سدّينة في بوسليم
بعدما دعت سدينة على الذين لا يعرفون الحق ويريدون الاستئثار بكل شيء لذواتهم، رجعت ووضعت نقالها (الخنفوسة) على أذنها، بعدما دكّت خصلة شعرها التي شدّتها على جبينها في الدعاء، دكّتها في التجويف بين الأذن ولحم الرأس، وعقدت (محرمتها) على ثلاث فوق الجبهة، فسمعت "عبد الكافي" يسألها:
- شنو صار في موضوعنا يا احويجة؟
- توا هضا وقته يا باتي؟.. باهي، باهي، يعد نفضى ساهل.
سدّينة كانت من المعتصمات مع أهالي ضحايا بوسليم في بنغازي قبل الثورة، ولقد التقط لها الناشط "علاء الدرسي" عديد الصور، وقامت بحمل اللافتات المكتوب عليها اللافتات المعادية للنظام، في الوقت الذي تخلّى فيه الكثيرون من المحسوبين على النخبة عن هذه القضية، بل لم يكتفِ البعض الآخر بإهمال مأساتهم كقضية وطنية، وأراد النيل منهم، لما وصفهم بأن كل همهم هو رفع سقف التعويضات.
يُعرف عن سدّينة أنها كلما رأت "معمر" على شاشة التلفزيون جعلتها تسيل بُصاقاً، هي تمقته، لأنه كان السبب في عوزها وفقرها وموت العديد من أقاربها ومعارفها، وأحدهم شقيق "عبد الكافي" الذي كبر وتربى على مرأى من عينيها.
"منصور" هو ذلك الشاب الذي ساعدها كثيراً في التغلب على مصاعب حياتها، وقدّم لها المعونة، وقد كان بين بيتها العتيق الذي تتوسطه نخلة، وبيت "مشطوهة" أم منصور وعبد الكافي سور قصير يتخلله مدخل (بلّاطة) مسدودة بستارة من قماش، وكثيراً ما تضرّرت من مداهمات الأمن الداخلي كلما اقتحموا بيت "مشطوهة".
"سدّينة" أيام مشاركتها في الاعتصامات التي جرت كل يوم سبت في بنغازي، قطعت وعداً على نفسها بأنها ستذهب إلى طرابلس وتزور سجن "بومريض" بعد سقوط النظام، وقد سقط.
أشارت بيدها التي شـُقت فيها الأوردة ودياناً خضراء بارزة تحت جلدتها المتشققة، رأى السائق الإسوارات الذهبية تلتف على معصميها النحيفة، فأيقن بأنها تحصل على صيد ثمين، توقف ليأخذها، وفي الطريق سألها إن كانت من الشرق، وعن دواعي زيارتها، فالتزمت الصمت، ولم يسمع منها سوى مكان وجهتها (بوسليم).. سألتها عن أجرته، فطلب 5 دنانير، أعطتها له متبرمة، مع قولة: "هاك يا بصاص.. يا قصقاص".
نزلت عند مدخل السجن، قرأت سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، حاولت الدخول، فمُنعت من قبل أحد ثوّار 20/8/2011، يرتدي شورتاً قصيراً لونه دم غزال، قالت له بعدما أخرجت صورها التي التقطها لها "علاء الدرسي" وأهداها بعض منها، واحتفظ ببعضها الآخر، لكي ينشره حصرياً على صفحة (المركز الليبي للتوثيق الفيسبوكية): "مش من حقك تمنعني يا غزال أمك.. ياللي داير روحك من الثوار.. أنا ثرت على معمر من قبل حتى الثورة.. اللي فجروها ضنانا في بنغازي"، ومدّت الصور إليه ليراها، مسكها بيده اليسرى فيما يمسك بالأخرى كوب مكياطة، عليها شعار نادي الاتحاد، وقال: "والله إلا باهي يا حاجة"، كان الوقت الظهيرة عند الذروة، كسرت غضن شُجيرة صغيرة، لأن من سبرها في بنغازي ألا تدخل بيت أحد في زيارة، وهي قادمة من مأتم أو مكان شهد على جريمة، وأية جريمة هي التي قُتل فيها منصور وغيره من فتية الحي الذي تسكته في بنغازي.. طرحت كفها فوق عينيها، وحركت رأسها كرادار يتحرك من اليسار إلى اليمين حتى طقّت رقبتها، ووقفت عيناها على مصطبة مرتفعة أمام بيت في حي بوسليم، ما برحت عليه بعض الشعارات المؤيدة لمعمر القذافي.. غضبت، بكت، نحبت، نشجت، تألمت، تذكرت مآسي مدينتها، مسحت دموعها في طرف ردائها، كانت عطشى، وصبرت على عطشها على ألا تطلب من قاطني هذا البيت الخائن كأس ماء، فقد شعرت بكونها ستشرب دماً ساخناً، وبينما هي تـُنزل قدمها اليمنى على خفـِّها المُطابق، وتستند بكلتا يديها على أرضية المصطبة، كانت متشبرة، بان سروالها العربي، وما أن استوت قدماها، حتى نزل طرف الرداء ساتراً ساقيها، خرجت عليها عجوز ترتدي نفس السروال، لكنه يصل إلى أسفل ساقيها: "خيرك يا حاجة قاعدة اهني في الشمس؟"، ثم دعتها إلى الدخول، تمنعت الحاجة "سدينة" لأنها (عصرانة)، فخرجت بنات من الداخل وألحنّ عليها للدخول، وهنّ يجرجرنها من يديها بكل ودّ.
عند الباب أعطت "سدينة" أم البنات "حواء" غصن الشجرة، ودخلت وهي تصلي على الرسول، وتبارك لهنّ بيتهنّ.. أُعجبت الحاجة "سدّينة" بأبنتها "غزالة" الجميلة، وفحصتها بعينيها الضامرتين إلى الداخل، مثل عيني الشحرورة "صباح"، سألت "سدينة" "حواء" إن كانت الفتاة مخطوبة، لأن ابن جارتها "عبد الكافي" يبحث عن عروس، لينتقل إلى طرابلس، ليقيم بالقرب من عمله في المدينة، لأن بنات بنغازي لا يطقنّ الابتعاد عن مدينتهنّ، وقد شهدت في "عبد الكافي" شهادة طيبة تجعل حتى الملك يوافق على مصاهرته بمجرد أن يسمع هذه الشهادة، غير أنها وصفته بالمُعادي للفيدرالية (لقّاق)، وهي صفة وجدت فيها أم البنات سبباً مقنعاً للموافقة على مصاهرته، أخرجت "سدينة" صورة لعبد الكافي من تحت (سوريتها العربية الشيفون) من جهة الصدر الذي أرضعته به هو وكثير من بنات المنطقة، وناولتها لحواء، غير أن "غزالة" افتكتها من يدها قبل أن تصل إلى أمها.. نظرت إلى الصورة، قبلتها ووضعتها على صدرها، وأخذت تركض مثل غزالة يلاحقها فهد، نحو غرفتها وهي تقول: "يا نجيهولي الشرقاوي اللي طوله فايت طولي".. علقت "سدينة" على هذا المشهد: "هوبي.. هوبي على بنات هالوقت".
من شباك دارها، نادت غزالة صديقاتها من بنات الجيران، وأقفلنّ على أنفسهن الغرفة، وصرنّ يتبادلن أحاديث الفتيات التي تختصّ بهذه اللحظات السريعة من غمز ولمز و(شطيح) وأشياء أخريات يصعب عليّ ذكرها.. فيما سدينة واحويوة تشربان الشاي، وتعددان أسماء الشهداء، وتتبادلان أخبار الثورة وبعض الشؤون السياسية المتعلقة بليبيا الجديدة، وما يجري داخل باحة المؤتمر الوطني، أبدت احويوة مخاوفها من تداعيات هذه الثورة، إذا جرى بينهما هذا النقاش:
احويوة: "يا ودّي كنا متريحين وشن جبرنا على هالمشاكل؟"
سدينة: "بس نحن كنا عايشين في شر وهم وفقر وظلم يا مينة.. وساد اعويلتنا اللي قتلهم في حبسكم، وما في واحد من 13 ألف ثاير اللي طلعو منكم ما فزعوا لعويلتنا، وعبد العبيد السنوسي يقتل فيهم؟ وساد فلوسنا اللي ودرهن معمر"، ثم غنت: "يا معمر يا كابوسنا، يا سرّاق فلوسنا".. وإن كنتم راضيين بالذل، نحنا ما نرضو بيه يا حنة.
استمر الحوار، فيما ضحكات البنات تتعالى في الغرفة، كتغريدات عصافير فرحة بضوء النهار، استمر النقاش بينهنّ وتطرقتا إلى انتخابات المؤتمر الوطني، وذكرت "سدينة" أنها لم تشارك بها، وأنها مع الخيار الفيدرالي، فيما افتخرت "احويوة" بمشاركتها هي والبنات، ونادت على ابنتها المخطوبة "غزالة": "يا اغزيل يا اغزيل.. تعالي اقدانا". جاءت الغزالة ذات العينين البنيتين الواسعتين، وذات الوجه الذي كأنه فلق الصباح، تتمخطر وتركض، والصورة مازالت في يدها وقد ابتلت من عرق رجفات قلبها، لتُري عمتها سدينة إصبعها الذي ما تزال عليه آثار حنّاء الانتخابات، طلبت منها سدينة: "شيلي صبعك غادي، راك تفلقي عيني يا مزقودة وانتي طايرة بالله وبلا الله".. أطلقت إحدى الفتيات من الغرفة ضحكة ماجنة، وأخذت تغني: "كف الغزال يا امتحني ابدم الغزال".
مفيدة كانت إحدى الفتيات الموجودات في الغرفة، تنظر بشرر ناحية "سدينة"، ما جعلها تقول لها: "تعالي كوليني وخلاص يا اعيون البومة"، اقتربت، وشخصت بعينيها في وجه سدينة، وقالت: "يا حناي احويوة، هذي لعزوز اللي ضوربت ولد عمي "محمود عبد العزيز" امبارح في المؤتمر الوطني.. محمود اشكون؟" سألت احويوة.. "محمود اللي يمثلنا نحن سكان بوسليم في المؤتمر الوطني.. خيرك يا للاي؟.. العفو اعلاش ضروبتي الولد؟"
وقبل أن تجيب "سدينة"، أخذت مفيدة تردد: "اللي صبعة مش طرطاري... إلخ".
خرجت "سدينة" حزينة، وقدميها تغرقان في طين دموعها، وهي تدعو على من عادوا الفيدرالية وعبد الكافي، ووراءها "غزالة" تناديها: "خيرك يا حناي سدينة؟.. العفو أني شني ذنبي؟".
التفتت إليها "سدينة"، واكتفت بغمزها برمش العين، في إشارة منها إليها بأن عبد الكافي (اللقاق) سيتزوج بها.
تعليقات
إرسال تعليق