المشاركات

سلك رفيع بين الجيب والقلب

بقلمي، أستطيعُ فعلَ أيَّ شيءٍ. أُجمِّلُ القُبحَ، وأُقبِّحُ الجمالَ، أرسمُ به وطنًا، وأخطُّ به حدوده، أشقُّ به دروبَ الخيالِ الأخضر، وأنحتُ على صخورِ بلادي ذكرياتٍ عن الحبِّ، وقصصًا عن العشق، وحكاياتٍ من التضحيات. أهدمُ به عروشَ القهر، وأبني به مدنًا فاضلةً، ينالُ فيها الإنسانُ حقوقَه. أُلوِّنُ به عيني حبيبتي، بالأخضر؟ بالأزرق؟ لا، بل بالأسود. أُدوِّرُ به وجهَها، وأنقُشُ على خدِّها خالًا أَسمر، لتبدو عربيةَ الملامح. وبه أرسمُ سمكتينِ حولَ عينيها، كأنَّه كحلٌ، قلمي. في يدي، أجعلُه عصا مايسترو، وبإشارةٍ مني تعزفُ الفرقُ أعذبَ الموسيقا. أكتبُ به كلماتِ أُغنيةٍ عن وطني، عن ثورتي، تُنصفهما كما يجب. بقلمي أُحوِّلُ الحمقىٰ إلى بهلوانات، يضحكُ عليهم الأطفالُ الجوعى للابتسام. قلمي لا ينبري، ولم أشترِ له مبراة، ولا تُزامله ممحاة. قلمي ينبري بحبِّ الوطنِ والناس. قلمي لن يضيع، لأنه في جيبي، وموصولٌ بسلكٍ غير مرئيٍّ بقلبي. قلمي في أفواهِ الأطفال، حمّالةٌ حُلواء (مصّاصة)، وفي أيدي الشيوخِ والعجائز، عُكاز، وفي أيدي الحسناوات، مرودُ كُحل، وفي أيدي الحزانىٰ، ريشةُ دندنة.

التراكم بوصفه مجازًا اجتماعيًّا وسرديًّا في نص تراكمات للكاتب زياد العيساوي

الملخص يقدّم نصّ «تراكمات» (2010) للكاتب الليبي زياد العيساوي نموذجًا فريدًا للسرد الاجتماعي الساخر الذي يتخذ من مفردة واحدة – «التراكم» – مفتاحًا دلاليًا لقراءة الواقع الليبي عبر أربعة عقود. يمزج النص بين الإيقاع الشعري التكراري والمشهد السردي الواقعي، متحوّلًا من مجرّد تأمل لغوي في ثقل الحياة إلى وثيقة رمزية عن تآكل الحلم الوطني وتناوب الأجيال على الانتظار. تحاول هذه الدراسة، بمنهجَي التحليل الاجتماعي والسيميائي، الكشف عن بنية النص وإيقاعه، ورموزه الأساسية مثل الطابور و الوزير و الملف المتنحف ، بوصفها علامات على الفساد الإداري والانسداد الوجودي. كما تسعى إلى قراءة التراكم باعتباره مجازًا لتاريخ من الأعطال المؤسسية والنفسية التي مهّدت لانفجار التحولات السياسية في ليبيا بعد 2011. المقدمة كُتب نص «تراكمات» سنة 2010، في لحظة كان فيها الوعي الجمعي الليبي مثقلًا بالإحباط من النظام البيروقراطي المتصلّب، ومن تكرار التجربة المعيشة عبر أجيال متعاقبة دون تغيير جوهري في شروط الحياة. في تلك اللحظة، كانت مفردة التراكم تعبّر عن شيء يتجاوز الاقتصاد أو الإدارة إلى المجال الوجودي والاجتماعي وا...

