السبت، 30 أكتوبر 2010

القلم نذير شؤم

"وجهُ الكتابة، مثل وجه المرأة العربية الحسناء اللعوب، على خدِّها، تقبع حسنة (شامة شامية أو خال لخليجية) ما تـَزال- لا تـُزال- بعمليات التجميل، على عكس الأوربيات، وعلى خدِّها الآخر، ثمة أكثر من سيئةٍ، ومن ليست على خدِّها حسنة، تطبعها بسن قلم كحلها، ولأنّ الحسنات يُذهبنّ بالسيئات، ينخدع الرجال وراء إغواء وإغراء حسنات الحسناوات، ومن ثم، القراء وراء ما يقرؤون".. "أنا". كلماتي، تتسطر، تتمطر، تتشطر، تتعطر، تتقطر، تتوتر، كلماتي تتبعثر، تتنثر، وتأبى أنْ تؤطّر، ضمن سياقٍ لكادرٍ واحدٍ، سيُرمى به، يوماً ما، خارج الملاك الوظيفي، ولو زُيّن بخطوط الذهب وخيوط الفضة، لا أحبُّ الكوادر ولا الشوادر ولا الصور، فهي يقيناً، ستصبح إطاراً تذكارياً لشخصٍ ما، يُلقى به، بعد عمرٍ ما، مثلما يقذف الصبية الإطارَ المثقوب، لعربةٍ خرِبة من أعالي المنحدرات، أو يُحرق في ليلة (الميلود) في منطقة (اللثامة) تحت أشجار النخيل، ذوات البلح الأصفر.
لا أحتفظ بصورة لوالدي، من يدخل إلى بيتنا، لن يجد في أية زاوية منه، آثاراً لتذكار واحد له، ولا لجدّيّ، فالصورُ، لن تعزينا فيمن فقدنا، أحلامي هي المُعلَّقة في كوادر تذكارية على جدارية الفزع، غير المُصمتة بالإسمنت، لليالٍ لم تكتمل فيها نـُطفة أمشاج الحلم المجهوض، لا أقبل بأنْ أكون عدميّـاً، ولن أرتضي لكلماتي، بأنْ تصبح ذكريات مُعلَّقة من أرجلها، ورؤوسها تتدلى إلى أسفل، مثلما يحدث مع المسجونين والمعذبين في أقبية المخابرات العربية- فكلماتي ليست شعراً، لِتـُعلَّق ضمن المُعلَّقات، كلماتي قولٌ، بل فكرةٌ، تساورُ الناسَ في واقعهم، وصورٌ، في واقع أحلامهم الوردية المُنتكسَة، حينما يغسلون وجوه صباحاتهم، فينزعون عنها قشور اليباس، مثل القطمير من على نواة البلح، أو الضمادات من على الجرح، بعدما يتطبّب ويشفى، ثم يعرضونه للشمس في باحات صباحات بيوتهم، فأحلامي بـِضعة منكم.
في نفسي وجعٌ، لم أعرف له سبباً، في قلبي ألمٌ، لم أجد له طِبّـاً، الجدية تحاصرني في كل شيءٍ، في ابتسامتي، في مشيتي، في ملبسي، في مزاحي، أجدُّ الجِّدّ حتى في فرحي، وفي ألعابي، وفي ألواني.. فالجَّدُّ للأب والأم ، ما سُمي كذلك- بتصوري- إلا لجديّته وصرامته، وجادته السليمة- أكثر من يزعجني، هم المرحون من غير الأطفال، المرحون من كل حدبٍ وجدبٍ، المرحون في الجِّدِّ، المرحون في الحزن، المرحون في الشوارع، المرحون والمتمرجحون ذوو الشعور الطويلة والمشاعر البليدة و(لمّبلدة) على أرجوحات الوهن، ومزاليق الوهم ، فالمرح طرحٌ آخرٌ لا يستهويني، أطروحتي في الحياة: "كـُن جاداً.. لتجد ما يسرُّك".. المرح سُخفٌ ، المرح في الكتابة عندي، هو أنْ أسخّر السخرية بالسُّخرة لشخصياتي، التي لا تنطق، وقلمي هو من ينطقها، رغماً عن ألسنتها الجبانة، كي أمرّر مرارة رأيٍّ وطرحٍ - وجمعٍ وضربٍ وتقسيمٍ - لما أشاء من أفكار.. ليس خوفاً، بل لعلمي المسبق، بأنّ النفس البشرية، إذا انتقدتها بعبارة جديّة، لا تتقبلك، لكن إذا انتقدتها، بالعبارة نفسها، وأنت تبتسم لها، تتلقاها منك - مثلما تتلقى الأم ابنها المسجون، بعد فراق طويل في أحضانها- ولو كانت بأقذع السُّباب، فهي تستمرئ النفاق والعبور تحت الأنفاق، فنحن نجيد، خدّ وحفر الخنادق جيداً، حتى في المقاومة، لا نعلن أننا مقاومون، ونمرّر الأطعمة للجوعى من تحت السراديب، كما في غزة المحاصرة، بل حتى المنهزمون والأبطال المنتظرون لهدايتنا ونصرتنا، هم أيضاً، في حكم المتسربلين في غياهب السراديب، فنحن ما زلنا أسرى لثقافة المخابئ والملاجئ، نخشى السير فوق الأسطح اللامعة، لأنها تعكس حقيقتنا وزيفنا.
لن أكون كاتباً عدمياً، فمن اللؤم ألا أصبح نذيرَ شؤمٍ، من اللؤم ألا أُعبِّر عن السأم، لأعبُّره إلى مراحل وسواحل أخريات، من اللؤم أنْ أمرح مع المرحين، وأخوض مع الخائضين، من اللؤم أنْ أُنطِق من لا ينطقون، لكم تمنيت أنْ أغدو بشيرَ فألٍ حسنٍ، لا تتطيّر الناس من حروفه في عبارات خوفه، لكن ما العمل، والوضع في العراق مُحتل، والجو عندنا مُختل؟ الكتابة، تفجِّر في دواخلي المُضطرِبة، حِمم حُمتي وحَميمتي، فتسيل على سفحي وتنكأ جرحي، لتزلزل كياني غير الصهيوني الهوى، فهمّي كبيرٌ، وجعي أكبر، وأكبر من مساحات كلماتي.
***
اسمحوا ليّ في خاتمة هذه المقالة، أنْ أُدّخِلكم في دائرة التكرار و الملل، بأنْ أعود بحضرات عيونكم إلى مقدمتي لأعلق وأوضح أكثر:
وجهُ الكتابة، مثل وجه المرأة العربية الحسناء اللعوب، على خدِّها، تقبع حسنة (شامة شامية أو خال لخليجية) لا تـَزال- لا تـُزال- بعمليات التجميل، على عكس الأوربيات، وعلى خدِّها الآخر، ثمة أكثر من سيئةٍ، ومن ليست على خدِّها حسنة، تطبعها بسن قلم كحلها، ولأنّ الحسنات يُذهبنّ بالسيئات، ينخدع الرجال وراء إغواء وإغراء حسنات الحسناوات، ومن ثم، القراء وراء ما يقرؤون، فيظلّون، تحت سُمرة ظِلال وضلال الأفكار، التي لا تستقيم ما دامت عيدان الأقلام عوجاء وعرجاء، في طرق السطور الملتوية والمُحفـَّرة، والمُحقـِّرة للعقول، لا يُستند إليها، و لا تصلح أنْ تكون، حتى محض عكاكيز في وحشة دهاليز التجهيل والتبجيل، بل عكاكيز في مهرجانات التحجيل، في يد راقصة شلبية، على ذقنها شامة، وعلى خدِّيها شامتان وثلاث، وثمة من الحضور من يتفرغ لعدِّ النقاط المُستترة الأخرى، فهناك من تستهويه الشّامات والحسنات، ويغضُّ طرف القلم عن السيئات.









































الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟




كلمة عتاب يا حب بتدور عليك
كلمة من قلبي يا ريت توصل إليكْ
***
خذت ايه من ناري
لما لعبت بيا بعمري لعبْ ؟
و طلعت بعد الورد بعد الوعد
شوك و سراب يا حبْ
بعتب يا حب عليك
يا دوب كلمة عتاب
م النار م العذابْ
***
هو ده الورد اللي كنت بتقطفه
و تفرشلي بيه خطوة طريقي ؟
هي دي الأحلام و نشوتها
اللي كنت تقول عليها نعيم حقيقي ؟
دي الآمال الحلوة اللي رسمتهالي ؟
دي الوعود الغالية اللي اللي وعدتهالي ؟
ليه تذوقني الهنا كله ؟ و ليه خذت الهنا ؟
اعمل ايه دي الوقت في الأشواق و في الحرمان ؟
***
مرت سنين و سنين كتير
من يوم ما قابلتك يا حبْ
من يوم ما غنيت اللي بتغنيه تملي لكل قلبْ
خذت ايه من ناري
لما لعبت بيّ بعمري لعبْ ؟
و طلعت بعد الورد بعد الوعدْ
شوك و سراب يا حب
بعتب عليك يا دوب كلمة عتابْ
بعتب عليك يا حبْ م النار م العذابْ ..
بهذه الكلمات من بديعته أغنية ( كلمة عتاب ) التي ألفها له الشاعر و الزجّال " أحمد شفيق كامل " وضع الفنان الراحل " فريد الأطرش " أخر حجر كريم في عِقد أعماله ، التي ترنّم بها طِوال أربعة عقود دونما كلل و لا ملل منه ، و لا من من محبي أعماله ، و قد تركها الفنان " فريد الأطرش " مُسجَّلة على آلة العود ، قبل أنْ يقوم بتوزيعها موسيقياً بذاته ، لكن العمر لم يسمح له بذلك ، فأتى من بعده ، المُلحـِّن و المُوزِع الموسيقي " علي إسماعيل " ليقوم بتوزيع هذه الأغنية في هذه الصورة ، التي أنتم تستمعون إليها تواً ، بعد أنْ قام بتركيب التسجيل الصوتي للراحل ، و هوّ يتغنى بهذه الرائعة ، على الموسيقا التي وضعها له ، قـُبيل رحيله عن دنيانا .
حيث أدّخل القدر عصاه في دولاب حياة الفنان الكبير " فريد الأطرش " لتتوقف عربة حياته في يوم الخميس ، عصر ثالث أيام عيد الأضحى المبارك ، الموافق : 26 / 12 / 1974 ميلادياً في العاصمة اللبنانية ( بيروت ) عن عُمر ناهز السابعة و الخمسين سنة ( 1917 – 1974 ) كما تؤكد أغلب المصادر المُقرَّبة من الراحل ، و كما صرّح هو بنفسه ، لجهة ميلاده ، لتنتهي بذلك ، مرحلة مُهِّمة في تاريخ الغناء العربي المعاصر و ككل ، من حيث إنتاج الأغاني المدهشة - لحناً و أداءً و توزيعاً موسيقياً - و كفى ، فأعماله على الرغم من وفاته ، ما زالت تحيا لدى جمهوره ، و آية ذلك ، أننا نستمع إليه الآن ، و هوّ يترنم بهذه الأغنية الفاتنة ؛ فمن كان يعاتب في هذه الأغنية ؟ أي بقصد ، إلى من كان يوجّه كلماته هنا يا ترى ؟ غير الحبِّ ، الذي أنشد فيه دُرّراً و بدائع ستخلـَّد إلى أبد الدهر ، هذا الشعور السامي ( الحبّ ) الذي أعطاه من صميم ألحانه و من صوته ، الذي كان يحترق ألماً و إحساساً في أعماله كلها ، فلم يكافئه إلا بخيبات الظنّ ، على الصعيد العاطفي الشخصي ، لكنه قابله بمحبة الجماهير العربية كلها ، فقد تحصّل الراحل على أكثر من جنسية عربية ، و على حق ِّ المواطنة من أكثر من دولة عربية ، تشريفاً له و تقديراً لجهوده العظيمة للرقي بالغناء العربي - الذي ارتقى في عهده إلى مراق ٍ، يصعب الوصول إليها - و ثمناً للمكابدات الصحية ، التي دفعها كضريبة للنجاح الذي أسعد به الناس ، فقد أصيب بأكثر من ذبحة صدرية في بدايته ، كانت كفيلة بأنْ تخرسه و تقعده قصياً عن فنـِّه ، إلا أنه أبى أنْ يحرم جمهوره من إبداعه - لإحساسِه - بأنه ما خـُلِق إلا لإسعاد الناس بصوته و ألحانه ، فطوال عمره الفني الذي بلغ أربعون عاماً مستمرة ، من دون انقطاع ، و لا تكرار في الجمل الموسيقية التي كان يبتدعها ، ما غاب جديده على المتلقي ، فقد كان الراحل أغزر الفنانين إنتاجاً و إخلاصاً لفنه و أبدعهم لجهة التحديث ، فمن الميزات التي كانت تتصف بها ألحانه ، أنها كانت مُدّهِشة للسمع ، من حيث سرعة تلحينه ، فحتى القصائد و ( الأوبريتات ) الطويلة ، التي لطالما ضمّنها في ( أفلامه السينمائية ) كانت لا تستلزم منه وقتاً طويلاً ، على الرغم من الحشد الكبير من الآلات الموسيقية ، التي كان يستعين بها في أعماله ، كما عُهـِـد عليه حُسن اختياره للكلمة ، و طريقته الفريدة في إعداد اللحن التلقائي الفطري ، الذي يحسسك أوان الاستماع لأية أغنية له ، أنك لو كنت ملحناً مثله ، لسوف تضع لها اللحن عينه ، الذي أُخِذت بروعته ، كما أنه معروف بذكائه في اختار لحظة المفاجأة و على حين غفلة من المتلقي ، نلحظ سمعاً أنه على الدوام ، يبدأ بجملة موسيقية و سرعان ما يقوم بتغيّيرها بعد المطلع و حال دخوله إلى أول ( كوبليه ) من أية أغنية ، فلا يستهلك المذهب و لا المقام ، بالذات في قصيرات الأغاني ، التي عادةً ما لحّنها مجايلوه في شكل ( الطقطوقة ) المعروفة بتكرار جملتها الموسيقية بعد كل مذهب ، ذلك لما يكتنزه من رقة مشاعر في قريحته و صدره المُثخـَّـن بالجراح ، التي لا قِبل لأيِّ إنسان بها ، فهو لم يستسلم لهذه الآلام ، التي أصيب بها عقب الرحيل المبكر لأخته ، أميرة الغناء العربي ، المطربة " أسمهان " إذ أنه وظّف هذه الأحزان جيداً ، و حوّلها إلى نجاحات ، جعلت منه مطرباً ناجحاً على المستوين العربي و العالمي ، فهو الفنان الوحيد من ذلك الجيل الرائع الذي وصل إلى العالمية ، بفنه المعبّر عن ثقافته - لا كما يفعل مغنو اليوم ، الذين يدّعون وصولهم إلى العالمية من خلال ترويجهم للسلع الاستهلاكية على وقع أعمالهم السيئة الذكر و الاستماع ، فشتّان ، بين من وصل إليها باجتهاده و من دون أنْ يطلبها ، و بين من تحوّل إلى مروِّج للـ ( بيبسي كولا ) - و اخترق حدوده الجغرافية بجميل أغنياته ، التي نهلت من معين وجدانياته ، التي كانت زاده الذي يحترق و يخترق به في هذه الرحلة الطويلة إلى مناطق بعيدة من الطرب ، فكانت مثلما الوقود الذي لا ينضب إلا بتعطل الآلة ، و آلته لم تكـُـن سوى آلة العود ، التي عرف كيف يستخلص من بواطنها ما يترجم أحاسيسه و مشاعره ، التي كان يلحنها من خلال معاني الكلمات لا نطقها ، فقد أسّس الراحل هذه المدرسة المنهجية التي ، أُعرِّفها بمدرسة ( تلحين المعنى ) بل و تصويره أيضاً ، لكنّ هذه المدرسة ، التي وضع حجر أساسها ، لم تستمر بعد رحيله ، ربما لأنها لا تفتح أبوابها إلا لمن تتوافر عنده مثل هذه الخصائص ، التي كان يتميّز بها هذا الموسيقار الكبير ، و ذكرت النزر اليسير منها .
هذه الأغنية كانت ، و كما أسلفت ، أخر أغنية للراحل " فريد الأطرش ، لتسجَّـل في ذيل قائمة أعماله التي بوابها بأغنيته ذائعة الصيت ( يا ريتني طير لطير حواليك ) التي كانت أولى أغانية في مشواره الفنّي ، و كانت أول و أخر أغنية ، يغنيها من ألحان غيره ، فقد كتبها و نغّمها ، الفنان الفلسطيني " يحيى اللبابيدي " في سنة 1934 ميلادياً :
ياريتني طير لطير حواليك
مطرح ما تروح عيوني عليك
ما بخلي غيري يقرب ليك
لكن ياريت عمرها ما كانت اتعمر بيت
***
ياريت كل الدنيا ملكي
أنا و حبيبي بالشركي
ما كنت ابفوته و لا تبكي
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني يا قلبي زهرة
لزين صدرك شي مرة
و ابفتح قلبي يا حسرة
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني شعرة بجفونك
لرد الشمس على اعيونك
و اتعلم سحرك و افنونك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني منديل بعبك
دايماً بسمع دقة قلبك
لو كنت بتعرف شو ابحبك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني عبد من عبيدك
و ليل و نهار ما بين أيدك
يا روحي شو كنت ابفيدك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
فالفرق بين البداية و النهاية لهذا الفنان ، اللتين تكمنان في هاتين الأغنيتين ، لا يقاس بفارق الزمن فحسب ، و إنما بالنقلات النوعية ، التي حقــّقها في هذه الفترة الفاصلة بينهما ، و المقدَّرة بأربعين عاماً على حدِّ التقريب ، حيث ولج إلى عالم الغناء من خلال هذه الطقطوقة ، التي تفرّد الملحن المذكور بتقديمها له و لنا كمستمعين ، ثم توالت الإبداعات يوماً بعد يوم و لحناً بعد لحن و أغنية بعد أغنية ، ليصعد ذلك الشاب الصغبر القادم من جبال الدروز بسوريا إلى المراتب الأولى في السلم الغنائي و ليزاحم باقتدار من تربعوا عليه قبله ، من حيث العمر لا الموهبة ، فإذا شطّرنا عمره الفني إلى مرحلتين اثنتين ، سنجد أنّ كلتيهما قد شهدت تطوراً كبيراً في أعماله ، و هذا ما يتضح لكم من خلال ما سوف يأتي :
المرحلة الأولى ( 1934 – 1954 ) :
ركـّز الراحل في هذه الفترة ، الممتدة لعشرين سنة ، على تقديم القصائد ، فكانت أولاها قصيدة ( ختم الصبر ) من كلمات الشاعر " حسين شفيق المصري" ثم ( اسألي الفجر و الغروب ) نظم الشاعر " صالح جودت " ثم تحوّل سريعاً إلى تلحين و أداء الأغنية الطربية ، بعكس ما كان يودُّ بعضهم ، حيث إنه ، لم يستمر في إنشاد القصائد ، على الرغم من مراهنة الكثيرين عليه ، فبرأيهم لو أنه تفرّغ لهذا اللون الجميل لكانت له إضافات ذات شأن رفيع في هذا الشأن ، عموماً فقد أنتج أغنية ( يوم اللقاء ) في أواخر الثلاثينيات التي بدا فيها للأسماع تأثره بالإيقاعات الإسبانية ، التي تزيّـنت بها هذه الأغنية ، التي لم تطغَ و لم تغطِ على روح الموسيقا الشرقية ، و استمرت أعماله على هذا المنوال ، حتى قدّم أغنية ( امتى تعود يا حبيب الروح ) في الأربعينيات من القرن المنصرم ، و في هذا العقد تصدّرت أعماله ، أغنية هي من أروع ما قدّمه في مشواره الفني برمته و الأقرب إلى المتلقي ، ألا و هي أغنية ( الربيع ) أو كما أحبُّ أن أسميها بنفسي ( الفصول الأربعة ) ما ينبئ بأنّ وتيرة نجاحه سريعة جداً ، و أنتج أيضاً أغنية ( جميل جمال ) في عام 1952 ميلادياً ، التي أخبرني الفنان الليبي " أحمد فكرون " بأنها أقرب أعمال " فريد الأطرش " إليه ، و ألحقها بأغنية ( أنا و اللي بحبه ) تلك الأغنية ، التي قال في حقـِّها الموسيقار " محمد عبد الوهاب " : " إني على أتم الاستعداد ، لأنْ أشتري هذه المقدمة الموسيقية و اللحنية لهذه الأغنية من فريد الأطرش ، لقاء أعمالي كلها " كما أنتج أغنية ( أنت اللي كنت بدور عليه ) من كلمات الشاعر " مأمون الشناوي " في سنة 1953 ميلادياً ، و من الجدير بالذكر أنّ الافتتاحية الموسيقية لهذه الأغنية بآلة ( الأكورديون ) قد وظِفت في الأغنية الشعبية الليبية ، ما يدل على أنّ موسيقاه ، كانت و ما أنفكت معيناً ، ينهل منه العرب كلهم حتى في أغنياتهم الشعبية ، و هذا أول الطريق إلى العالمية التي سبق أنْ نوهت في مستهل مقالتي هاته ، إلى أنه وصل إليها من دون أنْ يجعلها نـُصب عينيه .
