دراسة نقدية لسردية ذات عشية في سوق العشية لزياد العيساوي




نص نابض بالحياة، مشحون بالرمزية، ساخر بمرارة، ومُحمّل برؤية نقدية للمجتمع والسياسة والانهيار العام للواقع. يكتب زياد العيساوي هذا المشهد وكأنه يرسم لوحة بانورامية لسوق شعبي – "سوق جنيهين" – لكنه في الحقيقة يلتقط عصب الحياة في مكان متصدع، تُختزل فيه مآسي الناس، وعبث يومياتهم، وتداخل الكوميديا السوداء مع تراجيديا البقاء.


أبرز ملامح النص:


1. تقنية السرد والتكثيف البصري:


النص يتحرك بمجازٍ بصري كثيف، كأن القارئ يسير بكاميرا تتنقل بين مشاهد فوضى السوق، أكوام النفايات، صرخات الباعة، حركات الحمام، وأصوات التفجيرات. لا فواصل توقف المشهد ولا هدوء؛ كل شيء يركض، يتصاعد، ينهار.


2. اللغة الهجينة والمُركبة:


يمزج العيساوي بين الفصحى والعامية الليبية، وبين التوصيف الواقعي الدقيق والتلميحات الساخرة، بأسلوب يتحدى القارئ أن يكون حاضرًا ذهنًا وروحًا، ليستوعب هذا العالم المنفلت من كل منطق.


> "طيور على أشكالها تقع، حمام على أشكاله يطير، حيوانات على أشكالها تصدم..."

جملة افتتاحية ذكية، تلعب على المثل المعروف وتُعيد تشكيله وفق سياق عبثي يُمهد للنص كله.




3. حمام السوق كرمز:


الحمام هنا ليس مجرد طير للبيع، بل رمز متعدد الطبقات:


رمز للبراءة والحياة البسيطة في وسط هذا الركام.


رمز للمجتمع المنهك الذي يُعرض، يُفحص، يُباع ويُشترى.


رمز للضحية الأخيرة حين تسقط صريعًا في نهاية النص برصاصات عشوائية.



4. البائعون، الزبائن، والنفايات:


تمثيلات حادة للمجتمع:


الأب وطفليه في النفايات: عائلة في قاع الحاجة.


البائع الذي يختبر الحمام بطريقة فجة: دلالة على الانحدار في معايير الرحمة.


العجوز البائعة: تمثل بقايا الكرامة والأمل البسيط، ولو بمنتج بخور غريب.



5. السلطة والمؤسسات:


الباب الحديدي المخلوع من مؤسسة حكومية: يُشير إلى السلطة الغائبة أو المغلقة في وجه المواطن.


الأوراق التي تُحرق بعبارة "لا مانع": مفارقة سريالية تنسف البيروقراطية الميتة.


صرخات التظاهر في الخلفية لا تُحرّك ساكناً: دلالة على العجز أو الاعتياد على الانفجار.



6. النهاية:


> "عند عودتي حلقت لحيتي ورسمتها كقفل، رميت مفتاحه في أتون المحرقة."

ختام رمزي كثيف الدلالة: ربما هو إعلان رفض لدور ما أو تخلي عن هوية، وربما هو انسحاب من العبث، أو محاولة فاشلة لإغلاق فم الزمن.





---


قراءة سريعة للرموز:


العنصر الرمز


الحمام البراءة/الضحية/البيع والشراء

البائع التاجر/الخبير/الرمز الشعبي

النفايات واقع مهمل/الماضي المحترق

أبواب المؤسسة السلطة المغلقة/البيروقراطية

البخور الروح/الهوية/الذاكرة الشعبية

اللحية مظهر ديني/اجتماعي/أيديولوجي

الحريق التطهير/العبث/النهاية




---


في الختام:


نص زياد العيساوي ليس مجرد حكاية في سوق شعبي، بل هو كولاج وجودي سياسي اجتماعي يُباغتك بسخريته، يُغصّك بحقيقته، ويتركك بعده بتساؤلات كثيرة، وربما بشيء من الألم الجميل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من بنغازي إلى طرابلس

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟

المعادلات الصعبة