هزيمة حماس.. بين طوفان الأقصى وظلال المختار

تحت عناوين خاطئة، وفي ظروف غير ملائمة، وفي أزمنة غير مواتية، تحدث حروب نتائجها خاسرة. بكل ما أوتيت من حماس وما أملك من حزن، أعلن بأنه قد خسرت حماس الحرب، ولا أظنها ستقوى على رفع راية المقاومة بعد الآن، وأي آن هو؟ إنه آن قبولها بشروط ترمب، فقد آن الآوان لهزيمة حركة حماس، ولا اقول المقاومة. لقد حان الوقت لأجيب عن سؤال لطالما طالعته على حسابات الأصدقاء، هذا سياقه: (لماذا لم ينتقد البعض مقاومة عمر المختار للإيطاليين، لاسيما أن تلك المقاومة قد جعلت المستعمر الفاشي يُنكّل بالبرقاويين؟). لقد دخل المختار في السلم مع المحتل الإيطالي، تلبية لأمر الأمير إدريس السنوسي ومراعاة لعذابات البرقاويين، التي أخذت شكل الإبادة بشتى صنوفها، واستمر على ذلك، حتى نقض الفاشست بعد وصولهم للحكم، اتفاقية السلم، بينما كانت غزة محررة، وإن كانت محاصرة أشد الحصار، غير أنّ المدبرين لعملية طوفان الاقصى، ارتؤوا بأنّ هذه العملية ستحرّر الأسرى الفلسطينيين، إذا ما دخلوا في حالة تبادل للأسرى في صفقة سيعقدونها مع الصهاينة، ولم يعلنوا بأن من ننائج هذه العملية تحقيق المصلحة الفلسطينية، برفع حالة الحصار المطبق على القطاع، وهي أهم...

مقامرات

في غرفة عالية ومظلمة المدخل، يتوسطها مصباح يتدلىٰ وينبعث منه لون أحمر، يمتزج بسحابة أعقاب التبغ البائتة والمُبتلّة بلعاب المتعطشين، يعلو منضدة متهالكة ومجروشة الحواشي تتوزع عليها أكواب تتلطخ ببصمات أصابعهم على بخار الماء الذي يكسوها، وتنضح منها رغوة لا تكوّرها الرياح الصافعة للستائر السوداء على النوافذ البحرية، يرتفع الصراخ على نغمة صرير باب القبو النافث لرائحة كريهة، مُعلِنًا الشيطان في الخفاء  بعدما حجّل على المنضدة وركل أنخابهم ولفّ طرف عباءته على صدره بأنهم برحوا لتوهم مقاعدهم، بعدما قامروا على الحكم، وبأنّ كل عمليات الاغتيال التي اقترفوها غير مدروسة ولا مضمونة النتائج، وبأنّ طعناتهم المرتجلة لم تصب غير ظلالهم على الجدران.

الطفولة كذاكرة ساخرة في نصوص زياد العيساوي: من الصف إلى الشارع إلى المدينة

المقدمة يُعد الكاتب الليبي زياد العيساوي أحد الأصوات الأدبية المعاصرة التي ركّزت على الطفولة والذاكرة الشعبية، من خلال سرد واقعي نابض بالتفاصيل اليومية، ومشحون بالسخرية والنوستالجيا. تسعى هذه الدراسة إلى تحليل النصوص الثلاثة: (نوستالجيا.. رابعة خامس)، الهتش، وبنغازي مدينة بلا مرجع، لتوضيح كيف تتحول الطفولة من مجرد زمن براءة إلى فضاء سردي متعدد الأبعاد يمزج بين اللعب، مواجهة السلطة، واستحضار الذاكرة الجماعية للمدينة والمجتمع. فرضية الدراسة: الطفولة عند العيساوي ليست زمن براءة فحسب، بل مختبر خيالي-ساخر يُجسّد الصراع مع السلطة، ويمكّن الراوي من إعادة صياغة الذاكرة الشخصية والجماعية. الفصل الأول: الطفولة والنوستالجيا 1.1 المدرسة كفضاء سردي في نص (نوستالجيا.. رابعة خامس)، تتحول المدرسة إلى مسرح للطفولة والمغامرة الصغيرة. تفاصيل الحكاية اليومية مثل البرد، الرياح، دموع نادية، الشعر والممسكة الفراولية، تخلق عالماً يضم اللعب، الشقاوة، والخيال. مثال من النص: "أخذت هيأة الديك، كان يدهشني هدؤها وطمأنينتها، سال لعابي لدفء السعرات الحرارية، فتخيلت الممسكة قطعة حلواء، استلّلت يديّ من جيبي نحوها....