المرحلة الثانية ( 1955 – 1974 ) :
انصبّ اهتمام الفنان الراحل في هذه الفترة ، على تقديم الحفلات الغنائية و من على المسارح المرموقة أدّى الأغنية الشعبية ، بمعنى أنه أعطى من وقته جهداً مضنياً ليقدّم لنا قصارالأغاني ، التي تحوّلت فيما بعد إلى أغاني شعبية ، إذ أنها أوان ظهورها كانت أغاني حديثة ، و لم يقـُم رحمه الله باقتباسها من الأغنية المعهودة الشعبية آنذاك ، منها العاطفية و الدينية و الاجتماعية ، كما في أعماله ( الليلة النور هل علينا ) و ( أحلى الأماني فيك يا زمان ) و ( هلت ليالي حلوة هنية ) و ( اتقل اتقل ) و الأكثر حداثة منها مثل : أغنية ( ما نحرمش طول العمر من عطفك عليا ) و ( غنّي يا قلبي ) ثم مع بداية عقد الستينيات ، قدَّم في حفلاته و وصلاته الغنائية الطويلة ، مجموعة أعماله التي عُرفت من خلال الأشرطة السينمائية الكثيرة له ، مثل أغنية ( حكاية غرامي ) و ( بقى عايز تنساني ) و ( قالت لي بكره ) و القائمة تطول لو أني شرعت الباب لذكر أغنياته في هذه الفترة و الفترة السابقة ، فربما سأسهو على الجزء الأكبر من أعماله ، غير أنّ هذه الفترة و ما حملته من أغنيات ، امتازت بالتحديث و التجديد كما سابقتها تماماً .
تلخيصاً لما لخصته في هذه المقالة ، التي تسبق ذكرى رحيل الموسيقار " فريد الأطرش " بأيام قليلات ، لا يسعني أنْ أقول ، سوى أنه نجح كملحّن و مغنًّ ، و ما حفظته له التسجيلات من أعمال لخير برهان على صحّة ما أقول ، سواءً التي داخل حجرات التسجيل ( الأستوديوهات ) أو التي سمعناها منه على المسارح في الحفلات الغنائية و أشرطة الخيالة ، كما لا تفوتنا الأعمال التي لحنها لغيره من مطربين و مطربات ، تأتي في مقدمتهم الراحلة " أسمهان " و " نور الهدى " و " صباح " و " شادية " و " وديع الصافي " و " فائزة أحمد " و " محرم فؤاد " و " فهد بلان " و " سعاد محمد " و " فدوى عبيد " و " شهرزاد " و القائمة تطول ، لكنّ المناسبة ، تـُحتـّم عليّ ذكر اسم الفنانة " وردة الجزائرية " التي غنّت له بعد رحيله ، أغنية ( كلمة عتاب ) لكنها بتصوري ، لم تجـِد أداءها كما ينبغي ، فكل أغنية لهذا الفنان تستلزم لوحدها ، مقالة تحليلية ، إذا عملت بالمبدأ القائل : " لكل مقام مقال " فـجرياً على ذلك ، أجد أنّ ( لكل مقام موسيقي مقالاً ) في أغاني الفنان العملاق " فريد الأطرش " .
ختاماً :
أترككم الآن في الاستماع إلى إحدى أغنياته ، و هي من قصارها ، التي وصلت إلى العالمية ، لنحدث شيئاً من التنويع في الاختيارات المسموعة ضمن هذه المقالة ، بعد أنْ بدأتها بأخر أغنياته ، و تطرقت إلى أولاها ، فقد اخترت له في الختام ، أغنية جاءت في منتصف عمره الفني ، و بالتحديد في عام 1956 ميلادياً ، و هي أغنية ( مخاصمك يا قلبي ) من كلمات الشاعر " عبد العزيز سلام " - من فيلم ( ودّعت حبك ) الذي لعبت فيه دور البطولة إلى جانبه ، المطربة " شادية " - هذه الأغنية ، التي فيها من الشجن و الحزن ما يكفي لأنْ يجعلا الواحد منا يطرب فرحاً ، و هذا سرّ نجاح هذا الفنان الكبير ، الذي حوّل أحزانه و أشجانه إلى فرح نسعد به ، و هذه كلماتها :
مخاصمك يا قلبي و مش راضي عنك
ياريت كان بأيدي و لا اتبرى منك
***
تحب المحاسن و تهوى الجمال
و تعشق يا قلبي و تبني الآمال
و عشقك مذلة و حبك خيال
سقيتني مرارك كويتني بنارك
و لا حد غيري ايشيل همّي عنك
***
لسحر العيون تسلم سلاحك
و فوق الشجون بتحضن جراحك
و ع الجرح دايماً بتطوي جناحك
دنا ببكي عشانك و اهوّن هوانك
و اواسي و أقاسي عذابك و حزنك
***
يا قلبي كفاية و توب عن هواك
ما دام الحبايب بترضى ببكاك
ما فيش حد منهم بيرحم أساك
و لا حد واعدك و لا شفت سعدك
و لا حد ايواسي عذابك و حزنك ..
ــــــــــــ

فريد الأطرش وإسهاماته في فنّ القصيدة الغنائية

هناك ثـُلة من المغنين ، تظن بأنّ أية أغنية طـُرِزت كلماتها على نسيج قـُـماشة اللغة العربية الفصحى ، تصيرُ قصيدة ًغنائية ً، هكذا بكل سهولة ، و من دون أنْ يتعايش المُغني مع مفرداتها ، و يتفهّم معانيها و مراميها ، فمن ضمن من تحوّل إلى محاولة أداء هذا النمط الغنائي الراقي ، بعضٌ من مغنيي اليوم ، نتيجة لاتساع الساحة أمامه - بعد جفاء المطربين لهذا الأداء ، لعلمهم بصعوبته ، و بالمهارة التي يتطلبها بعد زوال جماليات الصوت لديهم ، لا سيما و أنّ أغلبهم صار في أرذل العمر – و لحدسه بأنّ ما قدّمه هو و غيره من ألوان غنائية ، سوف لن يجعل له وزناً في تاريخ الغناء العربي المعاصر ، ما لم يدلُ بدلوه في هذا الشأن ، فانصب اهتمامه على دواوين الشعراء ، الذين تغنى بروائعهم المطربون الأوائل مثل " نزار قباني " و غيره من شعراء ، فأخذ بذلك من فنّ ( القصيدة الغنائية ) اسمها من غير صفتها ، من دون أن يدرك ، أنها ستصبح قصيدة فقط ، طالما أنه لم يعد لها اللحن اللازم ، متكئاً على شهرة الشاعر ، و عندما قام بتنغيم هذه القصائد ، قدّم للمستمع أعمال عبارة عن أغاني خفيفة و راقصة ، هي أقرب في موسيقاها إلى ( الطقطوقة ) ذات الجملة الموسيقية الواحدة ، المتكررة بعد كل ( كوبليه ) فلا تتصف البتّة بمفهوم القصيدة الغنائية المُتعارف عليها في العقود الماضية ، فقد كان الجيل الرائد ، ممّن أسهموا في تطوير الأغنية العربية عبر عقود طوال ، و بعد أنْ أثبت جدارته في غير لون من ألوان الغناء العربي ، قد أسهم أيما إسهام ، في وضع ركائز القصيدة المغناة ، بعد اندثار الإنشاد بالعربية الفصحى ، و تلحين اللهجات المتعددة بتعدد الجهات و الأمصار ، التي آل إليها الكيان العربي ، بعد سقوط دار الخلافة الإسلامية ، منذ ما يقارب الثمانية قرون ، اللهم إلا ، إعادة تقديم بعض الموشحات التراثية ضمن الفرق العربية المعروفة في كل قطر عربي ، حيث صار لهذا اللون ( القصيدة المغناة ) متخصصون ينشدونه في شكل جماعي ، يتعفف المطربون الكبار من تقديمه ، أو دعوني أقول يتهربون من ذلك ، ذلك أنه بحسب رؤاهم ، سوف لن يضفي لمكانتهم شيئاً ، إذ أنهم بذلك ، سيكونون كما أية موهبة غنائية ، تتربى على أصول الغناء العربي الصحيح ، و هي تشقُّ طريقها إلى عالم الغناء ، و مع ذلك ، تيقنوا بأنهم مطالبون بتقديم شيءٍ من هذا اللون الغنائي ، الذي فقدته الأذن العربية في العصر الحديث ، و ما ساعدهم على القيام بذلك ، أنّ أغلبهم قد تمكّن من ناصية اللغة عن طريق المدارس القرآنية ( الكتاتيب ) و استقى منها بحور الشعر و حفظ كماً كبيراً من قصائد الشعر المعروفة في العصرين الجاهلي و الإسلامي .

كان ذلك فيما يخصُّ اللغة ، و إجادة أحكامها لجهة الإعراب و النطق ، و فنون التجويد من إدغام و غـُنـّة و قلقلة و ما إليها من أحكام أخريات ؛ صحيح أنّ بعضاً ممّن اتجهوا إلى تقديم القصيدة المغناة ، هم على درجة عالية من الفصاحة اللغوية ، و لديهم إلمام كبير بأصول اللغة العربية ، لكن المشكلة و ما يعوزهم لا يكمنان هنا ، حيث إنّ تلحين القصائد يستلزم برأيي ، أنْ يكون الملحن ذا إحساس كبير بالمعنى و على معرفة كبيرة بمقامات الموسيقا العربية ، حتى يستطيع أنْ يوصل فكرة العمل إلى المتلقي بأذنيه و عينيه و عقله على حدًٍّ سواء ، فلا يركز على جارحة واحدة من جوارحه ، بل يتعين عليه أنْ يعمل بتزامن على إشباع هذه الحواس جميعها من الوجبة الطربية التي يقدّمها له ، و هذا لا يتأتى له ، إلا بالجمل الموسيقية المتسقة مع المعنى اللغوي لكل بيت من أبيات القصيدة ، فكم من قصيدة لم يقرأها المستمع و تعرف إليها من خلال اللحن المغنى فأحبها و راقت له ، لأنّ اللحن هو من يقدّم القصيدة على نحو صحيح ، و بأبعادها كلها ، خصوصاً تلك القصائد ذات الزمن الغنائي القصير ، الذي في الغالب يقارب العشر دقائق ، ففي مثل هذه القصائد يجنح الملحن إلى تنضيدها بحشد كبير من الجمل الموسيقية المتنوعة ، التي يساعده في إظهارها للأسماع معرفته بالمقامات الموسيقية المتباينة ، و ما يلحُّه عليه المعنى العام للمفردات ، سواء أكان طابعه الحزن أو الفرح .
و ما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبير " فريد الأطرش " من فنون غنائية ، و ما أثر به مكتبتنا و موروثنا العربي الغنائي من روائع و بدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار " رياض السنباطي " و موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " و لكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة و الضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار " رياض السنباطي " أشاد بتلك القصيدة و نعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال .
و بعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن و الغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر " بشارة الخوري " و قصيدة ( لا و عينيك ِ ) التي نظمها له الشاعر و الزجّال الكبير " كامل الشناوي " و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجارياً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفياً و شكلياً ، فمن الجميل في الفكرة و من جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها .
و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا و عينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعاً من الوقت و هو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها و هو على مشارف الانتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين و ذات اليسار ، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لا يكون راغباً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش و مهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيماً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحراً شرقياً باهراً ، يأخذ بتلابيب العقل و الأذن و العين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر :
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح
أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير و مكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها :
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ
فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح - لا ( الرياح ) - التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث .
أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص .
كل هذه المعاني تستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق و الثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها :
قصيدة : لا و عينيكِ
نظم الشاعر : كامل الشناوي
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجموح
و اهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ
و الفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعته مهب الريح ِ
لا و عينيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي و حاذري أنْ تُريحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فريد الأطرش : المطرب و الموسيقار

بريشة النعام ، التي ما فارقت لحظة ًأنامله الرقيقة ، و عزف بها على أوتار عوده ، رسم لنا لوحاتٍ مسموعةٍ ، تجذّرت بصماتها على جدارية طبول آذاننا ، فرقصت من فرط حلاوتها بناتُ أحلامنا ، و صعدت على سلالمها الموسيقية إلى قمة الطرب الأصيل ، حتى هامت في دنيا الخيال ، فسمت في العلياء ، كما هو سام ٍ في الغناء بسمو الأمراء ، و ما هوت ، و لا تود أنْ تبرحها و لا تطرحها من ذاكرة أفراحنا ، و بها لامس جِراح أفئدتنا ، بعد أنْ نقــّعها في حبر أعيننا الشفـّاف ، كما كان يغمس العاشق - في سالف العصر و الأوان - ريشته في محبرةٍ استجلبها من بلاد الصين ، لا يضيع مِدادها ، على رقعة من أفضل الجلود ، التي دبغها و جفــّفها بملح الخلود ، ليُسطـّر عليها رسائله ، فتغدو - فيما بعد - أسفاراً للعشـّاق بلحن و طعم الحياة ، هكذا هي بسمعي قبل نظري ، أعماله الغنائية و اللحنية و الموسيقية ، فلا تلوموني إنْ عدت و أبديت عناية ًكبيرةً بفقيد الغناء العربي " فريد الأطرش " في هذه المقالة و غيرها من مقالات أخريات ستليها ، و لكم الحقُّ إنْ مللتموني ، فذاك شعور ٌ إنساني طبيعي ، لا أؤاخذكم عليه البتـّة.
فالإرث الفنّي ، الذي تركه لنا هذا الفنان العملاق ، و صرنا كلنا ورثته الشرعيين ، هو حقلٌ خصب ٌ للتناول ، لما فيه من تنوع و غزارةٍ و عذوبةٍ ، فهو كما الأزهار التي يتعذر قِطاف روائحها في قنينةٍ واحدةٍ ، لذا يصعب الإلمام بأعماله كلها في مقالةٍ واحدةٍ ، قد تـُضيَّع عبقها ، فأعماله الغنائية و اللحنية و الموسيقية ، كما البساتين المُزدانـَة بمختلف ورود الدنيا و بتعدُّد ألوانها و عطورها العبقة ، هكذا أراها و أشتمها بأذنيّ ، فقد شربت من تربةٍ خصبةٍ ، و نمت و تكاثرت بتكاثر محبيه من معاصريه و الجيل الجديد ، الذي يشرأب الطرب و يتلمس و ينشد الجمال في غير أوانه الصحيح .
فريد الأطرش المُطـّرِّب :
أرى قـُبالة عينيّ الآن ، بستاناً من بساتينه الخضراء ، مكتوبٌ عليه بأطواق الياسمين ( الأغنية الاجتماعية ) فيه على كل شجرة من شجيراته المزهرة ، عدة أغان ٍ، اخترت لكم منها هذه الأغنية الفاتنة بكلماتها و لحنها و أدائها ، و لعلّ ما يعجبني في هذه الرائعة ، و ربما لا تتصورونه ، هو حُسن اختياره للـ ( كورال ) النسائي من دون الرجال ، ليشعرك و هنّ يردّدن - بطربٍ و فرح ٍ- وراءه مطلع الأغنية في كل مرة ، بأنهن كالحوريات اللواتي يغوينك و ينادينك ، لأجل أنْ تدخل إلى هذا البستان الجميل ، فإذا كانت الدنيا بهذا الطعم ، فما بالكم يا أخواني بالجنة ، التي عرضها السموات و الأرض ؟ التي في مفردات هذه الأغنية ، دعوة للظفر بها ، من خلال ما تخللها من دعوة للاستبشار و التفاؤل و ما إليهما من معان ٍسامياتٍ ، فهذه الأغنية دالة على ذلك ، كما يدّهشني فيها ، أنه على الرغم ، من أنّ هذا الفنان مُشبَعٌ بالهموم ، إلا أنه أدّى لنا هذه الأغنية ، و هوّ في أعلى مراتب الفرح ، كي يطبّـب بها أحزاننا و يجبّر انكساراتنا :
أغنية : الحياة حلوة
ــــــــــــــ
كلمات الشاعر و الزجّال و الأديب : محمود بيرم التونسي
لحن و أداء أمير الطرب العربي : فريد الأطرش
ــــــــــــــــــ
الحياة حلوة بس نفهمها
الحياة غنوة ما أحلى أنغامها
ارقصوا و غنوا و انسوا اهمومها
...
الحياة وردة للي يرعاها
الحياة مرة وحدة نحياها
فوزوا بمتاعها و انسوا أوجاعها
ليه نضيعها .. دي الحياة حلوة
...
الحياة تضحك للي يتبسم
و اللي مكشر ده اللي يتألم
دي الحياة جنة عشها و اتهنى
و أوعى تستنى .. دي الحياة حلوة
...
الطيور غنّت غنّي وياها
ع الغصون حلّت للأليف جاها
هنّي أحبابك ود أصحابك
و ارضى بما نابك .. دي الحياة حلوة ..
كأنني في هذه اللحظات ، بصوتِه يتناهى إلى سمعي ، و هوّ يترنّم في دنيا السحر و الجمال على آلة ( البيانو ) بلوني مفاتيحها الأبيض و الأسود ، لونا المحبة في عُرفه - فإما أو- هكذا يخاطب بكلماته محبوبته ، في معان ٍلطيفة و عفوية ، بتلقائية هذا اللحن الباسق في هذا البستان المُدّون على ثغور وريقاته ، حروف نوتاته الموسيقية العالمية بلهجته العامية ، التي فاح أريجها مع نـُسيمات البحر و وصل إلي حيث منتهاه ، بهذه الترنيمة الأخـّاذة من فيلم ( رسالة من امرأة مجهولة ) :
أغنية : قلبي و مفتاحه
ــــــــــــ
كلمات الشاعر : فتحي قورة
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
ــــــــــــــ
قلبي و مفتاحه دول ملك أيديك
و مساه و صباحه بيسألني عليك
...
كان حبك شمعة في يوم عيدي
و طفاه الدمع و تنهيدي
من يوم ما أيديك لمست أيدي
و كأنك قلت يا نار أيدي
و ما دام مشغول يا حبيبي
مش كنت اتقول يا حبيبي ؟
دا القلب جراحه من رمش عينيك
و مساه و صباحه بيسألني عليك
...
يا حبيبي ياريت ابقى حبيبك
و أكون من بختك و نصيبك
دنا مهما بتقسى برضو راضيبك
و اتسيبني الروح قبل ما اسيبك
قلبي عمل أيه يا حبيبي
ليه تقسى عليه يا حبيبي ؟
وحشته أفراحه من شوقه إليك
و مساه و صباحه بيسألني عليك ..
فريد الأطرش الموسيقار :
فريد الموسيقي ، و ما أدراكم من هو ؟ ها هي موسيقاه تردّ بينا إلى عالم ألف ليلة و ليلة ، و تبعثه من جديد إزاءنا ، و بالتحديد إلى صفحةِ حكاية ( سندباد البحري ) و ( علي بابا ) و ( علاء الدين ) و هيّ تتهادى من خميلة جميلة ، غنّاء بالغِناء في فناء من قصور ( بغداد ) و ( دمشق ) و ( بلاد الأندلس) في مقطوعته الموسيقية ( سوق العبيد ) حينما كان العرب و المسلمون سادةَ المعمورة ، و أيام كان للوالي العبيدُ و الجواري ، جاعلاً نغماتها الصادرة من آلاته الموسيقية ، تترجم هذه المعاني :
أهاتِ و أنّاتِ الكادحين
أصواتِ صياطِ المُعذبين
نغماتٍ من زمن ٍسحيق ٍ
يجودُ بالعبق و الرحيق
صيحاتٍ لجلودٍ لفحتها الشـّمس
تخدّشت على جدار زمن الأمس
رسائل ممّن يتوقون إلى الحرية
هدهداتٍ لطيور ٍتحوم في البريّة
و تغرد بأنغام الانعتاق في الفجرية
هتافاتٍ من زمن أضعناه و ما أضاعنا
ساكنٌ ذاكرة أمجادنا ..
فهذا الفنّان لم يعبّر عنّا و كفى ، بل استطاع أنْ يجعل موسيقاه كما آلة الزمن ، التي عادت بنا إلى تلكم الأزمنة الغابرة ، فعبّر من خلالها ، عن اختلاجات و كلمات و حركات و أفراح و أحزان حتى أولئك المساكين المضطهدين زمن اضطهاد العبيد .

فريد الأطرش في قـِصار الأغاني
اتسمت الأغنيات القصيرات الزمن ، للفنان الكبير " فريد الأطرش " بالكثافة الشجنية العالية و الزخم العاطفي الكبير ، و بالمتعة الطربية التي تؤطرها ، هذا من حيث المسمع الخارجي لها ، أما إذا دخلت إلى عوالمها الموسيقية الفسيحة ، فسوف يتراءى و يتسامع لك ، أنها من العمق في اللحن و الغزارة الموسيقية بمكان ، و ما تقديمه لها في الحفلات الغنائية المباشرة ، إلا برهانٌ مسموعٌ ساطعٌ على ذلك ، فهو من التجديد ، إلى درجة أنه لا يُقدِّم لمستمعه قِصار الأغاني المُسجَّـلة سلفاً ، داخل حجرات التسجيل المسموع ( الأستوديوهات ) كما هي تماماً على المسرح ، بل إنه يلجأ على الدوام ، إلى تحويلها إلى طِوال الأغاني ، من دون أنْ يُحسّس المتلقي ، بأنه كان قد أدّاها سابقاً على نحو زمني قصير ، ذلك أنه ، من النوع الذي يختزل الجملة الموسيقية و المذهب و المطلع ، مع علمه بأنها على مستوى عال ٍ وبديع ، و تستلزم روعتها الإعادة غيرة مرة في العمل الواحد ، حتى لتكاد و أنت تنصت إلى أغنياته ، تحتجّ على ذلك و تهمس إليه : " ليتك يا فريد أعدت المقدمة مثلاً "من أية أغنية له ، لكنه سُرعان ما يُنسيّـك احتجاجك و عتبك ، و عن طيب خاطر ، و يتنقل بك في عوالمه ، الضيقة الشكل الخارجي ، فتسلم له أيديك الثلاث ، أقصد بالطبع ، أذنيك و خيالك ، ليرحل بك إلى عوالم من الفنِّ ، أنت تجهلها ، و ما كنت لتعرفها إلا في حضرته و بصحبته ، فتتنازل عن عتبك عليه ، من دون أنْ يستسمحك عذراً ، اللهم إلا ، بأدائه المُقنِّع .
