الفرق بين الحب والانجذاب
في العلاقة ما بين القمر والأرض، وهي علاقة أزلية منذ أن خلق الله الكون إلى أن يرثه، يبدو لنا بشكل واضح جلي مدى عشق القمر للأرض. فنراه، ومن فرط عشقه هذا، يظهر في كبد السماء، وفي ساعات النهار، بحجم صغير، وبأضواء خافتة لا يكادان يشكّلان شيئًا أمام حجم الشمس، وأمام ما يصل منها إلى سطح الأرض من إشعاعات؛ ذلك لأن الوقت غير مُهيَّأ له لينبلج بمظهر أفضل من ذلك المظهر، مصداقًا لقوله تعالى: "والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها" [سورة الشمس: الآيتان (1)، (2)].
إلا أن القمر يأبى إلا أن يظهر في سماء الأرض، ولو بذلك الحجم وبتلك الأضواء، خوفًا من أن تقع الأرض أسيرة لحب الشمس ولأشعتها الدافئة.
وما إن تبدأ الشمس في المغيب، وما إن تخلو الساحة له، حتى يبدأ القمر بالولوج في حلة جديدة، وفي صورة مُغايرة لتلك الصورة التي بدا لنا بها في ساعات النهار.
وكحال كل عاشق أراد أن يقابل محبوبته وهو في أحلى صورة له، ولكنه لم يكن يملك ما يرتديه لذلك، فيذهب إلى صديق له ليستعير منه قميصًا مثلاً، ومن آخر حذاءً. نجد أن القمر في عشقه للأرض كحال ذلك العاشق، حينما بدا لنا بتلك الحلة الجديدة الرائعة، وهو الذي قد استعار من النجوم إشعاعاتها، وقام بعكسها على سطح الأرض بضوء ينير عتمة ليلها. لأننا، وكما نعلم جميعًا، أنه غير منتج للضوء، بل هو عاكس له، شأنه في ذلك شأن باقي الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية، وقد بدا للعيان بحجم بدا لكل من رآه، وكأنه أكبر من النجوم حجمًا، في حين أن النجوم تكبره حجمًا وبعديد المرات.
وعلى الرغم من هذا العشق الأزلي والأبدي، لا يسقط القمر صريعًا لهواه، حيث أننا لا نراه يقترب من سطح الأرض أكثر من تلك المسافة التي اقترب بها ليلاً، لأنه يدرك جيدًا أن في ذلك نهاية له ولمحبوبته الأرض، إن هو اقترب أكثر وحدث التصادم بينهما. ولأنه أيضًا غير مخيَّر في ذلك، بل أنه مسيَّر، ويسير في مسار قد قدّره الله له ووفق نظام مداري محفوظ إبدعه الله وأحسَّن في إبداعه، مصداقًا لقوله تعالى: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" [سورة يس: آية (38)].
لقد ارتأينا في هذه العلاقة الفلكية خير مدخل وخير مستهل لمقالنا هذا في دراسة الفرق بين الحب من جهة والانجذاب من جهة أخرى.
يقول أحدهم نادمًا: "غالبًا ما تكون المظاهر خدّاعة"، معللًا بذلك خيبة ظنه في شخص ما، قد انبهر به وشدّه الانجذاب إليه ذات مرة، وبعد أن اكتشف زيفه وحقيقة أمره، بعد فوات الأوان. ولكننا نرى في ذلك تعليلاً آخر، يختلف كل الاختلاف عن ذلك التعليل، حيث أننا نلقي باللائمة على أنفسنا؛ فهي من خدعتنا. فبنظرة خاطئة من أعيننا، جعلت كل من هو جميل وجذّاب في نظرنا حبيبًا لنا، وصورت لنا كل من هو رائع فارسًا لأحلامنا.
علينا أن ننظر إلى الآخر بنظرة فاحصة لا شاخصة، تنفذ وراء تلك الهالة التي تُحيط به لنكتشف ما وراءه من سلبيات تختفي وراء ذلك المظهر الجميل الأخاذ، وبنظرة تخترق ذلك الغموض الذي يكتنفه، لئلا نقع تحت طائلة الانجذاب. فننجذب إليه أكثر فأكثر، وعندما نقترب منه نصطدم بحقيقته، ونصبح على ذلك نادمين، حيث لا ينفع ندم.
بنغازي في: 1 / 1 / 2005
تعليقات
إرسال تعليق