يوم في المصرف
كثعبانٍ ملتوٍ على طريقٍ صحراويٍّ ساخن، رأسه إلى جانب ذيله، كان شكل الطابور أمام مصرف (الوحلة). جئتُ في آخر طرف الذيل المدبَّب عند الساعة السادسة صباحًا. على يمين هذا الطابور، ثمّة طابورٌ آخر مستقيم؛ الزبائن يجلسون على قطعٍ من الطوب، كلٌّ يبحث له عن واحدةٍ سليمة، أو قطعتين مكسورتين يضعهما واحدةً فوق الأخرى، حتى يستقيم ظهره، ممّا تبقّى من أعمال البناء في البيوت الحديثة المجاورة.
في الشارع الثاني يوجد بابٌ خاصٌّ بالنساء، المتراكِمات على عتبة المصرف المكوّنة من درجتين، حتى كاد تجمّعُهنّ يلامس الانحناءة التي شكّلها طابورُنا الأفعواني.
على تمام الحادية عشرة، بدأ دوام الصرف، فصرنا نتدحرج حاملين الطوب أمامنا كأفارقةٍ في هجرةٍ غير شرعية نحو الشمال، وهم يدحرجون أسطوانات الماء أمامهم، حتى يصلوا إلى الشاطئ الغربي في الساحل الليبي، ومنه إلى شواطئ أوروبا الجنوبية. وكلّما أحرقتنا الشمسُ بلهيبها الحارق، نتقدّم بشكلٍ عرضيٍّ في الطابور كأنّه ثعبانٌ ابتغى أن يبرد جنبه الملفوح وهو يتقلّب. وعند مسافةٍ معيّنة، برز شابٌّ يعمل على تنظيم الصفوف، قام بنهر الهاربين من لَفْح الشمس، وشدّد على ضرورة الإبقاء على المسافة بيننا وبين الإخوة الآخرين الماكثين على قوس الثعبان الثاني الممدّد على سور المصرف. كان يحسبها بخطواته الضيّقة، فقدّرتها بنحو ستة أمتار تقريبًا، ولم يُعر أيّ اكتراثٍ لشكوى الجالسين من القيظ والشمس.
أخذتْ أمنيتي، كسائر الموجودين، منعطفًا آخر؛ كلّما اتسعت انعطافة الطابور، وهي أن أتهرّب في كلّ مرّة بمسافةٍ كالتي بين الإبهام والخنصر ولمدّة دقيقة، لأنجو برأسي من الحرارة الساقطة علينا من السماء، فأحجبها بقطعةٍ من الورق المقوّى لصناديق بضائع الأثاث المنتشرة في المكان. صارت أنظارُنا مشدودةً إلى الطرف المقابل من طابورنا، حيث يمكننا الجلوس على عتبات المصرف في قطعة ظلٍّ عرضها نصف مترٍ فحسب. وبعد مضي ستّ ساعات من المكوث، إذ اشتدّ نظرُنا، وصارت الشمس عموديةً، فلم ننعم بالظل.
أثناء هذه المشقّة أخبرني الذي أمامي بأن هذا هو اليوم الرابع الذي يأتي فيه من دون أن يتحصّل على مليمٍ أحمر في الأيّام الثلاثة الفائتة، إذ كلّما صار على مقربةٍ من الشباك، يعلن الشرطي عن نفاد الأموال. وقد أفطر يوم أمس بسبب الغيبوبة التي ألمّت به نتيجة معاناته من داء السكّري.
تليني في الطابور شخصية بدوية (حدرت) من سيدي مهيوس، خفيفة الظل، تحمل في جيب قميصها العربي صكًّا بقيمة مئتي دينار فقط، حرّره له شخص قبل أن يتوفّاه الله في ليلة القدر، كقيمة مسجّلة عليه دينًا منذ عامين. وكلّما حضر إلى المصرف ليسحبه، يخبره الموظّف بأن حساب هذا الشخص عليه دينٌ بالأحمر، فلا يمكن صرف القيمة، فيعود أدراجه.