و منبت اختزاله لهذه الحليات الفنية ، أرجعه إلى الكم الوافر و الزاخر من الموسيقا الذي يحتويه و تضيق به مشاعره المُرهَفة ، فلا يودُّ أنْ يستثمر و يستهلك - كما غيره من مجايليه - الجملة و الفكرة الواحدة في غير موضع من الأغنية ، بل يُسرِّبها لتفسح للجمل الموسيقية المحتشدة الأخريات مجالاً ، لتسفر عن نفسها بنفسها ، فيرتاح بذلك من ثقلها ، و هذه هي تعلتي للاستفهام الذي طرحه موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " حول أغنيته ( أنا و اللي بحبه ) حينما تمنى على الموسيقار " فريد الأطرش " - أعتقد بعد رحيل الثاني - أنه لو قدّم ( الكوبليه ) الثاني أو النقلة السريعة المدهشة و النوعية ، من هذه الأغنية التي يقول فيها : ( أنت روحي و أنت فرحي .. أنت نوحي و أنت جرحي ) باللحن عينه الذي اختاره لمطلعها ( التانجو ) الراقص ، غير اللحن الشرقي الذي خصّصه لها ، لا سيما و أنه ، لم ينتهِ بعد من مطلعها ، عند إنشاده لهذا البيت ، لكأنه لم يكـُن يعلم بأنّ هذه الفكرة ، قد وردت على الموسيقار " فريد الأطرش " نفسه ، لكنه طرحها من مخيلته و عدل عنها بمحض إرادة الجُمل الموسيقية الدافعة لما قبلها ، التي تـُظهر نفسها رغماً عن أنامله ، ليأتي فيما بعد المُلحِّن الراحل " بليغ حمدي " ليُشيدَ بهذه الأغنية البديعة من البداية حتى النهاية - لحناً و أداءً و توزيعاً - فهو فيما اعتمده من ألحان ، كما الكاتب ، الذي نراه أحياناً ، غزيراً في إنتاجه ، على الرغم من أنّ جودة المادة التي يُقدِّمها لقارئه ، تتذبذب و تتباين أحياناً ، كل ذلك ، ليفتح أمام الأفكار الأهم و الأحدث ، فـُرجةً و فرصة لتخرج بانسيابية من عقالها الذي يكرّسها إلى الوراء ، لكني مع ذلك ، أرى أنه ، تتوجب في الأفكار التي يزيحها من أمام أفكاره الأكثر أهمية ، أنْ تكون في سويّة متوسطة على أقل تقدير ، لكنْ في الجانب الغنائي و مع " فريد الأطرش " بالتحديد ، نجد أنّ كل ما ألـّـفه من ألحان قصيرة مُزاحة من سبيل أغنياته الأهم ، كما ( الربيع ) و ( أول همسة ) و ( حكاية غرامي ) و ( سألني الليل ) كان من الأهمية إلى حدّ أنّ أعماله القصيرات ، صارت تنافس أعماله الطويلات ، التي يراها البعض منّا ، هي الأفضل ، فأغنياته القصيرة ، مثل ( دقوا المزاهر ) و ( ما قالي و قلتله ) و ( تقول لا ) و ( زينة ) و ( يا حليوة ) و ( وحداني ) و ( يا مقبل يوم و ليلة ) و ( اشتقتلك ) و ما إليها من أغنيات أخر ، لست في وارد ذكرها الآن ، و يضيق المجال في هذا المقال ، لتعدادها لكم ، ترسَّخت في ذائقة المتلقي ، جيلاً بعد جيل ، على الرغم من أني كنت و ما زلت أراها ، هي من فرضت نفسها على هذا المُطرِّب الراحل ، لكأني بها قد اختارته ، ليكون الطريق التي تصل على أديمها إلى الناس ، لعلِّكم تتساءلون : كيف ذلك ؟ و إجابة ًمني على تساؤلكم ، أعود بكم إلى زمن إنتاج هذه الأعمال القصيرة ، حيث إنها تزامنت في ظهورها مع أغانيه الطويلة ، فأغنيته ( أنا و اللي بحبه ) ، و هذه كلماتها لمن يرغبها :
أغنية : أنا و اللي بحبه
ـــــــــــــــــــ
كلمات الشاعر الكبير : مأمون الشناوي
لحن و أداء الموسيقار الخالد : فريد الأطرش
من فيلم : أخر كذبة – سنة : 1953 ميلادياً
ــــــــــــــــــ
أنا و اللي بحبه و عاهدته افـ بحبي
حبيبين فـ الدنيا عايشين في الجنة سوى
دا غرامي في قلبه و غرامه افـ قلبي
و لا حدش يقدر يفرق بينا
أنت روحي و أنت جرحي
أنت نوحي و أنت فرحي
...
نعيم الدنيا في حبك
و حبك عندي بالدنيا
و كل دقيقة في قربك
تفوت أجمل م الثانية
دا الهنا أنت و المنى أنت
حتى أنا أنت
...
ما هوش ذنبي و لا ذنبك
تزيد في قربنا الأشواق
ما بين قلبي و بين قلبك
غرام ما خطرش للعشاق
دا الهنا أنت و المنى أنت
حتى أنا أنت
...
التي لا يلتفت إليها الكثيرون ، و لم يغنِها في حفلاته ، و كنت قد حدثتكم عنها بعاليه ، و عمّا قاله عنها موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " حيث أردف إلى ما نوه إليه بشأنها ، بهذه العبارة الخالدة " : " لو أخذ فريد من عمري خمسة أعوام نظير هذه الأغنية ، لم أتردد لحظة واحدة " قد جاءت في فيلم ( أخر كذبة ) سنة 1953 ميلادياً ، و بُعيدها بزمن ليس بطويل ، أنتج أغنيته ( طال غيابك ) التي لاقت صدى مدوياً بين محبيه ، سنة ظهورها ( 1956 ميلادياً ) كما أنه ضمّن في ( فيلم : ما ليش غيرك ) سنة 1958 ميلادياً ، أغنية ( يا حليوة ) :
أغنية : يا حليوة
ــــــــــــــــ
كلمات الشاعر : فتحي قورة
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
من فيلم : ما ليش غيرك – سنة : 195 8 ميلادياً
ــــــــــــــــــــــــ
يا حليوة يا حليوة يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
حبك نساني يا حليوة
كل الحلوين يا حليوة
...
لما عيونك شبكتني
و عطفت عليا و جيتني
ما عرفش يا حبيب قلبي
ازاي الدنيا سعتني ؟
و سهرت أفكر فيك
من يوم ما شغلتني بيك
و احلف بغلاوتك يا حليوة
ما لقيت في حلاوتك يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
...
و حياة قلبي الولهان
و عليا ما لك حلفان
لو قالوا دواك نور عيني
اديلك روحي كمان
راح احوشها عنك ليه ؟
من غيرك ح تساوي ايه ؟
و أنا ليا مين يا حليوة
يا سيد الحلوين يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
و هي من كلمات الشاعر " فتحي قورة " الذي عُرف بأغانيه القصيرة في أبياتها ، مثل ( قلبي و مفتاحه ) هذه الأغنية ، التي جاءت ضمن كوكبة جميلة من أعماله الطويلة المعروفة في تلك الفترة لتفسح المجال أمام أغنيات له مهمة جداً مثل أغنية ( يا قلبي يا مجروح ) إذ تـُعدُّ مثالاً جيداً أسوقه لكم في هذه العجالة على ما جئت على ذكره سلفاً ، بخصوص أنّ هذا الفنان الكبير ، كان يختزل الأغنيات الطويلة ، فيجعل منها أغاني قصيرة ، و العكس صحيح ، إذ أنّ لهذا الفنان القدرة على تمطيط الأغاني القصيرة و تصيّيرها إلى أغان ٍ طوال ، في حفلاته على ركح المسرح ، كما فعل في أغنية ( اشتقتلك ) و ( يا ويلي ) و ( نورة ) فأغنية ( يا حليوة ) التي نحن بصدد الحديث عنها و الاستماع إليها تواً ، مدّد في زمنها أثناء إحدى حفلاته ، و جعله ضعف زمنها الأصلي المحسوب عند تسجيلها لتعرض في الفيلم المذكور ، نتيجة ً لإعادة المذهب أكثر من مرة واحدة ، و زيادة الأبيات الجديدة ، و ربما الارتجالية ، على الأبيات الأصلية ، و تطعيمها بالمواويل ، و مداعبته للجمهور ، كي لا يشعر بمدى الاختلاف بينهما ، حينما يقارن بين الاثنتين ، مع حرصه على ألا يُصاب الحضور بالملل و الكلل ، عند الاستماع إليه ، و هذه مقدرة لا يستطيع عليها إلا الفنان المتمرس مثله ، و من مثله ؟ .

فريد الأطرش في طوال الأغاني
بادئ ذي بدء ، لنستمع معاً إلى هذه الأغنية ، ثم سيكون لنا عنها و عن فئتها ، حديثٌ في هذه المقالة :
أغنية : قالت لي بكره
ــــــــــ
كلمات الشاعر و الزجّال : حسين السيد
لحن و أداء : فريد الأطرش
ــــــــــــــــ
قالت لي بكره و دحنا بكره
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
ح أقول بكره هو اللي ما جاشي
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
...
و ليه الحيرة بتّسبق في قلبي
و فايتة بتّمسي ؟
حرام يعني الأمل يشفق عليا
مرة من نفسي
و اللا يعني كتير عليا
فرحتي الحلوة اللي جاية ؟
مش جايز تصدق و تجيني
و اتكذب خوفي ماليني ؟
...
طلعت يا فجر بدري
مش كنت تستنى فجري ؟
كان بدي تستنى اشوية
و أعرفك بيها
و اتشوف الفجر على أصله
في اخدودها و عينيها
لو شفتها و اعرفتها
حسنك يتوه فيها
زمنها جاية كمان شوية
لو حتى غابت سنة عليا
دا وعد منها و منها هي
لا غرابة في مضمون هذه الأغنية القصصي ، فقد ألـّفها الشاعر الكبير " حسين السيد " المعروف بنصوصه الغنائية الدرامية ، ومن ضمنها ما تغنى به هذا الفنّان الكبير من أنغام جميلة ، مثل ( ارحمني و طمني ) و ( يا بو ضحكة جنان ) و ( أكلك منين يا بطة ) و الأخيرة من أغاني الأطفال ، و قد شدت بها الفنانة " صباح " و غيرها العديدات ، فهي جميعها تتسم بهذا الطابع الغنائي المتميز و النادر ، و لا غرابة أيضاً ، في أنْ تظهر للأسماع بهذه الروعة ، فوراء ذلك ، تقف قامة موسيقية عظيمة ، و خامة صوتية فريدة ، في عطائها الفنّي . إنّ المتتبع للمنجز الغنائي و الموسيقي للفنّان الراحل " فريد الأطرش " روحاً لا فناً ، يعرف أنّه كان على الدوام ، يتفاعل مع النصوص الغنائية ، التي لا تجنٍّ في كلماتها على الحبيب ، فهو سامٍ في حياته و في فنّه ، و يترفع على مجرد معاتبة الحبيب ، ففي أعماله الغنائية نجده سمعاً ، ينحى إلى جلد الذات و يحيا على الأمل ، و هذا ما تظهره لكم معاني هذه الأغنية ، التي من مطلعها ، يرفع عقيرته عالياً ، في المقطع الذي يقول فيه ( ليه ما استناشي لحد بكره ؟ ) مُمطـّـطاً في كلمة ( ليه ) بنفسه الطويل ، الذي عِهدناه عليه في مثل هذه المواضع من أغنياته الطويلات الزمن ، و مُحتجاً بها على كل من يلومه على انتظاره الذي سيطول ، فقد حسم الأمر من بداية الأغنية بحزم ٍو صبر ، حالما وضع احتمال انتفاء مجيء حبيبته ، حينما ينشد :
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
، و تحسباً لأيةِ نصيحةٍ ، قد تأتيه من أحدهم ، لينهي بها انتظاره ، و قبل ذلك ، ليضع نهاية لظنونه و يسدّ الباب أما مخاوفه ، نظراً لما لاقاه في التجارب التي مرّ بها قبل ذلك ، فهي ليست المرة الأولى ، التي يتعرض فيها لمثل هذا الموقف ، كما تبيّن لمسامعي
عموما فإنّ مقدمة الأغنية الموسيقية ، التي استهلتها الفرقة الموسيقية بآلة القانون ، تبيّن و تعطي من الوهلة الأولى ، إحساساً بأنها أغنية زمنية ، أي بقصد ، أنّ في مضمون كلماتها ، يكمن العامل الزمني ، و هو انتظار الموعد ، فنقرات العازف على آلة القانون ، و أظنه قائد الفرقة الماسية المايسترو " أحمد فؤاد حسن " هي من توحي بهذا الإحساس التمهيدي الذي درج عليه " فريد الأطرش " في ألحانه و موسيقاه و أغنياته ، ثم يندبُ حظـَّـه العاثر ، الذي بدأ يُسرِّب إليه شيئاً فشيئاً ، الشكوك في أمر غياب من ينتظرها ، ثم يعود ليمحو دائرة الظنون ، التي تدور به ، بإعادته لهذا البيت عند نهاية كل مذهب و ( كوبليه ) :
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
ثم يأتي ليلقي باللائمة على الفجر - فجر يوم اللقاء - كأنه رأى أنه قد أتى قبل ساعته ، و منعه من أنْ يبدأ يومه الموعود ، ممتعاً ناظريه برؤية محبوبته ، فهي بـِطلتها في عينيه أجمل من طلعته ، بعدما صوّر لنا إقبال الفجر بتباشيره ، و هو يختال و يمشي الهوينة ، على موسيقا حديثة ، هي شبيهة بالموسيقا الصينية ، الآتية من أقصى الشرق ، جهة مجيء الفجر و شروق الشمس ، ثم يتسول إليه بحزن مُفرِّح ، ليستبقيه في الانتظار هو الآخر ، معانداً حتى الطبيعة ، لما يطلب إلى الفجر ، أنْ يؤخر في قدومه ، حينما يهمس إليه في الكوبليه الثاني ( زمنها جاية كمان شوية ) و يحاول أنْ يصفها له ، لعلـَّه يتراجع عن ذلك ، و ليتهرب من الجرح الذي قد يصيبه ، فهو كالذي لا يريد أنْ يبدأً اليوم أصلاً ، فيعطي لها فرصة انتظار أكثر بتأجيل اليوم المرتقب ، لكأنه أحسّ بأنها ستحنث بوعدها .
إذن فهي دراما غنائية مصورة ، قام الموسيقار الكبير ، بتصويرها لنا من خلال لحنه و موسيقاه و أدائه ، و إظهار المؤثرات الصوتية ، التي يتمتع بها من حشرجات و ارتعاشات ، ليكون بهذه التقنيات الصوتية ، مثل الممثل ، الذي يؤدي دوره بكل تلبس للشحصية ، فقد شاهدناه في هذه الأغنية ، قد شخّص للمستمع بصوته فقط ، دور العاشق الممتلئة وجدانياته بالشاعرية .
لندعه لمشاعره هذه ، التي أعلن من بداية الأغنية ، بأنه عازماً على الاستمرار عليها و لا يريد أنْ يصحو منها ، و أنهى بها ثلث الساعة من الغناء بالإصرار على مقولته في مطلعها ، كأن شيئاً لم يكـُن :
قالت لي بكره و ادحنا بكره
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
ح أقول بكره هو اللي ما جاشي
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
و هذه هي فلسفة العاشق الفنّان ، الذي يخادع نفسه ، و لا يريد أنْ يخسر الرِهان على من أحبّ ، لئلا يكون للكراهية في قلبه موضعٌ ، حال انتفاء إتيانها في الموعد ، فلنتركه لشأنه ، و لا دخل لنا بما ابتغى لنفسه ، و لنمض ِ معاً إلى أغنية أخرى له - مع علمي بأنّ هناك منكم ، من يودُّ أنْ يتمهلني قليلاً ، حتى يتشبع من كم الدهشة ، الذي زخرت به هذه التحفة الفنية - هي من طويلات الأغاني ، سبقت هذه الأغنية الرائعة .
على غرار الأغنية الفائتة ، قدّم لنا الموسيقار الخالد " فريد الأطرش " رائعة من روائعه الطويلة الزمن ، و فيها يستشفُّ المستمع المعاني و المبادئ نفسها ، التي استمر عليها و استمرأها و استغرق في أدائها ، فهو مضى على هذا النهج العاطفي ، الذي بدأ به في مضامين أعماله جميعاً حتى القصيرة ، مثل ( مخاصمك يا قلبي ) و ( علشان ما ليش غيرهما ) و ما نحوهما من تحف فنية خالدة ، إذ أنه أختار ( جلد الذات ) لا وضع اللوم على المحبوب في معظم أعماله العاطفية ، إنْ لم يكـُن في جلها ، فما رأيكم إذن ، في أنْ نخطو الخطوة عينها ، التي بدأنا بها الأغنية الماضية ، لكنها ستكون خطوة أكثر اتساعاً ، بقدر طول الأغنية الآتية و هي أغنية ( الربيع ) التي أنتجها في أربعينيات القرن المنفرط ، لنتدفأ بالشجن الذي يتراقص على أنغامها ، في هذه الليالي الباردات .
في الحقيقة ، إنّ لهذه الأغنية أكثر من تسجيل ٍفي حوزتي ، لكني أحبّبت أنْ أُسمِعكم هذا التسجيل - على الرغم من بعض التشويش الذي يعتريه - لهذا الحفل المهيب الذي أقيم على شرفه ، و قدَّمه الراحل لجمهوره في الستينيات بالقاهرة ، فبمجرد أنْ يمتشق عوده و يبدأ في الدندنة عليه ، نلحظ سمعاً ، كم كان الحضور يتحرق شوقاً لصوت الراحل ، و كم هو متلهف للغناء في حضرة الحضور ، فبعد التقسيم الذي جاء على أوتار عوده و تفاعل المتلقين معه ، على الرغم من أنه ، كان يكرّره في أغلب حفلاته ، تتداخل الآلات الموسيقية و تلتحم فيما بينها و بمختلف أنواعها ، لتنصهر بدفء اللحن ، مُنتِجة ًمقطوعة ًموسيقية ، استمرت زُهاء الثلاث دقائق فقط ، هي بتصوري من أجمل ما يكون في تاريخ الموسيقا العربية الحديثة ، و لو ركّز المستمع جيداً سينصت إلى الراحل و هوّ يحثُّ الفرقة على الإسراع للاندماج في اللحن و على نسق واحد ، حيث إنّ " فريد " تفرَّد من دون مجايليه بخاصية مهمة ، و هي أنه ، لم يكـُن من ذلك النوع ، الذي يُعيد المقطوعة الموسيقية في العمل الواحد لأكثر من مرة - كما كان يفعل الملحنون الآخرون - إلا بطلب و إلحاح من الجمهور ، كما إنه ، لا يعتمد كثيراً ، على إظهار موسيقا ألحانه بتوزيعات مبهرة ، بل إنه يكتفي بإسماع المتلقي جُمله الموسيقية على نحو ٍ مقبول ٍ و معقول ٍ، مكتفياً بجوهرها و ما تكتنفه من جماليات ، لا بشكلها الظاهري ، و ذلك يبدو جلياً حتى من تشكّل الأطقم الموسيقية الواقفة وراءه في حفلاته المصورة تلفزيونياً الباقية حتى الآن ، التي قلما تـُذاع في الفضائيات المعنية ، على النقيض من حفلات سواه من المطربين من ذلك الزمن الجميل ، لنقرأ في الحال ، كلماتها المزدهرة بأجواء الفصول الأربعة - بألوان الربيع و رياح الخريف و ليالي الشتاء الطويلة و حرارة الصيف - التي صاغها بحبر الذهب الخالد ، الصائغ المشهور بمفرداته " مأمون الشناوي " :
1 – فصل الربيع
اد الربيع عاد من تاني
و البدر هلت أنواره
و فين حبيبي اللي رماني
من جنة الحب لناره ؟
أيام رضاه يا زمان
هاتها و خوذ عمري
اللي رعيته رماني
فاتني و شغل فكري
...
كان النسيم غنوة النيل ايغنيها
و اميته الحلوة تفضل تعيد فيها
و موجه الهادي
كان عوده نور البدر أوتاره
يلاغي الورد
و خدوده يناجي الليل و أسراره
و أنغامه بتسكرنا أنا و هو
...
2- فصل الصيف
موّال :
لمين بتضحك يا صيف لياليك و أيامك ؟
كان لي في عهدك أليف عاهدني قدامك
و كان لي في قلبه طيف يخطر في أوهامك
من يوم ما فاتني و راح
شدو البلابل نواح
و الورد لون الجراح
...
3 - فصل الخريف
مر الخريف بعده .. ذبّل زهور الغرام
و الدنيا من بعده .. هوان و يأس و آلام
لا القلب ينسى هواه .. و لا حبيبي بيرحمني
و كل ما أقول آه .. يزيد في ظلموه و يألمني
...
4 - فصل الشتاء
و ادي الشتا يا طول لياليه
ع اللي فاتو حبيبه
يناجي الليل و يناديه
و يشكي للكون تعذيبه
...
5 - فصل الربيع
موّال :
يا ليل يا بدر يا نسمة يا طير يا زهر يا أغصان
هاتولي م الحبيب كلمة تواسي العاشق الحيران
أخذ ورد الهوى مني
و فاتلي شوكوه يألمني
ما عرفش ايه ذنبي
غير أني في حبي أخلصت من قلبي
و غاب عني لا كلمني
و لا قال امتى راح اشوفوه
و أقول يمكن ح يرحمني
و يبعت في الربيع طيفوه
من يطالع كلمات هذه الأغنية ، سيظنُّ للوهلة الأولى ، بأنّ مضمونها يختلف عمّا كنت قد أشرت إليه في مستهل هذه المقالة ، من حيث إنّ أغلب أغنياته العاطفية اتصفت بـ ( جلد الذات ) و هذا ما يبدو لأسماعنا ، إذا قمنا بتحليل بنائي لكل ( كوبليه ) على حِدة ، فما ورد في المقطع الأول ، الخاص بفصل الربيع و ما أوقعه وأحدثه غياب الحبيب في هذا الفصل ، على نفسه لأمرٌ يصعب تصديقه ، فقد ارتبطت مذاق هذا الفصل لديه ، بوجود الحبيب أيام كان لمظاهر الطبيعة معناها الحقيقي و للحياة طعمٌ جميل ، لذا فهو يستهل الأغنية و هذا المطلع تحديداً ، بالاستفهام عن غيابه الذي يتضمن معنى واحداً و كفى ، هو الشوق إليه لا هُجرانه ، لكأنه هو من سبّب في رحيل محبوبه ، و يود رضاه بعدما قاسى من بُعدِه عنه ، حينما يطلب نادماً إلى الزمان أنْ يُرجع أيام الوصال بينهما :
أيام رضاه يا زمان
هاتها و خوذ عمري
اللي رعيته رماني
فاتني و شغل فكري
ذلك أنه يشعرك حينما يشدو بقفلة البيت ، بأنه كالذي يعود بنفسه إلى تلك الأيام الخوالي ، عندما يغني مبتسماً : " و أنغامه بتسكرنا أنا و هو " فهو ينطق قفلة هذه الشطرة ، و هو يبتسم لتلك اللحظات الحلوة التي تخطر بباله .
أما في المقطع الثاني ، و لهول ما جرى فيه ، حيث إنه من خلال كلماته ، التي اختار أنْ ينغـّمها على منوال الموّال العربي المُحزِن ، نستنبط أنّ العهد على الوفاء بينهما كان خلال هذا الفصل ( الصيف ) حتى أصبح كل شيءٍ في هذا الفصل الجميل ، الذي شهد ذلك العهد لا يُطاق بالنسبة له ، فتبدَّلت الألوان و تحوّلت الأشياء إلى نقيضاتها ، و هذا دليلٌ آخر على حنينه لما كان بينهما ، و هذا ما جعل الناي يبكي معه و هوّ يردّد هذا الموّال بهذا الشجن الشجي و الغني بالحزن ، و لمن يصف أعمال الراحل بالمُحزنة و المُجلـِبة للكآبة ، أقول : " أنّى له أنْ يغني هذه المعاني بغير الحزن الذي يحسُّ به " .
يمضي بنا إلى بعد ذلك إلى ثالث هذه المقاطع الموسمية أو الفصلية ، و هو فصل الخريف ، بتتابع و توال ٍ مُنتظِم ، بعد أنْ يفرشه بفاصل موسيقي ، هو عينه الذي بدأ به أغنيته ، و في هذا الفصل ينشد أجمل ما جاء في هذه الأغنية - بحسب ذائقتي - حينما يخرج المجموعة الصوتية من صمتها الذي طال ، و يجعلها تردد من خلفه ، آهة الحسرة و الوجع و الندم ، لما لهذا الفصل من سمات الاضطراب ، تجعل المرء فينا ، يحتاج إلى من يؤنسه و يتدفأ بقربه ، و ينجح كثيراً في اللحمة الصوتية الوجعية ، حينما تنصهر أصوات الـ ( كورال ) من النساء و الرجال فيما بينها ، فالأوليات يُعبّرن عن الطرف الآخر ، و الأخيرون يمثلونه ، فهذا بتصوري ، ما أراد أنْ يُعبر عنه من خلال هذه الأوجاع و الآلام المسموعة ، ثم يجيء ليعلن عن استحالة نسيان محبوبته في نهاية هذا المقطع ، وقتما يغني : لا القلب ينسى هواه .. و لا حبيبي بيرحمني
و بعد هذه الجرعة الخريفية المحزنة ، يأتي بأخرى هي الأكثر إيلاماً ، حين دخوله إلى فصل الشتاء ، فيبدأ هذا المقطع بصوت زمهرير العواصف ، من خلال عزف الآلاتية على آلات الكمان المحتشدة ، لكنه و هو المعروف بلحظة الإدهاش ، سُرعان ما يفاجأ المستمع الحاضر بفاصل موسيقي مُدّهِش للأسماع ، لكونه راقص ، حتى سحر الجمهور ، و جعله يخرج من حالة الحزن و الوجد التي كانت تسيطر عليه طوال الدقائق الماضية ، بالتصفيق و الهرج و المرج و الهتافات ، على رنات عوده التي تظهر جلية للآذان ، على الرغم من علو أصوات الآلات الأخريات ، بعد أنْ ألقى على مسامع الحضور بيتي هذا الـ ( كوبليه ) بشكل سريع من دون غناء ، لأنّ اللحنّ الذي يفترض به أنْ ينغـّمه لهذين البيتين ، سوف يُحدث شيئاً من التناقض مع هذا الفاصل العجيب في وقته و جملته .
و لكي تتمّ هذه السنة ، التي قضاها بعيداً عن محبوبته ، لا بد له من أنْ يعود بنا إلى فصل الربيع ثانية ً، في المقطع الخامس ، لذا أخذت الأغنية اسمها من هذا الفصل و عنّوّنت به ، مع أنه لم يذكر هذا الفصل كمسمى ، مثلما فعل في المقاطع الأربعة السابقة ، لكنه يأتي على ذكر مظاهره ( الطير و النسمة و الأغصان ) و هي المذكورة في أوله ، منادياً إياها و راجياً منها أنْ تعيد إليه الحبيب بعد مُضي عاماً بالتمام على غيابه ، فقد توقفت الحياة بملذاتها و طعمها ، لرحيله عنه ، و مع ذلك ، فهو ما يزال يعيش على أمل رؤيته في هذا الفصل الأخضر ، و إنْ أبدى عتبه عليه ، في نهاية هذا المقطع الأخير من هذه البديعة الربيعية الخضراء .
ننتهي من خلال ما تقدّم ، إلى نتيجة واحدة ، مفادُها أنّ الفنان الراحل " فريد الأطرش " كان يصوّر في أغانيه الطويلة ، مشاعر و أحاسيس يتعذر على أيِّ فنان آخر ، أنْ يجعلك تعيش أسرارها ، فلا غرابة في ذلك إذن ، و لا غرابة كذلك في أنْ تكون هذه المقالة طويلة ، لكي تغدو بحجم و طول هذا النمط من الأغاني ، الذي أبدع فيه هذا الفنان الكبير ، و أتحفنا به من درر ، سأذكر لكم النزرَ اليسيرَ منه ، كأغنية ( أول همسة ) و ( سألني الليل ) و ( حكاية غرامي ) و ( زمان يا حب ) و ما إليها من أغان ٍ أخرى محفورات في ذاكرتنا .
فريد الأطرش في الأغنية الثنائية
هي حالة الاندماج التي أعيشها في هاته الأيام ، مع أعمال الفنان الرائع " فريد الأطرش " من تصرُّ عليّ ، لأجل أنْ أخطَّ لكم هذه المقالات المتعدّدات عنه ، فأعمال هذا الفنان الكبير ، لتعدّدها و تنوعها و تطرقها لطبوع الغناء العربي كلها ، لا يمكنني أنْ أتجاهل نمطاً منها ، و قد بذلت قصارى جهدي ، كي أتطرق إليها ، و بقدر المُتاح و المُباح ، حاولت جاهداً ألا أغفل منها شيئاً ، و بقيّ ليّ بعد المقالات السابقة ، التي خضت فيها بخصوصه ، أنْ أفرد مقالتي هذه ، لأتناول فيها رؤيتي للأغنية الثنائية بشقيها ( الديالوغ و الدويتو ) و ما جاد به هذا الفنان الكبير بشأنها ، فثمة من لا يدري أن هناك فرقاً كبير بينهما ، فـ ( الدويتو ) هو ذلك الصنف من الأغنية الثنائية ، التي يتشارك فيها فنانان اثنان ، بأداء مقاطعها الغنائية في الوقت نفسه ، أما الـ ( ديالوغ ) فهو ذلك الغناء ، الذي يتطارحان فيه بالأداء ، أي أنْ يغني كل منهما مقطعاً و يردُُ عليه الثاني بغناء مقطع آخر إلى نهاية الأغنية ، و لـ " فريد " مع هذين النمطين المنتميين للأغنية الثنائية ، تاريخٌ و باع طويلينٌ سجَّلهما ببصمة أروع و أجمل الأصوات التي غنّت معه ، و معظمها كانت أصوات نسائية ، و يجيء على صدارتها ، صوتُ شقيقته الراحلة " أسمهان " التي أراهن ، إنْ أمدّ الله في عمرها ، لكان لغنائها شأنٌ آخرٌ - فهي لم تغن ِإلا لثماني سنوات و كفى ، و رحلت في عزّ شبابها ، و هي في أحسن حالات صوتها ، و هذا عمر المبدعين من الفنانين و الشعراء ، أمدّ الله في أعمار المتصفحين ، مع علمي بأنه دعاء لا فائدة منه ، فلكلِّ أجلٌ كتاب ، و ما نتضرع به إلا من باب الرجاء فحسب ، بأنْ يكون عمر من ندعو له مسجلاً عند الخالق مديداً .. هكذا - و لاستطاع أخوها أنْ يترجّم على حنجرتها ألحاناً ، ما كان لغيرها من الفنانات الفاتنات الحناجر ، أنْ تؤديها ، على الرغم من كل البهاء الذي عرفناه على أصواتهن ، و هذه الحقيقة ، كان يُصرّح بها الراحل دائماً .

و الحديث عن الأغنية الثنائية ، سيجرنا لا محالة ، إلى أغاني أشرطة الخيالة و المسرح الغنائي ، فهذا اللون الغنائي ، عادة ٌما يُقــُدِّم من خلال هاتين الوسيلتين ، و من حسن الطالع ، إننا حين حديثنا عن الأغنية الثنائية ، سنتطرق حتماً إلى أغاني الفنان " فريد الأطرش " التي سمعها منه المتلقي من وراء الشاشة الكبيرة في شكل ( الأوبريت ) الغنائي ، قبل ظهور ( التفلزيون ) و سيأخذنا كذلك ، إلى الحديث عن ألحانه للآخرين ، و بذلك أكون قد ضربت ثلاثة عصافير بحجرٍ واحدٍ ؛ فقد عرف الجمهور هذا الفنان في أول ( فيلم ) له ، شاركته دور البطولة فيه ، أخته " أسمهان و كان بعنوان ( انتصار الشباب ) و لكم في هذه الرائعة الغنائية الثنائية منه ، محكٌ ، لتبيان جمال صوت الفنانة الكبيرة الراحلة " أسمهان " :

المطربة الراحلة : أسمهان
ديالوج : الليل وادي العشاق
من فيلم انتصار الشباب
إنتاج سنة : 1941 م
ـــــــــــــــ
كلمات الزجّال و الشاعر : أحمد رامي
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : أسمهان و فريد الأطرش
ـــــــــــــــــ
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
و الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
يللي تحبوا الليل النادي
يللي تناجو الطير الشادي
غنوا معايا و قولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت أسمهان :
الليل وادي العشاق
يتلوع فيه قلب المشتاق
يللي كواكم الحب ابناره
يللي سقاكم الشوق أسراره
غنوا معايا وقولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
الليل محلا نجومه
تنسي المهموم كل اهمومه
يللي ضناكم حال الأيام
الدنيا دي كلها أوهام
غنوا معايا وقولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
يا نسيم احمل سلامي
للي مال قلبي إليه
اشتكيلو من هيامي
و انشغال فكري العليل
قضيت نهاري أناجي طيفك
أقول لروحي امتى اشوفك ؟
و القرب يحلا من غير عزول
لما حواني الليل و زاد في قلبي الميل
...
بصوت فريد :
مريت على بيتك وحدي
أغني من شدة وجدي
و جيت أنا جيت أناجيك بلحني
و الحب ظاهر في عينيا
يمكن فؤادك يرحمني
و اتطلي و تردي عليا
و من الملاحظ على هذا الـ ( ديالوج ) الجميل ، أنّ الفنان الراحل " فريد الأطرش " قد أفرد لأخته مقطعاً غنائياً واحداً ، من هذا العمل من أجمالي ثلاثة مقاطع جاءت فيه ، حيث إنه منحها غناء الـ ( كوبليه ) الأول فقط ، و تفرّد هو بأداء الـ ( كوبليهات ) الأخريات ، و ذلك ربما لأنها التجربة الأولى له في تقديم هذا اللون الغنائي السينمائي ، و مما يلاحظ فيه أيضاً سمعاً ، أنه لم يتشارك و إياها ، في أداء أيِّ مقطع معين منه ، أي أنه لم يلجأ إلى تقديم أيِّ مذهب من الأغنية على نحو الـ ( دويتو ) اللهم إلا وقتما يردّدان معاً صُحبة الـ ( كورال ) مطلع الأغنية و كفى .
لكنه بعد تقديمه لهذا الـ ( ديالوغ ) بحوالي الخمسة عشر عاماً ، أي بعد وفاة الفنانة " أسمهان " استعان بصوت جميل آخر ، هو صوت الفنانة " صباح " التي قاسمته دور البطولة في فيلم ( ازاي أنساك ) و قدّم لها فيه أكثر من لحن ، لكنّ ما يهمنا منها ، هو لحنه لهذه الأغنية الثنائية المتطورة جداً عن سابقتها ، إذ أنّه في هذا العمل ، أعطى للفنانة " صباح " مجالاً أوسع ممّا أعطاه لأخته في العمل الفائت ، و لو نسبياًً ، حيث قدّما معاً الأغنية الثنائية بقسميها ، فقد منحها غناء مقطعين و شاركها في ترديد مطلع الأغنية في نهايتها ، و هذا ما سوف تستمعون إليه ، من خلال التسجيل الآتي :-
أوبريت : صانع التماثيل
من فيلم : ازاي أنسالك
إنتاج سنة : 1956 م
ــــــــــــ
كلمات الشاعر : أنور عبد الله
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : فريد الأطرش و صباح
ـــــــــــــ
بصوت فريد :
يا حبايبي يا أهلي يا ناسي
في هواكم عمري مآسي
طول ما انتم هنا يا حبيبي أنا
و لا فيكم ظالم قاسي
و لا منكم هاجر ناسي
...
و لا في خاين ايخون عهدي
و لا ظالم يبيع ودي
و لا أوهام تسهرني
و لا أحلام تحيرني
لكم قلبي لكم حبي
و ايه يغلى على فني ؟
أنا أنتم .. أنا منكم
و أنتم كلكم مني
...
إله الحب قولي الحب ايه سره ؟
و ليه حلو ما ايدومشي و لا مره ؟
تسهر ناس على ادموعها
و ناس بتقيد لها اشموعها
و الدمع منك و الشمع منك
إله الحب ايه سرك ؟
و ليه حيرتنا في أمرك ؟
...
و انتي اللي شاغلك ايه ؟
سارحة بخيالك ليه ؟
لا الفكر ح ايقرب بكره
و لا حيرجع بالماضي
خللي اللي يجرى خلاص يجرى
و الجنة للي يعيش راضي
بصوت صباح :
ليه ارضى ليه ؟ يرضيني أيه ؟
موش لاقية روحي و لا لاقية قلبي
عاوزني أرضى اديني قلبك
خلليني لحظة أسعد بحبي
يمكن بقلبك اقدر أحبك
حرام شبابي ايروح
لا قلب فيه و لا روح
خوذ مني ادموع عينيا
و آهات و شجن و سهر
حرمت الحب عليا
علشان انا قلبي حجر
و ح عيش من دون الناس
تمثال من غير إحساس
أديني قلبك يمكن احبك
و أفرح بحبك و أسعد في قربك
...
بصوت فريد :
اللي في ايديا يا نور عينيا
قلبك و روحك كتير عليا
و أحلف بحبي و هبت قلبي
لكل واحد منكم شوية
و أنا كدة متهني
طول ما انتم معايا
ارقصي و اتهني و دا كل هنايا
بصوت صباح :
اسمحلي أقولهالك و لو أني تمثالك
شوفلك حبيب هنيه و اتهنى معاه
و أسعد شبابك بيه و أفرح وياه
بصوت فريد :
أنا كده فرحان و متهني
و كفايا غرامي بفني
و يمكن أهواك و في يوم ألقاك
تنسى هواك و زاي أنسالك
دويتو :
يا حبايبي يا أهلي يا ناسي
في هواكم عمري مآسي
طول ما انتم هنا يا حبيبي أنا
و لا فيكم ظالم قاسي
و لا منكم هاجر ناسي
لم يتوقف تطوير الفنان " فريد الأطرش " عند هذه الأغنية ، و لم يكتفِ بما حقّقه فيها من تقدُّم ، فبعد مرور سنة واحدة ، على تقديمه للأغنية الأخيرة ، سرعان ما قفّاها بأغنية ثالثة ، كانت من أبرز الأعمال الغنائية الثنائية ، التي عرفتها الأغنية العربية في العصر الحديث ، بيد أنه ، زاد من وتيرة التطوير في هذا اللون البديع بشكل ملفت للنظر و السمع ، لما تناغم صوته و صوت المطربة " شادية " التي انضمت إليه في أعمال سينمائية كثيرة ، و زوّدها بالعديد من ألحانه الجميلة ، خصوصاً من هذا النمط ، و يتقافز للأسماع منها أغنية ( زينة ) و ( أنا و أنت و الحب اكفاية علينا ) لكن الأبرز من هذه الأعمال ، بحسب سمعي ، هي أغنية ( يا سلام على حبي و حبك ) ففي هذه الأغنية ، لم يقـُم " فريد " بالاستحواذ على الأغنية بأكملها ، بل إنه جعل صوته يتناصف الأغنية مع " شادية " بالتساوي ، إنْ لم تكُن هي من حازت على زمنها كله ، فلم يتعالَ عليها ، بل منحها فرصة كبيرة ، لتبرز محاسن صوتها وقدرتها على التمثيل ، إذ أنها تتمتع بموهبة كبيرة في التمثيل ، على النقيض من الأخريات اللواتي غنين معه ، فعلاوة على هؤلاء ، قدّمت معه فنانات كثيرات الأغنية الثنائية ، أذكر منهن : " نور الهدى " و " سعاد محمد " و " فدوى عبيد " و " فتحية أحمد " و غيرهن العديدات .
على أية حال ، فإن " فريداً " في هذه الأغنية تقاسم مع الفنانة " شادية " أجزاءً كثيرة منها ، إلى الحدِّ الذي لم يجعله يؤثر نفسه عليها ، مع أنه هو صاحب اللحن ، حتى أنه ، جعلها هي من تباشر أولاً في أدائها ، بغناء المقدمة ، و حاورها غنائياً بتشطير حتى البيت الواحد ، كما ستسمعون في غناء هذين البيتين :
حبك حيرني .. أنا زيك برضو
ربي ايصبرني .. أيوه أنا في عرضو
...
حبيتني صحيح ؟ و امال ؟
اتاريني بقيت فرحانة .. عقبال كل العزال يتهنوا زي هنانا

المطربة شادية
ديالوج : يا سلام على حبي و حبك
من فيلم : أنت حبي
إنتاج سنة : 1957 م
ـــــــــــ
كلمات الشاعر : عبد العزيز سلام
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : فريد الأطرش و شادية
ــــــــــــــــــ
بصوت شادية :
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
و لا نمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
بصوت فريد :
يا سلام على حبي و حبك
دا ما كان على بالي أحبك
و لا نمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
...
بصوت شادية :
يا حبيبي هواك جنني
و الشوق ملاني جراح
و حياتك تبعد عني
و تسبني عشان ارتاح
بصوت فريد :
و أنا يعني ماسك فيكي ؟
ماهو قلبي مشغول بيكي
بصوت شادية :
حبك حيرني
بصوت فريد :
أنا زيك برضو
بصوت شادية :
ربي ايصبرني
بصوت فريد :
أيوه أنا في عرضو
...
بصوت شادية :
اعذرني لأني بحبك
ما بنمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
...
بصوت فريد :
موش ممكن أعيش من بعدك
دا خيالك جنبي ليلاتي
و بأقول لو ربنا ياخذك
كنت اعمل ايه يا حياتي ؟
بصوت شادية :
إنشا الله أنت يا حبيبي
يا هنايا و كل نصيبي
ح ولع في روحي يا قلبي و عينيا
بصوت فريد :
لا اوعي يا روحي دا واجب عليا
بصوت شادية :
من ساعة قلبي ما حبك
ما بنمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
...
بصوت شادية :
حبيتني صحيح ؟
بصوت فريد :
و امال ؟
بصوت شادية :
اتاريني بقيت فرحانة
بصوت فريد :
عقبال كل العزال يتهنوا زي هنانا
بصوت شادية :
شوف وشي أصفر ازاي من حبك
بصوت فريد :
شوفي جسمي أحمر ازاي من حبك
بصوت شادية :
ح تعيش يا روحي امعايا
دنت حياتي في دنيتي
كفاية حب كفاية
لحسن ايضر بصحتي
...
دويتو :
يا سلام على حبي و حبك
ما بنمش الليل من حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
يا سلام على حبي و حبك
عموماً فإنّ اختياري لهذه الأعمال ، لم يأتِ خبطات عشواوات ، أو بطريقة مزاجية ، و إنما من منطلقٍ واحد ، و هوّ إبراز مراحل التطوير في النمط الغنائي ، بالنسبة لهذا الفنان بخاصة ، و للأغنية العربية بعامة ، و هذا لا يحيلنا البتة ، إلى المضي بالقول ، بأنّ الأعمال التي غضّضت السمع عنها ليست في سوية جيدة ، فلعلّ البعض ، تمنى عليّ لو وضعت أغاني أخرى تأتي في هذا السياق ، مثل أغنية ( غني يا قلبي غني ) أو ربما أغنية ( أنا و أنت و لا حد ثالثنا ) فأرجو أنْ يعجبكم ما اخترته لكم من أغانٍ في هذه المقالة المقتضبة و الجامعة لثلاثة أراء فيما قدّمه لنا هذا المبدع من فنون ، و التي ستكون الأخيرة ، بالنسبة لهذه الحلقات ، التي آثرت فيها ، أنْ أتطرق إلى أهم المحطات و الوقفات في مسيرة هذا الفنان الخالد ، التي لن تكتمل إذا تكلمت فيها عن إبداعه بإسهاب - لذلك سأكبح جماح كلماتي ، التي تأبى إلا أن تستمر في الخوض في روائعه - الذي يُقاس بعدد أعماله ، و ما احتوته من تطوير كبير ، طيلة أربعين عاماً من الغناء و الموسيقا و الألحان ، و لكنْ ليس بالإمكان أبدع ممّا كان .