التراكم بوصفه مجازًا اجتماعيًّا وسرديًّا في نص تراكمات للكاتب زياد العيساوي

الملخص

يقدّم نصّ «تراكمات» (2010) للكاتب الليبي زياد العيساوي نموذجًا فريدًا للسرد الاجتماعي الساخر الذي يتخذ من مفردة واحدة – «التراكم» – مفتاحًا دلاليًا لقراءة الواقع الليبي عبر أربعة عقود. يمزج النص بين الإيقاع الشعري التكراري والمشهد السردي الواقعي، متحوّلًا من مجرّد تأمل لغوي في ثقل الحياة إلى وثيقة رمزية عن تآكل الحلم الوطني وتناوب الأجيال على الانتظار.

تحاول هذه الدراسة، بمنهجَي التحليل الاجتماعي والسيميائي، الكشف عن بنية النص وإيقاعه، ورموزه الأساسية مثل الطابور والوزير والملف المتنحف، بوصفها علامات على الفساد الإداري والانسداد الوجودي. كما تسعى إلى قراءة التراكم باعتباره مجازًا لتاريخ من الأعطال المؤسسية والنفسية التي مهّدت لانفجار التحولات السياسية في ليبيا بعد 2011.


المقدمة

كُتب نص «تراكمات» سنة 2010، في لحظة كان فيها الوعي الجمعي الليبي مثقلًا بالإحباط من النظام البيروقراطي المتصلّب، ومن تكرار التجربة المعيشة عبر أجيال متعاقبة دون تغيير جوهري في شروط الحياة. في تلك اللحظة، كانت مفردة التراكم تعبّر عن شيء يتجاوز الاقتصاد أو الإدارة إلى المجال الوجودي والاجتماعي والسياسي.
استثمر زياد العيساوي هذا اللفظ المحايد ليبني عليه نصًا يتجاوز المباشرة إلى السخرية البنيوية، حيث تحوّل التكرار اللفظي إلى موسيقى سردية، وتحوّل المشهد الواقعي إلى استعارة كبرى لليبيا وهي تنتظر على أبواب وعود الدولة.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل النص من منظورين متكاملين:

  1. التحليل البنيوي والسيميائي: بتتبع العلامات المتكرّرة ودلالاتها الرمزية.
  2. التحليل الاجتماعي: بوصف النص شهادة فنية على تراكم أجيال من الفشل الإداري والإحباط الجمعي.

الفصل الأول: البنية الشكلية والإيقاع التكراري

يفتتح العيساوي نصّه بتكرار الكلمة المحورية «تراكمات» في مقاطع إيقاعية قصيرة تشبه الموشح الشعري أو اللازمة الغنائية:

«تراكمات.. تراكمات.. تراكمات / تراكمات كبيرة.. تراكمات صغيرة... تراكمات ننساها وتراكمات كثيرة».

يؤسّس هذا الإيقاع المتكرّر لنبرة خطابية – شبه إنشادية – توظّف التكرار لا للزخرفة، بل لخلق إحساس بالثقل والاختناق. فالتكرار هنا ليس جماليًا فقط، بل وجودي، يعكس الفكرة نفسها: التراكم الذي لا ينتهي.
يتحوّل الإيقاع تدريجيًا إلى نَفَس سردي: فبعد التكرارات الأولى، يدخل النص في توصيف «التراكمات البنغازية والطرابلسية والبيضاوية»، ليكشف عن جغرافيا وطنية للتعطّل. كل مدينة تحمل تراكمها الخاص، مما يجعل الإيقاع الصوتي مرآةً للتشتت الوطني.

من منظور سيميائي، يمكن القول إن التكرار يرمز إلى «استمرارية الفشل» و«ثبات الأعطال»، إذ تتكاثر الكلمات كما تتكاثر الطوابير، بلا نهاية.


الفصل الثاني: التراكم كرمز اجتماعي وسياسي

يحمل مفهوم «التراكم» في النص بعدًا ثلاثي الطبقات:

  1. اقتصادي: يشير إلى الديون، العجز، والفساد الإداري.
  2. اجتماعي: يعبّر عن تأجيل الأحلام وتوريث الانتظار بين الأجيال.
  3. نفسي/وجودي: يمثل شعور الفرد بالعجز أمام الزمن والمؤسسة.

حين يقول الكاتب:

«تراكمات ديون.. تراكمات فنون.. تراكمات أجيال.. تراكمات مسؤولية»،
فهو لا يصف فقط أزمة اقتصادية، بل شبكةً من الأزمات المتداخلة التي تُنتج بعضها بعضًا.
اللافت أن العيساوي يستخدم الإيقاع المتوازي لتوليد التوتر الدلالي: كل إضافة لفظية هي تراكم جديد على المعنى نفسه.
بهذا، يغدو النص ذاته مثالًا على ما يصفه — نصًّا يتراكم لغويًا مثلما تتراكم الأزمات واقعيًا.


الفصل الثالث: الأجيال الأربعة وصراع الزمن

ينتقل السرد إلى طور درامي حين يقسّم الكاتب الأجيال إلى أربعة طوابير (مواليد الستينيات، السبعينيات، الثمانينيات، والتسعينيات)، ويضعهم في مشهد رمزي عند «باب وزير العمل».
يتحوّل هذا الباب إلى مجاز وطني للانتظار الأبدي.
فكل طابور يكرّر تجربة الطابور الذي سبقه، بنفس اللغة وبنفس العبارة الشعبية:

«اللي يرجى خير م اللي يتمنى».

