من اللسان المكموم إلى الألسنة المتفلتة: قراءة سياقية في نص "تأملات.. وتأويلات لمآلات" لزياد العيساوي (2010))
يشكّل نص «تأملات.. وتأويلات لمآلات» (23 أكتوبر 2010) وثيقة أدبية تعبّر عن حالة الخنق السياسي والاجتماعي في ليبيا قبيل ثورة فبراير 2011. عبر لغة ساخرة وتهكمية، يعكس زياد العيساوي مأزق التعبير تحت سلطة الاستبداد، مستخدمًا صورة اللسان كرمز مركزي للصوت المعطَّل. بعد اندلاع الثورة وما تلاها من تحولات، يكتسب النص دلالات جديدة تُعيد تأويله بوصفه استشرافًا مُبكرًا لمصائر ما بعد فبراير.
أولاً: اللسان كاستعارة للخطاب المكموم
- يوظف الكاتب صورة "اللسان" ليجسد تناقضات الفرد الليبي قبيل الثورة: طويل وجبان، صاخب بالصراخ والشتائم لكنه عاجز عن قول الحقيقة.
- يتحول اللسان من أداة للحرية إلى "حصان جموح" يطيح بفارسه، ليكشف عن مأزق التعبير المقيد والخوف المزمن.
- هذا التصوير يفضح مأساة المثقف والمواطن معًا: رغبة في البوح يقابلها صمت قسري.
ثانياً: ثقافة الصِّغَر وضيق العالم
- يركّز النص على صور متكررة للصِّغَر: الجيوب، البطون، الأنوف، الأعين، الأحلام.
- هذه الصور ليست مجرد توصيف للحرمان المادي، بل رمز لضمور الخيال الجماعي وتقلّص الطموح.
- يقابل الكاتب هذا "الصِّغَر" بكونٍ واسع وحضارات منتجة للفن والإبداع، ليبرز مفارقة التقهقر المحلي أمام الامتداد الكوني.
ثالثاً: ما قبل فبراير – شهادة اختناق
- في زمن كتابته، يُقرأ النص كصرخة مكبوتة ضد نظام سدّ منافذ التعبير.
- السخرية السوداء تصبح آلية لتفريغ القهر، حيث يُستعاض عن الفعل السياسي المباشر باللعب اللغوي والتهكم.
- النص يعكس حالة مجتمع منكمش، متشظٍّ، يعيش في "دويلات صغيرة" داخل دولة كبرى.
رابعاً: ما بعد فبراير – ألسنة متفلتة
- بعد الثورة، حين انفجرت الألسنة، تحوّل النص إلى قراءة استباقية لمآلات أخرى:
- الدعوة الساخرة: "هيا بنا نحزن.. هلموا نبكي ألسنتنا" تُقرأ الآن كإشارة إلى مآلات الإحباط والانقسام بعد أن صار الحلم ثورة من دون وحدة.
- وصف التشرذم إلى "دويلات وطوائف" بدا نبوءة لما أعقب 2011 من انقسامات سياسية واجتماعية.
- هكذا تتغير وظيفة النص من شهادة على القمع إلى تحذير من الفوضى.
الخاتمة
يكشف نص زياد العيساوي عن طاقة أدبية مزدوجة: فهو من جهة وثيقة ما قبل فبراير، تسجّل انسداد الأفق وخرس الألسنة تحت الاستبداد، ومن جهة أخرى نص مفتوح على ما بعد فبراير، يُقرأ اليوم كتنبؤ مُرّ بانزلاق الألسنة المتفلتة إلى تشرذم وصراع. بذلك، يختزن النص قيمة تأويلية مضاعفة: شهادة على زمن مضى، وتحذير من زمن آتٍ، وهو ما يجعله نصًا مفتاحيًا لفهم الوعي الأدبي والسياسي الليبي عند منعطف 2010–2011.
تعليقات
إرسال تعليق