رابعة خامس

ذات صباح بارد، مدّت الرياح ذراعها من خلال ثقب بالنافذة، قارصة بأصبعيها أذني، حتى تخيلتها أدّمت، بلّلت أصبعي بلعابي وحكّكت أذني به، كنت اجلس في ظهرها، هي وجليستها سماح، ذات الشعر المنسدل على الكتفين، طوال الحصة، أراقب شعرها المعقوس المزين ببممسكة فراولية اللون، أخذت هيأة الديك، كان يدهشني هدؤها وطمأنينتها، سال لعابي لدفء السعرات الحرارية، فتخيلت الممسكة قطعة حلواء، استلّلت يديّ من جيبي نحوها وبأظفار قد حشاها رماد الورق الذي حرقناه قبل تحية العلم بأمر من ناظر المدرسة، قبضت عليها، حاولت شدّها زامًا وجهي نحوها، وخدّي قرب خدها، لأراقب شدة توجعها، انهمرت من عينيها دمعتان صامتتان، وسُرعان ما تحوَّل الدمع إلى نهر يخترق ويحفر خديها، كلما أمعنت في الشدّ، مثل فلاح أراد أن يقتلع شجرة تين تتشبث جذورها بالصخر، فأضفر، وظهري يرتطم بالمسند، بضفيرتين تلتفان كأفعى على أصابعي حدّ تيبُس الدم، أُمضي وقتًا طويلًا في فكّ عقدتيهما المحكمتين من على أصابعي، ثم انفضهما إلى أسفل، فتصل جذورهما إلى الأرض حذو حذائي المُعفَّر بوحل الطريق، بينما بصلة الشعر لا تنفك من أصابعي بمادتها الدهنية، ارفع أصبعي يدي الأخرى من على السطور الراكضة من اليمين إلى اليسار، المتتبعة لقراءة زميلي التي تتوقف ببرطمة الأستاذ لجانب درجه بقدمِه، فبها استطيع تخليص يدي من أثار الشعر.

كنت أدرك بأنّ لها مثلَ أي إنسان، قدرةً معينةً على التحمُّل، وقد تصرخ فأبحث عن وسيلة أخرى لفكّ هذه الممسكة، آخذ القلم، وبه أحرك وأقلب هذه الحلواء، التي سال لها لعابي حتى اختلط بالبلغم، لأجد نقطة الضعف بها، حتى تبيّن ليّ الخيط الأبيض المرن (الأستك) الذي يلتف على الشعر ويتعلق بالقطعة عبر ثقبين بها.

نظرت إلى يميني، لأرى إصبع زميلي في الكتاب وأضع أصبعي الذي وظّفته في التخلص من الشعر في المكان الأصلي تحوطًا لبرطمة الأستاذ، التي تأتي كالقضاء المستعجل، خللت القلم بين الأستك والقطعة وشددته إلى الخلف، يزداد إصراري كلما عاندت الممسكة، وكلي ثقة بأن "نادية" لا تتحسس الألم.

دلف الأستاذ المقعد هدووووووووووووووووووووووووووووووووء موجهًا كلامه لحركة صوتية تنبعث من التلاميذ بالخلف، فجأة ولدواعي الخوف انطلق القلم من عقالي، فسقط بين ظهر البنت وتنورتها.

رفعت نادية التنورة من البنطال مفسحة الفرصة لسقوط القلم، لكنه سقط على مبعدة مني، لم أجد أفضل من فكرة نيل الممسكة من شد الأستك، تناولت المسطرة من علبة الأدوات، وبدأت بسحبها أحسست بأن محاولتي باتت ناجحة، إذ استطعت ردّ يدي مسافة ذراع نحوي، وها هي الممسكة، قد أخذت تنزاح شيئًا فشيئًا، هنا حدثت طرقة أخف من برطمة الأستاذ، طالب من الفصل الآخر يتسول قطعة طبشور لمعلمه، أرجعت المسطرة إلى الأمام قليلاً وتوسدت يديّ على الدرج في حالة غيظ نائمة.

غادر التلميذ، وفي قبضته طبشورة بيضاء وحمراء، استندت إلى الخلف مرتجفًا، عاقدًا العزم، وكفيّ بين فخذيي من شدة البرد، حرّكت رأسي مثل مروحة ذات اليمين واليسار وبوثبة ثابتة رفعت رأسي على ثقل الأمشاط فوق رأس نادية، لأرى الأستاذ فيما هو منشغل، وبطرقة من عصاه، طلب إلى القارئ استئناف القراءة، تتبعت بسبابتي وراءه لسطر واحد، ثم عدت لشغلي الشاغل، فالممسكة أصبحت متدلية من أثر خلخلتي لها، والأستك أخذ يتسع، ولم يعد بيني وبينها سوى شدّة بسيطة، حاولت ان اصرف نظري عنها، كي لا يتفطن إليّ الأستاذ، وانهمكت بإصبعي في تتبع لسان زميلي القارئ، من أول السطر حتى آخره، غير أن أصبعي تجاوز حدود الصفحة وغادر خارج السطر ومن ثم الكتاب، حتى مال كتفي، وسقطت إلى الأسفل لأمسك بالقلم من جديد.

زياد عُد إلى مقعدك.. حاضر يا أستاذ حسن.

وبطرقة أُستؤنِفت القراءة.

القلم سيساعدني أكثر، لأنه في أقل من سمك إصبعي، ويدخل بسهولة في الشق الهوائي الذي بين الأستك والممسكة.. وضعته حيث يجب، وقمت بتدويره وبعد لأي برطمة مدويَّة أحدثها الأستاذ، ومن شدة الربكة، أرخيت العنان للقلم، لأضع إبهامي على الكلمة.. انطلق القلم كسهم من قوسه ليصيب جبهة الأستاذ حسن.

سمعت الأستاذ صباح اليوم الثاني، يحدث أخي الأكبر: لو يقعد خوك ديك حلوى ما هو راد للفصل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

المعادلات الصعبة