جدكم يا جماعة .. معقولة اتسلم ملف فيه أوراق ما يسّونش خمسة اجنيه .. و يعطوك بدالهن خمسين ألف اجنيه ؟! .

هما في آن واحد : أنت اللي طايح على راسك .. المرة هذي صاير منهن أكيد .. و الموضوع جديات .. و يبو ايوزعوهن يوم 15 / 9 / 2008 م

شكـّـكت في نفسي أمام ثقتهم و تأكيدهم ، فسألتهما :

باهي شنو الأوراق المطلوبة ؟ و وين أنقدم ؟ .

هما : لا خلاص راحت عليك .. سكروا باب القبول .. بس الأوراق المطلوبة ، هي : صورة من البطاقة الشخصية و 5 صور شخصية و علم و خبر و الاسم الرباعي و الحالة الجنائية و الوضع السكني و أهم حاجة دمغة ( خمسة و عشرين قرش ) و ما تنسش فصيلة الدم .. أنت وتـّيهن و خلاص .. مرات السنة الجاية ايحلو باب القبول مرة أخرى .

أنا : ايحلو و اللا ايسكرو .. سوا سوا .. الاثنين طعمهن حلو في ريقي .

هما : فيش تحكي ؟

أنا : صار يبوا فصيلة الدم .. هذي الحاجة الوحيدة اللي متأكد منها .. أنّ دمي مش ثقيل و مش امصقع و لا بارد .. قصدي : الحل من الحلاوة .. و التسكير من السكر .. و الاثنين طعمهن حلو في ريقي .. يعني اللي رقد الستة يرقد الستين .. فهمتوا قصدي ؟ .

هما : أنت متشاءم .. و ديما امسكرها في وجوهنا .. لا المرة هذي تاخذ سوك يا خونا .. انت امغير اتبرد على نفسك .

 
يوم : 20 / 10 / 2009 م

الساعة : الواحدة ظهراً .

المكان : السلماني .

قابلني صديقهما ' سالم ' عند نادي النجمة ، و دار بيننا حوار طويل عن الكورة و التجارة و الأصحاب ، فسألته : بعد خطرها بعد جبت سيرة الأصحاب.. و النبي كيف حال ' انجيوة ' و ' انبيوة ' ليا قريب سنة ما ريتهم ؟ تعرف و اللهي زعلان منهم .. راهو الا طلعوا فرحهم و ما عزمونيش ؟ .

سالم : اجعنهم ما هم حالك .

أنا : كيف صار ؟ .

سالم : المساكين جربو بيع الكعك و ما صار شي .. قدمو في القروض .. و ما صار شي .. و لعلمك راهم غسلوا حتى السيارات في استراحة عيد الذهبي للجماعة اللي ايمتعو في السيارات و ركبهم البرد في مفاصلهم .. و ما صار شي ، و ما قالوهش لك .. و جماعة المحلات كلوهم في الدين امتاعهم .. و السيارة خربت و باعوها رابش .
أنا : الشغل مش عيب يا سالم .
سالم : بس و الله الجيران و الجماعة .. قعدو ايشفطو عليهم .. لما بدوا في سريب الكعك .. قالولهم عيب عليكم راهي هذي اصراكة صبايا مش رجّالة .

أنا : أيوه صار هكي ! .
سالم : و بو العروسين فك منهم البنات و قاللهم .. يا اتطلعو فرحكم و اتبينو فيهن يا اتفارقوهن .. راهو علقتوهن .. و يا ريتكم امغير ضنا عمهن .. الناس راهم كلوا وجهي .
أنا : لا حول و لا قوة إلا بالله .. و باهي توه ايش دايرين زعمك ؟ .
سالم : زنّحو و طرشقو رسمي .. و قاعدين في النفسية .
أنا : و اللهي وجعوني في وسط قلبي .. عليك حالة و خلاص .. المهم أنهما لم يفترقا

( و توتة توتة .. خلصت الحدوتة ) .



















ـــــــــــ






زياد العيساوي






بنغازي - ليبيا






7 / 6 / 2010