رابعة خامس

ذات صباح بارد، مدّت الرياح ذراعها من خلال ثقب بالنافذة، قارصة بأصبعيها أذني، حتى تخيلتها أدّمت، بلّلت أصبعي بلعابي وحكّكت أذني به، كنت اجلس في ظهرها، هي وجليستها سماح، ذات الشعر المنسدل على الكتفين، طوال الحصة، أراقب شعرها المعقوس المزين ببممسكة فراولية اللون، أخذت هيأة الديك، كان يدهشني هدؤها وطمأنينتها، سال لعابي لدفء السعرات الحرارية، فتخيلت الممسكة قطعة حلواء، استلّلت يديّ من جيبي نحوها وبأظفار قد حشاها رماد الورق الذي حرقناه قبل تحية العلم بأمر من ناظر المدرسة، قبضت عليها، حاولت شدّها زامًا وجهي نحوها، وخدّي قرب خدها، لأراقب شدة توجعها، انهمرت من عينيها دمعتان صامتتان، وسُرعان ما تحوَّل الدمع إلى نهر يخترق ويحفر خديها، كلما أمعنت في الشدّ، مثل فلاح أراد أن يقتلع شجرة تين تتشبث جذورها بالصخر، فأضفر، وظهري يرتطم بالمسند، بضفيرتين تلتفان كأفعى على أصابعي حدّ تيبُس الدم، أُمضي وقتًا طويلًا في فكّ عقدتيهما المحكمتين من على أصابعي، ثم انفضهما إلى أسفل، فتصل جذورهما إلى الأرض حذو حذائي المُعفَّر بوحل الطريق، بينما بصلة الشعر لا تنفك من أصابعي بمادتها الدهنية، ارفع أصبعي يدي الأخرى من على...

عمر المختار

 لا اتخيّل عمر المختار إلا على صهوات الجياد والجهاد، حتى لما أُعدِم، ارتفع جسده، ولم تلامس قدماه الأرض. صورة المشنقة لحظة إعدامه، رأيتها كفرس مهيضة، قد سكنت وسكتت، فلم تصهل في غَمرة الفاجعة. 2011

التولالة

لما خوف الله عباده من المسيح الدجال جعل في وجهه علامات فارقة بينها الرسول لصحبه عليه الصلاة والتسليم وعليهم رضوانه تعالى. من هذا المنطلق_ ولله المثل الأعلى_ كلما سألني أحدهم عمّن يراهم في التلفاز من كُتّاب ومحللين، أجيبه فورًا عمّن أعرفهم شخصيًّا، أما الذين لا تربطني بهم أية معرفة، خصوصًا من ظهروا بعد الثورة، أحاول أن أتخيّل وجوههم أو يريني صورهم، وسرعان ما أجيبه: "احسبهم من السيئين". والمعيار كنت احتفظ به لنفسي، كي لا أوصف بالمتطيّر، هو التولالة. 2011

تيه

  مازلتُ في رحلةِ بحثٍ عن عقلي. أين علّي أجده؟ عقلي طار بل غاص، جذبته الفكرة بأمتن من حِبال قُبطانٍ لا فكاك لها، أخذته إلى المجهول بعد أن أغرته بالحلول، الحلول شائكة، الخوض فيها يعني الإبحار في محيط لا قرار له، قرارُه ليس بيدي، استرخى بتلابيبه على الأمواج، لتطهره بملحها ولترجّه وتلطمه كيفما يشاء وتشاء الفكرة، سلم عقلي عينه للفكرة، مثلما رجل يبحث عن لذة، وسط البخار يشخص خيالُ امرأةٍ هي عروس البحر، فأدرك بأنّ كل الحلول محض خيال. 17\9\2024

يوم في المصرف

كثعبانٍ ملتوٍ على طريقٍ صحراويٍّ ساخن، رأسه إلى جانب ذيله، كان شكل الطابور أمام مصرف (الوحلة). جئتُ في آخر طرف الذيل المدبَّب عند الساعة السادسة صباحًا. على يمين هذا الطابور، ثمّة طابورٌ آخر مستقيم؛ الزبائن يجلسون على قطعٍ من الطوب، كلٌّ يبحث له عن واحدةٍ سليمة، أو قطعتين مكسورتين يضعهما واحدةً فوق الأخرى، حتى يستقيم ظهره، ممّا تبقّى من أعمال البناء في البيوت الحديثة المجاورة. في الشارع الثاني يوجد بابٌ خاصٌّ بالنساء، المتراكِمات على عتبة المصرف المكوّنة من درجتين، حتى كاد تجمّعُهنّ يلامس الانحناءة التي شكّلها طابورُنا الأفعواني. على تمام الحادية عشرة، بدأ دوام الصرف، فصرنا نتدحرج حاملين الطوب أمامنا كأفارقةٍ في هجرةٍ غير شرعية نحو الشمال، وهم يدحرجون أسطوانات الماء أمامهم، حتى يصلوا إلى الشاطئ الغربي في الساحل الليبي، ومنه إلى شواطئ أوروبا الجنوبية. وكلّما أحرقتنا الشمسُ بلهيبها الحارق، نتقدّم بشكلٍ عرضيٍّ في الطابور كأنّه ثعبانٌ ابتغى أن يبرد جنبه الملفوح وهو يتقلّب. وعند مسافةٍ معيّنة، برز شابٌّ يعمل على تنظيم الصفوف، قام بنهر الهاربين من لَفْح الشمس، وشدّد على ضرورة الإبقاء على الم...

من اللسان المكموم إلى الألسنة المتفلتة: قراءة سياقية في نص "تأملات.. وتأويلات لمآلات" لزياد العيساوي (2010))

يشكّل نص «تأملات.. وتأويلات لمآلات» (23 أكتوبر 2010) وثيقة أدبية تعبّر عن حالة الخنق السياسي والاجتماعي في ليبيا قبيل ثورة فبراير 2011. عبر لغة ساخرة وتهكمية، يعكس زياد العيساوي مأزق التعبير تحت سلطة الاستبداد، مستخدمًا صورة اللسان كرمز مركزي للصوت المعطَّل. بعد اندلاع الثورة وما تلاها من تحولات، يكتسب النص دلالات جديدة تُعيد تأويله بوصفه استشرافًا مُبكرًا لمصائر ما بعد فبراير. أولاً: اللسان كاستعارة للخطاب المكموم يوظف الكاتب صورة "اللسان" ليجسد تناقضات الفرد الليبي قبيل الثورة: طويل وجبان، صاخب بالصراخ والشتائم لكنه عاجز عن قول الحقيقة. يتحول اللسان من أداة للحرية إلى "حصان جموح" يطيح بفارسه، ليكشف عن مأزق التعبير المقيد والخوف المزمن. هذا التصوير يفضح مأساة المثقف والمواطن معًا: رغبة في البوح يقابلها صمت قسري. ثانياً: ثقافة الصِّغَر وضيق العالم يركّز النص على صور متكررة للصِّغَر: الجيوب، البطون، الأنوف، الأعين، الأحلام. هذه الصور ليست مجرد توصيف للحرمان المادي، بل رمز لضمور الخيال الجماعي وتقلّص الطموح. يقابل الكاتب هذا "الصِّغَر" بكونٍ وا...

قراءة في خطاب السخرية السياسية ما قبل فبراير 2011

الليبيون براء من ذلك: قراءة في خطاب السخرية السياسية ما قبل فبراير 2011 المقدمة يمثل مقال "الليبيون براء من ذلك" الذي كتبه زياد العيساوي في أكتوبر 2010، نموذجًا بارزًا للكتابة الساخرة التي انبثقت في ليبيا خلال السنوات الأخيرة من حكم القذافي، في مرحلة ما قبل ثورة فبراير 2011. تندرج هذه الكتابة ضمن ما يمكن تسميته بـ "الأدب المقاوم بالتورية والسخرية"، حيث جرى توظيف اليومي والشخصي كمدخل للسياسي والجماعي، في ظل مناخ يسوده القمع وكبت الحريات. تهدف هذه الورقة إلى تحليل النص من خلال ثلاثة مستويات أساسية: البنية السردية والأسلوب الساخر، البعد الحقوقي والسياسي، والموقع ضمن خطاب المعارضة الثقافية قبيل 2011. أولاً: السياق التاريخي والسياسي كُتب المقال في وقتٍ بدأت فيه قضية مجزرة سجن بوسليم (1996) تتحول إلى ملف عام مفتوح، بعد سنوات من الصمت والتكتم. في 2009 و2010 ظهرت احتجاجات محدودة لأهالي الضحايا في طرابلس وبنغازي، وتنامى الحراك الحقوقي، وهو ما جعل تناول الموضوع محفوفًا بالمخاطر. النص يندرج إذن ضمن الأدب السياسي المعارض غير المعلن، حيث تُستبدل اللغة المباشرة بلغة رمز...

تحليل أكاديمي لمقالة (دور المثقف)

🔹 أوّلًا: النص كوثيقة زمنية المقالة كُتبت في نوفمبر 2010، أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من اندلاع ثورة فبراير. هذا يجعلها وثيقة استباقية تكشف انسداد الأفق السياسي في ليبيا، حيث لم يعد الإصلاح ممكنًا، بل التغيير الجذري هو الحل. العيساوي هنا يلتقط إحساسًا عامًا بالغليان، لكنه يقدّمه عبر خطاب مثقف "مسؤول" يحذّر السلطة والشعب معًا. --- 🔹 ثانيًا: السلطة في النص تُصوَّر السلطة كوحش متعدد الأدوات: جيش، قوات خاصة، إعلام، تلفزيون. تُقدَّم أيضًا كـ"راقصة ماجنة" يتطبّل لها مثقفون زائفون. لا يرى الكاتب إمكانية حوار حقيقي مع هذه السلطة، فهي بطبيعتها متعجرفة، محتكرة للثروة ("زيوت وشحوم نفطنا")، وفاقدة للشرعية. --- 🔹 ثالثًا: المثقف في النص المثقف هو الوسيط، أو "صمام الأمان" بين الشعب والسلطة. لكنه يظل في "المنطقة الوسطى"، ويخوض صراعًا دائمًا ضد محاولات جذبه إلى أحد الطرفين. العيساوي يصرّ على أنّ الانحياز الوحيد المشرّف هو انحياز الشعب. المثقف المتخاذل يُشبهه بالـ"زمار" أو "طبّال" في حفلة رخيصة، أي مجرد أداة تسلية للسلطة. --- 🔹 رابعً...

هل في الشعر ثقافة؟

ظاهرة رجع الصوت (صداه) هي ظاهرة فيزيائية ومعروفة لدى عامة الناس، لكن هناك ظاهرة اجتماعية ذكرتني بها تواً، ولا شك أبداً في أنكم تعرفونها، ولا يساورني أدنى ريب في أنها قد حدثت مع كل واحد منكم، مثنى وثلاث ورباع. وهيَّ ظاهرة رجع السؤال، أو بالأحرى (إرجاعه)، لأن تلك الظاهرة الطبيعية تحدث تلقائيًا عند اصطدام ذبذبات الصوت بأي جسم أصم، لا يفقه ولا يعقل شيئًا، كما تعون. أما الثانية، فهي نتاج فعل فاعل من الفعل (أرّجع) على وزن (أفعل) بتشديد الفاء. على أية حال، لا أريد الخوض في غمار هذا الشأن اللغوي بخصوص الفعل ومصدره بتوسع أكثر، وسأكتفي في هذه العُجالة من هذه المقدمة بهذا التلميح المبسط والعابر. --- جرت العادة حينما تسأل أحدهم سؤالًا، أن يرد عليك بإجابة عنه، هذا إن كان يدركها، وإلا فسوف يُفيدك صراحةً بأنه جاهل بها، وبذا يكون قد أضحى في حلٍّ من سؤالك. لكن اللافت للانتباه والغريب في الأمر أن تكون الإجابة الصادرة منه متمثلة في إعادة سؤالك إليك، وكما تفوهت به حرفيًا، مع اختلاف طفيف يُشار إليه ويكمن في نوع الصوت، أي بين صوتك وصوته، وهو اختلاف طبيعي مما لا شك فيه. أفهذا ما كنت تتوقعه وتنتظره منه؟ وما ت...

صور من ذاكرة الطفولة

طريقة الفلاش باك هي طريقة متعارف عليها في الفن السابع، ويتّبعها المخرجون في إخراج أشرطة الخيالة، بعرض لقطات في شكل صور مرئية مُعلّقة في ذاكرة إحدى الشخصيات، التي يجسد دورها أحد الممثلين، لأحداث قد جرت معه في زمن الماضي. كلما أراد المخرج أن يضعنا كمشاهدين في قلب الحدث، يرجع بنا إلى تلك المرحلة العمرية المنفرطة من عمر الإنسان، لنعرف بذلك الأسباب والدوافع التي جعلته على ما هو عليه من سلوكيات نحن نستهجنها. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد من هذه الشخصيات: شخصية إنسان درج على سلوك سادي وعدواني تجاه الآخرين، وثانية لشخص مجنون، وشخصية ثالثة لمنحرف. وبما أن مدة الشريط لا تتعدى ساعتين في الغالب، يلجأ المخرج إلى طريقة الفلاش باك ، فيختزل المراحل العمرية التي مر بها الإنسان إلى أن يرجع بنا إلى طفولته، ويقوم بعرض شريط الذكريات المختزنة في عقل كل منهم. فتأتي الصور تباعًا وبوتيرة متناهية السرعة، وفي شكل سردي، يسرد لنا ما تعرضت له كل شخصية عندما كانت طفلة، فنقرأ من هذه المشاهد ما قد حدث معهم أثناء صغرهم. فنرى في تلك المشاهد المصورة أن الأول قد لاقى معاملة قاسية من أحد أفراد أسرته أو من المحيطين به،...

الفرق بين الحب والانجذاب

في العلاقة ما بين القمر والأرض، وهي علاقة أزلية منذ أن خلق الله الكون إلى أن يرثه، يبدو لنا بشكل واضح جلي مدى عشق القمر للأرض. فنراه، ومن فرط عشقه هذا، يظهر في كبد السماء، وفي ساعات النهار، بحجم صغير، وبأضواء خافتة لا يكادان يشكّلان شيئًا أمام حجم الشمس، وأمام ما يصل منها إلى سطح الأرض من إشعاعات؛ ذلك لأن الوقت غير مُهيَّأ له لينبلج بمظهر أفضل من ذلك المظهر، مصداقًا لقوله تعالى: "والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها" [سورة الشمس: الآيتان (1)، (2)]. إلا أن القمر يأبى إلا أن يظهر في سماء الأرض، ولو بذلك الحجم وبتلك الأضواء، خوفًا من أن تقع الأرض أسيرة لحب الشمس ولأشعتها الدافئة. وما إن تبدأ الشمس في المغيب، وما إن تخلو الساحة له، حتى يبدأ القمر بالولوج في حلة جديدة، وفي صورة مُغايرة لتلك الصورة التي بدا لنا بها في ساعات النهار. وكحال كل عاشق أراد أن يقابل محبوبته وهو في أحلى صورة له، ولكنه لم يكن يملك ما يرتديه لذلك، فيذهب إلى صديق له ليستعير منه قميصًا مثلاً، ومن آخر حذاءً. نجد أن القمر في عشقه للأرض كحال ذلك العاشق، حينما بدا لنا بتلك الحلة الجديدة الرائعة، وهو الذي قد استعار ...

دور الكاتب في مجتمعه

بمُجرَّد أن يُقرأ النَّص، يُطوى مع الزَّمن مثلما تُطوى صفحاته. هكذا تُعامَل نصوص كُتَّابنا الأدبية، بعكس ما يجري في مناطق أُخرى من بِقاع العالم؛ إذ تخضع النصوص الأدبية هناك لعدّة معايير، بقراءة مُتعمِّقة وفاحِصة ترصد كُلَّ ما من شأنه أن ينهض بالمُجتمَع، وذلك بتفعيل كُلِّ ما يجيء فيها من رؤى وآراء في المفاصل الحيوية للدولة المُنتسبة إليها جنسية الكاتب. حتى أنّ بعض المؤسسات التابعة لهذه المُجتمَعات، التي هي في أغلبها مُتحضِّرة، يُقدِّم – من دون مُكابرة ولا تعالٍ – على أخذ الاستشارات المُتعلِّقة بالجوانب المُهِمَّة والبارزة التي يعرض لها الكُتَّاب والمفكِّرون هناك، بل إنَّ بعضها الآخر يتبنّى أُطروحاتهم ونظرياتهم، لعلَّها تكشف الحُجب السوداء المُسدَّلة على القضايا الحياتية الحساسة، وذلك لأجل الاستفادة من أفكار وتطلعات هذه النخبة. ومادامت الحال تمضي عندنا على هذا المنوال البائس، ففي أعلى مستويات الاستياء، أرى أنّه لن يكون للكاتب أيُّ دورٍ فعَّال في مُجتمعه، وستبقى كتاباته محضَ حبرٍ على ورق، ليس إلا. فلماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ وإلامَ سنظلُّ عليها؟ إنّ منبت ذلك – كما يُخيَّل إليّ – إنما ي...

مها

الشمسُ منجم الذهب، تنثر بُرادتها وذراتها في الكون الفسيح، فتعلق في سماء مدينتي، لخفة وزنها.. فوق الميناء، تتشكل صفيحة من ذهب، تسّارع النوارس لأجل المغادرة قبل سقوط الشمس، تتزخرف أجنحتها بلون ذهبي، تتجمع على رافعة السفن حتى يكتمل عددها، فتغادر.. تحت الرافعة مصباح يصبو للنور، ينتظر رحيل القرص، ليعلن عن وهجه، تثّاءب الأسلاك وتتكاسل السلاسل بطرقعة عُقدها وحلقاتها، بعد نهار حافل بالتحميل، العتّالة يلملمون أمتعتهم، فيما الصيادون يربطون حريرة الصنارات.. طفلة تتقافز أمام أبيها وأمها فتسقط، تقترب إليها أمها، فتهرب، وتجدُّ بالركض، تثب لتثبت قدرتها على الجري، تقترب من حاجز الماء، فتشهق أمها خائفة، تبتسم خاطفة إلى الاتجاه الآخر، أبوها ينحني، ملتقطاً كسرة خبز، يمدُّ خطوتين متكاسلتين، ينظر تجاه ظلمة البحر، يرمي بها طعاماً لا طعوما للأسماك.. تستمر "مها" في الهروب، ترّاءىٰ لأمها، وهي تنطُّ مثل كرة مطاطية وحذاؤها الصيني المنشأ يُزمر، تمعن في الهروب مثل موجة سنتمترية أفقية، ضحكاتها تزخر الممر، وهي تنظر إلى الخلف، تحاول أن تزيد من المسافة بينها وأمها، تصطدم بيّ، تجثم على عظمتي ركبتيها، وتغيب ال...

سدّينة في بوسليم

بعدما دعت سدينة على الذين لا يعرفون الحق ويريدون الاستئثار بكل شيء لذواتهم، رجعت ووضعت نقالها (الخنفوسة) على أذنها، بعدما دكّت خصلة شعرها التي شدّتها على جبينها في الدعاء، دكّتها في التجويف بين الأذن ولحم الرأس، وعقدت (محرمتها) على ثلاث فوق الجبهة، فسمعت "عبد الكافي" يسألها: شنو صار في موضوعنا يا احويجة؟ توا هضا وقته يا باتي؟.. باهي، باهي، يعد نفضى ساهل. سدّينة كانت من المعتصمات مع أهالي ضحايا بوسليم في بنغازي قبل الثورة، ولقد التقط لها الناشط "علاء الدرسي" عديد الصور، وقامت بحمل اللافتات المكتوب عليها اللافتات المعادية للنظام، في الوقت الذي تخلّى فيه الكثيرون من المحسوبين على النخبة عن هذه القضية، بل لم يكتفِ البعض الآخر بإهمال مأساتهم كقضية وطنية، وأراد النيل منهم، لما وصفهم بأن كل همهم هو رفع سقف التعويضات. يُعرف عن سدّينة أنها كلما رأت "معمر" على شاشة التلفزيون جعلتها تسيل بُصاقاً، هي تمقته، لأنه كان السبب في عوزها وفقرها وموت العديد من أقاربها ومعارفها، وأحدهم شقيق "عبد الكافي" الذي كبر وتربى على مرأى من عينيها. "منصور" هو ذ...

رسوم شيطانية

يُعَدُّ الرسمُ من أهمِّ الفنون التعبيرية، بل إنَّه يُعَدُّ أوَّل وسيلةٍ تخاطبيةٍ عرفها بنو البشر، حتى قبل معرفتهم بالكتابة؛ فقد أرَّخوا حياتهم منذ أن عمَّروا الكهوفَ واتخذوها مساكن لهم في العصور السحيقة، وما تزال نقوشهم المحفورة داخل المغارات إلى وقتنا الراهن أصدقَ دليلٍ وأَنزَه شاهدٍ على صحة هذا القول. وهذا يقودنا إلى سؤالٍ نطرحه الآن، بعد أن نمهِّدَ له فيما سيأتي. ولمَّا كانت الكتابةُ تستلزم بالضرورة القراءةَ، وهذه الأخيرة تستدعي الحديثَ (الكلام)، فالسؤال تالياً: هل كان سببُ انتفاء معرفة الإنسان القديم (كما يصطلح المؤرخون على تسميته) بعلم الكتابة، عائداً إلى انتفاء معرفته بلغة الكلام وجهله بها آنذاك؟ أي بمعنى: أنَّ بني البشر لم يعرفوا الكتابة أصلاً، أو على أقل تقدير لم يعتمدوا لغةً موحَّدةً بينهم يتمكنون بها من التخاطب. وإلا فما الذي حملهم على أنْ يتكاتبوا بواسطة تلك الرسوم؟ هذا السؤال نوجِّهه، في بدء هذا المقال، إلى الباحثين في التاريخ وذوي الاختصاص في علم الآثار. فبعضُ هؤلاء يذهب إلى أنَّ بني البشر كانوا يتكاتبون بالأشكال (أي بالرسوم) قبل معرفتهم بالكتابة الحرفية، مع صعوبة الأمر ...