قراءة نقدية في نص سوائل بنغازية



"سوائل بنغازية": سخرية سائلة في واقع متجمّد

قراءة نقدية في نص زياد العيساوي



تمهيد

ينتمي نص "سوائل بنغازية" (2010) للكاتب الليبي زياد العيساوي إلى أدب النثر الساخر، حيث يشتبك السرد مع التأمل الفلسفي عبر سلسلة من المشاهد اليومية التي تتحوّل إلى مرآة كاشفة لواقع اجتماعي مأزوم. يعتمد النص على ثنائية ذكية: المادي (السوائل) مقابل الرمزي (الإنسان والمدينة)، ويُصنّف ضمن الكتابات التي تُعيد تشكيل المدينة من خلال مفرداتها اليومية، بل من خلال ما يسيل منها حرفيًا ومجازيًا.


هيكل النص: سوائل كمفاتيح تأويلية

يقسّم العيساوي نصه إلى تسع وحدات معنونة بأسماء سوائل: (دم، دمع، عرق، غاز، بنزين، زيت، حليب، عطر، ماء)، وهي ليست مجرد محاور موضوعية، بل مفاتيح رمزية تفتح أبوابًا على حكايات الخيبة، الإهمال، العبث، والاغتراب.

كل سائل يُستثمر بلاغيًا ودلاليًا لتكثيف صورة من صور الانهيار: من الصحة إلى الاقتصاد، ومن الطفولة إلى الأمومة، ومن المؤسسات إلى الشارع، لتنصهر جميعها في نهاية وجودية تحت عنوان: الخواء.


الأسلوب: هجاء حديث بنَفَس صوفي مقلوب

ما يلفت الانتباه في "سوائل بنغازية" هو اللغة السائلة نفسها: مترعة بالمجاز، لكنها لا تفقد ارتباطها بالواقع. فالعيساوي يكتب كمن ينوح بصمت، سخريةً لا فُحش فيها، ومرارةً لا يخففها ضحك.

يمزج الكاتب بين الإيقاع الشعري والصورة الصحفية، مستخدمًا توليفات لغوية ذكية:

  • "بلد المليون جوّال سكر متحرّك"
  • "يبصقون علينا بعد أن يلعقوا حليبنا الأسود"
  • "الخواء يتآخى مع العدم"

وهي جُمل تؤسس لمنطق "الخراب النبيل"، الذي لا يستسلم للرداءة، بل يفضحها من الداخل.


المدينة كجسد سائل

مدينة بنغازي ليست مكانًا ثابتًا في هذا النص، بل كائن عضوي يفرز سوائله بإفراط، دلالة على الحمّى المجتمعية. المستشفيات، المصارف، الأسواق، طوابير الغاز، الأعياد، الشوارع، وحتى الحنين للمطر، كلها ممارسات جسدية لمدينة تنهار في وضح النهار، دون أن يمتلك أحد الشجاعة لطرح السؤال الأخير.

ولعل أقوى مفارقة في النص تتجلى في القسم التاسع (الماء)، حيث يتحوّل "الماء" من مصدر حياة إلى دليل خواء، ويتقاطع فيه المادي بالفلسفي، إذ يقول الكاتب:

"الخواء يتآخى مع العدم... العدم لا سوالب ولا مواجب له".

هنا نلمح نزعة وجودية قاتمة، تربط بين السياسي اليومي والفلسفي الكوني، في نبرة هي أقرب إلى البكاء الداخلي منها إلى الخطابة.


جدلية السيولة والجمود

تكمن عبقرية النص في أنه يتحدث عن السوائل، في حين أن الواقع الذي يصفه جامد، رتيب، عديم الحركة. وبينما تفيض الكلمات، نجد أن الحياة نفسها متوقفة، تُدار بعشوائية بيروقراطية وممارسات قهرية، من دون أفق للتغيير. السيولة هنا ليست حياة، بل تسرب بطيء نحو الفقد والعدم.


خاتمة: أدب ما بعد الانكسار

"سوائل بنغازية" ليست مجرد مرثية لمدينة، بل كشف أدبي لفشل جماعي، ولصمت مديد، ولمدينة سائلة في بؤسها ومُثقلة بخوائها. هو نص ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـأدب ما بعد الانكسار، حيث لا خلاص، ولا قفز فوق الواقع، بل الغوص فيه حتى قاع المعنى.

زياد العيساوي في هذا النص لا يكتب كاتبًا فقط، بل يشهد شاهدًا على مدينة تسيل ببطء، دون أن تجفّ، لأنها ببساطة تُستنزَف باستمرار.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من بنغازي إلى طرابلس

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟

المعادلات الصعبة