قراءة في خطاب السخرية السياسية ما قبل فبراير 2011

الليبيون براء من ذلك:

قراءة في خطاب السخرية السياسية ما قبل فبراير 2011


المقدمة

يمثل مقال "الليبيون براء من ذلك" الذي كتبه زياد العيساوي في أكتوبر 2010، نموذجًا بارزًا للكتابة الساخرة التي انبثقت في ليبيا خلال السنوات الأخيرة من حكم القذافي، في مرحلة ما قبل ثورة فبراير 2011. تندرج هذه الكتابة ضمن ما يمكن تسميته بـ "الأدب المقاوم بالتورية والسخرية"، حيث جرى توظيف اليومي والشخصي كمدخل للسياسي والجماعي، في ظل مناخ يسوده القمع وكبت الحريات.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل النص من خلال ثلاثة مستويات أساسية: البنية السردية والأسلوب الساخر، البعد الحقوقي والسياسي، والموقع ضمن خطاب المعارضة الثقافية قبيل 2011.

أولاً: السياق التاريخي والسياسي

  • كُتب المقال في وقتٍ بدأت فيه قضية مجزرة سجن بوسليم (1996) تتحول إلى ملف عام مفتوح، بعد سنوات من الصمت والتكتم.
  • في 2009 و2010 ظهرت احتجاجات محدودة لأهالي الضحايا في طرابلس وبنغازي، وتنامى الحراك الحقوقي، وهو ما جعل تناول الموضوع محفوفًا بالمخاطر.
  • النص يندرج إذن ضمن الأدب السياسي المعارض غير المعلن، حيث تُستبدل اللغة المباشرة بلغة رمزية ساخرة تُتيح تمرير النقد من تحت رقابة السلطة.

ثانياً: البنية السردية والانطلاق من اليومي

يبدأ النص بمشهد بسيط: الكاتب يحمد الله لأنه لا يملك سيارة ولا يجيد القيادة، متخيلاً أنه لو ارتكب حادثًا وتسبب في وفاة أحد المارة، لكان مضطرًا لدفع الدية من ماله أو من مال عائلته.
هذا المدخل اليومي يتحول تدريجيًا إلى استعارة سياسية: إذا كان الفرد يتحمل خطأه الشخصي، فكيف بالنظام الذي ارتكب جريمة بوسليم أن يُحمّل الشعب كلفة التعويض من المال العام؟
تقوم هذه البنية على الانتقال من الجزئي إلى الكلي، ومن الخاص إلى العام، وهي تقنية سردية شائعة في كتابات العيساوي، تمنح النص جاذبية شعبية، وتجعله قريبًا من القارئ العادي.

ثالثاً: السخرية السوداء بوصفها أداة مقاومة

  • العبارات الشعبية (مثل: "راك حشمت بينا"، "دوّر جماعتك") تكسر رسمية الخطاب السياسي، وتحوّل المأساة إلى مشهد أقرب إلى التهكم المرير.
  • تسمية بوسليم بـ "بومريض" تلخص الرؤية الساخرة: المأساة تحوّلت إلى مرض جماعي ينهش جسد الأمة.
  • هذه السخرية ليست للتخفيف فحسب، بل تُوظف كأداة مقاومة: إذ تسمح للكاتب بقول ما لا يُقال علنًا، وتفكيك هيبة النظام عبر إلباسه ثوب الفكاهة السوداء.

رابعاً: البعد الحقوقي والجدل حول التعويض

يتناول المقال مسألة تعويض أهالي الضحايا، مبرزًا التناقض بين:

  • أسر قبلت بمبلغ (200 ألف دينار) بسبب الحاجة.
  • أسر رفضت وطالبت بالقصاص وكشف الجناة.
    الكاتب يطرح هنا سؤال العدالة: لماذا يُدفع التعويض من أموال الشعب، لا من أموال القتلة؟
    بهذا المعنى، يُسجل النص موقفًا نقديًا صريحًا ضد تحميل الليبيين وزر جريمة لم يرتكبوها، مؤكدًا أن "الليبيين براء من ذلك".

خامساً: المقارنة مع غزة – التدويل الأخلاقي

يقارن النص بين ضحايا غزة (1200 شهيد عام 2008) وضحايا بوسليم (1200 قتيل).

  • إسرائيل احتاجت 24 يومًا لقتل هذا العدد، بينما النظام الليبي قتله في ساعات.
  • هذه المقارنة تضع النظام الليبي في مرتبة تفوق وحشية الاحتلال، وتفضح حجم الجريمة من خلال معيار عالمي.
    إنها استراتيجية بلاغية لنزع "الوطنية الزائفة" عن النظام، وإظهاره كعدو لشعبه أشد من أعداء الخارج.

سادساً: الأحياء قبل الأموات – توسعة دائرة المأساة

رغم الاعتراف بمجزرة بوسليم كـ "ما قبلها مأساة"، يشدد الكاتب على ضرورة عدم نسيان الأحياء:

  • المواطنون يموتون يوميًا بالإهمال في الصحة والبنية التحتية، حتى سماها تهكمًا "بوسقيم".
  • بذلك يربط النص بين الموت العاجل بالرصاص والموت البطيء بالفساد.
    هذه المفارقة تعكس رؤية شمولية: المأساة ليست حدثًا ماضويًا فقط، بل حالة بنيوية متواصلة.

سابعاً: اللغة والأسلوب

  • لغة المقال تتأرجح بين الفصحى المحكمة والتعابير المحلية، ما يضفي عليه طابعًا شعبيًا-نخبويًا في آن.
  • الأسلوب قائم على المفارقة والسخرية السوداء، لكنه يتخلله تحليل عقلاني وحقوقي.
  • هذا المزيج يمنح النص قوة مزدوجة: القدرة على الوصول إلى جمهور واسع، والقدرة على صياغة موقف سياسي جاد في قالب غير مباشر.

ثامناً: الموقع في خطاب ما قبل فبراير

يندرج المقال ضمن سلسلة نصوص للكاتب "زياد العيساوي" في تلك الفترة، مثل:

  • من مذكرات رئيس أمريكي سيغادر البيت الأبيض (2008).
  • دور المثقف (2010).
    كلها نصوص وظفت السخرية والتحايل اللغوي لمواجهة الاستبداد.
    يمثل نص "الليبيون براء من ذلك" ذروة هذا الخطاب، لأنه يواجه النظام في أخطر ملفاته (بوسليم)، ويعلن براءة الشعب منه، دون مواربة.

الخاتمة

يكشف تحليل مقال "الليبيون براء من ذلك" عن كتابة مغايرة تجمع بين السرد اليومي، السخرية السوداء، والوعي الحقوقي. النص لا يكتفي بتوثيق مأساة بوسليم، بل يضعها في إطار أوسع: مأساة المواطن الليبي بين الموت في السجون والموت في المستشفيات.
بهذا، يقدّم المقال شهادة مبكرة على روح فبراير قبل أن تولد، ويُسهم في أرشفة الخطاب الثقافي المعارض الذي مهّد، على المستوى الرمزي، للانفجار الشعبي عام 2011.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

المعادلات الصعبة