سلامتها أم حسن كاد أن يكون نشيد جماهيرية القذافي
نخلط أحيانًا بين المقامات، فلكلِّ مقام أنغام، ولكل نغم كلام، ولكل كلمة مضمون. والمضمون الغنائي قد يتنوع بين العاطفة والإنسانية والوطنية، وهلم جرّا، ويزداد الخلط إلى حدِّ العجن بين مكونات الأغنية السياسية والوطنية، حتى تتصلب هذه التركيبة في الإنسان فلا يستطيع أن يفصل بين ذرات، بل حتى جزيئات الخلطة الغنائية في طبق ما تُقدّمه القنوات والإذاعات.
فالأغنية السياسية هي التي تتغنى بمفاتن ومفاسد أحد مكونات الدولة، فتجعله مناقبًا لها، فتناصر فئة أو طائفة أو حزبًا. وكذلك النمط من الأغنيات التي تغزّل بحزب البعث، الذي أُجتُثّ جذوره من الخارطة السياسية في العراق، والآخذ في الزوال في سوريا، أو التي تدور كلماتها حول محور ألحان الفرد الحاكم، فتعزف عن الغناء للوطن، وتعزف للحاكم بأمره، مُختزِلة الوطن بخارطته ووجوده في شخص المستبد الداخلي.
أما الأغنية الوطنية، فعادةً ما تكون مقاومة ومقارعة، بالقرع على طبول معاداة العدو المستعمر وممالئيه في الداخل، بتجنيد وتحشيد جنود أرواح المقاومة في فصيل روح واحدة. فهي التي تزرع روح المواطنة في نبتة النشء وتسقيها وترويها بعذب الألحان، وتغذيها بالشجن وحسن التعبير والموسيقا، لعلم المربين والقائمين على ذلك بحقيقة أنّ "الموسيقا غذاء الروح"، فتعزّز مكانة الوطن في نفس الإنسان الذي يعيش على أرضه، حتى تزدهر وتسفر عن وردة حمراء قانية، تستمد لونها من دماء من أُستُشهِدوا في سبيل صون هذه المعاني السامية بسمو هذه الشجرة السامقة الفريدة من سُلالتها. فهي، كما شجرة على مدار الاستواء، يستظل الجميع وعلى حدِّ السواء تحت ظلالها الوارفة على مدار السنين وحتى الفناء، فتؤسس من ثم لمفاهيم الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والتضحية من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات، وتُنفّر من أي عمل وعمالة لأعداء الوطن والوطنية.
صحبت التغيُّرات السياسية، التي برزت على سطح الخارطة السياسية للمنطقة العربية في الفترة التي تلت نيلها للاستقلال عن هيمنة المستعمر البغيض، والتي عُرفت بالانقلابات العسكرية، قد دشّن لها الرئيس المصري الأسبق "عبد الناصر" طفرة جديدة من الأغانٍ، خالها المستمع العربي أعمالًا وطنية، وهي بحسب هذا السبر لغور هذين المفهومين للأغنيتين الوطنية والسياسية، محض أغنيات سياسية مُؤدلجة ومُوظّفة بأصوات موظفين في دائرة نقابة الغناء العربي الحكومية.
فأغلب هذا النمط الغنائي أَدّاه لفيف من المطربين المعروفين لدى المتلقي العربي، الذين امتازوا بتقديم الأغنية العاطفية الكلاسيكية والحديثة، وليس على سبيل الحصر بل المثال، أذكر منهم "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"فريد الأطرش"، وأخرهم المطرب الناشئ آنذاك "عبد الحليم حافظ". فكانوا مجتمعين، ومن حيث شاؤوا أو أبوا، عرّابين لما يُسمى بثورة 23 يوليو، فقد عُلِم عنهم وطنيتهم وتضحيتهم لأجل القضية الفلسطينية حتى قبل مجيء "عبد الناصر" إلى سُدة الحكم في مصر. فأربأ بهم أن يكونوا قد تواطأوا مع هذا النظام عن قصد، لكن ربما قد استُغلوا من النظام للدعاية له ولتقديمه إلى المواطن المصري بخاصة، والعربي بعامة، في ثوب الثورة التي جاءت على أنقاض حكم مملكي برجوازي وإقطاعي وخائن لأمته.
فالأغنية الوطنية أراها شأناً سياديًا، يجب أن تُسطّر كلماتها وتدوّن نوتاتها كمادة مستقلة في الدستور الوطني لأي نظام سياسي ديمقراطي وحُرّ، يتفق عليه الشعب. فلا ينبغي لها أن تمجد فردًا أو تجمّد صورته كبطل مغوار في عقلية وعاطفة العوام، ولو كان حاكماً، بل خليق بها أن تنأى قصيًا عن أي مستبد، ولا يحق استغلالها في تدعيم أي فئة سياسية أو حزب بعينه غير الشعب. فهي، مثلما الثروة الوطنية، يعود ريعها وفائدتها على المجتمع بأكمله.
الأغنية الوطنية وقورة، تصلح لأي مكان وزمان، ويدور شريط تسجيلها في تروس الإذاعات مهما تعاقب الحكام على كرسي الحكم وسيادة البلاد. من هنا، أستطيع أن أيسر أمر التفريق بين الأغنية السياسية والوطنية على القارئ، الذي هو في الأصل مستمع، وعلى كل متلقٍ بهذه القاعدة المنهجية، التي لم أرتّب لها قبل خوضي في هذه المقالة، لكن موضوعيتي في الكتابة وانتهاجي لمبدأ "لا تستغفل القارئ" في أي شأن فكري هما ما لخصا هذا الاستنتاج.
فلكي تشخّص أية أغنية يلتبس عليك أمرها بخصوص هذين النوعين من حيث المضمون، فما عليك إلا أن ترى سمعًا: هل هذه الأغنية محتفظة بنصيبها وأسهمها على خارطة الإذاعة مع تغيّر الخارطة السياسية، أم أنها ستُنفى وتُرمى في مكبّات القمامة والقتامة؟ فإهالة التراب عليها والإبعاد والنفي في هذه الحالة يعنيان نفي كونها أغنية وطنية، بل سياسية، ستسقط من سجلات التسجيلات الصوتية وقت سقوط الصنم. لأنها ليست سوى كفر بواح، كما أهازيج العرب التي ردّدها الطائفون أيام الجاهلية، وهم عراة من الأسمال والإيمان على نصب هُبل—هكذا بكل إيجاز.
ولو طبقنا هذا المعيار على الأغنية المحلية التي أُنتجت في عهد المطرب الأول "معمر القذافي"، لا أظن أن زبانيته أطلقوا عليه هذا اللقب من جملة ما نبزوه به من ألقاب، مع أنه يُجسد ظاهرة صوتية بكل ما يعنيه هذا المدلول الفني وفي أعلى مراتبها. فقد استطاع أن يوفق بين طبقة الجواب في خطبه الجماهيرية في جماهيريته العظمى ووسط الحشود والجموع المنقطعة النظير، كما كانت إذاعته—وهي من أدوات حكمه—تحبذ أن تصف لقاءاته بمؤيديه ومريديه في شبابه، الذي أسرف فيه في غير فائدة، إلا في مشاداته اللسانية مع زملائه في منتدى الدكتاتورية العربية بجامعة الكذابين والمتاجرين والأفاقين بالقضايا العربية—جامعة الدول العربية—وبين طبقة القرار، حين تحوّلت نبرات صوته إلى هذه الطبقة فيما بعد، وبالأخص في جلسات المؤتمر الشعبي العام، وكذلك سلامة تنقله إلى الطبقة المتوسطة حين هبوطه من الأولى إليها أو صعوده إليها من الثانية.
وقد فاجأني في خطاب أو زلّة (زلقة: زنقة زنقة) التي حفظتها له الذاكرة السمعية والجمعية الليبية، لأنني اكتشفت أنه ما يزال يحتفظ بطبقة الجواب مع تقدمه في السن، وهي ظاهرة صوتية فريدة، لا تجتمع إلا في حنجرة من يحسن الغناء العربي المتقن بحذافيره، ولم تصح حتى لأكبر جهابذة المطربين العرب سوى "وديع الصافي"، الذي استُغلت خاصيته الصوتية هاته ليغني رائعته القذافية "ومنها عشقت الوطن يا الصحاب".
على أية حال، فلو طبقنا هذا المعيار والمقياس، لن نخرج سوى بأغنيتين أو ثلاث، هما:
- (بلد الطيوب واتعيشي يا بلدي/محمود كريّم)
- (يا بلادي/أحمد فكرون)
ولست أدّعي إلمامي بكل ما سُجّل في هذه المرحلة من تاريخ الأغنية الليبية ومن تاريخ بلادنا، لكن من لديه أغنية يرى فيها مفهوم الوطنية، فليخضعها لهذا المحك ولهذه المصفاة، ليرى إن رشح منها شيء من ذلك.
تعليقات
إرسال تعليق