الأربعاء، 15 يونيو 2011

أين الحنكة الدبلوماسية يا شلقم؟

مرّ الشتاء، فغسلت المطر دماء شهدائنا ومزجته بتراب بلادنا حتى احمرّت ذراته ونبتت منه زهرة، فتركنا الربيع مُستخلِفاً وراءه أمانة، علّقها طوقاً مُلوناً في أعناقنا، هي الثورة المزدهرة حتى النصر- عمر المختار لم يقـُل يا سيد "شلقم": "نحن قوم لن نستسلم.. ننتصر أو نموت"، بل قال: "ننتصر أو نستشهد"، فالموت في عرفنا وديننا، لا يمس إلا الجبناء، ولا يطال سوى رقاب المتخاذلين والخائنين لأوطانهم- مرّ الشتاء وعبر الربيع وأوصانا خيراً بوديعته وبألا نخذله، فثمة غيرنا من الأعراب، من ينتظر وتشرأب أعناقه لتتزين وتتزيَّ بالطوق الأخضر، الذي سيكسر به طوق الهوان والذلة من بعدنا، غير أنّ ربيع ثورتنا ما يزال في أوج وقمة اخضراره على جبل العزّة، وحلّ بعدهما الفصل الثالث في ثورتنا (الصيف)، فانقشع الظلام عن بلادنا، وظهر في سمائها هلال يلتف حول نجمة بحنوٍ، لن نضيّعه في شهر رمضان وسنهتدي به في كل عيد مجيد، إلا أنّ حلوقنا عطشت وجفـّت، وتيبست أوصالنا واكتوت جلودنا من حرِّ جمر النار، الذي صبّه علينا الطاغية وزمرته الباغية من على أسوار السراي الحمراء، وأنـّى لنا أنْ نطفئها ومياه أموالنا قد جُمِّدت في ثلاجات أرصدة البنوك العالمية، ولم يصلنا منها حتى رذاذ بُخارِها؟.
قبل استخراج القرار الأممي 1970 لنصرة الشعب الليبي، الذي أوجب وفرض تجميد الأرصدة التي باسم "القذافي" وبعض من الشخصيات المقربة إليه والمُشتبَه فيهم من عصابته ذوي العصابات الخضراء، في البنوك الخارجية، أما كان من الأجدى بنا تفاديه؟ خصوصاً بعدما عُقدِت لأجله عدة جلسات في كواليس مجلس الأمن، وشرعت أبواب المشاورات حتى عشية اجتماع الأعضاء الدائمين والآخرين من غير دائمي العضوية، حتى تتفق هذه الأطراف الفاعلة على تمرير قرار توافقي، لا تقف أمامه عند التصويت، أية دولة من التي تتمتع بحق النقض (الفيتو)، ومما لا شك فيه هو أمر إطلاع مُمثـِّـل ليبيا في جمعية الأمم المتحدة، السيد "عبد الرحمن شلقم"على مسودته قبل استصداره، لذا أستغرب من أنه لم يتفطن إلى سلبياته بقدر ما انفرجت سرائره من إيجابياته الناصة على حماية المدنيين، وحقّ الشعب الليبي في تقرير مصيره، واختيار من يمثله على سُدة الحكم، ما أدى إلى بتر ذراع السوء الطولى للقذافي، وإعطاب منظومته الإجرامية وكفـّها عن تمويل عملياتها، باستجلابها للمرتزقة، وشراء الأسلحة الكاسدة من مخازن روسيا، والسوق السوداء العالمية لهذه البضاعة الفاسدة، لقد كان بالإمكان أنْ يتمّ التعديل في مشروع هذا القرار الذي حمل عدة بنود، وخاصة ما يتصل بأموال الشعب الليبي المُجمّدة بالخارج، ولو بالتلاعب