الأربعاء، 29 يونيو 2011

سلامتها أم حسن كاد أن يكون نشيد جماهيرية القذافي

أحمد فكرون

سلام قدري

محمد مختار

لطفي العارف

عادل عبد المجيد

راسم فخري

علي ماهر
سلامتها أم حسن كاد أن يكون نشيد جماهيرية القذافي
"الأغنية الوطنية مادة في دستورنا الجديد"
نخلط أحياناً بين المقامات، فلكلِّ مقام أنغام، ولكل نغم كلام، ولكل كلمة مضمون، والمضمون الغنائي قد يتنوع بين العاطفة والإنسانية والوطنية، وهلم جرا، ويزداد الخلط إلى حدِّ العجن بين مكونات الأغنية السياسية والوطنية، حتى تتصلب هذه التركيبة في تركيبة الإنسان، فلا يستطيع أنْ يفصل بين ذرات بل حتى جزيئات الخلطة الغنائية في طبق ما تـُقدّمه القنوات والإذاعات، فالأغنية السياسية، هي التي تتغنى بمفاتن وبمفاسد أحد مكونات الدولة لما تجعلها مناقب له، فتناصر فئة أو طائفة أو حزب، كذلك النمط من الأغنيات، التي تغزَّلت بحزب البعث، الذي أُجتثــَت جذوره من الخارطة السياسية في العراق، والآخذ في الزوال في سوريا، أو التي تدور كلماتها حول محور ألحان الفرد الحاكم، فتعزف عن الغناء للوطن، وتعزف للحاكم بأمره، مُختزِلة الوطن بخارطته ووجوده في شخص المستبد الداخلي، أما الأغنية الوطنية، فعادةً ما تكون مقاومة ومقارعة بالقرع على طبول معاداة العدو المستعمر وممالئيه في الداخل، بتجنيد وتحشيد جنود أرواح المقاومة في فصيل روح واحدة، فهي التي تزرع روح المواطنة في نبتة النشء وتسقيها وترويها بعذب الألحان، وتغذيها بالشجن وحسن التعبير والموسيقا، لعلم المربين والقائمين على ذلك، بحقيقة أنّ "الموسيقا غذاء الروح"، فتعزّز من مكانة الوطن في نفس الإنسان الذي يعيش على أرضه، حتى تزدهر وتسفر عن وردة حمراء قانية، تستمد لونها من دماء من أُستشهـِدوا في سبيل صون هذه المعاني السامية بسمو هذه الشجرة السامقة الفريدة من سُلالتها، فهي كما شجرة على مدار الاستواء، يستظلُّ الجميع وعلى حدِّ السواء تحت ظلالها الوارفة على مدار السنين وحتى الفناء، فتؤسس- من ثم- لمفاهيم الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والتضحية من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات، وتـُنفـّر من أيِّ عملٍ وعمالةٍ لأعداء الوطن والوطنية.
صحبت التغيُّرات السياسية، التي برزت على سطح الخارطة السياسية للمنطقة العربية، في الفترة التي تلت نيلها للاستقلال عن هيمنة المستعمر البغيض، التي عُرِفت بالانقلابات العسكرية، التي دشّن لها الرئيس المصري الأسبق "عبد الناصر" طفو طفرة جديدة من أغانٍ، خالها المستمع العربي أعمالاً وطنية، وهي بحسب هذا السبر لغور هذين المفهومين للأغنيتين الوطنية والسياسية، اللذين استهللت بهما مقالتي، محض أغنيات سياسية مُؤدّلجة ومُوظّفة بأصوات موظفين في دائرة نقابة الغناء العربي الحكومية، إذ أنّ أغلب هذا النمط الغنائي، أدّاه لفيف من المطربين المعروفين لدى المتلقي العربي، الذين امتازوا بتقديم الأغنية العاطفية الكلاسيكية والحديثة، وليس على سبيل الحصر بل المثال، أذكر منهم "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"فريد الأطرش" وأخرهم المطرب الناشئ آنذاك "عبد الحليم حافظ"، فكانوا مجتمعين ومن حيث شاؤوا أو أبوا عرّابين لما يُسمى بثورة 23 يوليو، فقد عُلِم عنهم وطنيتهم وتضحيتهم لأجل القضية الفلسطينية حتى قبل مجيء "عبد الناصر" إلى سُدة الحكم في مصر، فأربأ بهم أنْ يكونوا قد تواطأوا مع هذا النظام عن قصد، لكن ربما قد استغلهم نظام الانقلاب للدعاية له ولتقديمه إلى المواطن المصري بخاصة والعربي بعامة في ثوب الثورة، التي جاءت على أنقاض حكم مملكي برجوازي وإقطاعي وخائن لأمته.
فالأغنية الوطنية أراها شأناً سيادياً يجب أنْ تـُسطّر كلماتها وتدوّن نوتاتها كمادة مستقلة في الدستور الوطني لأيِّ نظام سياسي ديموقراطي وحُرٍّ، يتفق عليه الشعب، فلا ينبغي لها أنْ تـُمجد فرداً أو تـُجمّد صورته كبطل مغوار في عقلية وعاطفة العوام، ولو كان حاكماً، بل خليقٌ بها أنْ تنأى قصيّاً عن أيِّ مستبد، ولا يحقّ استغلالها في تدعيم أية فئة سياسية ولا حزب بعينه غير الشعب، فهي مثلما الثروة الوطنية التي يعود ريعها وفائدتها على المجتمع بأكمله.
الأغنية الوطنية وقورة تصلح لأيِّ مكان وزمان ويدور شريط تسجيلها في تروس الإذاعات، مهما تعاقب الحكّام على كُرسي الحكم وسيادة البلاد، من هنا استطيع أنْ أُيسّر أمر التفريق بين الأغنية السياسية والوطنية على القارئ، الذي هو في الأصل مستمع- وعلى كل مُتلقٍّ- بهذه القاعدة المنهجية، التي لم أُرتـّب لها قبل خوضي في هذه المقالة، لكنّ موضوعيتي في الكتابة وانتهاجي لمبدأ (لا تستغفل القارئ) في أيِّ شأن فكريّ، هما من لخصا بنفسيهما هذا الاستنتاج، فلكي تشخّص أية أغنية يلتبس عليك أمرها بخصوص هذين النوعين من حيث المضمون، فما عليك إلا أنْ ترى سمعاً، هل هذه الأغنية محتفظة بنصيبها وأسهمها على خارطة الإذاعة مع تغيُّر الخارطة السياسية، أم أنها ستـُنفى وتـُرمى في مكبّات القمامة والقتامة، فإهالة التراب عليها والإبعاد والنفي في هذه الحالة، يعنيان نفي كونها أغنية وطنية، بل سياسية، ستسقط من سجلات التسجيلات الصوتية وقت سقوط الصنم، لأنها ليست سوى كفر بواح، كما أهازيج العرب التي ردّدها الطائفون أيام الجاهلية وهم عراة من الأسمال والإيمان على نصب هُبل- هكذا بكل إيجاز- ولو طبقنا هذا المعيار على الأغنية المحلية، التي أُنتجت في عهد المطرب الأول "معمر القذافي"- لا أظنّ بأنّ زبانيته، قد أطلقوا عليه هذا اللقب من جُملة ما نبزوه به من ألقاب، مع أنه يُجسد ظاهرة صوتية بكل ما يعنيه هذا المدلول الفني وفي أعلى مراتبه، فقد استطاع أنْ يوّفق بين طبقة الجواب في خطبه الجماهيرية في جماهيريته العظمى ووسط الحشود والجموع المنقطعة النظير، كما كانت إذاعته- وهي من أداوات حكمه- تحبذ أنْ تصف لقاءاته بمؤيديه ومريديه، في شبابه الذي أسرفه في غير فائدة، اللهم إلا في مشاداته اللسانية مع زملائه في منتدى الدكتاتورية العربية بجامعة الكذابين والمتاجرين والأفاقين بالقضايا العربية- جامعة الدول العربية- وبين طبقة القرار، حينما تحوّلت نبرات صوته إلى هذه الطبقة فيما بعد، وبالأخص في جلسات المؤتمر الشعبي العام، وكذلك سلامة تنقله إلى الطبقة المتوسطة حين هبوطه من الأولى إليها أو صعوده إليها من الثانية، وقد فاجأني في خطاب أو زلّة (زلقة : زنقة زنقة) التي حفظتها له الذاكرة السمعية والجمعية الليبية، لأنني اكتشفت أنه ما يزال يحتفظ بطبقة الجواب مع تقدُّمه في السنِّ، وهي ظاهرة صوتية فريدة، لا تجتمع إلا في حنجرة من يحسنون الغناء العربي المُتقن بحذافيره، ولم تصح حتى لأكبر جهابذة المطربين العرب سوى "وديع الصافي" الذي أُستغِلت خاصيته الصوتية هاته، ليغني رائعته القذافية "ومنها عشقت الوطن يالصحاب"- على أية حال، فلو طبقنا هذا المعيار والمقياس، لن نخرج سوى بأغنيتين أو ثلاث هي (بلد الطيوب واتعيشي يا بلدي/محمود كريّم) و(يا بلادي/أحمد فكرون) ولست أدّعي إلمامي بكل ما سُجِّل في هذه المرحلة من تاريخ الأغنية الليبية ومن تاريخ بلادنا، لكنْ من لديه أغنية يرى فيها مفهوم الوطنية، فليخضعها لهذا المحك ولهذه المصفاة، ليرى إنْ رشح منها شيءٌ من ذلك، غير أنّ هناك عملاً غنائياً رأيته قد شذ عن هذه القاعدة، وهو أغنية (يا ليبيا يا جنة/حسين الجسمي) فهذه الأغنية من كلمات "عبد الله منصور" المقهور، الذي جُعِل راعي الأغنية الليبية، وهو لا ينفع حتى لرعاية الإبل، وأستطيع أنْ ألخص كل ما كتبه من أغنيات وهو يدير الهيأة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى في مضمون واحد وكفى، هو (العين) وتغزله بسوادها، ففي أشعاره نجد العين ماثلة للأسماع في مثل هذه الأغنيات: (عيني بكت من شوقها والغالي بطا وانا امعلق عيني وعيني فراشك والغطا هو رمشي وكحلت عيني موش زينة ليها)، فأغنية (يا ليبيا يا جنة) التي عرفها المتلقي من خلال الجلسة الغنائية المُفلسة، هي لا تتغنى بحب "ليبيا" بل بدمّرها "القذافي" وهذا ما لا يعرفه الكثيرون ممّن يعتصمون في ساحة التغيير، بل تتراقص لـ"معمر القذافي" وذلك يبدو جلياً للآذان في هذا المقطع منها:
إن ما جيناك لمن بنجو .. إن ما حاكيناك لمن نحكو
ما ساعد القذافي على (تقذيف) الأغنية وتسيِّيسها، أنّ الأغنية الليبية كانت إبان استحواذه على السلطة تمرّ بانتعاشة شهد لها العرب أجمعين، بفضل الخطة التي اعتمدتها الإذاعة الليبية باستقدام الفرق الموسيقية وعلى رأسها الموسيقاران والمايستروان المصريان المعروفان "عطية شرارة" في بنغازي و"الحفناوي" في قسم الموسيقا بطرابلس، فاستطاعا ترجمة الجملة الموسيقية الليبية الحديثة، التي ألّفها- ولم يألفها المتلقي الليبي من قبل- الملحنون المخضرمون، ممّن حملوا راية النهوض بالأغنية المحلية وفكّ أسرها من قيد وعِقال الجملة الشعبية النمطية مع انتفاء تنكرهم للموروث الليبي بل العمل على إظهاره في حُلّة قشيبة، من أمثال "يوسف العالم" و"كاظم نديم" و"إبراهيم أشرف" و"علي ماهر" و"بشير فحيمة" و"عبد الباسط البدري" و"محمد الدهماني" و"سالم بشّون" و"هاشم الهوني" وغيرهم الكثيرون، بالإضافة إلى ثلة من الشعراء كـ"علي السني" و"أحمد الحريري" و"عبد السلام قادربوه" و"مسعود القبلاوي" وباقة كبيرة من زهور الكلمة وقتذاك، ترجمت أحاسيسها بأصوات نخبة من الأصوات الفذة، أذكر منهم "سلام قدري" و"محمد رشيد" و"مصطفى حمزة" و"عبد اللطيف حويل" و"محمود الشريف" و"يوسف عزت" و"عادل عبد المجيد" ومن نافذة الإنصاف ليس إلا، أضم إليهم "محمد حسن" كصوت جميل ورائع، إلا أنه بدّد إمكاناته في أداء الأغنية السياسية المُمجِّدة لشخص "القذافي"، فسقطت دُرّره في مجارير الانحطاط الغنائي، وأضحى في ليل "ليبيا" المُمتد طوال أربعة عقود منطفئة، مثل (البرّاح) في خيمته (خيبته) الغنائية، حتى أنه اقتنع بكونه ملحناً جيداً، فحاول أنْ يجعل من تلك الخيمة قصراً لمدرسة تلحينية، أراد أنْ ينشئها لكي ينسف بها جهود من سبقوه من الملحنين عمراً ومراحل، لكنّ ورشته الموسيقية أثبتت ضحالتها الفكرية، حتى أنه اقتبس بعض الألحان العربية لأجل تقديم الأغنية السياسية على أساس أنها وطنية، ومن ذلك أغنية (تسلم وتعيش يا وطني) في المطلع الذي يقول فيه:
جنودك جاهزين للتحدي .. جنودك جاهزين

جنودك قابلين التصدي .. جنودك قابلين

يا وطني تسلم واتعيش .. علّي راسك ما اتواطيش
بنفس المقدمة اللحنية لأغنية (كعب الغزال يا متحني بدم الغزال/محمد رشدي)، ولو استرجع القارئ اللقاءات العديدة التي أُجريت مع "محمد حسن" لوجد أنه أبدى إعجاباً شديداً بأغنية هذا المطرب الشعبي المصري في غير مرة، وهذه ليست السابقة الأولى التي يُقدّم فيها فنان ليبي بالسطو على ألحان عربية، فقد تكرّرت هذه المسألة حتى في عمل آخر بعنوان (جماهيرية سلطة شعبية) الذي أصبح بمثابة نشيد وطني في إذاعة الجماهيرية، فالجملة اللحنية لهذا العمل، هي نفسها لأغنية (سلامتها أم حسن من العين ومن الحسد/أحمد عدوية) فيا للوضاعة.
فقدّمت أغلب هذه الأصوات والأسماء التي ذكرتها أجمل الأغاني، كقيمة فنية صرفة، وبالتجرد من أيِّ حنق سياسي وأيديولوجي، فأنا هنا أصنفها من حيث الجودة اللحنية والصوتية ومعطلاً لغة الكلام المروِّج لشخص الزعيم الأوحد، وبالمناسبة فإنّ هذه الأعمال الغنائية، تؤكد لمفهوم تطرقت إليه كثيراً في مقالتي عن الأغنية الليبية وشقيقاتها العربيات، حيث إنني أرى في جانب التلحين، أنه أهم عنصر من عناصر الأغنية، يليه الأداء الصحي والصحيح وفق لأصول الغناء العربي الأصيل، فسرّ نجاح الأعمال الغنائية، التي ترنمت بإنجازات وخطب "القذافي"، مرجعيته هي اللحن، بدليل أننا لا نصدق ما تقوله المطربة السورية "سهام إبراهيم" وهي تغني هذه المفردات المُوغِلة في الرجعية الثورية، لكننا نطرب لانصهار صوتها مع اللحن والجملة الموسيقية، التي قدّها لها الموسيقار وعازف القانون الراحل "حسين الزواوي":
عشقتك مبادي خالدة وثورية

عشقتك أمل إنسان فـ الحرية

عشقتك فرحة .. تدخل في صدر الحر تبري جرحه

عشقتك أمل إنسان يبني صرحه ويحكم في نفسه وسلطته شعبية..

فلا سلطة شعبية ولا شيء ممّا تـُغني، لكنّ لهذه الأغنية مخزوناً من الجمل اللحنية الفريدة، التي تستميل المستمع وتخدره بجمالها، فيُسلِّم المستمع- من ثم- بحكم "القذافي" كما يُسلِّم الذميم أمره إلى امرأة حسناء لعوب، مفتوناً ببهائها المخادع.

وعلى غرار هذا المضمون، قد يُسرَب مفهومٌ آخرٌ عبر تلفاز "القذافي"، حرص وزمرته من الضباط الوحدويين الأشرار على تكريسه في الأغنية السياسية، وهو جعل انقلابهم نهاية مطاف حركة الجهاد في بلادنا ضد المعتدي الإيطالي، وهو تسلسل غير منطقي ومنفصل، وقد كان أول عمل غنائي تغنى بهذا الطرح، (أوبريت/شعب لا ينحني)- بمناسبة خروج القواعد الأجنبية أو جلائها أو كما صار يصرُّ إعلام "القذافي" مؤخراً بأنه (إجلاء) أيّ إرغام المستعمر على الخروج، فهو لم يضع عصاه على كتفه ويخرج طواعية.. هكذا- يستهل الملحن "علي ماهر" هذا الأوبريت بمقدمة موسيقية لا تختلف عن الموسيقا التصويرية، التي أعدها لاحقاً لمسلسل (حرب السنوات الأربع) فهي مقدمة موسيقية إيقاعية، انتهج فيها أسلوب الموسيقار المصري الراحل "بليغ حمدي" الذي يبدو مدى ولعه وتأثره به، مُستمدَّة من الجلبة التي تحدثها الخيول وهي تركض في ساحة الوغى، وهو يصف جهاد الآباء بهذه الكلمات الرائعة للشاعر الراحل "علي الفيتوري" أو هو "مسعود القبلاوي" لست أدري ضبطاً، وبصوت مجموعة من النخبة الصوتية المعروفة، أتذكّر وأذكر منها "أحمد سامي" و"راسم فخري" و"لطفي العارف":

يا ليبيا الشجعان يا زينة الأوطان ما ريت زيك زين

يا قاهرة العدوان بأولادك الفرسان ابعزم قوي ما ايلين

أرضك وفاء وأمان وحنان لكل إنسان ونيران للغادرين

جهادك أيام زمان نوره علينا بان

عيد الجلاء عيدين يا ملحمة جيلين..

الجيلان المقصودان، هما جيل المجاهدين الأولين من الآباء والأجداد، وجيل من شاركوا في الانقلاب من الفاشلين، والقفز على مرحلة الاستقلال ورجاله الشرفاء، ينتقل بعد ذلك الملحن "علي ماهر" بتوظيف صوت المطرب الراحل "أحمد سامي" لأداء هذا (الكوبليه) المُدهش، الذي أعلن عن جمال صوت هذا الفنان وتعدّد درجاته:

زمان كافحوا الأجداد .. بارودهم وقـّاد

في ساحة الجهاد .. أهل الفداء والصبر..

زاد العدو وأيش زاد؟ .. زادوا الرجال اعناد

أهل البلاد رجال .. ما راح منها شبر..

يوم فرحة الأولاد .. يوم هلل الميعاد

على أهل العزوم أشداد .. قالوا رخيص العمر..

يوم جمعوا الميعاد .. ما حد شال اتراب

يوم وطن صبره جبال .. جا عدو جرار

جيشه رجال رجال .. ولقوا ترابه جمر..

يوم جمعوا الميعاد .. ما حد شال اتراب

جوا طول ع الجهاد .. لقوا الخوف ولّى نصر..

فارس ركب وعار .. قال ما لهم عمار

خللا الروس حصاد .. صلوا صلاة العصر..

بعد ذلك يستلم منه راية الصوت المطرب "راسم فخري" الذي غنى فيما غنى منذ ولوجه إلى عالم الغناء، مئة وعشرين أغنية- كما يفتخر، وأظنه نادماً- منها مئة أغنية وطنية كما يقول، وهي في حقيقتها سياسية، من مجموع ما قدّمه بصوته الأخـّاذ والدارس لضوابط الغناء العربي:

يا وطن حن الله .. نصر شعبنا وحماه

يوم ما لفو أعداه ورست مراكبهم

جوا ناويين ضناه .. بطيراتهم في سماه

لطمس مجد بناه .. جيش العدو مبداه

وطن ويقربهم..

جا شعبنا ولقاه برجاله وبنساه

جا شاب قال لـ بباه طالع مع نجعه

أنا اللي نحاربهم..

لين زغردت جداه .. وأمه مشت وراه

هو قال نقعد لا .. وطني أنا نفداه

تاريخ تعبهم..

هجموا الرجال اللي معاه .. كثروا العدو موتاه

طبل الفزع لباه .. جهاد في سبيل الله

والنصر مطلبهم..

والوطن من ينساه؟ جيش العدو غطاه

عليه انشد اللي راه.. تاريخ لو تقراه

احني شعب شيّبهم..

إلى هنا لا يوجد حتى مأخذ واحد على الأغنية، من حيث كونها وطنية، لأنها خلّدت ومجّدت لبذل وتضحيات المجاهدين والشهداء، ووطنت في النفس معاني التضحية والإقدام للذود عن الأرض والعرض، وقد أبدع الشاعر والملحن والمطربون في أدائها بحماسة وبأصوات جميلة، تضع الجيل الرابع (نحن)- باحتساب جيل الاستقلال الجيل الثاني، رغماً عن أنف مُعدِّها وباني بيوت شعرها الشعرية بأوتاد العزة في صحراء الأغنية الليبية- في قلب تلك الأحداث الجـِسام، بل إنها قد تـُؤول لصالح ورصد ما قدّمه الليبيون في ثورة السابع عشر من فبراير، فتلغي الجيل الثالث (جيل الانقلاب) الذي أساء لتاريخ الأجداد، حينما اعتبر كلَّ من ناهض حكمه خائناً، وهو يذكّر الشعب الليبي بتلك البطولات ومُحصِّناً نفسه بسياج امتداده لحركة الجهاد ضد المستعمر الاستيطاني، نعم فقد استطاع "القذافي" أنْ يرتهن تلك الأمجاد لنفسه، وقتما نصَّب جده وأباه كأول أبطال المقاومة الليبية، وبذلك طبع في مخيلة العوام، بأنّ من يعاديه يعادي ذلك التاريخ المُشرِّف، وهذا ما أوضحه "محمد حسن" في هذا الكوبليه من أحد أعماله السياسية:

اللي يعاديه .. يعادي خير بلادنا

اللي يعاديه .. يعادي فرح أولادنا

اللي يعاديه .. يعادي أمل لعيالنا

اللي لولاه المد الثوري ضاع رجاه
لكن على الباغي تدور الدوائر، فكما حاول "القذافي" محو وطنية جيل الاستقلال من على خارطة التاريخ الحديث، ها هي ثورتنا الآن تنزع عنه أي دور وطني، ولعلّ ثمة كلمات في مقدمة هذا الأوبريت، التي أدّاها الراحل "أحمد سامي" تـُعدُّ في حقيقتها توصيفاً لهذا الرأي، وهو يغني:
يوم فرحة الأولاد .. يوم هلل الميعاد

على أهل العزوم أشداد .. قالوا رخيص العمر..

فهذه الثورة أوقد شرارتها أولاد صغار بعزائم شديدة، بعدما ألفوا أعمارهم رخيصة لقاء تحرّرهم من ربقة ورقبة السفيه، الذي أكال لهم بها أقذر الشتائم، وكذلك في شدوه بهذا البيت:

فارس ركب وعار .. قال ما لهم عمار

خللا الروس حصاد .. صلوا صلاة العصر..

هو هنا يقصد شيخ الشهداء "عمر المختار"، الذي أحسن أداء الصلاة العصر في حينها، وكما أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقصّر في ومن ركعاتها، ولم يجهر بقراءة القرآن فيها، ليس كما فعل الدّجّال.

ثم اجتمعت أصوات المجموعة لتعترف في نهاية العمل بهذا البيان الختامي والإقرار الخطي والفني الخطير، الذي سيّس الأغنية، وحولها من أغنية وطنية- متجاوزاً الدستور الذي دعوت إلى وضع مفهوم الأغنية الوطنية في قمة أولوياته- إلى أغنية سياسية، لدى غنائهم لهذه الوصلة:

أحرار يا ثوارنا يا ملحمة الأجيال

انتم حميتو ديارنا ثوارنا الأبطال

بيكم بدا مشوارنا وطني كبر ونال

والله صدق اللي قال قهر الشعوب محال

ما عد بعد اليوم حاكم على هالشعب

ياما قعد محروم مظلوم عيشه صعب

ما حال ايدوم وما يعرف المحال لا بجيش الاحتلال

بالخير يوم الفاتح الظلم طلعنا

والعالم يوم الفاتح شايف مصانعنا

خضرة يوم الفاتح خضرة مصانعنا

كل الشعوب بالفاتح صارت تسمعنا

وبيه نضربو الأمثال لحرية الإنسان..

*****

في فجر يوم الاثنين، الموافق للأول من سبتمبر من عام تسعة وستين وتسعمئة وألف للميلاد، أي في يوم الانـ(ك)ـلاب المشؤوم، تهافتت مجموعة من الفنانين، وتنادت على أبواب الإذاعة الليبية في مدينتي بنغازي وطرابلس، لتواكب مسار ما كانت تعتقد بأنه ثورة شعبية حتى النصر، وتؤازر هذا الحدث، لدرجة أننا رأيناهم يؤدّون تلك الأعمال بطريقة ارتجالية بقراءة مفردات الأغاني من الأوراق، فتشعب الحديث حتى شهر سبتمبر من سنة 2010 ميلادية عن أول أغنية- كلمةً ولحناً وصوتاً- واكبته، ودار السجال بين أكثر من اسم لنيل شرف هذا العمل، ولم يحسم هذا الجدال حتى يوم 17 فبراير 2011 ميلادياً، بخصوصه، وكان الجدير بالمتصارعين بأشعارهم وأنغامهم وحناجرهم، أنْ يبادروا كبادرتهم الأولى مع هذه الثورة المجيدة، التي أعطت الفرصة لأولئك الفنانين ممن ما يزالون على قيد الحياة، لأنْ يقدموا لها شيئاً من أعمالهم، التي ستطهّر سجلاتهم وأعمارهم الفنية من ذلك المأزق الذي وقعوا فيه من غير أنْ يحتسبوا- نحسبهم كذلك- لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ففي سُنـَّة الغناء السياسي وكيفما أُتفق، أنْ يتولى مهمته الفنانون المعروفون في العهد الذي يسبق التغيّير السياسي، خصوصاً إذا كان هذا التغيير السياسي نتاجاً لانقلاب عسكري، أما الأغنية الوطنية الخالصة، فهي تولد من رحم الثورات الشعبية الحقيقية، في عملية انسيابية وتبحث لها عن مؤسسين جدد ينهضون بكلماتهم وألحانهم وأصواتهم مع قيامها، وهذا ما أكّدته الثورة الليبية، التي لم يُسند ظهرها من الفنانين السابقين في نقابة فناني الجماهيرية، الذين ربما أُصيبوا بخيبة أمل وظنّ وتقدير، وأحسّوا بمرارة وفظاعة ما سطّروه ولحنوه وترنموا به من دجل فني، وأنهم قد غـُرِّر بهم في فترة ثورة التزييف، التي حوّلت الأغنية الوطنية إلى أغنية سياسية بامتياز، وفي هذا الصدد، حكى ليّ أحد المساجين في سجن الحصان الأسود، إنّ من وجبات العذاب النفسانية غير البدنية، التي كانوا يتعرضون لها، هي إرغامهم على الاستماع إلى أغنية (افتح يا فاتح يا منور في كل مكان/محمد حسن) في زنزاناتهم بواسطة أجهزة تسجيل ضخمة لغسيل الأدمغة من معاني الوطنية وحشوها بمثل هذا الهراء الذي نسمعه في هذه الكلمات من هذا العمل القمعي والإقصائي:

من غير الثورة (امعمر) ما فيش .. تبي وللا ما تبيش

أو بكلمات الأغنية، التي تصوّر شخص العقيد في هيأة الـ(سوبرمان) الذي في يده الفانوس السحري أو عصا موسى عليه السلام، فيفجر الصخر ليخرج منه المياه (النهر الصناعي) فيستحق أنْ يكون سيفاً مُسلّطاً على رقاب الليبيين:

افتح يا فاتح يا منور في كل مكان

افتح يا فاتح يا امداير لناسك شان

افتح كل يوم مصانع للشعب اللي كان محروم

افتح يا مخللي الصحراء رويانة بالخير اتعوم

تسلم لبلادك يا فاتح واتعيش اعيادك يا فاتح..

بل بلغ السفه والعته بهذا المغني أنْ يصنع في ورشته الفنية لحناً سخيفاً لكلمات أغنية أخرى من ألحانه، لم يفلح في خراطة كلماتها ولا لحم لحنها ولا سمكرة ولا طلاء مظهرها الخارجي، فصار مثل صنائعي غشّاش ومُغلوش، لا يجيد الصنعة الحرِفية، وقد اعتبر فيها الليبيين على قلب رجل واحد، لنصرة "القذافي" من دون أنْ يُجري استفتاءً بنعم أو بلا على ذلك، ولعلّ الشعب الليبي الكريم، ما يزال يتذكرها لأنها نالت من كرامته، الأغنية هي بصوت "خالد عبد الله" وها هو مطلعها الزائف:

يا بو عباء دونك ثلاث ملايين

لا هنتهم ولانك عليهم هاين

وهذا ربما ما يفسّر انتفاء نضوج الأغنية الثورية التي خرجت للأسماع مع بداية ثورة 17 فبراير، بعفويتها التي اتخذت السياق الدعائي المُستمد كلماته من شعارات وهتافات الشباب في ساحات (التغيير) بالمدن والقرى الليبية، مُتكِئة على الألحان والجمل الشعبية أو بتركيب كلماتها على قالب موسيقي لملحن معروف، مثلما في أغنية (عاشت بنغازي والبيضاء) فلحن هذه الأغنية هو عينه لحن أغنية (صبّارين نحنا ع السية صبارين/وحيد سالم) للموسيقار "إبراهيم أشرف"، جدير بالسمع أنّ هذه الأغنية قد أُقصيت من البثّ الإذاعي إبان حكم "القذافي" الذي يعي تماماً بأنه ليس ببعيد عن الشُّبهات، لذلك خشيّ أنْ يؤول معنى هذه الأغنية العاطفية في غير صالحه، في الوقت الذي أعد فيه بطريقة التأويل نفسها، أغنية (يا ريح هدّي مركبي ميالة/محمد حسن) للملحن والموسيقار "يوسف العالم" وقبلها أيضاً أغنية جميلة للمطرب الراحل "محمد صدقي" هي بعنوان (ماضي زال نسيته مشى) من إرهاصات انقلابه، وفي سياق تعطش الشعب الليبي للثورة التي أتى بها هو على متن الدبابة تلبية لمطالب الليبيين.

يُعاب على الأغنية المُقدمة في هذه الأيام بأصوات الشباب الجميلة، أنها ليست ذات خصوصية لحنية وأغلبها مُقولب في موسيقا (الراب) هذا النمط من الموسيقا التي أعتبرها نوعاً من التعبير الذي لا يرتقي إلى مرتبة الغناء مع أن الغناء هو وسيلة متطورة للتعبير الناضج والرائق، وعند عقد المقارنة بين الأغنية التي زامنت انقلاب "القذافي" وثورة 17 فبراير، نجد أنّ الأغاني القديمة، أُعدِّت لها الألحان الشجية وأُغدِق عليها فائض من الشجن حتى يستطيع "القذافي" تسريب كلمات سمومه وأفكاره المُضللة إلى روح المتلقي، مثلما يُدس السم في العسل، على خلاف أغنية الثورة، فافتقاد الملحن من جيل الشباب سببه هو إهمال نظام التخلف والجهل للمواهب والأنشطة الفنية وعلى رأسها الموسيقا التي حلّ في يوم ما فرقتها الإذاعية ومعهدها في بنغازي، التي التقيت في أحد شوارعها منذ أيام قلائل بمدير هذا المعهد الأستاذ الملحن "إبراهيم أشرف" ودارت بيننا دردشة فنية أخبرني فيها بأن أجمل ما استمع إليه من أغنيات الشباب في هذه المرحلة الثورية التي تعيشها بلادنا، ولم أستغرب رأيه فهو يوافق رأيي تماماً، على أية حال، فإن الأغنية التي وقع عليها إعجابه هي (سوف نبقى هنا/عادل المشيطي) التي سُجّلت سنة 2005 ميلادية، إنْ لم يخـُني التقدير.
بنغازي: 28/6/2011












الجمعة، 17 يونيو 2011

ليبيا في أطلس الجماهيرية



خريطة ليبيا الثورة

خريطة الجماهيرية

 لم يعرف الليبيون في حُقبة (حقفة) الجماهيرية، وطِوال أعوام حكم "القذافي" إلا قطارين اثنين وكفى، اكتفى أحدهما بالربط بين هذه الكلمات بخطوط عرضية وهمية: (الجماهيريةــ ـ ــالعربيةــ ـــالليبيةــ ـ ــالشعبيةــ ـ ــالاشتراكيةــ ـ ــالعظمى*)، فأطالس الجغرافيا العالمية، تبرز بعلاماتها المُتفـَق عليها- دولياً وعلمياً واصطلاحياً- وهي رسومٍ لمثلثات ودوائر ومربعات صفراء وخضراء وحمراء، وأسهم لأعلى وأخرى لأسفل، ونقاط سوداء وزرقاء وحمراء وطائرات وسفن، فهي تشير بذلك إلى التضاريس المتباينة- الصحراوية والزراعية- وتعداد السكان بالنسبة المئوية لكل إقليم، والمعادن والمطارات وموانئ التصدير النفطية، والجبال وموارد الخام المعدنية والمحاصيل الزراعية وحصة الفرد من الدخل العام، وما إليها من بيانات، حينما توضّح للمُطّلِع الخارطة السياسية لأية دولة كانت.
وفي الأطلس الجغرافي للجماهيرية، ثمة علامتان شاذتان لا تلفيهما في أيّ أطلس عالمي، وهما عبارة عن خطين أزرقين متوازيين يمتدان من فرعٍ واحد يمضيان من عمق البلاد إلى المدن الشمالية، اصطلحه فقيه الجغرافيا الأول مُعمِّر البلاد "القذافي"، لتوضيح مساري نهره الصناعي الـ(ع)ـقيم غير المُعقـَم ماؤه، فمن المعلوم أنّ الأنهار الطبيعية هي التي تـُرسَم على الخرائط، نظراً- وأمعن النظر- لتدفقها من منابعها إلى مساقطها ومصباتها، وهي تسير في مجاريها سائلة على سطح الأرض، ونهر العقيد مدفون تحت القشرة الأرضية في أنابيب متراصة ملحومة بعضها ببعض، لذلك يتعذر رسمه أو رسمها، غير أنّ "اعميرينه" أصرّ على ذلك وأصدر قراراً لصندوق عجائبه الأسود (تلفازه) ليُلزم الليبيين باتباع هواه، وأنْ يروا قبل العالم بأسره خطوط نهره العريضة مرسومة على خارطتنا كل يوم مرتين أو ثلاث في نشرة الأحوال الجوية التي لا تنبئ إلا عن رياح القبلي والجفاف والتصحر والقحط، مع وعيهم بأنّ بلادهم لا تـُصنَّف ضمن البلدان النهرية، ومع ذلك أتى بمن يرسم خطوطه الوهمية بطريقة تفوق كل الوصف، حيث جعلها أعرض حتى من مجرى نهر الأمازون الطبيعي، فيا للعجب، ومن عجب إلى عجب آخر في أطلس القذافي.
تجوّل في أرجاء البلاد ببصرك عبر أطلس الجماهيرية، ليس إلا، وسوف لن تجد على رقعة هذه البلاد الشاسعة بعدما تتسلى قليلاً بتقشير الاسم المُلصَق (الجماهيريةــ ـ ــالعربيةــ ـ ــالليبيةــ ـ ــالشعبيةــ ـ ــالاشتراكيةــ ـ ــالعظمى) مثلما تسلخ غطاء لطفح جلدي، ليبدو لك اسمها الحقيقي في كلمة واحدة لا تجاورها كلمة ولا تتوسط كلمتين، وتأبى حتى أنْ يُلازمها حرفٌ، وقد وصلك أنين الفرح بنزعك للغطاء عن اسمها الحقيقي، نعم ابتهاجاً لا ألماً بل وكأنك تسمع زغرودة من كل فتاة اسمها "ليبيا" تعيش على بلادنا- بسقوط الضياء عليه، بعد ذاك لن تجد أيَّ علامة للسكك الحديدية بين مدن ليبيا، إلا سكة وحيدة لقطار ثانٍ لم يعرف الليبيين غيرهما، الأول وقد أتينا على تفصيله، أما الثاني فهو قطار الموت، الذي شدّ وشقّ سكته "القذافي" على رمال صحرائنا، وعلى طول ساحلنا، من شرق البلاد إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها، فخاط البلاد بسلكٍ طويل أضاع إبرتنا حتى تاهت بوصلتنا وابتلعتها الرمال ونفتها العواصف في مجاهل الأمكنة، فحاك بسلكه المعدني- الذي يتباهى به، بعدما كوّره على كرتنا الأرضية ووجده يساوي مئات أضعاف محيط الكرة الأرضية- به المؤامرات ولفـّه على رِقاب شبابنا في عكس اتجاه عقارب الساعة، فعادت عقاربها القهقرى، لتلسع الوقت وتسمم زماننا لأربعين عاماً، أين الإبرة؟ لا ندري، أين البوصلة؟ لا نعلم، أين الوجهة؟ نحن تائهون لأربعين عاماً، أفي اتجاه الشرق؟ لا ندري، أفي اتجاه الغرب؟ لا ندري، هل نسفل جنوباً أم أسفل سافلي أفريقيا؟ لا ندري، هل نعلو شمالاً؟ لا ندري؟ لا ندري، ومن يدري؟ غير من أنشد: "على دربك طوالي" الدرب إذاً (طوّالي) ما يعني أنه لا التفاتات إنسانية تجاه هذا الشعب، ولا انحناءات تبجيل لهذه البلاد، بل الحركة في خط مخطوط ومُخطَّط له، حتى الاصطدام بطريق مسدود، صدَّع جدار الخوف.
لقد كانت لهذا القطار عدة محطات مؤلمة من القمع والقتل، فأنطلق هذا القطار المرعب بسرعة جنوبية وجنونية قصوى ليختطف الأرواح والأبدان، فمن لم ينتشله من محطة حرب (تشاد) ونجا بإعجوبة منه، فإن أعجوبة هذا القطار هي من اختطفته في سجن (بو مريض**) وكانت لهذا القطار عدة جولات وصولات أخرى وهو يجوب ويجوس خلال الديار عبر شساعة بلادنا، من اغتيالات في الخفاء وعلى المشانق في العلن، بل إنّ هذا القطار العجائبي الذي صار معجزة، وقتما استطاع أنْ يصنع لنفسه سكة وهمية أخرى على سطح البحر، ووصل إلى محطات أخريات في دول المنفى والمهجر، كي لا يحرم أي ليبي من حقه في القتل، أسوة بليبييّ الداخل.
كان هذا القطار يبرق حديده وقتما يمر بسرعة البرق الصاعق، عند أيّ (استسيوني) انتظار، فيلفي ويلقى عدة رُكّاب ينتظرون مستسلمين له وهم مُتحلِّقين حول عازف (بيانو) ينشد بحسّ فنان نغم كنائسي مهيب وحزين، على جملة موسيقية معدة على لحن جماهيري عتيد (افتح يا فاتح يا امنور في كل مكان/محمد حسن) فيصعدون وقد قرؤوا الفاتحة على أرواحهم الجبانة، غير أنه في آخر محطة له، تعرّض له فتية آمنوا بربهم ولم يصعدوه، ورشقوه بالطوب، فطوبى لهم أنْ استشهدوا، بعدما فغرت نوافذه عن كتائب مدججة بالسلاح، فاستمر رشقهم لهذا القطار المدمر الذي يقود "معمر" الذي اكتشف في نهاية الرحلة، أنْ سكته ليست على طول، وأنّه يجب أنْ ينتهج المسارات الأفعوانية، فترقط كحيّة ميتة في (حقفته)، واكتشف أنّ القطار الذي لم تـُرسَم سكته على الخارطة الليبية السياسية في أطالس العالم، لكي يفصل بين أبناء الشعب الليبي الواحد، آن لها أن تـُدشّن غصباً عنه، لكي يُعاد رسم البلاد خارج أطلس الجماهيرية، باسمها الحقيقي (ليبيا).
فـ(ليبيا) من اليمين إلى اليسار (الشرق إلى الغرب) ومن اليسار إلي اليمين (الغرب إلى الشرق) هي نفسها ليبيا رسما لا (نطقاً***) على الرغم من محاولاته الدؤوبة، لأنّ يفصل بين حدودها وحروفها الوسطى (الياء والباء والياء) فرد عليه طرفيها اللام والألف، بقولة (لا)، لا شرقية ولا غربية ليبيا لُحمة وطنية غير وهمية، لا شمالية ولا جنوبية ليبية وحدة قبلية غير وهمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): (ــ ـ ــ)/ سكة وهمية
(**): بوسليم سابقاً، لأنّ لا أحد من المساجين في يوم المذبحة قد سلم منه، فما الذي جعله بوسليم؟.
(***): في العديد من المسابقات، يُطرَح سؤالٌ عن اسم الدولة التي تنطق من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين باللفظ نفسه، وكثير ما تحصل الفائز على ملايين الدولارات حينما يجيب بـ"ليبيا"، في حين أنّ ليبيا تنطق بالعكس: ايبيل.




بنغازي:17/6/2011

الأربعاء، 15 يونيو 2011

أين الحنكة الدبلوماسية يا شلقم؟

مرّ الشتاء، فغسلت المطر دماء شهدائنا ومزجته بتراب بلادنا حتى احمرّت ذراته ونبتت منه زهرة، فتركنا الربيع مُستخلِفاً وراءه أمانة، علّقها طوقاً مُلوناً في أعناقنا، هي الثورة المزدهرة حتى النصر- عمر المختار لم يقـُل يا سيد "شلقم": "نحن قوم لن نستسلم.. ننتصر أو نموت"، بل قال: "ننتصر أو نستشهد"، فالموت في عرفنا وديننا، لا يمس إلا الجبناء، ولا يطال سوى رقاب المتخاذلين والخائنين لأوطانهم- مرّ الشتاء وعبر الربيع وأوصانا خيراً بوديعته وبألا نخذله، فثمة غيرنا من الأعراب، من ينتظر وتشرأب أعناقه لتتزين وتتزيَّ بالطوق الأخضر، الذي سيكسر به طوق الهوان والذلة من بعدنا، غير أنّ ربيع ثورتنا ما يزال في أوج وقمة اخضراره على جبل العزّة، وحلّ بعدهما الفصل الثالث في ثورتنا (الصيف)، فانقشع الظلام عن بلادنا، وظهر في سمائها هلال يلتف حول نجمة بحنوٍ، لن نضيّعه في شهر رمضان وسنهتدي به في كل عيد مجيد، إلا أنّ حلوقنا عطشت وجفـّت، وتيبست أوصالنا واكتوت جلودنا من حرِّ جمر النار، الذي صبّه علينا الطاغية وزمرته الباغية من على أسوار السراي الحمراء، وأنـّى لنا أنْ نطفئها ومياه أموالنا قد جُمِّدت في ثلاجات أرصدة البنوك العالمية، ولم يصلنا منها حتى رذاذ بُخارِها؟.
قبل استخراج القرار الأممي 1970 لنصرة الشعب الليبي، الذي أوجب وفرض تجميد الأرصدة التي باسم "القذافي" وبعض من الشخصيات المقربة إليه والمُشتبَه فيهم من عصابته ذوي العصابات الخضراء، في البنوك الخارجية، أما كان من الأجدى بنا تفاديه؟ خصوصاً بعدما عُقدِت لأجله عدة جلسات في كواليس مجلس الأمن، وشرعت أبواب المشاورات حتى عشية اجتماع الأعضاء الدائمين والآخرين من غير دائمي العضوية، حتى تتفق هذه الأطراف الفاعلة على تمرير قرار توافقي، لا تقف أمامه عند التصويت، أية دولة من التي تتمتع بحق النقض (الفيتو)، ومما لا شك فيه هو أمر إطلاع مُمثـِّـل ليبيا في جمعية الأمم المتحدة، السيد "عبد الرحمن شلقم"على مسودته قبل استصداره، لذا أستغرب من أنه لم يتفطن إلى سلبياته بقدر ما انفرجت سرائره من إيجابياته الناصة على حماية المدنيين، وحقّ الشعب الليبي في تقرير مصيره، واختيار من يمثله على سُدة الحكم، ما أدى إلى بتر ذراع السوء الطولى للقذافي، وإعطاب منظومته الإجرامية وكفـّها عن تمويل عملياتها، باستجلابها للمرتزقة، وشراء الأسلحة الكاسدة من مخازن روسيا، والسوق السوداء العالمية لهذه البضاعة الفاسدة، لقد كان بالإمكان أنْ يتمّ التعديل في مشروع هذا القرار الذي حمل عدة بنود، وخاصة ما يتصل بأموال الشعب الليبي المُجمّدة بالخارج، ولو بالتلاعب والتحايل السياسيين في صياغة وصناعة هذا البند، فمثلما ظنّ "سيف أبيه" بأنّ قرار حماية المدنيين رقم 1973، لا يبيح لقوى التحالف استعمال القوة ضد ميلشياتهما، في حين أنه كان قراراً جامعاً ومانعاً ومرناً جداً، لدرجة أنه لو شـُدّ من طرفيه لا ينقطع أبداً بل يزداد تماسكاً وليونة، كلما زاد "القذافي" رعونة، كما أنه يكفل للثوّار حقّ تسليحهم، إنْ لزم الأمر، وهو لازم الآن، غير أنّ القرار 1970، وما نصّ عليه من تجميد، هو ما يحدُّ من طموحنا ويقف حائلاً دون ذلك (زي البخت)، ويُؤخر النصر الذي يتطلب تدجيج الثوّار بأفضل العتاد، فمثلما تسرب التقدير الخاطئ إلى جُمجمة ذلك السفيه العارية- سيف التسويف- تسرب إلى بعضنا أنّ قرار تجميد أموالنا التي هي من حقنا، هو أمرٌ هيّن، ولم يدرك بأنّ رفع هذا القرار عن كواهلنا، يستدعي قراراً دولياً وتوافقياً أخراً، ينسخه، لكنّ لهذا الناسخ شروطاً ينبغي توافرها وبروزها على سطح الأحداث، أولها سقوط "القذافي" عنوة أو تنحيه عن السلطة طواعية، وقد يتأخر حتى بعد ذلك إلى أجلٍ غير مُسمَّى ولا مُلقـَب، مثلما قُيّد العراقيين بالقرار الذي أعقب عاصفة الصحراء في سنة 1991 ميلادية وإلى الآن، على الرغم من زوال حكم "صدّام حسين" المسؤول الأول عن تلك الكارثة، لأنه يندرج تحت لائحة العقوبات.
يظهر ليّ أنّ المرمى الأساسي من خلال تجميد أموال "القذافي"، هو حرمانه منها، وقد يكون ذلك صحيحاً، بل هو قطعاً كذلك، وله فوائد كثيرة كما ذكرت، ولكن من يتمتع بالدهاء والحنكة السياسيين، يعرف كيف يطوّع هذا القرار، فيجعله يعود عليه بالفائدة من دون أخفض ضرّر قد يلحق به، وهو ما يزال يُعصَر وقبل أنْ يُودَع في ثلاجة مجلس الأمن ويُجمَّد في البنوك العالمية، بإضافة مثل هذه العبارة: "نطلب بصفتي ممثلاً شرعياً للشعب الليبي، تجميد الأموال التي هي في حسابات القذافي ومصادرتها وإعادة ملكيتها إلى الشعب الليبي، فلا تـُصرَف إلا لما فيه مصلحته، ولو باستثمارها فيما يوفر الحد الأقل من الحاجات الأساسية، تحت إشراف مجلسكم الموقر"، بل إنّ هذه الإضافة غابت عن ذهن السيد "شلقم" وهو يسرد للمجتمع الدولي محنة الشعب الليبي وما يقترفه بحقـِّه المجرم الدولي "اعميرينه"- بعدما انشقّ عنه- ويطلب إلى العالم أنْ يتدخل ليحمي شعبنا الطيّب من جبروت الطاغوت، أفما كان الأدعى سياسياً به وبنا، بعد أنْ فرغ من تلك المرافعة الشعبية، أنْ يضع هذه الفقرة على رأس مطالبه، وهو يعلم كأيّ سياسي حكيم بأنّ اتخاذ إجراء كهذا (تجميد الأموال) هو سُنة دولية متفقٌ عليها، وتـُتخَذ في مثل هذه الأحداث، أي عندما تنشب الصراعات السياسية الإقليمية أو الأهلية، كإجراء دولي تقليدي ومتعارف عليه.
فهذا القرار الدولي، لم يكُ طفرة لا في مكانه ولا في وقته من (طواجين) مخبز مجلس الأمن، بل هو قرار كلاسيكي ومعتاد، يأتي إثر أية أزمة دولية وهناك شواهد كثيرة على ذلك، ويعد نوعاً من العقوبات الدولية التي تسبق العمل العسكري، وفي هذه المرحلة الثورية التي تشهدها الساحة العربية، حدث مثل هذا القرار، ولكنْ ليس بصفة دولية بل في علاقات الدول البينية، حيث جُمِّدت أموال "مبارك" وقبله "بن علي" في بنوك أمريكا وأوربا، بعد الثورة في بلديهما، ولعلّ "القذافي"- قارون وفرعون ونيرون العصر- كان الأكثر دهاءً في الشرّ، وذلك ليس بغريب عنه، لكونه قد عاصر العديد من الحروب والثورات وأخذ منها الدروس، لذلك احتفظ برصيد نقدي هائل من العملات الصعبة بالإضافة إلى استيلائه على احتياط "ليبيا" من الذهب الخالص، ليقوم بتسييله بدمه البارد والمحروق- قد يجتمع النقيضان في شيء واحد، فلا عجب إذاً من تصادم هذين الوصفين- لضخّ عمليته العسكرية ضد شعبنا، فيضمن بذلك القدرة على مواصلة هذه الحرب، من دون أنْ تؤثر عليه من حيث التمويل، ورفدها بكل ما يستطيع.
إنّ الدهاء السياسي كان يقتضي من سيادتك، ألا تسقط حقاً للشعب الليبي مقابل الحصول على حقّ آخر، ولو سوِمت في سوق النخاسة السياسية وخُيّرت فيما بينهما، فحماية المدنيين بتصورك كانت الأولى بالتحقيق، لكنها بتصوري المنطقي وقصيّاً عن المكر الدبلوماسي، ألفيها لا تفرض عليك التهاون ولو من باب المجاملة والعفة التي يعرف بها العرب: "إن كان صاحبك- مجلس الأمن- عسل ما تلحسش كله"، فلعلـّك أوليت عناية أكثر بمبدأ تسيّيل دماء الليبيين قبل أموالهم، لأنّ الاحتقان الذي أصاب هذا الشعب والغليان الذي فارت منه دمائه هو من جعل "القذافي" يحاول تجميده و(تجليطه) بالتقتيل، هذا في حال أنّ المساومة هي من دفعتك إلى ذلك، لكن إنْ كانت هفوة سياسية من لدنك، لأنك لم تلتفت إلى هذه القضية العويصة، فلا عليك لأني سأعثر لك على عُذر في النهاية، فربما فداحة القمع الذي قابلت به ميلشيات "اعميرينه" مواطنيك، (ذهبت شيرتك) وهي من جعلتك ترتجل في تسمية تلك المطالب من دون أنْ تتطرق إلى هذه الحقيقة، وخوفك على أبناء بلدك هو من جعلك تهتم بتوفير الحماية لهم، وتغفل عن هذه المسألة، ففداؤك أموالنا وفداء لشعبنا، لأنّ معركتنا مع هذا المستبد، هي بالأساس مسألة كرامة قبل كل شيء، وهذا لا ينفي حقيقة خروجنا عليه في هذه الثورة المباركة لتحسين أوضاعنا الاجتماعية، وعلى غرار قولنا: "اللي رقد الستين.. يرقد الستة" أو كما قالوا، أقول: "اللي رقد الاثنين وأربعين.. يرقد الأربعة"، فكما أخبرتك تذكـّر جيداً، تصحيحي لما أرسلته أنت من رسالة لـ"اعميرينه" في معرض كلامك في تلك المرافعة، "عمر المختار" لم يقـُل: "نحن قوم لن نستسلم.. ننتصر أو نموت"، بل قال: "ننتصر أو نستشهد".. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد.
بقيّ سؤالٌ، يطرح ويجمع ويضرب نفسه، ولا يقبل التقسيم: "هل تجميد الأموال، مرهونٌ بتكلفة العملية العسكرية، أي لا يمكن للدول الغربية أنْ تزيد من حرارة ثلاجاتها كي تذيب جبل الجليد، فلربما فاقت التكلفة حجم أموالنا؟.
بنغازي: 15/6/2011

الاثنين، 13 يونيو 2011

الذين لا يستحون

الذين لا يستحون، لا تستقيم ظلالهم حتى وشمس الحقيقة راسية ورأسية فوق رؤوسهم في رابعة السماء، وفي شهر يونيو القائظ الجاري من هذه السنة، من كانوا مع "القذافي" وقد آمنوا بأطروحاته وأفكاره في يوم ما، ما الذي جعلهم لا يستحون- من صنيع أعمالهم التقليدية، فهي تتشابه مع أعمال أية عصابة تعمل لصالح دكتاتور- بعدما فاح ظلمه وجوره وزيف مبادئه، التي أعلن عنها كمهام للجانه الثيرانية الهائجة؟، ففي أدبيات كتابهم ذي اللون الأخضر، أنّ فكر العقيد يناهض وبقوة الأنظمة السياسية في العالم جميعها، لأنها لم تحقق الديموقراطية بتصوره، لكونها- والكلام على لسانه وفي فصله الأول من كتابه- أنظمة نيابية، وقد عرف العالم في ظلها، أعتى النظم الدكتاتورية، وأنه سيدهم يُمقت حكم الفرد والتوريث.
قد يكون رفع مثل هذا الشعار، سبباً أو مبرراً لجرِّ الكثير من الشبّان طواعيةً، خلف عربة نظرية "القذافي" غير الفطرية، حتى تشبعوا بها وأصابتهم التخمة التي ظهر إفرازها وقيئها في أساليب تعاملهم الجائر والتعسفي ضد المخالفين لها من أبناء ليبيا في الداخل والخارج؛ لقد غرّر "القذافي" بهؤلاء الشباب وعزّر بهم منظومته الكبحيّة، وجعلهم أدوات للقتل والسحل منذ أنْ أصدر كتابه الأخـ(ط)ـر في نهاية سبعينيات القرن المنصرم، وأعدهم في معسكرات لهذا الغرض، حتى أنّ أحد هؤلاء أخبرني بأنه بعدما خضع لدورة عقائدية استمرت لمدة أربعة شهور متواصلة وهو محتجز مع زملائه بداخل أسوار أحد هذه المعسكرات، أنه بمجرد أنْ خرج في عطلة أسبوعية إلى إحدى حدائق المدينة، صار يرى الناس أمامه مثل قرود (أعزكم الله)- لا تستحق الحياة في وعلى أرض "الجماهيرية"، وربما هذا ما حمل "القذافي" على محاولة تهجيره للشعب الليبي إلى تلك القارة، فهو يرانا على هذه الصورة التي بثـّها في أذهان صبيانه وعبيده، بل إنه بالغ على طريقة: اكذب واكذب ثم اكذب حتى تصدق كذبتك، في نظرته لنا حتى أنه اعتبرنا محض جرذان لا وسيلة مثلى للتعامل معها إلا بتسميمها بسموم القوارض وهذا ما ارتكبه بالفعل في "مصراتة" حيث إنه رمى بهذه المبيدات في خزانات مياه الشرب- لكثرة ما تعرّض له من تخدير ونزع  لمشاعره الإنسانية، فقرّر الفرار من هذا الجحيم الذي يمسخ البشر إلى حيوانات وكل متحرك إلى جامد بكـُرتِه وفكرتِه السحريتين.
الذين لا يستحون، هم من كذبوا وسرقوا وقتلوا ونفذوا كل تعليمات قائدهم وقاتلهم أولاً (قاتل معنى الإنسانية في قلوبهم) منذ أن تحوّلوا إلى كائنات ممسوخة لها صفات البشر وتعمل بغرائز حيوانية، لأنهم هم من زحفوا على بطونهم في زحفهم الأخضر على دولة ليبيا الأولى القائمة على مؤسسات المجتمع المدني، فـ"القذافي" لم يجمع حوله إلا زمرة من الذين لا يستحون ولا يتورعون ولا يرعوون، ولا يخشون في "معمر" لومة لائم ولا دعوة صائم، ولا يتوانون عند فعل أية آثمة، فهؤلاء الذين لا يستحون هم من نفذوا تشريعاته الهمجية وقوانينه التعسفية وفي مقدمتها قانون رقم (4)- اللي خللا ليبيا امقربعة- لعام 1978 الذي كان مُدوناًً في لائحة قوانينهم المقدسة على جدارية ما كان يُسمى بعمارة الأملاك العامة ببنغازي على هذا الشكل (4/78م) حتى قبيل اندلاع ثورة 17 فبراير المجيدة بقليل، التي مسحت أي أثر وندبة لعار على جسد بلادنا ممثلين في هذه الشعارات وكل ما يمت بصلة لهذا العهد الحاقد، الذي يبرز حقده في إصراره على الإساءة لرموز ليبيا قبل الانـ(ك)ـلاب الأسود حتى أخر خطاب له، ووصفه للعهد الملكي بالبائد، على الرغم من عدم وجود أي تهديد منهم على نظامه الخرِب، غير أنّ المستغرب هو إخراجه منذ عام أو اثنين فقط لتسجيل بائس في أيام انقلابه الأولى عرض فيه تنازل وليّ العهد الملكي لحقه في السلطة للزمرة الانقلابية، ليضفي "القذافي" على حكمه الشرعية المفقودة، فذلك الإقرار أو هو التنازل ما جاء بكل توكيد إلا نتيجة لممارسة الضغوط على صاحب الحق الشرعي.
الذين لا يستحون قلّ حياؤهم- وقلّ وجودهم في بلادنا- وانتفى من عقائدهم إلى درجة أنهم وبعد زحفهم السبعيني الأول، لم يتطوروا مع بداية الألفية، فما أنْ أعطاهم "الأخطبوط" الأمر بالزحف بالملايين، حتى خرجوا علينا من مكامنهم وبدؤوا في مواصلة زحفتهم الأولى، ولم يأمرهم بالتحرك ربما لأنه يعلم بأنهم قد شاخوا وصاروا أصلاً لا يجيدون إلا لعبة الزحف، فانطلقوا من حفرهم وارتموا على بطونهم الكبيرة من جراء ألتهامهم للسحت من غنائم زحفتهم الأولى وعلى رقعة شاسعة وبأكثر عدوانية، إذ استهدف الزحف في هذه المرة الشعب الليبي من دون تمييز، وسلاحهم فيه الاغتصاب للأجساد والأرواح والأعراض، فالزحف صنو الاغتصاب، والاغتصاب ليس بجديد على الذين لا يستحون، فهم يغتصبون الأموال ويغتصبون الأملاك، ولا هو بصنعة جديدة على "الأخطبوط" الذي مد زعانفه على امتداد الأرض الليبية، فاعتصر عنقها واغتصب هذه البلاد أرضاً وحكماً.
الذين لا يستحون هم من ينفذون ما أمرهم به من تيبس الحياء والحياة في وجهه، وتشققت أنابيب نهره الصناعي، فتقشّر وأسفر عنه وجهه الحقيقي، ولم يبقَ له من ماء وجهه سوى قطرتين اثنتين ربما ستسقطان ندماً لا حزناً قريباً من عينيه، اللتين يخفيهما وراء نظارته السوداء التي لا ترى حقيقة الواقع، الذين لا يستحون هم من ظلموا أنفسهم، الذين لا يستحون هم من اكتشفوا زيف ما تعلموه وتلقوه في معسكرات قلة الحياء والدين، وبأنّ القمع والدجل اللذين حاربوهما في الأنظمة الديموقراطية، صارا متجليين في حكم عقيد عقيدتهم ولم يكفروا بها، ولم يرجعوا عن غيّهم وصلفهم، الذين لا يستحون هم الذين لا ينتقمون ممن فعل بهم وبأهلهم هذه الجرائم، ولو بهجره واقتلاعه من قلوبهم وطرده خارجها، فقط.
بنغازي: 13/6/2011

الخميس، 9 يونيو 2011

لا وصاية على الثورة

يقولون: "مهما قدَّموا من قرابين على مذبح الحرية، فإنّ الثوّار بمفردهم لا يستطيعون أنْ يصلوا بمركب الثورة إلى برِّ الأمان بالاستغناء وبمنأى عن دور المثقفين"، وهذا الرأي يعطي إشارة ذات دلالة مُضمرة تومض بلون الخطر الأحمر، ويحمل رسائل مُشفرة تقول بأنّ هؤلاء الثوَّار لا يُحسِنون فنّ السياسة، وتضعهم في قالب الدهماء والهمجية وأنهم- وحاشا لكل ثائر- محض شرذمة من المتهورين والمغامرين وعصابة من القتلة المتوحشين، أو على الأكثر، تترفق بهم وتقولبهم في إطار الباحثين عن الشهرة والمجد بتخليدهم كشهداء وذلك في أحسن الأحوال والظروف، لذا فهم يقومون من تلقائهم بدور تطوعي وإقدامي وانكشاري يأخذ الطابع الحربي، حتى يتم القضاء على آخر مظاهر الحكم الاستبدادي عند تحطيم الصنم، ومن ثم- يضيف من يقول بذلك- يفسحون المجال أمام المثقفين ذوي الدراية والعارفين بخبايا وخفايا الأمور، لأجل أنْ يقوموا بواجبهم التنظيمي للنهوض بالبلاد من كبوتها.
إلى هذا الحدِّ، من الممكن استساغة وقبول هذا الرأي، الذي يُفسّر ولا يواءم بين دوري الثوّار والمثقفين، غير أنّ الشواهد تقول وتشي بشيءٍ آخرٍ، إذ قد يُتجاوَز هذا الفاصل بالانتقال إلى الخطة الثالثة بعد الفداء بالدم وتأسيس الهيكل السياسي، إلى إتمام عملية إقصاء الثوَّار، واستيلاء المثقفين بمن فيهم النشطاء السياسيين على أذرع وأفخاذ ومفاصل ورأس الحكم في البلاد، كأوصياء على الثورة، ربما لأنهم يضفون على أنفسهم لبوس الحكمة والسيادة والجدارة بالريادة.
القول بأنّ المثقف لما يتمتع به من ذهنية نيّرة وأفق واسع يجعله في محل الوصي على الثورة، قولٌ بائد لا أساس له من الثورة، فالثائر الذي كسر جدار الرعب على أية سلطة استبدادية- بكل توكيد- وصل إلى ثقافة من نوع آخر، تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة المتنطعين- حتى أخر لحظة قبل اشتعال الثورات- بمنطق الحوار، وكسب ما يمكن كسبه من سلطة العته وجنون القوة، فمثل هذه الثقافة التي وصل إليها الثائرون والفدائيون، الذين أخذوا على أيدي جلاديهم وثاروا على أعوام من الإجحاف والقهر، تعد فلسفة جديدة تفوق كل وصف، فلو عرف كل حاكم إنه إذا (تدكتر) فإنّ وراءه شعب سيثور عليه لما وُجـِد على الأرض دكتاتور واحد، وهذا ما يجعل هذه الثقافة فلسفة جديدة بالفعل، لأنّ ثقافة التصالح والتحاور مع الطغاة هي ثقافة شائعة وموغلة في القِدم، ولم تردع ظالماً واحداً، وقد أثبتت فشلها بالمقاييس كلها، بل إنّ الدنيا عرفت في ظلِّها مولد طاغية آخر مع طلوع شمس كلِّ يوم جديد، ولهاتين الثقافتين أصلٌ في تاريخ الأنبياء والسلف الصالح، ولعلّ في قصة سيدنا موسى وأخيه هارون عليهما السلام، مع فرعون تفصيل لثقافة الحوار مع الطغاة في أول لقاء لهما به، حينما طلب إليه أنْ يُخرج بني إسرائيل معهما، لكنه أبى وزاد عتواً وعتهاً وكفراً، إلى أنْ ثار عليه بنو إسرائيل بقيادة سيدنا موسى ولقيّ مصرعه غرقاً، وكذلك ما جرى مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مع جهابذة الكفر في الجزيرة العربية فقد جادلهم بالتي هي أحسن حتى أذن الله له بقتالهم، ولا ننسى خطبة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، لما بُيع خليفة للمؤمنين: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوّموني"، فقام رجل وقال : "والله ياعمر لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا"، فقال رضى الله عنه: "الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر بالسيف ".
من هنا، لا أحد يحقّ له أن يدّعي الوصاية على الثورة في ليبيا، تحت مسمى المثقف أو أن يستعمل أية ذريعة أخرى، ولو كانت حجته في ذلك أنه الأقدر على الحفاظ عليها، هذا لا يعني أن يكسب الغنائم لنفسه، فهي في الأساس من حقّ المجاهدين في ساحات الوغى والمؤلفة قلوبهم، ومع ذلك، ولأنّ المثقفين لم يشاركوا في ميدان الثورة وتقاعسوا حتى عن جهاد (دفع الضرّر) حينما وصلت ميلشيات "القذافي" على مشارف بنغازي وغيرها من مدننا وقرانا الليبية، كان عليهم على الأقل، أن يسهموا في إشعال فتيلها بالكلمة، غير أن حتى هذا لم يحدث ولم يمضوا في طريقه.
وفي زمن ثورة المعلومات صار من الغباء والحمق أن يحتكر المثقف العلم والمعرفة لنفسه، خصوصاً في هذا الوقت الراهن من الثورات الشعبية العربية، إذ أنّ أغلب الثوّار الشباب هم من الطبقة المتعلمة والمثقفة، وليس أدل على ذلك، من اختيارهم لنهج الثورة سبيلاً للتغيير وإقامة دولة القانون والفصل بين السلطات، بعدما سئموا لغة المثقفين التقليدية والمتهاونة والمهادنة والمداهنة، وأيقنوا بأنها لن تجدي نفعاً، حتى سبقوهم بمراحل كثيرة اختصرت سني ووقت معاناة الشعب الليبي.
بنغازي : 8/6/2011 





ليبيا في الاستراحة ما بين الشوطين

المشهد السياسي الليبي العام والراهن، يجعل ملعب كرة القدم بالمدينة الرياضية ببنغازي، يرتسم قبالتي الآن، بخطوطه البيضاء وأرضيته الصناعية الخضراء، وباللاعبين وهم يدوسون على لون علم "القذافي" الأخضر المرسوم على مستطيله الكبير؛ فالوضع القائم والطارئ في فترة استراحة المحاربين، وما يشهده من تجاذبات وتنافرات بين أقطاب الرؤى من سياسيين ومثقفين وعوام، أشبه ما يكون بفترة استراحة اللاعبين، بعد إطلاق الحكم لصافرته إيذاناً بانتهاء الشوط الأول، وتشغيل مُكبِّرات الصوت- المنتصبة كخوازيق، مثل هوائيات التجسُّس في العاصمة الرومانية (بوخاريست) أيام حكم الديكتاتور (اتشاوسيسكو) في كل ساحة، التي أرعبت الشعب الروماني في فترة الحكم الشيوعي لمدة طويلة، وعندما سقط الصنم، تهاوت معه هوائياته، لما اكتشف الرومانيون بأنّ هذه الهوائيات، كانت مجرد أعمدة مصمتة وفارغة حتى من الهواء، فلا أجهزة تنصُّت ولا تصوير فيها، فمن أين لدولة مثل رومانيا الشيوعية المتخلفة عن ركب الصناعة آنذاك بمثل هذه المعدات المتطورة؟ هذا السؤال الذي لم يتبادر إلى أذهان الرومانيين وقتذاك، ولو طرحوه أرضاً، لما وجد الخوف إلى قلوبهم مسرباً- على أغنية (دوم وطني ربوعه نايره.. ويرفرف علمه حر/محمد حسن) فيما كانت أعمدة الإنارة الثمانية التي تحوط بالملعب وما تحمله من مصابيح كاشفة لا يعمل إلا ربعها فقط، فأي نور هذا الذي يعنيه في زمن الظلام الحالك الذي خيّم بسواده على بلادنا؟.
فبمجرد أنْ ينسحب ساكنو الملعب الخمسة والعشرون (22 لاعباً و3 حُكّام) إلى الأماكن المُخصَّصة لهم، يعجُّ الملعب بلاعبين آخرين من دكة البدلاء للإحماء، وببراعم صغار يلبسون غلالات الفريقين، جيء بهم لإرجاع الكرات بعد التمريرات التي تخطئ وجهتها خارج خطوط التماس والحماس، والتسديدات غير السديدات التي تعلو العارض الأفقي، فتسقط في مضمار المجاري الذي يحوط بالملعب، كقذفات اللاعبين "سعد الفزاني" و"رمضان البرناوي" التي قد تسقط على المدرجات من شدة قوتها- عمركم شفتو ملعب في مجاري إلا في بلادنا؟- في غياب أو تقاعُس العامل المُكلّف بهذه المهمة "ابلال"، فيتجزأ هذا الملعب الكبير إلى عدة ملاعب صغيرة، تمارس فيه كل مجموعة هوايتها، وهي تتخيل بأنها تشارك في هذه المباراة وبأنّ لها دوراً فاعلاً في مجرياتها، وقد يؤثر في نتيجتها التي لم تــُحسَم بعد، بما فيهم حتى بعض الجمهور، الذي يتجرأ وينزل من المدرجات إلى هذا الملعب الكبير، فيما رجال الشرطة يلاحقونه ويحاولون منعه من الوصول، فتفرَّغ شباك كثيرة ممتلئة بالكرات بينهم، وترى جزءاً كبيراً من الحضور ينسجم مع ما يراه من مهرجان كروي كبير مُتعدِّد السِّمات، يستمر زهاء العشر دقائق أو يزيد عن ذلك بخمس أخريات، وتتنوع فيه المهارات الكروية من تسديدات وركلات جزاء وهمية ومراوغات وفنون ومهارات فردية، حتى أنّ المؤيدين للفريقين يتفقون خارج الوقت الرسمي للمباراة على التصفيق لما يرونه من إبداعات، فيخال هؤلاء الذين يتحاورون مع الكرة ما رجوه، ولكنْ ما أنْ يروا الحكم وزميلاه قد قدِموا من غرفتهم، وقبل أنْ ينادي على اللاعبين بصافرته كي يعودوا إلى الملعب، حتى يُغادر الجميع الميدان، ويتركون الساحة الخضراء للمتنافسين الأصليين، وفقاً لقانون الملاعب.
ففي غياب صياغة الدستور الليبي وقبل أنْ تضع الحرب أوزارها، ويتم التحرير الكامل للأرض الليبية من دنس زعيم لصوص الصحراء والأربعين حرامي، الذين أغاروا معه على مدننا في ليلة ظلماء وسلبونا كل ما نملك، وهروبهم وإياه على نوقهم وبغلاتهم بأي اتجاه سيختارونه ما عدا الشمال، لئلا يبتلعهم البحر الأبيض المتوسط، وقد يركبون الأمواج معه وتحت إمرته كرُبَّان أو هو قرصان أعور في قوارب صغيرة للنجاة بنفوسهم جنباً إلى جنب مع الأفارقة، في هجرة غير شرعية قد ترمي بهم على الشواطئ الإيطالية أو الإسبانية، مخلفين وراءهم النوق والبغال، التي هي من إرثنا وممتلكاتنا، سيجد الكثيرون المناخ الليبي الشبه صحراوي مناسباً، لأن يبحثوا فيه عن موضع قدم يغرسون فيه نخلات رؤاهم وأفكارهم وتطلعاتهم السياسية من دون حتى سقاية، فيرويها عطش الشعب للحرية، وقد يزيد هذا الأمر في الدعاية لمشروعهم السياسي قبل نشأة الدولة الليبية الجديدة، دونما أي قيد ولا أية محاسبة، في غياب القانون المنظم لهذه المسألة والمُفسّر للدستور الذي سيحكم البلاد، ففي هذه المرحلة الانتقالية الأولى- التي تسبق الإعلان عن هزيمة النظام ورفعه لراية الهزيمة الخضراء بدلاً من البيضاء، لأنها منذ أنْ خفقت في مدننا ومياديننا، خفقت قلوبنا بالحزن ولم نعرف النصر يوماً- يجدر بالسياسيين استثمار هذا المخاض الذي من الصعب التكهُن بمدته، فهو مرهون بيوم سقوط الطاغية، فيما سيعود على بلادنا بالخير، من خلال تبنيهم للخطط الرامية إلى الرسو ببلادنا على شاطئ الأمان، ذلك أنّ هناك مرحلة انتقالية ثانية ستستمر مدة من الوقت بحسب ما يتفق عليه الليبيون، إلى أنْ يتم تشكيل الحكومة القادمة تحت سيادة نظام سياسي ديموقراطي مُحدَّد سيتفقون على معالمه هو الآخر، فاللاعبون في الفترة الانتقالية الأولى، يقومون بالإحماء وبدور مشابه للذي يحدث في الوقت الفاصل بين الشوطين من كل مباراة، فليستغلوا هذا الوقت ليس في ممارسة اللعبة السياسية، بل في تكوينها بالإحماء والدُّربة والمران- فالممارسة هنا لا تجوز قانونياً خارج الدستور- وليبرزوا لنا مواهبهم وأجنداتهم السياسية ورؤاهم الإستراتيجية، حتى يعود اللاعبون الحقيقيون من الثوّار إلى دورهم الأول في متابعة إلحاق الهزيمة بميلشيات "القذافي" بعد أنْ يخرجوا من استراحة المُحارب، التي هم عليها منذ فترة، في جو قائظ على جبهة الأربعين التي سينتهي عندها حكم الأربعين سنة والأربعين حرامي مع "معمر بابا"، ما مكّن هؤلاء السياسيين من استثمار هذا الركود الحربي والميداني في الجانب المدني غير المنظم ولا المؤثر، إلا بعد أنْ تعلن صافرة النهاية وقد تكلل النصر على أيدي ثوارنا البواسل، فيستريحون ويعودون إلى ثكناتهم، هذا بالنسبة للعسكريين منهم، أما المتطوعون فسيعودون إلى سابق أعمالهم وتخصصاتهم المدنية، وقد يشاركون هم أيضاً في النشاط السياسي المدني ورسم معالمه على الخارطة السياسية الليبية، ذات المليوني كيلو متر مربعاً، والخمسة مليون نسمة، وحتى ذلك الوقت، يصعب على المتتبع للشأن الليبي أنْ يمتدح أو يدين أيَّ حِراك يقوم به المجلس الوطني الانتقالي، لظروف عسيرة يمرّ وتمرّ بها بلادنا، في ضوء الضائقة المالية والضغط السياسي والاجتماعي اللذين يقعان على كواهل أعضائه، الذين تعهدوا للشعب الليبي بأنهم سوف لن يرشحوا نفوسهم للانتخابات التي ستتلو مرحلة التحرير الكامل لكل شبر من ليبيا، مفسحين المجال أمام القِوى السياسية التي ترغب في ممارسة حقوقها بما يصبّ في مصلحة البلاد والعباد.
بنغازي: 6/6/2011



الأحد، 5 يونيو 2011

الثوّار في ليبيا يهزمون مرتزقة الثقافة

لم يدعُ مثقف ليبي واحد إلى الثورة أبداً، مثلما لم يفعل أي مثقف عربي، في تونس ومصر واليمن وسوريا، وإنْ كتب بعضهم شيئاً من هذا، قبيل تفجّر ثورة 17 فبراير في ليبيا، فإنه لم يكُ سوى تحصيل حاصل لواقع اجتماعي أجاد قراءته، بعد تنادي الليبيين على صفحات الفيسبوك، ومن خلال احتكاكه بفئة الشباب وملامسته للإصرار البادي في همّتهم، فهم خرجوا على نظام "القذافي" ثائرين ومتأثرين بالتجربتين الثوريتين التونسية والمصرية، اللتين كما أخبرتكما، لم يكُ لأي مثقف فيهما أي تأثير عليهما أيضاً.
الجميل في الثورة الليبية، إنها لم تكُ مؤدلجة، والأجمل من هذا، أنها أفقدت العديد من مُدعي الثقافة حقّ الوصاية، الذي حاولوا أنْ ينتزعوه من إرادة العوام، بكتاباتهم التي لم ترتقَ في يوم ولا مرة إلى الدعوة إلى الثورة لا سراً ولا علانية، فكانت مجرد تعبيرات سقيمة مُقلدة لما جاد به المثقفون العرب من عهود سابقة تكرّس مبدأ المعارضة في شخوصهم لا أكثر ولا أقل، ومهما علت مستويات الكتّاب والمثقفين لدينا، فهي لم تصل البتّة إلى درجات النقد المباشر، الذي يستهدف رأس السلطة، الذي وظب عليه الأولون في بلدانهم، ومع اعترافي بهذا الجهد الشجاع والصبور، الذي بذله مثقفون عرب كبار مثل "الماغوط" و"مطر" و"شكري" وغيرهم، إلا أنني لم ألمس يد الجدوى، قد نتجت عن كتاباتهم، بسبب تعطيل الدافع الذاتي لدى الجماهير العربية- وقصورها عن المواجهة- التي خُدِرت بحقن الخوف والرعب، واتكأت طويلاً على جدار الخوف منتظرة الفرج من مثقف، يفتح لها فـُرجة في هذا الحائط، لكنه لم يحضر، فعوّلت على معاولها وأزاميلها، ودكّته دكاً بثورتها غير عابئة بالقادم الذي لم يأتِ.
الكثير من المثقفين في "ليبيا" في هذه الآونة، راحوا يسوّقون لأنفسهم ويعلنون عن انضمامهم إلى الثورة، وتشعلقهم في مؤخرات آليات الثوار، كي لا يدفعوا (ربع دينار) واحداً ثمناً لتخاذلهم السابق، بل بلغ بهم الأمر إلى الإدعاء بأنهم في جُلّ نتاجهم الأدبي، الذي سبق الثورة الليبية، عملوا على حثّ الشعوب على الثورة العارمة ضد المستبد، ولجلاء هذا الأمر ما على القارئ إلا أنْ يرجع إلى كتبهم ويراجع سطورهم، ويضني نظره وهو يمرّره ما بين السطور، لأنهم يزعمون دوماً بأنهم يموهون كلماتهم ما بينها، ليستبيّن هذا الخداع والمراوغة، بشرط أنْ يقتنوا الطبعات الأولى لكتبهم، أي قبل يوم 17 فبراير 2011، وأتحدى أي كاتب منهم إنْ وُجِد في كتبه أيُّ ملمح واحد للدعوة إلى الثورة، ولتعطوهم الفرصة أكثر، اطلبوا إليهم أنْ يزودوكم بمخطوطاتهم التي لم تطبع بعد، وسبقت هذا التاريخ المشار إليه، بعد أن تأخذوا عليهم العهود والمواثيق بألا يزوروا ويحرفوا فيما كتبوه بخطوط أيديهم، ولعلي أغامر بهذا التحدي، إذ أكون قد ظلمت نفسي قبل ظلمي لهم، لو أدّعيت بأنني أطلعت على كلّ أو جلّ ما كتبوه، ومع ذلك، إنْ ألفيتم في تفاصيل نتاجهم أية عبارة من هاتين: (ثوروا على مستعبيديكم) أو (الحلّ في الثورة الشعبية) أو أيّ تصريح آخر، ربما يجيء في نسقهما وسياقهما، فإنني مسؤولٌ على نفسي، ولن أتهرب من هذا التحدي.
وبيت القصيد هو أنّ هؤلاء لم يكونوا قد توصلوا إلى مفهوم الثورة وموجباتها، أو لخشيتهم من أنْ يحرموا من المنزلة الاجتماعية، التي تحصلوا عليها بفعل ما في نصوصهم الأدبية (المقالة والرواية والقصة والشعر) من نقد لبعض الخلل في منظومة الحكم في ليبيا، واصطياد زلات بعض المسؤولين، ولا يتجاوز هذين الأمرين إلى إرساء أبجديات ومفاهيم الثورة والعمل على إشاعة أدبياتها بين القراء، بل أحياناً تجد المثقف يحترز من أنْ يقع في هذه الورطة، التي سيكون لها مردودان سيئان على مسيرته الإبداعية، فإما أنه يخشى على نفسه من قمع السلطة الحاكمة، أو لأنه بذلك سيمارس على نفسه عملية إقصاء ذاتية، من شأنها أن تؤفل نجمه بين جمهوره، فلا يجد له حرفة يعتاش منها أو يشبع بها غريزة غروره.
لقد دأب الكتـّاب في ليبيا على تعداد أخطاء السلطة ومحاولة إيقاد الطريق أمامها لتتدارك زلّاتها، ومن ثم، تقوم بإصلاح ما يمكن إصلاحه لتمضي الأمور إلى الأمام والتمام، وأصروا على العمل على هذا الأساس الخجول والمرتبك بعدما ثبت لهم في غير مرة، أنّ منظومة الحكم معطوبة ولا يمكن صيانتها، فلماذا لم يعلنوا الثورة في نصوصهم؟.
لقد هزم الثوّار المثقفين، عند اختيارهم الوقت المناسب والأسلوب الأمثل، للتعامل مع نظام "القذافي" بالتغيير الجذري، الذي حرق كل النصوص من روايات وأشعار ومقالات، ونهضوا قبل فوات الأوان من غفوتهم باعتمادهم على هؤلاء، الذين لم يأتوهم بأي شيءٍ غير الأماني، حتى من يعدون كنشطاء سياسيين في الخارج، لم يشتغلوا على إرساء سفن الثورة الشراعية لا الشعاراتية على مرافئ بلادنا، مع أنهم قد درسوا الثورة الفرنسية وشقيقاتها في أوربا، وحجّموا حراكهم السياسي وأطّروه على نحو فردي، ولعلّ في تصريح الرئيس الفرنسي (ساركوزاي) الذي أعاده في غير مرة ملمحاً مهماً، وجب على هؤلاء النشطاء استخلاصه أثناء عملهم المعارض في أوربا وأمريكا، حيث إنه ألمح في غير مؤتمر صحفي: "على الشعوب العربية أن تتحرك أولاً، لتثبت لنا بأنها أهلٌ للحرية، ومن ثم سيأتيها العون منا".
وحتى من سطّر النصوص في عشق الثورة قـُبيل ثورة الشباب في ليبيا، ما فعل ذلك إلا بعدما فطن إلى أنّ الشعب اختار طريقه وداس على أوراقهم وكلّ كلامهم جميعاً، وجعلها وقوداً يشعل جذوة الثورة المباركة أمام معسكرات القذافي، فتخلص من ربقة ووصية المثقفين عليه، وتذكّر قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة".. فإنْ كنتم تحسبونني من المثقفين، فأنا قد انشققت عنهم، وانضمّمت إلى ركب الثوّار الميامين، لأنّ مثقفينا لم يصلوا إلى الوصفة المُطبِّبة لعلة بلادنا، ولم يخربشوها في نصوصهم حتى بخط صيدلاني هندي، يصعب قراءته، ولم أعثر عليها حتى في نصوصهم المبثوثة عبر مواقع الإنترنيت البعيدة عن عين الرقيب الأمني، فلجأ الثوّار إلى العلاج بالكيّ كأخر دواء، فكانت الثورة (طب عرب) لليبيا والعرب كلهم خارج لعبة المثقفين، الذين ما ثاروا على "القذافي" بقدر ما ثاروا على أنفسهم وثقافتهم البالية.
بنغازي: 5/6/2011






السبت، 4 يونيو 2011

مجنون يحكي وتافه يغني وعاقل يقرأ

ارتفع الهتاف والصراخ، بمجرد أنْ نفض عباءته السوداء، وجلس على عرشه الوثير، في لقائهم الأول به، بعد عودته من أفريقيا، وتدرج الهتاف إلى مرحلة الشدو:
يا قائد ثورتنا على دربك طوالي.. يا امخلي رايتنا خفاقة في العالي..
ويا لال لالا لالي..
لم يتمالك نفسه، وشعر بأنّ الأغنية لا ترتقي إلى مستوى المهمة التي كان يؤديها هناك، فشرع ينظر إلى الأوراق- غير حافلٍ بهم- من خلف نظارته السوداء، التي تـُخفي شخصَ الكذب الماثل في حدقتيهما- فيما كان يتقاطر من على سطورها، حبر بنود الصياغة الأخيرة لـ(مؤتمر الشغبي الغام) على كل شيءٍ، وبعد أنْ أتموا هذه الأغنية، انحنوا له جميعاً، لكأنهم مطربٌ واحد، يُحيّي الجمهور، الذي تمثــّل في شخصه الجالس على عرشه فوق الرُّكح، وبدلاً من أنْ يُصفـّق لهم، رفع أنفه بأنفة المتأفـّف من كراهة ما يشتمّ، من عرق (النفاق)، ووجّه إليهم هذا الخطاب التوبيخي، بهذه الكلمات التي لا تصدر إلا عن جمهور لا يُحسن الاستطعام والحسّ الفني:
"أنتم كذابين.. لو أنكم على دربي صحيح.. راكم طلعتو معايا والشعب الليبي كله في مشيتي لأفريقيا.. واللي يكملن عليه افلوسه منكم في الصحرا.. يوقف في مكانه ويرجاني تحت الشمس.. لين انكمل رحلتي في أدغال أفريقيا وانعود".. ربما كان يخطط لأنْ يذر الليبيين وراءه هناك، إنْ خرجوا معه.
بعد ذلك خطب فيهم خطبة عصماء وبلهاء، تخلّلتها وصلات من الفنون الثورية، التي كان أول عهد لليبيين بها، في أول لقاء جماهيري به، عند ضريح "عمر المختار"، فحاولوا أنْ يعوّضوا عن امتعاضه من الأغنية الأولى، بهذه (الشتاوة) الحارة التي يطرب لها كثيراً: "علّم يا قائد علّمنا.. بيش انحقق مستقبلنا" فيما نافستها (شتاوة) أخرى، يأتي شتاتها من المقاعد الخلفية: "اللي دار للمرأة شان.. عليه انموتو في الميدان*" واستعاضوا في أدائهم لها عن دور (الحجّالة) بثوري عتيد، حزم أمره ووسطه بخرقة خضراء، وحجّل لأكثر من نصف ساعة، حتى التوى خصره وتدحرجت من عموده الفقري فقرتان- بين قدمي القائد، فهرسهما بحذائه العسكري- من جراء هيجانه الثيراني، كلما رأى صورته تنعكس على نظّارته.. ويبدو أنّ حتى هذا الفلكلور الثوري لم يرُق له، فختم هلوسته الفكرية بعد ثلاث ساعات متواصلة، لم يخترقها أي قصًّ خلا قصّه لبعض البنود المُصاغة شعبياً بقلمه الأخضر، وخصوصاً التي تتعلق بصرف المرتبات والميزانية العامة، بعبارته المعتادة: "زين.. والكفاح الثوري مستمر" لكنه في نهاية كلمته، أدار مقعده المتحرك إلى وضعه الأول، لينصحهم بأن يستمعوا إلى رأي الوفد الأمريكي الممثل للكونغرس الحاضر لهذه الجلسة الختامية، ثم استدرك قائلاً: "اسمعوا من الميريكان.. بيش ايعلموكم الديموقراطية" فتنصل من كل هلواساته التنظيرية، غير أنّ التافهين عادوا لشتاوتهم الأولى: "علّم يا قائد علّمنا.. بيش انحقق مستقبلنا" فيما الحجّال الأول، يتأوه ويزحف على أربعه باتجاه المنصة، لينتشل ما التصق من مُضغتي فقرتيه بالفرش الأخضر، بعدما علق الجزء الأكبر منهما بحذاء سيده.
بنغازي: 3/6/2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): لا يعنين له سوى أداة واحدة ليضغط بها على الرجال، منذ حكمه حتى أصبح أهم إنجاز حققه لحرية المرأة الليبية، هو إقحامها في الكلية العسكرية التي جعل مبناها في وسط مدينة طرابلس إذلالاً لكل ليبي يراهن وهن داخلات وخارجات منها، ولم يجهز لهن سوى أحط شأن (الاغتصاب)، ولاننسى أيضاً أنه رسمهن في مخيلة العالم كأمازونات حارسات له.


جاء ليزرعها فدحرته وحلفاءه

عربياً:
في بالي رأيٌ خامرني طويلاً، حتى اختمر عنه هذا السؤال، الذي أودُّ أنْ أطلعكم عليه في هذه المقالة: تـُرى ما جدوى الخطط الخمسينية، التي أطلقها الضُّباط العرب بعد استيلائهم على مفاصل السلطة إثر انقلاباتهم العسكرية، وخصوصاً في حقل الزراعة؟، التي أقرتها حكومات الدول العربية، ودأبت على العمل بها، منذ حصولها على الاستقلال الوطني، زاعمة بذلك، أنها تسعى إلى النهوض بمستويات شعوبها إلى مصاف الشعوب المُتقدِّمة والمُكتفيَّة ذاتياً من الغذاء، والمُصدِّرة للفائض منه إلى بقيّة دول العالم، جانية ومُحصِّلة بهذا، دخلاً من العملات النقديّة الصعبة، التي ستسهَم إلى حدٍّ بعيد في رفاهية شعوبها، حال نجاح هذه الخطط، التي امتدّ العمل بها لفترات مديدات، من غير طائل؟ خصوصاً أنها توسعت ووصلت إلى الصحارى الشاسعة، حيث إنّ هذه المشروعات الزراعية، أُقيمت فوق كثبان رملية تتوزع على رقعة شاسعة من الصحراء الكبرى، المعروفة بقساوة بيئتها غير الصالحة لمعيشة البشر، وينعدم فيها أيّ مظهرٍ للحياة، فكيف لعاقل أنْ يتصوَّر، أنّ بمكنة أيَّاً كان، معاندة الطبيعة، إذا كان لا يملك من السلاح ما يؤهله للصمود في وجه ضراوة هذه المعركة الشرسة على الرغم من سلميتها، إذا افترضنا جدلاً وتجاوزنا عن كل شيء آخر، حُسن الطويّة لدى الحكومات العربية في مسعاها النبيل، هذا السلاح الذي لا يتعدى في حالتنا هذه، الماء الذي هو العنصر الأول في هذه الحملة ضدّ التصحُّر بأشكاله المُتعدِّدة، إلى جانب الكفاءات البشرية والمعدات التقنية اللازمة، فما ظنكم ببلدانٍ مُتخلِفةٍ عن ركب الحضارة، وينعدم فيها وجود هذه العناصر؟.
في الحقيقة، إنّ صحراءنا الكبرى، لم تعاندنا كعرب، لأنها وجِدت قبلنا في شمال غرب أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، ونحن من هاجرنا إليها وابتعدنا عنها شمالاً حيث الأقاليم الشبه صحراوية، فمنذ عصور سحيقات، عصفت بالمنطقة العربية موجات من الحرّ والجفاف حتى تمخضت عنها هذه الصحراء القاحلة، التي كانت جنّات غنّاء، هذا بحسب ما يروي لنا المؤرخون والجيولوجيون، وهناك من الشواهد والأدلة العلمية، ما يثبت صحة نظريتهم، و لست في وارد الخوض في التفاصيل التاريخية المتعلقة بجغرافية وجيولوجية المنطقة، بقدر ما إنني أُسلم طواعية ًبأنّ هذه الجنّات بما تحمله من مواد عضوية، قد طُمِرت في باطن الأرض، لتصير فيما بعد مادة النفط الخام، التي داومت الدول الحديثة الاستقلال على استخراجها واستثمارها في الزراعة- التي يُعرَف نتاجها بأنه المادة الخام الأولى في مجال الصناعة- مكراً وعناداً في هذه الصحراء، التي عوَّضتنا نفطاً عن الماء والغلال الزراعية، لكأن لسان حالها يقول: (لا فائدة من عنادي، ها هو النفط أُخرجه من جوفي، فأحيلوه أموالاً، واعرفوا كيف تستثمرونه في التنمية، إن كنتم صادقين).
ليبياً:
الصحراء وما أدراكم ما هي، أرض المجهول وسماء الأسرار وواحات الفيء والنخيل، قال إنها "لا تنبت العشب لكنها تنبت المبادئ والقيم"، بقصد أنّ منافعها غير مادية بل معنوية، ومع علمه بهذه الحقيقة، حاول أن يُعاند طبيعتها ويحارب جيشها الذي بعديد حبّات رمالها، مُدعيّاً تحويلها غصباً عنها، إلى سهول ومروج وجنّات تسرُّ الرائين وتشبع وتبهج الجائعين، في خطته الخمسينية التنموية الشعاراتية، التي لم تنهض على أية أسس علمية ولا أية دراسة جدوى مستفيضة وجادة، بل تجاهلت حتى الحقائق المعلومة بالبداهة، إذ لا يمكن أن تحيل الأرض البور إلى خضراء في عدم وجود الماء والتربة الصالحة للزراعة، فأقام على رمالها المتحركة بعض المشاريع الزراعية الفاشلة، طبقاً لخطته الخمسينية، فضربت رياح الخماسين (القبلي) خمسينيته، كما تعصف رياح شباب ثورة 17 فبراير به بعد أربعينيته الآن، وحكمت عليها بالفشل.
على الرغم من أنّ الصحراء الليبية، تبدو جرداء ومجردة من أي مظهر للحياة فيها وعليها، إلا أنها كانت أرحم بالشعب من هذا الدّعي، وأماً رؤوم للشعب الليبي، الذي هجرها إلى المدن على الشريط الساحلي الضيق، حيث الممشى على الطرق المُعبّدة والمطعم على الطين الأحمر، لكنها لم تعامله بالمثل، ولم تتنكر له كما تنكر لها، وبادلت جفاءه واستبدلت ثمارها وخضرتها التي هي محض خيال "القذافي" على سطح أرضها، بالنفط الكامن في جوفها، كي تـُرضي ابنها الذي هجرها معتقداً بقسوة قلبها النابض والدافق بالزيت الأسود، فعاد ليقبل ثراها ويبرَّ بها.
ومن حسن حظ الليبيين، أن رزقهم الله بهذه الفيافي والبيداء، التي هي في الجنوب الليبي، كفاصل طبيعي عنيد، يمنع عنهم الأقوام الآخرين، الماكثين في وسط القارة الأفريقية، فو الله لو كانت أرضاً زراعية خضراء، لسهل على "القذافي" أنْ يحقق وعيده للشعب الليبي، بزحف الملايين عليهم كجراد لا يذر لا سائل ولا يابس، حتى في حالة تطبيق قرار حظر الطيران، فكانت كثبانها الرملية متاريس طبيعية ودُشماً عسكرية، تصدّ كل من سوّلت له نفسه المساس بنا.
بقلم : زياد العيساوي
بنغازي: 3/6/2011