رواية شرمولة للروائي الليبي محمد الأصفر (4\6)
أبحث عن مريم.. هي بجانبي تمنحني الابتسام ترضعني اللبن الذي يرويني.. كلما نلتقي نضحك.. وكلما نضحك نزداد التصاقاً.. الضحك حبل متين.. لا يشنق سوى الاكتئاب.. الضحك صهريج بهجة يمسح عن الجبين أخاديد الألم.. الضحك امرأة.. رجل.. شمس.. ريح تملأ الدنيا.. تنمو كجنين.. الريح تدخل مبنى الإعلام.. تصعد الأدوار.. تتجوّل في المكاتب والمناور والحمامات والمطابخ وفوق السطح حيث صهريج المياه.. تدخل رئات وتخرج منها.. تسجّل الحكايات على أوراق بردها ودفئها.. تكتبها بيراعها الشفاف.. فاطمة تمضغ اللبان.. سالمة تقرظ الشعر.. فتح الله يناجي رجعة.. سالمة ترسل الفاكسات.. عائشة تتطلّع من الشباك.. فتحية تهاتف.. نجيوه منزوية في الشرفة تتأمل ضباط البوليس الواقفين أمام بوّابة الإذاعة.
مسعود يجلس إلى مكتبه والشغالة تمسح له الطاولة بإسفنجة مبللة وترتب له أقلامه ومحابره وجرائده.. يوم أمس فقط استلم مسعود مكافأة مالية لا بأس بها ثمناً لمقالاته ومقابلاته ومتابعاته التي دبّجها في مدح إبداعات مدير الصحافة وجوقته المقرّبين من مصورين ومخرجين وممثلين وطبالين وكشاكين وزمّارين وغيرهم.
مسعود صحفي نشيط.. يعرف من أين تؤكل الكتف.. لا يهدر أي نقطة حبر إلا بثمن مادي أو معنوي.. لا يُجري اللقاءات إلا مع الفنانين الكبار أو الناقدين في الوسط الثقافي والفني.. مثل الخديجتين صبري والفونشة والسعدين الجازوي ونافو والفتحيين كحلول والعريبي والسالمين العبار وصبرة والمنصورين بو شناف والأحرش وخذ على هذا المنوال إلى ما لا نهاية.
ومن هذه اللقاءات التملقية يقتات.. وبعد أن حاور وتكلم واستطلع وقارب وطبل وزمر ورقص على رجل واحدة لكل أعمال أفراد عشيرة مدير الصحافة والمنتشرين في الوسط الفني والثقافي كنار في بنزين، فمنهم الروائي وأمين الإعلام والقاص والمصور والمخرج والممثل والإذاعي ومدير المسرح والمطرب والملحن وفني الديكور والإضاءة والمكياج وكل شيء.. أصبح من المرضيّ عنهم بل منح مكتباً صغيراً له باب وليس له روشن وبه مروحة كهربائية ودولاب صغير وكرسي بثلاث أرجل يدور نصف دورة.. وصارت مكافأة الإنتاج تأتيه بانتظام مثل الآخرين المرضيّ عنهم: الزرزور.. زوجته.. المترجمة.. الشاعرة الحداثوية والمتشاعرة الكلاسيكية.. شعراء درنة الصعاليك.. كتبة البيضاء مرسلو عسل الحنّون والسدر وبوّاقو طبرق وطنجنيقا وغيرهم من رُشاة الحظ.. فور ما وصلت المكافأة شد الرحال إلى سوق الحديقة واشترى منها جهاز دجتل جديد.. وطوال ليلة البارحة سهر على المحطات الإباحية ولم يرتو.. وها هو الآن عيناه حمراوان متورمتان ورأسه متصدع يشتهي امرأة ولو كانت عجوزاً بلا أسنان.. دائماً يردد: عندما تطفأ الأنوار تستوي النساء.. حضر إلى العمل باكراً.. في المنتدى التقى بالكاتب المشاكس نجيب، وهو كاتب كهل هاوٍ يقطن سوق الحشيش دائماً، يعطي مقالاته لمسعود فلا يحولها إلى مقر الصحيفة في طرابلس، ويركنها في الدرج أو يرمي بها إلى سلة المهملات بعد أن يمسح بها أنفه المخنن ثم الطاولة.
هذا الصباح نجيب ثمل وغاضب من عدم نشر مقالاته.. فور ما التقى الصحفي مسعود لعب الشيطان في عقله فدعاه إلى كوب شاي، وأثناء مغادرة مسعود إلى الحمام دس له في الكوب قرصي أرتان (أقراص مهلوسة). ارتشف مسعود الشاي في رشفات سريعة.. فمه على الكوب وعيناه تنظران عبر زجاج المنتدى إلى باب عمارة الإعلام.. الموظفات يدخلن فيتأوه.. ووصلت الشغالة مسعودة تتلفع بفراشيتها البيضاء.. خلعتها عند باب العمارة وبان قوامها الأسمراني المصقول وتقاسيم جسدها التي رسمها ضيق الفستان.. صافحت موظف الأمن وصعدت الدروج.. وصعدت حبوب الأرتان في رأس مسعود الصغير فأبدته سعيداً مرحاً ضاحكاً خفيفاً... ارتشف ما تبقى في الكوب من شاي حلو.. وتأمل وجه نجيب الذي سأله مبتسماً بتصنع: شن صار في مقالاتي يا أستاذ مسعود؟
رد مسعود: مش وقت مقالات يا نجيب .. وقت نيك توّا..
واستغرق في استحضار مناظر ليلة البارحة وسهرته على محطات الدجتل، ودعواته لمدير مؤسسة الصحافة بطول العمر، لأنه منحه مكافأة اشترى بها صندوق العجائب هذا.. وامتلكه الشبق بشدة نجيب يسأله مجدداً: شن صار في مقالاتي؟
ويرد مسعود صارخاً: مش وقت مقالات الآن نجيب..
وخرج من المنتدى يعبر الشارع صوب العمارة راكضاً حتى أن شاحنة القمامة كادت تصدمه.
صعد الدروج وجلس إلى مكتبه وإذ دخلت عليه الشغالة مسعودة ابتسم وقهقه.. هي تنظف له المكتب كالعادة وهو يناجيها بكلمات غزلية وخواطر وجدانية نقلها من ملف درويش الثقافي بجريدة الجماهيرية.. وتطورت الكلمات والخواطر إلى آهات وتأوهات وقحة.. وتذكر عدة أغان علم حفظها من كروت ودعوات الأفراح، فغناها لها وأخرج من الدرج كتاباً تراثياً قديماً يمدح السمراوات، وبدأ المطر يهطل ومسعود يغني لها:
حتى كان سمارا هوّا.. كل العالم ياخذ سوّا .
ويقول لها السمراوات دافيات في الشتاء.. ويغني لها مجدداً.. وليل الشتاء طويل.. وليل الشتاء طويل.. يا مسعودة جاك الويل.. الويل الويل الويييييل..
وقويت أقراص الهلوسة في رأسه وتداخل الكلام في فمه.. وكلمات تخرج ممتطة.. أحبـك.. أرغــبك.. أتزوجك على سنة الله ورسوله.. وارتفع المعدل أكثر فأطلق مواء قط وعواء جرو ولبلبة تيس ماعز ومسعودة المسكينة تضحك وتجامله وتعامله على مقاس عقله.. مسحت له المكتب سريعاً.. واتجهت صوب الزاوية لتفريغ منفضة السجائر في سلة المهملات.. هي انحنت إلى السلة ومسعود بقفزة واحدة التصق بمؤخرتها وطوّق خصرها بذراعيه فأطلقت صرخة قوية ليصعد موظف الأمن سريعاً إلى الدور الثاني، حيث جريدة أخبار بنغازي.. يصرخ في مقر الجريدة: أين المجرم؟.. شنو فيه؟.. الأمن يحاصركم.. إيديكم فوق.. انبطحوا على الزليز وغمضوا اعيونكم.. شنو فيه؟ شنو فيه؟ يجيبه رئيس التحرير الذي فتح فرجة ضيقة في باب مكتبه: لا شيء.. لا شيء.. نحن لا نعيط.. نحن نحترق.. نعمل في صمت.. فيهبط موظف الأمن إلى الدور الأول عبر زلحقة مؤخرته على درابزون السلالم الصقيل.. يلج باب مؤسسة الصحافة.. الصحفية عتيقة تحتضن الشغالة مسعودة وتصبرها بكلمات اجتماعية حنون وتعدها أن تكتب قصتها الأليمة هذه في زاويتها الأسبوعية.. وفتح الله ترك رجعة متشنجة وصار يعنف مسعود لأنه أفزعهما في لحظة الصفر.. لحظة الارتعاش الأكيد.. الشاعر قادربوه انتحى بموظف الأمن في المقهى.. صبَّ له كوب شاي وراح يطمئنه ويشرح له الالتباس بقصة من نسج الخيال.. قال له الشغالة أفزعها صرصور يغتصب حشرة مآدب.
تمت لملمة الفضيحة والتحفظ على الموضوع طي الكتمان ريثما يعود مدير المؤسسة من طرابلس ليقرر ما يجب عمله في موضوع الصحفي مسعود والشغالة مسعودة.. أحدهم قال سيطرد مدير المؤسسة مسعود من العمل وآخر قال: مدير المؤسسة قلبه طيب.. لن يطرد مسعود من العمل، لكن سينقله رقاصاً في فرقة بنغازي للفنون الشعبية، فالولد رشيق ويستطيع أن يحجل ويقفز ويتمايل وينوكس (يرفس) ويتمرغد ويهتز مع عبيد المحيشي دون توقف.. بالإضافة إلى إجادته نفخ الزمامير والفحيلات وتسريح البواليص المبحوحة.
الصحفي مسعود كهربائي كالناقد فتح الله.. تخرجا سوياً من معهد الكهرباء بالقوارشة، وفور ما تخرجا امتطى فتح الله مطية النقد مستغلاً خلوة النجع على رأي المالكي، واستفاد جيداً من دورة مجانية سريعة منحها له الناقد السيميائي الكبير عبد نفسه مجاناً.. هذه الدورة رسخته ناقداً معترفاً به في الوسط الأدبي العربي.. بل فهمه للنقد الحديث وفق منهج المدرسة السيميائية ساعده على النجاح في التصعيد ليكون أميناً مساعداً لأمين رابطة الكتاب والأدباء.. وساعده ايضاً في معركة التصعيد حيث استطاع بفضل مكر ودهاء عبد نفسه إلحاق الهزيمة باليسار العلْوي وباليمين السفلي وبكل المرشحين للمنصب.. لكن هذا الفتح الله الله يفتح عليه.. عندما نال معرفته من عبد نفسه انقلب عليه.. ففي أول مشادة حدثت بينهما أمسك لمعلمه كرسياً مهدداً بتحطيمه فوق جسده النحيل.. المشكلة بسيطة.. في إحدى المحاضرات المسرحية دخل عنصران من المخابرات القاعة وطلبا معلومات عن المحاضر المغربي.. فبينما اعترض عبد نفسه وشجب هذا الانتهاك ورفض تدخل العنصرين السافر دون أوراق رسمية واستدعاء موثق في جلسات الأدب والفن والثقافة، انبرى فتح الله مدافعاً عنهما ومهاجماً عبد نفسه بل رافعاً في وجهه كرسياً ثقيلاً كان منذ ايام قليلة فقط جالساً عليه عبد نفسه يعلمه أصول النقد السيميائي.. أخذ العنصرين إلى المكتب وحبّ على رأسيهما واعتذر لهما وأعطاهما نشرة كاملة عن المحاضر المغربي.. قال لهما: هو مغربي كنيته بو يحياوي به كسر في الكتف متزوج من ليبية وكل صباح يشرب المكياطة في مقهى المنتدى الإذاعي، تجدونه جالسا على الطاولة التى فوقها الإيركونديشن.. أمامه علبة سجائر جولد ودفتر صغير ويدخن بشراهة.. لا توجد علامات فارقة.. طويل أسمر قليلاً.. نحيل.. حذاؤه لامع.. يرتدي بدلة أنيقة في جيبها الداخلي جواز سفره وفي جيبها الخارجي نظارة قراءة.. ودائماً أثناء جلوسه يضع رجلاً على رجل مما يدل أنه على مستقر ومأمون الجانب وعلى ضمانتي إن شاء الله.. هذا وصف انطباعي.. وإن أردتم وصفاً سيميائياً فيوجد لدينا.
أما خريج الكهرباء الآخر مسعود فانخرط في العمل الصحفي ليعمل محرراً فنياً لصفحة الفنون بصحيفة أخبار بنغازي.. وليس غريباً أومفاجأة أن يشتغل بائع قازوزة رئيس تحرير جريدة.. أو يشتغل كهربائياً مسؤولاً في رابطة الأدباء أو محرراً فنياً في جريدة.. فهناك علاقة قوية بين الأدب والفن والكهرباء.. انظروا إلى خصور الراقصات ثم احكموا.. وآه يا أعزائي من الكلمات المكهربة كم هي منافقة ووقحة.. هذا الناقد كلما أعرض عليه عملاً يقول: أين الصراع؟ أين الحدوتة؟ وبعدين وبعدين.. المالكي أفسد عقله.. علمه الصراع السطحي والحدوتة القشرة.. لم يعلمه كل العلم وكأنه استشعر بخيانة قريبة منه.. الرواية ليس لها أي شروط.. كلمات مهلهلة على الورق.. بصيرة القارىء تلملم أطرافها وتصنع منها رؤية جميلة على مقاسها.. الصراع ليس مهنتنا.. اذهبْ إلى الحلبة وصارعْ.. ستنال الميدالية الذهبية.. والحدوتة انتهى أمرها.. صارت صرعة قديمة.. لقد ملت الناس الحكايات كما ملت حكامها.
مسعود هذا شاطر جداً.. عسّاس.. صنّات.. يندس بين الفنانين والفنانات، يقول عنه الناقد السمين المتمركس إنه من أفضل الصحفيين لأن وجهه بارد (صفيق) والصحافة تريد مثل هؤلاء.. تريد من يأخذ من مؤخرته ويضع على وجهه.. مسعود يستقي الأخبار من مصادرها.. أو من أصداء مصادرها.. ينتقل بين الموائد كذبابة.. تجده في مبنى مجمع الدعوة الإسلامية.. وفجأة يطل عليك من نافذة مجلة الثقافة العربية وفجأة تراه واقفاً أمام الفندق البلدي.. وداخل مبنى الإعلام تجده في كل طابق وفي كل مكتب وشرفة.. دائماً مبتسماً ينصت جيداً وجهاز التسجيل جاهز في يده أو تحت إبطه.. دائماً يستقي الأخبار ويجلب التحقيقات ويمد كل الصحف بمواد طازجة حية.. يسجل أخباراً ويدفع بها للنشر قبل حدوثها.. أخبار مثيرة.. يومية.. يضعها أمام هيئة التحرير دون تأكد.. التأكد فيما بعد.. الآن هو سمع ولا يهم إن كان ما سمعه حقيقة أو كذباً.. الحقيقة المفروغ من أمرها أنه سمع الخبر.. دائماً يثق في حدسه وفي تصريحات أصدقائه وصديقاته.. ذات يوم حرر خبر وفاة أشهر مطربي المرسكاوي في مدينة بنغازي.. رئيس التحرير لم يشأ أن يضع إصبع التأكد على الخبر ونشره.. ترك الخبر يمر بسهولة.. وماذا يعني موت مطرب مرسكاوي.. خبر عادي.. يومي.. لا مسؤولية أو تحفظات حوله.. وصدر العدد يحوي خبر الوفاة وفتح الناس الصحيفة مع قهوة الصباح.. فتحوا على الصفحة الثانية.. صفحة الوفيات.. ووجدوا النعي مجللاً بالسواد وبالخط العريض محرراً بلغة فنية راقية تستحلب الدموع وتهز الوجدان.. وبدأ الحزن، والمدينة تألمت للفقدان، والناس تبكي.. وبنغازي تبكي.. وحي المحيشي الذي ترعرع فيه المطرب وعاش زمن مجده يبكي.. وتقاطرت التعازي على مقر صحيفة (أين تذهب هذا المساء؟) وهو الاسم الفكاهي لصحيفة أخبار بنغازي لما تنشره من أخبار الوفيات والتصاق هذه الصفحة بالقراء جميعهم، حتى أن أحد القصاصين اهتم بالأمر وكتب قصة عن هذه الصفحة بالذات عنوانها (أكمام مبللة) وهذا مقتطف منها:
صباح كل أحد وثلاثاء وخميس، يتجمعون أمام المكتبة، يتجاذبون أطراف الحديث حول مشاغل الحياة، جلهم شيوخ شبع الدهر من إحصاء أيامهم، تظهر على سحناتهم آثار الشيخوخة من ترهل وجفاف ورجف، منهم من "ينف" ومنهم من يمضغ ومنهم من يدخن السجائر وينفثها بصعوبة.. يعطس الحاج بوزيد وهو ينظر إلى باب المكتبة المقفل ويقول:
ـ تأخر المنجوه )الشقي) بلكي منقلبة عليه وحدة من الغرارات!
ويقذف الحاج عوض كلماته عبر اتساع ابتسامته الخالية من الأسنان: ربما نجد اسمه في صفحة الوفيات.. من يومين بس سألته عن صحته وقال لي: عمرك ما تعملها تتزوج ليبية ومصرية مع بعض.. البازيــن والمدمس اتريدلهن معدة فيل ويالا...!
وتختلط كلمات الشيوخ بين لائم ومعاتب ومشجع وبعد أن يهدأ مرحهم يستغفرون الله ويتمتمون بعد عمر طويل إن شاء الله .
في المقهى المحاذي للمكتبة، الصوماليـون (بائعو صحف جوالة) جالسون يحتسون الشاي باللبن ويرطنون وعيونهم تترقب افتتاح المكتبة، وكانت الشمس قد ارتفعت وانفضت من حول قرصها كثبان السحاب الشائخة. وأخيراً وصل ياسر حمودة صاحب المكتبة ورفع حصيرة الباب بعد أن أحكم إغلاق القفل النحاسي على الحلقة الأرضية، وأدخل حزم المطبوعات ومد كل شيخ ربع ديناره والتقف صحيفته (أخبار بنغازي). بعضهم لم يصبر وفتحها مباشرة على صفحة الوفيات، وآخرون طووها تحت آباطهم وخرجوا، أحدهم يرتدي معطفاً تحته فرملة، داس عقب سيجارته ووضع نظارته وأخذ يبحث عن إعلانات بيع الخردة …
الحاج بوزيد خطا إلى الخارج وتوقف يتشمس قرب الباب، ثم تأمل ساعته والسماء وسار بتثاقل، الصحيفة في يد والعكاز في يد ونظراته الكليلة ممتدة إلى البعيد …
وذهب يوم وقدم الذي يليه ونقص شيخ من الجمع وزاد اسم في قائمة الوفيات… وتساءلوا.. وحزنوا حتى مسحوا دموعهم بأطراف أكمامهم.. وتوالت الأيام وانضم إلى المجموع شيخان ونقص ثلاثة وزاد أربعة.. وتسارعت وتيرة الزمان وابتلت الأكمام.. وجفت… وابتلت وهكذا… وقائمة الوفيات تطول وتقصر كظل نهار…
... والمسامير تدق والمطابع تطبع والطوابع تلتصق والعصافير تزقزق والذبذبات تسبح والأرض تخضر والسماء تمطر والموج يمتد وينحسر والشمس لا تخذل والحياة تركض وتطحن دون هوادة ولا ترهف السمع الا لبكاء شجي ينساب من رحم وسط صرخات وزغاريد وزخات من لبن دافئ.
ونعود إلى خبر وفاة المطرب الشهير الذي أحزن و أبكى الكل.. وها هو الهواء يبكي.. والناس تبكي.. والعالم حزين.. والموسيقى تبكي بأنغام خرساء.. والزمن برمته حزين لموت المطرب الشعبي الكبير والذي في هذه الأثناء الصباحية يغط في نوم عميق لا يستيقط منه إلا بعد منتصف النهار .
وانهالت التعازي مجدداً على صحيفة أخبار بنغازي، والهواتف أصبحت خطأ ساخناً إلى مخـتلف مدن وعواصم العالم.. مطرب
(يا طير سلم لي على غاليا.. سلاما يرد الروح ترجع ليا) مات.. مات بجلطة دماغية.. جلطة الصحفي النشط مسعود مات المطرب الشهير.. حنجرة ليبيا الذهبية وصناجتها الشجية.. مات المطرب صاحب البحّة الساحرة والترانيم الحزينة.. المدينة حزينة ومسعود حزين.. يؤكد الخبر ويستعد للذهاب إلى مقبرة الهواري وفي يده أعداد هائلة من الجريدة يوزعها ذكرى على المشيعين.