من منظور سوسيولوجي، يمثّل هذا البناء ما يسميه بيير بورديو «العنف الرمزي»، إذ يُعاد إنتاج الفشل جيلاً بعد جيل، ضمن نفس البنية البيروقراطية.
الطوابير هنا ليست مشهدًا إداريًا بل بنية تراجيدية ساخرة:

  • الستيني يغادر مهاجرًا،
  • السبعيني يستسلم،
  • الثمانيني يناور،
  • التسعيني يخترق الصف.

لكن الجميع في النهاية أسرى بنية مغلقة عنوانها «الباب الموارب»، و«الملف المتنحف»، و«العبارة المتوارثة».


الفصل الرابع: الطابور بوصفه مجازًا للانتظار الوطني

يبلغ النص ذروته الرمزية في مشهد «باب الوزير» الذي يتحول إلى استعارة كبرى للوطن.
الطابور – كجسد جماعي – يعيد إنتاج ذاته في المكان والزمان، والباب الذي يُفتح فجأة ثم يُغلق، يرمز إلى الفرص السياسية والاقتصادية المحدودة التي تمرّ مرور الكرام.
حتى «اليد التي تخرج من الباب لتقبض الهواء» تشكّل صورة مجازية عن الإصلاح الزائف والوعود الفارغة.

تتجلّى هنا عبقرية العيساوي في تحويل الموقف اليومي إلى رمز شمولي. فالطابور الليبي عند باب الوزارة يصبح اختزالًا لكل انتظار عربي: انتظار الوظيفة، الإصلاح، العدالة، وحتى الثورة.


الفصل الخامس: اللغة والأسلوب

يتنوّع الأسلوب بين الفصحى المعيارية والعامية الليبية المفعمة بالروح الشعبية.
فالفصحى تُستخدم في المقاطع التأملية والسردية العامة، بينما العامية تُستخدم في الحوار والمفارقات الساخرة، مثل:

«لنقنكم مزطتونا» أو «اللي يرجى خير م اللي يتمنى».

هذه الثنائية اللغوية ليست اعتباطية، بل تعبّر عن ازدواجية الوعي بين الرسمي واليومي، بين الدولة والمجتمع.
اللغة العامية هنا تؤدّي وظيفة تفكيكية: تخرق الجدية البيروقراطية وتعيد الواقع إلى طبيعته الساخرة.
كما أنّ التناوب بين اللغتين يولّد نغمة سردية قريبة من الوجدان الشعبي، تحفظ للنص صدقه ومرونته، وتؤكّد أن السخرية هنا نابعة من الداخل لا من موقع الازدراء.


الفصل السادس: السخرية واللاجدوى كاستراتيجية فكرية

السخرية في «تراكمات» ليست هدفًا بل وسيلة.
هي وسيلة لتفريغ الألم الجمعي وإعادة إنتاج المعنى في مجتمع يختنق بالانتظار.
حين يقول الكاتب إن الستيني ما زال في مكانه منذ ثلاثين سنة، فهو لا يضحكنا بقدر ما يعرّينا أمام مرآة الزمن.
يُوظّف العيساوي السخرية بنَفَس فلسفي قريب من العبث الكاموي، حيث يتحوّل الفشل إلى مصير إنساني مشترك.
إنها سخرية البقاء في مواجهة عبث النظام.
العبارة الأخيرة:

«اللي يتمنى خير م اللي يرجى»
هي انقلاب دلالي يختصر المسار كله: من رجاءٍ خائبٍ إلى أمنيةٍ باردة.
بهذا القلب اللغوي ينتهي النص كما بدأ، في دائرة مغلقة من اللاجدوى.


الخاتمة

يُعدّ نصّ «تراكمات» أحد أهم النصوص التأسيسية في السرد الليبي الحديث، إذ سبق موجة التحوّل السياسي بعامٍ واحد، وتنبّأ بانفجار المجتمع من فرط تراكم أزماته.
لقد قدّم زياد العيساوي من خلال مفردة واحدة بناءً نقديًا شاملاً لحياة تتآكلها البيروقراطية والانتظار والحرمان.
النص يشتغل على الحدود بين الشعر والنثر، بين الواقع والمجاز، ليحوّل التكرار إلى شكل جمالي، والطابور إلى رمز وطني.
ومن منظور سوسيولوجي، يمكن القول إن «تراكمات» تمثّل وعيًا احتجاجيًا مبكرًا ضد ثقافة الجمود، وضد دورة التهميش التي أورثت الأجيال شعورًا باللاجدوى، ودفعتها إلى البحث عن الخلاص في الهجرة أو الانفجار الثوري.

بهذا المعنى، لا يُقرأ النص فقط كتجربة أدبية، بل كوثيقة اجتماعية تؤرّخ لليأس، وتحوّل المأساة اليومية إلى بيان شعري ضدّ الزمن.


المراجع

  • العيساوي، زياد. تراكمات. 2010 (نص منشور إلكترونيًا).
  • بورديو، بيير. الهيمنة الذكورية. ترجمة: سلمان قعفراني. دار توبقال، 1998.
  • باختين، ميخائيل. خطاب الرواية. ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2006.
  • لوتمان، يوري. بنية النص الفني. ترجمة: يوسف حلاق، دار الفكر، 1990.
  • الجابري، محمد عابد. العقل السياسي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.
  • حنفي، حسن. الوعي والواقع. دار التنوير، 1985.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

المعادلات الصعبة