والتحايل السياسيين في صياغة وصناعة هذا البند، فمثلما ظنّ "سيف أبيه" بأنّ قرار حماية المدنيين رقم 1973، لا يبيح لقوى التحالف استعمال القوة ضد ميلشياتهما، في حين أنه كان قراراً جامعاً ومانعاً ومرناً جداً، لدرجة أنه لو شـُدّ من طرفيه لا ينقطع أبداً بل يزداد تماسكاً وليونة، كلما زاد "القذافي" رعونة، كما أنه يكفل للثوّار حقّ تسليحهم، إنْ لزم الأمر، وهو لازم الآن، غير أنّ القرار 1970، وما نصّ عليه من تجميد، هو ما يحدُّ من طموحنا ويقف حائلاً دون ذلك (زي البخت)، ويُؤخر النصر الذي يتطلب تدجيج الثوّار بأفضل العتاد، فمثلما تسرب التقدير الخاطئ إلى جُمجمة ذلك السفيه العارية- سيف التسويف- تسرب إلى بعضنا أنّ قرار تجميد أموالنا التي هي من حقنا، هو أمرٌ هيّن، ولم يدرك بأنّ رفع هذا القرار عن كواهلنا، يستدعي قراراً دولياً وتوافقياً أخراً، ينسخه، لكنّ لهذا الناسخ شروطاً ينبغي توافرها وبروزها على سطح الأحداث، أولها سقوط "القذافي" عنوة أو تنحيه عن السلطة طواعية، وقد يتأخر حتى بعد ذلك إلى أجلٍ غير مُسمَّى ولا مُلقـَب، مثلما قُيّد العراقيين بالقرار الذي أعقب عاصفة الصحراء في سنة 1991 ميلادية وإلى الآن، على الرغم من زوال حكم "صدّام حسين" المسؤول الأول عن تلك الكارثة، لأنه يندرج تحت لائحة العقوبات.
يظهر ليّ أنّ المرمى الأساسي من خلال تجميد أموال "القذافي"، هو حرمانه منها، وقد يكون ذلك صحيحاً، بل هو قطعاً كذلك، وله فوائد كثيرة كما ذكرت، ولكن من يتمتع بالدهاء والحنكة السياسيين، يعرف كيف يطوّع هذا القرار، فيجعله يعود عليه بالفائدة من دون أخفض ضرّر قد يلحق به، وهو ما يزال يُعصَر وقبل أنْ يُودَع في ثلاجة مجلس الأمن ويُجمَّد في البنوك العالمية، بإضافة مثل هذه العبارة: "نطلب بصفتي ممثلاً شرعياً للشعب الليبي، تجميد الأموال التي هي في حسابات القذافي ومصادرتها وإعادة ملكيتها إلى الشعب الليبي، فلا تـُصرَف إلا لما فيه مصلحته، ولو باستثمارها فيما يوفر الحد الأقل من الحاجات الأساسية، تحت إشراف مجلسكم الموقر"، بل إنّ هذه الإضافة غابت عن ذهن السيد "شلقم" وهو يسرد للمجتمع الدولي محنة الشعب الليبي وما يقترفه بحقـِّه المجرم الدولي "اعميرينه"- بعدما انشقّ عنه- ويطلب إلى العالم أنْ يتدخل ليحمي شعبنا الطيّب من جبروت الطاغوت، أفما كان الأدعى سياسياً به وبنا، بعد أنْ فرغ من تلك المرافعة الشعبية، أنْ يضع هذه الفقرة على رأس مطالبه، وهو يعلم كأيّ سياسي حكيم بأنّ اتخاذ إجراء كهذا (تجميد الأموال) هو سُنة دولية متفقٌ عليها، وتـُتخَذ في مثل هذه الأحداث، أي عندما تنشب الصراعات السياسية الإقليمية أو الأهلية، كإجراء دولي تقليدي ومتعارف عليه.
فهذا القرار الدولي، لم يكُ طفرة لا في مكانه ولا في وقته من (طواجين) مخبز مجلس الأمن، بل هو قرار كلاسيكي ومعتاد، يأتي إثر أية أزمة دولية وهناك شواهد كثيرة على ذلك، ويعد نوعاً من العقوبات الدولية التي تسبق العمل العسكري، وفي هذه المرحلة الثورية التي تشهدها الساحة العربية، حدث مثل هذا القرار، ولكنْ ليس بصفة دولية بل في علاقات الدول البينية، حيث جُمِّدت أموال "مبارك" وقبله "بن علي" في بنوك أمريكا وأوربا، بعد الثورة في بلديهما، ولعلّ "القذافي"- قارون وفرعون ونيرون العصر- كان الأكثر دهاءً في الشرّ، وذلك ليس بغريب عنه، لكونه قد عاصر العديد من الحروب والثورات وأخذ منها الدروس، لذلك احتفظ برصيد نقدي هائل من العملات الصعبة بالإضافة إلى استيلائه على احتياط "ليبيا" من الذهب الخالص، ليقوم بتسييله بدمه البارد والمحروق- قد يجتمع النقيضان في شيء واحد، فلا عجب إذاً من تصادم هذين الوصفين- لضخّ عمليته العسكرية ضد شعبنا، فيضمن بذلك القدرة على مواصلة هذه الحرب، من دون أنْ تؤثر عليه من حيث التمويل، ورفدها بكل ما يستطيع.
إنّ الدهاء السياسي كان يقتضي من سيادتك، ألا تسقط حقاً للشعب الليبي مقابل الحصول على حقّ آخر، ولو سوِمت في سوق النخاسة السياسية وخُيّرت فيما بينهما، فحماية المدنيين بتصورك كانت الأولى بالتحقيق، لكنها بتصوري المنطقي وقصيّاً عن المكر الدبلوماسي، ألفيها لا تفرض عليك التهاون ولو من باب المجاملة والعفة التي يعرف بها العرب: "إن كان صاحبك- مجلس الأمن- عسل ما تلحسش كله"، فلعلـّك أوليت عناية أكثر بمبدأ تسيّيل دماء الليبيين قبل أموالهم، لأنّ الاحتقان الذي أصاب هذا الشعب والغليان الذي فارت منه دمائه هو من جعل "القذافي" يحاول تجميده و(تجليطه) بالتقتيل، هذا في حال أنّ المساومة هي من دفعتك إلى ذلك، لكن إنْ كانت هفوة سياسية من لدنك، لأنك لم تلتفت إلى هذه القضية العويصة، فلا عليك لأني سأعثر لك على عُذر في النهاية، فربما فداحة القمع الذي قابلت به ميلشيات "اعميرينه" مواطنيك، (ذهبت شيرتك) وهي من جعلتك ترتجل في تسمية تلك المطالب من دون أنْ تتطرق إلى هذه الحقيقة، وخوفك على أبناء بلدك هو من جعلك تهتم بتوفير الحماية لهم، وتغفل عن هذه المسألة، ففداؤك أموالنا وفداء لشعبنا، لأنّ معركتنا مع هذا المستبد، هي بالأساس مسألة كرامة قبل كل شيء، وهذا لا ينفي حقيقة خروجنا عليه في هذه الثورة المباركة لتحسين أوضاعنا الاجتماعية، وعلى غرار قولنا: "اللي رقد الستين.. يرقد الستة" أو كما قالوا، أقول: "اللي رقد الاثنين وأربعين.. يرقد الأربعة"، فكما أخبرتك تذكـّر جيداً، تصحيحي لما أرسلته أنت من رسالة لـ"اعميرينه" في معرض كلامك في تلك المرافعة، "عمر المختار" لم يقـُل: "نحن قوم لن نستسلم.. ننتصر أو نموت"، بل قال: "ننتصر أو نستشهد".. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد.
بقيّ سؤالٌ، يطرح ويجمع ويضرب نفسه، ولا يقبل التقسيم: "هل تجميد الأموال، مرهونٌ بتكلفة العملية العسكرية، أي لا يمكن للدول الغربية أنْ تزيد من حرارة ثلاجاتها كي تذيب جبل الجليد، فلربما فاقت التكلفة حجم أموالنا؟.
بنغازي: 15/6/2011

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية