الخميس، 9 يونيو 2011

لا وصاية على الثورة

يقولون: "مهما قدَّموا من قرابين على مذبح الحرية، فإنّ الثوّار بمفردهم لا يستطيعون أنْ يصلوا بمركب الثورة إلى برِّ الأمان بالاستغناء وبمنأى عن دور المثقفين"، وهذا الرأي يعطي إشارة ذات دلالة مُضمرة تومض بلون الخطر الأحمر، ويحمل رسائل مُشفرة تقول بأنّ هؤلاء الثوَّار لا يُحسِنون فنّ السياسة، وتضعهم في قالب الدهماء والهمجية وأنهم- وحاشا لكل ثائر- محض شرذمة من المتهورين والمغامرين وعصابة من القتلة المتوحشين، أو على الأكثر، تترفق بهم وتقولبهم في إطار الباحثين عن الشهرة والمجد بتخليدهم كشهداء وذلك في أحسن الأحوال والظروف، لذا فهم يقومون من تلقائهم بدور تطوعي وإقدامي وانكشاري يأخذ الطابع الحربي، حتى يتم القضاء على آخر مظاهر الحكم الاستبدادي عند تحطيم الصنم، ومن ثم- يضيف من يقول بذلك- يفسحون المجال أمام المثقفين ذوي الدراية والعارفين بخبايا وخفايا الأمور، لأجل أنْ يقوموا بواجبهم التنظيمي للنهوض بالبلاد من كبوتها.
إلى هذا الحدِّ، من الممكن استساغة وقبول هذا الرأي، الذي يُفسّر ولا يواءم بين دوري الثوّار والمثقفين، غير أنّ الشواهد تقول وتشي بشيءٍ آخرٍ، إذ قد يُتجاوَز هذا الفاصل بالانتقال إلى الخطة الثالثة بعد الفداء بالدم وتأسيس الهيكل السياسي، إلى إتمام عملية إقصاء الثوَّار، واستيلاء المثقفين بمن فيهم النشطاء السياسيين على أذرع وأفخاذ ومفاصل ورأس الحكم في البلاد، كأوصياء على الثورة، ربما لأنهم يضفون على أنفسهم لبوس الحكمة والسيادة والجدارة بالريادة.
القول بأنّ المثقف لما يتمتع به من ذهنية نيّرة وأفق واسع يجعله في محل الوصي على الثورة، قولٌ بائد لا أساس له من الثورة، فالثائر الذي كسر جدار الرعب على أية سلطة استبدادية- بكل توكيد- وصل إلى ثقافة من نوع آخر، تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة المتنطعين- حتى أخر لحظة قبل اشتعال الثورات- بمنطق الحوار، وكسب ما يمكن كسبه من سلطة العته وجنون القوة، فمثل هذه الثقافة التي وصل إليها الثائرون والفدائيون، الذين أخذوا على أيدي جلاديهم وثاروا على أعوام من الإجحاف والقهر، تعد فلسفة جديدة تفوق كل وصف، فلو عرف كل حاكم إنه إذا (تدكتر) فإنّ وراءه شعب سيثور عليه لما وُجـِد على الأرض دكتاتور واحد، وهذا ما يجعل هذه الثقافة فلسفة جديدة بالفعل، لأنّ ثقافة التصالح والتحاور مع الطغاة هي ثقافة شائعة وموغلة في القِدم، ولم تردع ظالماً واحداً، وقد أثبتت فشلها بالمقاييس كلها، بل إنّ الدنيا عرفت في ظلِّها مولد طاغية آخر مع طلوع شمس كلِّ يوم جديد، ولهاتين الثقافتين أصلٌ في تاريخ الأنبياء والسلف الصالح، ولعلّ في قصة سيدنا موسى وأخيه هارون عليهما السلام، مع فرعون تفصيل لثقافة الحوار مع الطغاة في أول لقاء لهما به، حينما طلب إليه أنْ يُخرج بني إسرائيل معهما، لكنه أبى وزاد عتواً وعتهاً وكفراً، إلى أنْ ثار عليه بنو إسرائيل بقيادة سيدنا موسى ولقيّ مصرعه غرقاً، وكذلك ما جرى مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مع جهابذة الكفر في الجزيرة العربية فقد جادلهم بالتي هي أحسن حتى أذن الله له بقتالهم، ولا ننسى خطبة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، لما بُيع خليفة للمؤمنين: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوّموني"، فقام رجل وقال : "والله ياعمر لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا"، فقال رضى الله عنه: "الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر بالسيف ".
من هنا، لا أحد يحقّ له أن يدّعي الوصاية على الثورة في ليبيا، تحت مسمى المثقف أو أن يستعمل أية ذريعة أخرى، ولو كانت حجته في ذلك أنه الأقدر على الحفاظ عليها، هذا لا يعني أن يكسب الغنائم لنفسه، فهي في الأساس من حقّ المجاهدين في ساحات الوغى والمؤلفة قلوبهم، ومع ذلك، ولأنّ المثقفين لم يشاركوا في ميدان الثورة وتقاعسوا حتى عن جهاد (دفع الضرّر) حينما وصلت ميلشيات "القذافي" على مشارف بنغازي وغيرها من مدننا وقرانا الليبية، كان عليهم على الأقل، أن يسهموا في إشعال فتيلها بالكلمة، غير أن حتى هذا لم يحدث ولم يمضوا في طريقه.
وفي زمن ثورة المعلومات صار من الغباء والحمق أن يحتكر المثقف العلم والمعرفة لنفسه، خصوصاً في هذا الوقت الراهن من الثورات الشعبية العربية، إذ أنّ أغلب الثوّار الشباب هم من الطبقة المتعلمة والمثقفة، وليس أدل على ذلك، من اختيارهم لنهج الثورة سبيلاً للتغيير وإقامة دولة القانون والفصل بين السلطات، بعدما سئموا لغة المثقفين التقليدية والمتهاونة والمهادنة والمداهنة، وأيقنوا بأنها لن تجدي نفعاً، حتى سبقوهم بمراحل كثيرة اختصرت سني ووقت معاناة الشعب الليبي.
بنغازي : 8/6/2011 





0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية