دور الكاتب في مجتمعه
بمُجرَّد أن يُقرأ النَّص، يُطوى مع الزَّمن مثلما تُطوى صفحاته. هكذا تُعامَل نصوص كُتَّابنا الأدبية، بعكس ما يجري في مناطق أُخرى من بِقاع العالم؛ إذ تخضع النصوص الأدبية هناك لعدّة معايير، بقراءة مُتعمِّقة وفاحِصة ترصد كُلَّ ما من شأنه أن ينهض بالمُجتمَع، وذلك بتفعيل كُلِّ ما يجيء فيها من رؤى وآراء في المفاصل الحيوية للدولة المُنتسبة إليها جنسية الكاتب. حتى أنّ بعض المؤسسات التابعة لهذه المُجتمَعات، التي هي في أغلبها مُتحضِّرة، يُقدِّم – من دون مُكابرة ولا تعالٍ – على أخذ الاستشارات المُتعلِّقة بالجوانب المُهِمَّة والبارزة التي يعرض لها الكُتَّاب والمفكِّرون هناك، بل إنَّ بعضها الآخر يتبنّى أُطروحاتهم ونظرياتهم، لعلَّها تكشف الحُجب السوداء المُسدَّلة على القضايا الحياتية الحساسة، وذلك لأجل الاستفادة من أفكار وتطلعات هذه النخبة.
ومادامت الحال تمضي عندنا على هذا المنوال البائس، ففي أعلى مستويات الاستياء، أرى أنّه لن يكون للكاتب أيُّ دورٍ فعَّال في مُجتمعه، وستبقى كتاباته محضَ حبرٍ على ورق، ليس إلا.
فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ وإلامَ سنظلُّ عليها؟
إنّ منبت ذلك – كما يُخيَّل إليّ – إنما يُعزى أساساً إلى أنّنا ننظر إلى الكتابة من خلال زاوية ضيقة وحادة جداً، يكاد أن ينطبق ضلعاها، تتمثل في أنّ الكتابة ليست سوى وسيلة يلجأ إليها الكاتب ليُعبِّر لنا بها عن وجدانياته، التي ربما لا تهمنا، وكذلك مشاعره العاطفية والشاعرية (الرومانسية) وكفى. في حين أنّ لها مهمّةً مُهِمّةً في التوجيه ورسم المسار الصحيح أمام المُتلقي في شتّى مناحي الحياة.
وإذا انسحب هذا الشأن على نصٍّ أدبيٍّ ما لأي كاتب، فإنّه في أغلب الأحوال – وأحسنها – سيُصنَّف تحت زاوية نعرفها جميعاً في الصُّحف والمطبوعات السَّيارة، ألا وهي (وجهة نظر). ولا يأتي بعد ذلك من ينظر إلى الأمر المطروح عبر الزاوية نفسها التي رآه الكاتب من خلالها، ولو من قبيل التحقُّق من صحة ما تناوله، ومن ثمَّ التَّسليط على الجوانب المضيئة فيه وتبنيها، سواء أكان ذلك على صعيد الأفراد أو المُؤسسات. فيمسي كلُّ جُهدِه عبارةً عن وجهة نظر مُتطرِّفة وغريبة عمّا تراه عامةُ الناس، كما هو مكتوبٌ على أغلفة المطبوعات الداخلية: "ليس بالضرورة أن تكون المواد المنشورة مُعبِّرة عن سياسة المجلة أو الصحيفة، بل عن رؤى الكُتَّاب فقط."
في الوقت الذي قد تكون فيه رؤيةً ناجمةً عن نظرٍ حادٍّ وثاقبٍ لكاتبٍ ما، يرى أبعادَ أيَّة قضيةٍ مصيرية، ويستشرف نتائجها على نحوٍّ مُبكِّر، فيتلافى مُسبِّباتها قبل الوقوع في وحل سلبياتها. أو أن يُنظِّر لأية قضيةٍ ثانية، ويدعو إلى الأخذ بأسبابها وحبائلها ثم الإقدام عليها من دون أيِّ تردُّد، لحدسه – بل بالأحرى – لإدراكه المُسبَق بالفائدة التي قد تعود بها على المجتمع، ذلك لانتمائه إليه وإحساسه بالمسؤولية تجاه أفراده.
وهذا التَّجاهل المقيت، الذي يتعرض له الكاتب لدينا، له أصلٌ ضارب في قِدم التاريخ. ومع ذلك لم نستفِد من التَّجارِب الخاطئة التي وقع فيها أسلافنا عند تجاهلهم لدور الكُتَّاب، وما نزال نقتفي أثره، مع علمنا المُسبَق بأنّه يبعدنا عن جادة الطريق. ولعلَّكم تعرفون المصير الذي لاقته "مقدمة ابن خلدون"، التي رُميت في إحدى المكتبات بالجزائر، لأنّ الناس آنذاك لم يعرفوا، بل إنهم لم يستوعبوا ما تطرّق إليه فيها من أفكار. إذ كانوا يهتمون بالشعر والأساطير والخرافات أكثر من اهتمامهم بالنظريات – ليس العلمية ما أقصد، بل حتى الأدبية منها – مثل ما ورد في تلك المقدمة الخلدونية الخالدة.
وبعد أن تفطّن إليها الأوربيون الغزاة، اكتشفوا أنها تُمثّل أهم مخطوط ظهر للوجود في تاريخ البشرية، لما يحتويه من معالجات اجتماعية ودراسات مُستفيضة عن المُجتمعات المدنية.
فيا لها من نظرةٍ متعامية وقاصرة، تلك التي أدّت بمثل هذا المخطوط إلى أن يُهال عليه غبار أرفف المكتبات، وكان سيظل تحت الظلّ، لولا أن ألقى به القدر بين أيدي الغُرباء الغربيين، ليحللوا ما دوِّن فيه، فيعرفوا قيمته وجدواه. فهل على كُتَّابنا الآن أن يصبروا ويُصابروا حتى ترمي لعبة الحظ بنصوصهم في أيدي الأجانب، نتيجةً لهذا التَّجاهل الذي يعيشونه داخل أوطانهم؟
بنغازي: 19 / 11 / 2007
تعليقات
إرسال تعليق