خرج أوّل زبون من المصرف وفي يده خمسمئة دينار. وعندما استفهم منه الناس عن كمية النقد الموجودة، أجابهم بأنها كبيرة وستسدّ جيوب كلّ الحاضرين. فعلت التكبيرات، وأكّد قوله أحد رجال الأمن المشرفين على النظام. تهكّم الذي أمامي: "خَلّوكم منه... هذه العبارة سمعتها في الأيام السابقة بلا فائدة، راهو مغير يبصر معاكم بس". ردّ عليه البدوي: "والله ربّي سيحاسبه على قوله، سواء أكان جدِّيًّا أو مزاحًا". ثم استرسل: "إنّ الله لا يقبل المزاح في أشياء كثيرة، منها الزواج".
ثم روى لنا قصة زواجه من الثانية، وكيف تمّت وجاءت من قبيل المزاح؛ فعندما كان يبحث عن زوجة ثانية، رَدَّتْه خمس عشرة فتاةً بكرًا بالرفض التام. وأثناء مسامرة في مأتم، قال له أحد الحاضرين: "أنت ما فيك ما يعيب، وإن كان اتجي تخطب أختي نعطيها لك في توتتها، مش في قفطانها". فعلت الضحكات من رأس الطابور إلى ذيله، فيما حاولت النسوة كبت ابتساماتهنّ في المناديل، فحوَّل المزاح إلى واقع، فتقدّم إلى الفتاة في اليوم التالي وتزوّج بها.
صرنا نقترب شيئًا فشيئًا من الباب الحديدي المُفضي إلى الساحة الداخلية للمصرف، حيث الظلّ الظليل وبداية المرحلة الثانية التي يتحوّل فيها الطابور الأفعواني إلى ثلاثة طوابير طويلة، موزّعة على ثلاثة شبابيك للصرافة. في البدء، ونحن في الخارج، كنّا نظنّ بأن عذابنا سينتهي بمجرّد ولوجنا إلى الداخل، غير أنّنا اكتشفنا بأن المرحلة الثانية، وهي الأشدّ مشقّة، تبدأ من هنا؛ إذ لا يوجد مكان للجلوس، فأمضينا أكثر من ست ساعات واقفين نتجرّع العطش، وتبخّر كلّ ما خزنته من ماء السحور في جوفي.
"رباه، كيف لي أن أطيق هذا الوضع؟ هل أرجع إلى البيت؟ لا، لا... عند ذاك ستضيع هذه الساعات التي قضيتها هنا سُدى". وبينما كنت أجادل نفسي، بان أمامي شقّ صغير في سقف الزنك الذي يعلو رؤوسنا، يتقاطر منه ماء التكييف، يفصل بيني وبينه زهاء العشرين شخصًا. كلّما صار واحدٌ منهم تحت هذا الشقّ تملّكني شعور بالغبطة تجاهه. صبّرت نفسي بأنني بعد قليل سأتقدّم، وصارت عيني مسلّطة على هذا الشقّ ونسيت فتحة الصرّاف. لقد استغرق وصولي إلى هدفي زهاء أربع ساعات بسبب عطل في المنظومة، التي أخذت لا تخرج مبتسمًا بنقوده إلا كلّ نصف ساعة في أحيان كثيرة.
كانت أوّل قطرة ماء تنزل على رأسي كحبّة حياة، فصرت متسمّرًا في مكاني، وعلى الرغم من التدافع والتماوج لم أزحزح مكاني، لأني لست منشغلاً كغيري بفتحة الشباك؛ فالسيولة التي أحتاجها هي هذه، لا غيرها. أخذت أميل إلى اليسار واليمين لتطال قطرات الماء كتفيّ بعدما ابتلّ شعري، ثم نعليّ وجبيني.
على يميني وجدتُ شابًّا ملتزمًا، لحيته مخضّبة بلون الحنّاء، انتقل من آخر الطابور إلى جانبي ليمنع المتسلّلين من اختراق الطابور، عبر فجوة بيننا وبين الطابور الآخر. وفجأة علا صوتٌ من جهة أخرى يطلب من هذا الشاب أن يعود إلى مكانه، فحاولت أن أفهمه مقصِد الشاب، الذي علّق بأنّ هذا المحتجّ ممّن يأخذون موقفًا معاديًا من كلّ ملتحٍ، وهو ممّن يعرضون بمثله بقولهم: "تلقاه داير لحية ويكذب ويسرق، كأنّ السرقة والكذب من حقّ غير الملتحين".
