رسوم شيطانية

يُعَدُّ الرسمُ من أهمِّ الفنون التعبيرية، بل إنَّه يُعَدُّ أوَّل وسيلةٍ تخاطبيةٍ عرفها بنو البشر، حتى قبل معرفتهم بالكتابة؛ فقد أرَّخوا حياتهم منذ أن عمَّروا الكهوفَ واتخذوها مساكن لهم في العصور السحيقة، وما تزال نقوشهم المحفورة داخل المغارات إلى وقتنا الراهن أصدقَ دليلٍ وأَنزَه شاهدٍ على صحة هذا القول. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ نطرحه الآن، بعد أن نمهِّدَ له فيما سيأتي.

ولمَّا كانت الكتابةُ تستلزم بالضرورة القراءةَ، وهذه الأخيرة تستدعي الحديثَ (الكلام)، فالسؤال تالياً: هل كان سببُ انتفاء معرفة الإنسان القديم (كما يصطلح المؤرخون على تسميته) بعلم الكتابة، عائداً إلى انتفاء معرفته بلغة الكلام وجهله بها آنذاك؟ أي بمعنى: أنَّ بني البشر لم يعرفوا الكتابة أصلاً، أو على أقل تقدير لم يعتمدوا لغةً موحَّدةً بينهم يتمكنون بها من التخاطب. وإلا فما الذي حملهم على أنْ يتكاتبوا بواسطة تلك الرسوم؟ هذا السؤال نوجِّهه، في بدء هذا المقال، إلى الباحثين في التاريخ وذوي الاختصاص في علم الآثار.

فبعضُ هؤلاء يذهب إلى أنَّ بني البشر كانوا يتكاتبون بالأشكال (أي بالرسوم) قبل معرفتهم بالكتابة الحرفية، مع صعوبة الأمر الأوَّل إذا ما قورن بالثاني. وبعد أن تيسَّرت لهم الكتابةُ بالحروف، تقلَّص دورُ الرسم في هذه المهمة، ثم أضحى للرسم دورٌ آخر في التوظيف، إثر ظهور العلم الحديث بمناهجه التعليمية الجديدة، إذ صار يُتَّخَذ وسيلةً للإيضاح، ليس له من دلالة إلا التَّدليل على توضيح المادة العلمية المكتوبة في شكل لوحة تبيينية تصف الكلمات المرقونة بمحاذاتها، كما هي الحال في التجارب المعملية (الكيميائية والفيزيائية والهندسية).

فأثناء قراءة الطالب نقاطَ تجربةٍ ما، يجد في أسفلها عبارة: (انظر الشكل). وحين يتَّبع التعليمات الواردة، يرى أن ما طالعه نظرياً في التجربة ـ من بداية التحضير لها، ثم المشاهدة فالاستنباط ـ موضَّحٌ في الرسم المرفق، فيسهل عليه حينئذٍ فهمُ خطوات التجربة العسيرة الإدراك.

وبعد أن حدثت الثورة الصناعية، صار للرسم شأنٌ ثانٍ؛ فقد استفيد منه استفادةً جليلة، لاسيما في صناعة المواد المنزلية. فحين يقتني المرءُ أيةَ مُعَدَّةٍ صناعية، وبمجرَّد فضِّ العلبة الحاوية لها، يجد بداخلها النشرةَ الإرشادية (الكتالوج) التي تكون عادةً مكتوبةً بلغةٍ أُخرى غير العربية، لأننا ـ وبطبيعة الحال ـ مستهلكون لا منتجون لمثل هذه الصناعات. وعلى أية حال، فإننا ننظر إلى الرسوم المنتشرة فيها والمُوضِحة كيفيةَ التركيب والاستعمال والتحذير من الاستخدام الخاطئ لهذه المعدة، ثم نرميها في سلة المهملات دون اكتراث، ولا نكلِّف أنفسنا حتى عناء التفرُّس في الكلمات. وهنا تلوح النقطة التي احتملناها في الفقرة الأولى، حين ذكرنا أحد الأسباب التي حملت بني البشر على التكاتب بالرسوم، مرجِّحين أن يكون ذلك راجعاً إلى عدم توافر لغة موحَّدة بينهم.

× × ×

رأسٌ بلا جسد، وجسدٌ لامرأةٍ عارية، يشعرك مظهرُه ـ لمجرَّد النظرة الأولى ـ بأنك ارتكبتَ إثماً عظيماً. ومسخٌ بجسد إنسان ووجه حيوان (أعزكم الله)... هذه المشاهد ليست كوابيسَ قد تراها في أحلامك المزعجة، فتفيق منقبضَ السريرة، متعوِّذاً بالله من الشيطان الرجيم، الذي قد يتراءى لك بذاته غير المرئية في واحدةٍ من مثل هذه المناظر. ولو سألت أحدهم عن ماهيتها لأخبرك بأنها رسومٌ تشكيليةٌ لفنانٍ ما، فتصاب حينئذٍ بشيءٍ من الحيرة، وتتساءل في قرارة نفسك: أيُّ فنونٍ تشكيليةٍ هذه؟ التي تأتي على شاكلتها، وتُحدِثُ فيك إشكاليةً بالغةً، تتشكل عوالمها فور النظر إلى هذا العالم الغريب من الصور التي تحاصرك.

يزداد الأمر غرابةً حين تراها في العديد من المطبوعات، على صفحاتها الأدبية بالذات، ولاسيما عندما توضع بجانب النصوص الأدبية؛ ففي الكثير من الأحايين لا تجد أيَّ تناصٍّ ولا أدنى تماهٍ بين عنوان النص وما يُفترض أن تُعبِّر عنه مثلُ هذه الأشكال الغريبة عن هوية الثقافة العربية والإسلامية، حتى لكأنك تراها ملصقاتٍ لأشرطة الرعب والإثارة، التي لا أرى لها غرضاً سوى (التنصير). ومع ذلك، نتفرَّج عليها ونصفق بحرارة للبطل بعد أن يُخرج الصليب من جيبه ويبرزه في وجه الشبح أو مصاص الدماء، فتكون نهاية كلٍّ منهما بتلك الطريقة التي أقدم عليها البطل.

إذن، ما الذي تُشكِّله هذه الرسوم في ذائقة المشاهد والمتتبع يا ترى؟
ولكوني لا أحبِّذ التعميم في مثل هذه المسائل الذوقية، أودُّ أن أجعل ما يلي من سطور هذا المقال، وفي خاتمته تحديداً، يعبِّر عن وجهة نظري الخاصة لا غير.

الخاتمة:

الرأي عندي أنها ليست سوى رسوماً شيطانية، لا فائدة تعود بها على النص الأدبي عند إلصاقها بجانبه، خصوصاً إذا حدث فَكّ ارتباط بين ما هو في اللوحة وما تنص عليه الكلمات. أما إذا نُشرت هذه اللوحات بمفردها، فإنها لا تمثِّل أي معنى ولا موضوع، لكأنها أضغاث أحلام. وهي على النقيض التام مما يُعرف بالرسم الساخر (الكاريكاتير)؛ فهذا الأخير تُنشر لوحته غالباً بمفردها وتحدِّث عن نفسها بنفسها، ويكمن الأدب المراد في معناه الحقيقي من خلال لوحةٍ تُحيي في النفس روح ما يُسمى بـ (الكوميديا السوداء) بمعالجة فنية لا تتطلب كلمات، غير تلك التي نراها تخرج من فم الشخصية المرسومة في شكل قفشة داخل مربع أو أي إطار آخر. وبهذه الابتسامة العفوية التي ترتسم على شفتي القارئ، يحدث الإصلاح الذي سعى إليه الفنان، سواء أكان أدبياً أم اجتماعياً أم فنياً. وقد يكون الدافع من وراء إحياء هذه (الكوميديا) إيقاظَ أمرٍ ما وتفعيله، عن طريق رسم تلك الابتسامة.

بنغازي: 27 / 9 / 2007

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