المشاركات

هل في الشعر ثقافة؟

ظاهرة رجع الصوت (صداه) هي ظاهرة فيزيائية ومعروفة لدى عامة الناس، لكن هناك ظاهرة اجتماعية ذكرتني بها تواً، ولا شك أبداً في أنكم تعرفونها، ولا يساورني أدنى ريب في أنها قد حدثت مع كل واحد منكم، مثنى وثلاث ورباع. وهيَّ ظاهرة رجع السؤال، أو بالأحرى (إرجاعه)، لأن تلك الظاهرة الطبيعية تحدث تلقائيًا عند اصطدام ذبذبات الصوت بأي جسم أصم، لا يفقه ولا يعقل شيئًا، كما تعون. أما الثانية، فهي نتاج فعل فاعل من الفعل (أرّجع) على وزن (أفعل) بتشديد الفاء. على أية حال، لا أريد الخوض في غمار هذا الشأن اللغوي بخصوص الفعل ومصدره بتوسع أكثر، وسأكتفي في هذه العُجالة من هذه المقدمة بهذا التلميح المبسط والعابر. --- جرت العادة حينما تسأل أحدهم سؤالًا، أن يرد عليك بإجابة عنه، هذا إن كان يدركها، وإلا فسوف يُفيدك صراحةً بأنه جاهل بها، وبذا يكون قد أضحى في حلٍّ من سؤالك. لكن اللافت للانتباه والغريب في الأمر أن تكون الإجابة الصادرة منه متمثلة في إعادة سؤالك إليك، وكما تفوهت به حرفيًا، مع اختلاف طفيف يُشار إليه ويكمن في نوع الصوت، أي بين صوتك وصوته، وهو اختلاف طبيعي مما لا شك فيه. أفهذا ما كنت تتوقعه وتنتظره منه؟ وما ت...

صور من ذاكرة الطفولة

طريقة الفلاش باك هي طريقة متعارف عليها في الفن السابع، ويتّبعها المخرجون في إخراج أشرطة الخيالة، بعرض لقطات في شكل صور مرئية مُعلّقة في ذاكرة إحدى الشخصيات، التي يجسد دورها أحد الممثلين، لأحداث قد جرت معه في زمن الماضي. كلما أراد المخرج أن يضعنا كمشاهدين في قلب الحدث، يرجع بنا إلى تلك المرحلة العمرية المنفرطة من عمر الإنسان، لنعرف بذلك الأسباب والدوافع التي جعلته على ما هو عليه من سلوكيات نحن نستهجنها. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد من هذه الشخصيات: شخصية إنسان درج على سلوك سادي وعدواني تجاه الآخرين، وثانية لشخص مجنون، وشخصية ثالثة لمنحرف. وبما أن مدة الشريط لا تتعدى ساعتين في الغالب، يلجأ المخرج إلى طريقة الفلاش باك ، فيختزل المراحل العمرية التي مر بها الإنسان إلى أن يرجع بنا إلى طفولته، ويقوم بعرض شريط الذكريات المختزنة في عقل كل منهم. فتأتي الصور تباعًا وبوتيرة متناهية السرعة، وفي شكل سردي، يسرد لنا ما تعرضت له كل شخصية عندما كانت طفلة، فنقرأ من هذه المشاهد ما قد حدث معهم أثناء صغرهم. فنرى في تلك المشاهد المصورة أن الأول قد لاقى معاملة قاسية من أحد أفراد أسرته أو من المحيطين به،...

الفرق بين الحب والانجذاب

في العلاقة ما بين القمر والأرض، وهي علاقة أزلية منذ أن خلق الله الكون إلى أن يرثه، يبدو لنا بشكل واضح جلي مدى عشق القمر للأرض. فنراه، ومن فرط عشقه هذا، يظهر في كبد السماء، وفي ساعات النهار، بحجم صغير، وبأضواء خافتة لا يكادان يشكّلان شيئًا أمام حجم الشمس، وأمام ما يصل منها إلى سطح الأرض من إشعاعات؛ ذلك لأن الوقت غير مُهيَّأ له لينبلج بمظهر أفضل من ذلك المظهر، مصداقًا لقوله تعالى: "والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها" [سورة الشمس: الآيتان (1)، (2)]. إلا أن القمر يأبى إلا أن يظهر في سماء الأرض، ولو بذلك الحجم وبتلك الأضواء، خوفًا من أن تقع الأرض أسيرة لحب الشمس ولأشعتها الدافئة. وما إن تبدأ الشمس في المغيب، وما إن تخلو الساحة له، حتى يبدأ القمر بالولوج في حلة جديدة، وفي صورة مُغايرة لتلك الصورة التي بدا لنا بها في ساعات النهار. وكحال كل عاشق أراد أن يقابل محبوبته وهو في أحلى صورة له، ولكنه لم يكن يملك ما يرتديه لذلك، فيذهب إلى صديق له ليستعير منه قميصًا مثلاً، ومن آخر حذاءً. نجد أن القمر في عشقه للأرض كحال ذلك العاشق، حينما بدا لنا بتلك الحلة الجديدة الرائعة، وهو الذي قد استعار ...

دور الكاتب في مجتمعه

بمُجرَّد أن يُقرأ النَّص، يُطوى مع الزَّمن مثلما تُطوى صفحاته. هكذا تُعامَل نصوص كُتَّابنا الأدبية، بعكس ما يجري في مناطق أُخرى من بِقاع العالم؛ إذ تخضع النصوص الأدبية هناك لعدّة معايير، بقراءة مُتعمِّقة وفاحِصة ترصد كُلَّ ما من شأنه أن ينهض بالمُجتمَع، وذلك بتفعيل كُلِّ ما يجيء فيها من رؤى وآراء في المفاصل الحيوية للدولة المُنتسبة إليها جنسية الكاتب. حتى أنّ بعض المؤسسات التابعة لهذه المُجتمَعات، التي هي في أغلبها مُتحضِّرة، يُقدِّم – من دون مُكابرة ولا تعالٍ – على أخذ الاستشارات المُتعلِّقة بالجوانب المُهِمَّة والبارزة التي يعرض لها الكُتَّاب والمفكِّرون هناك، بل إنَّ بعضها الآخر يتبنّى أُطروحاتهم ونظرياتهم، لعلَّها تكشف الحُجب السوداء المُسدَّلة على القضايا الحياتية الحساسة، وذلك لأجل الاستفادة من أفكار وتطلعات هذه النخبة. ومادامت الحال تمضي عندنا على هذا المنوال البائس، ففي أعلى مستويات الاستياء، أرى أنّه لن يكون للكاتب أيُّ دورٍ فعَّال في مُجتمعه، وستبقى كتاباته محضَ حبرٍ على ورق، ليس إلا. فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ وإلامَ سنظلُّ عليها؟ إنّ منبت ذلك – كما يُخيَّل إليّ – إنما ي...

مها

الشمسُ منجم الذهب، تنثر بُرادتها وذراتها في الكون الفسيح، فتعلق في سماء مدينتي، لخفة وزنها.. فوق الميناء، تتشكل صفيحة من ذهب، تسّارع النوارس لأجل المغادرة قبل سقوط الشمس، تتزخرف أجنحتها بلون ذهبي، تتجمع على رافعة السفن حتى يكتمل عددها، فتغادر.. تحت الرافعة مصباح يصبو للنور، ينتظر رحيل القرص، ليعلن عن وهجه، تثّاءب الأسلاك وتتكاسل السلاسل بطرقعة عُقدها وحلقاتها، بعد نهار حافل بالتحميل، العتّالة يلملمون أمتعتهم، فيما الصيادون يربطون حريرة الصنارات.. طفلة تتقافز أمام أبيها وأمها فتسقط، تقترب إليها أمها، فتهرب، وتجدُّ بالركض، تثب لتثبت قدرتها على الجري، تقترب من حاجز الماء، فتشهق أمها خائفة، تبتسم خاطفة إلى الاتجاه الآخر، أبوها ينحني، ملتقطاً كسرة خبز، يمدُّ خطوتين متكاسلتين، ينظر تجاه ظلمة البحر، يرمي بها طعاماً لا طعوما للأسماك.. تستمر "مها" في الهروب، ترّاءىٰ لأمها، وهي تنطُّ مثل كرة مطاطية وحذاؤها الصيني المنشأ يُزمر، تمعن في الهروب مثل موجة سنتمترية أفقية، ضحكاتها تزخر الممر، وهي تنظر إلى الخلف، تحاول أن تزيد من المسافة بينها وأمها، تصطدم بيّ، تجثم على عظمتي ركبتيها، وتغيب ال...

سدّينة في بوسليم

بعدما دعت سدينة على الذين لا يعرفون الحق ويريدون الاستئثار بكل شيء لذواتهم، رجعت ووضعت نقالها (الخنفوسة) على أذنها، بعدما دكّت خصلة شعرها التي شدّتها على جبينها في الدعاء، دكّتها في التجويف بين الأذن ولحم الرأس، وعقدت (محرمتها) على ثلاث فوق الجبهة، فسمعت "عبد الكافي" يسألها: شنو صار في موضوعنا يا احويجة؟ توا هضا وقته يا باتي؟.. باهي، باهي، يعد نفضى ساهل. سدّينة كانت من المعتصمات مع أهالي ضحايا بوسليم في بنغازي قبل الثورة، ولقد التقط لها الناشط "علاء الدرسي" عديد الصور، وقامت بحمل اللافتات المكتوب عليها اللافتات المعادية للنظام، في الوقت الذي تخلّى فيه الكثيرون من المحسوبين على النخبة عن هذه القضية، بل لم يكتفِ البعض الآخر بإهمال مأساتهم كقضية وطنية، وأراد النيل منهم، لما وصفهم بأن كل همهم هو رفع سقف التعويضات. يُعرف عن سدّينة أنها كلما رأت "معمر" على شاشة التلفزيون جعلتها تسيل بُصاقاً، هي تمقته، لأنه كان السبب في عوزها وفقرها وموت العديد من أقاربها ومعارفها، وأحدهم شقيق "عبد الكافي" الذي كبر وتربى على مرأى من عينيها. "منصور" هو ذ...

رسوم شيطانية

يُعَدُّ الرسمُ من أهمِّ الفنون التعبيرية، بل إنَّه يُعَدُّ أوَّل وسيلةٍ تخاطبيةٍ عرفها بنو البشر، حتى قبل معرفتهم بالكتابة؛ فقد أرَّخوا حياتهم منذ أن عمَّروا الكهوفَ واتخذوها مساكن لهم في العصور السحيقة، وما تزال نقوشهم المحفورة داخل المغارات إلى وقتنا الراهن أصدقَ دليلٍ وأَنزَه شاهدٍ على صحة هذا القول. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ نطرحه الآن، بعد أن نمهِّدَ له فيما سيأتي. ولمَّا كانت الكتابةُ تستلزم بالضرورة القراءةَ، وهذه الأخيرة تستدعي الحديثَ (الكلام)، فالسؤال تالياً: هل كان سببُ انتفاء معرفة الإنسان القديم (كما يصطلح المؤرخون على تسميته) بعلم الكتابة، عائداً إلى انتفاء معرفته بلغة الكلام وجهله بها آنذاك؟ أي بمعنى: أنَّ بني البشر لم يعرفوا الكتابة أصلاً، أو على أقل تقدير لم يعتمدوا لغةً موحَّدةً بينهم يتمكنون بها من التخاطب. وإلا فما الذي حملهم على أنْ يتكاتبوا بواسطة تلك الرسوم؟ هذا السؤال نوجِّهه، في بدء هذا المقال، إلى الباحثين في التاريخ وذوي الاختصاص في علم الآثار. فبعضُ هؤلاء يذهب إلى أنَّ بني البشر كانوا يتكاتبون بالأشكال (أي بالرسوم) قبل معرفتهم بالكتابة الحرفية، مع صعوبة الأمر ...