مرّت نصف ساعة من دون أن يتحرّك الطابور قيد أنملة، غير أنّ أحد المسنّين رجع إلى الطابور بعد أن أخذ قسطًا من الجلوس في الخارج، وقال: "ما شاء الله، الطابور تحرّك!"، لكأنّه لا يعلم بأنّ هذه النظرية الوهمية سببها التدافع وإقفال الفجوات بين كلّ شخصين حتى لا يخترق الطابور أحد.
سأل البدوي الشاب الملتزم: "زعمك يا شيخ، انطلعو الفطرة فلوس أم حبوب؟".
أفرد الشيخ عدّة أحاديث من السنة، تؤكّد الفتوى السلفية بإخراج الزكاة طعامًا. فردّ عليه البدوي: "يعني كنا على غلط؟ وإلا إيّش رايك يا بوالعيساوي؟".
قلت له: "الرأي عندي والقول الفصل فيمن يأتي بالدليل، وأنا أرجّح إخراجها حبوبا. وإيّاك أن تحسبني وتنسبني إلى التيار السلفي، فأنا أجد في إخراجها بهذه الكيفية تحقيقًا للرأيين؛ فمن يخرج الزكاة حبوبًا هو في الأصل يخرجها من ماله، ويشتريها ثم يدفعها، وبهذا يكون قد دفع مالاً في هيئة حبوب. هذا والله أعلم وأعلى، وأرجو منك ألا تعتبر وجهة نظري فتوى، لأن مثل هذه الأمور، لا تؤخذ بالعقل بل بالنقل".
وبمجرّد أن سمع البدوي رأيي صاح: "الله ينصر دينك يا بوالعيساوي! والله لو عندي أخت نعطيها لك". ابتسمت وقلت له: "يا ريت ما نلقاش خير منك، بس راهو ما ناخذهاش في قفطانها ولا توتتها". قال لي وإمارات الدهشة ترتسم على شدقيه: "امالا فيش تاخذها؟". أجبته من دون استحياء: "في شورت راب". فشهق من ضحكته، وضحكت النساء اللائي يسترقنّ السمع وخبأنّ ابتساماتهنّ في المناديل، فيما انطلقت ضحكة مختنقة من فتحة الشباك. غير أنّ صوتًا نشازًا، علا من الشخص الذي أمامي: "اللهم إنّي صائم... عيب يا شاب، مش قالك امبدري الزواج ما فيش ابصارة".
ردّ عليه: "مش شورك يا خويا، خليك وراس خيي في حالك ودورك. راهو نحن انبصرو، وأصلاً نا ما عنديش خوات شبابات. شكلك استحليت التصباية في الطابور بيش اتصيرلك غيبوبة وتتحصّل سبلة وتفطر".
أخذت أتقدّم، وأخذ شقّ السقف يتأخّر عني، فحرمت لذّة الماء البارد. وعند الساعة السادسة تمامًا وصلت إلى الشباك. مددتُ للصراف صكًّا، فيما أجّلت إخراج الصكّ الآخر، على الرغم من معرفتي بأن لكل زبون الحقّ في صرف صكّين. وأخذت أجوب بنظري إلى داخل الحجرة تقييمًا للسيولة، فوجدتها بالكاد تكفي لشخصين من بعدي. ناولني الصراف خمسمئة دينار وسألني: "عندك شيك آخر؟". قلت له، مستحييًا ممّن هم ورائي: "لا... هذا وكفى".
التفتُّ وانطلقت متثاقلاً بسبب التنمّل الذي أصاب قدميّ من شدّة الوقوف لاثنتي عشرة ساعة. وبعد ابتعادي بمسافة عشرين مترًا، علا الهرج والمرج، فرأيت الناس يقذفون المصرف بالحجارة، فيما شاهدت الشرطي الذي أكّد على أن السيولة ستكفي الجميع من بين قاذفي المصرف بقطع الطوب التي كنّا نجلس عليها في الخارج، وهو يخبر المتحلّقين حوله: "لنقنهم زلطوني معاكم".
زياد العيساوي
6 يوليو 2016
تعليقات
إرسال تعليق