آمين رابطة الفنانين ارتدى زي الحداد واستنفر كل حزنه الدفين وكل ما ادخره من دموع تماسيح وبنات آوى وأمين رابطة الكتاب والأدباء دبّج مقالاً سميناً على وزن بازين في بيكين وفتات في الواحات وأرسله إلى جريدة الفنون والصنائع.. أما المصوّر المخضرم الفنان فتحي العريبي فقد تسلّح بأعتق آلة تصوير لديه وربض أمام ثلاجة الموتى بمستشفى الجلاء ليواكب الجثمان في رحلة الوداع الأخير.
الطريف في الأمر أن المطرب لم يمت وكل ما في الأمر أنه تعرض لوعكة صحية أدخلته المستشفى ليومين.. أحد الخبثاء حكى الخبر لصديقه وكان آنذاك مسعود جالساً في القرب.. سمع كلمة كاد أن يموت فاعتبرها مات خاصة بعد أن سأل المتحدث وأكد له أنه نقل إلى العناية الفائقة بين الحياة والموت.
بعد يومين من هذه الفضيحة الإعلامية أصدر رئيس التحرير قراراً بإعفاء مسعود من تحرير الصفحة الفنية وإحالته للتدريب والتتلمذ في قسم التحقيقات بالجريدة تحت إشراف أساتذة لهم باع طويل في الصحافة والتصافح والصحففة وألاعيبها..
داوم في قسم التحقيقات أسبوعاً ولم يحتمل التوبيخ وثقل الدم فغادر الجريدة برمتها.. الصحفي مسعود دمه خفيف.. ذات مرّة سألته عن أحد الإعلاميين فقال لي أجروا له خمس عمليات بواسير.. قلت له أسألك عن رأسه.. عن أفكاره.. وليس عن مؤخرته.
الصحفي مسعود يحب الفن ويعشق الغناء والتمثيل.. هو كهربائي خطير.. لم يطل به الأمر.. سرعان ما وجد ضالته ورشق وصلته في صفحة الفن بصحيفة الجماهيرية مواصلاً فتوحاته وغزواته ذات رائحة الطبيخ.. في الصفحة الفنية بصحيفة الجماهيرية نشط.. ملأها بالأخبار البنغازية.. خاصة الأخبار والمناشط المتعلقة بمدير مؤسسة الصحافة وعشيرته وجوقته المقربين.. وبحبح مسعود صار له مكتب ومدفأة ومكافأة وسمن قليلاً، وبرزت مؤخرته خمسة سنتيمتر فملأت البنطلون أما شدقاه فقد توردتا وجرى فيهما الدم .
سبّاك يعمل في شركة الأنابيب.. قال: أودّ أن أشتغل في الإعلام والثقافة.. إنهم يقبلون الكهربائيين القصيرين وباعة الكازوز.. فحتى أنا راقد ريح أقليل والي ويدي أتعبها مفتاح (الجولوكوبو) وأنفي ما عاد يحتمل روائح البالوعات والمراحيض.. لقد أغمى عليَّ ذات صباح، وقال لي الطبيب البنقلديشي همد خلاص مافيش جعب أنت مكتب ورق إعلام رابطة أدباء.. عندما أحضر ملفه ووصل المبنى كنا ننظر من خلال الزجاج ونسأل بعضنا: ما علاقة السبّاك بالإعلام؟.
هل لآن السبّاك يجيد التوصيل والغلق والفتح.. فكرة عمله توصيل المياه إلى الصنابير وتوصيل الفضلات إلى البالوعات والتوصيل نوع من التفصيل والتفصيل واللبس هي فكرة الإعلام الرئيس.. الإعلام يوصل ما يفصل وما يريد.. يوصله إلى عقول الناس ويمنع عنهم ما يريد وما لم يفصله أو يمر عليه ويُروى له.. يمنع عنهم أيضاً ما يفصلونه لأنفسهم.. والصنابير تفعل نفس الشيء.. ونتأمل هذا السبّاك من خلال الزجاج.. نراه وقد توقف طويلاً.. روائح لم يألفها تحيط به.. يشمها المسكين بتركيز.. يوجّه أنفه صوب الإذاعة.. صوب المنتدى صوب مبنى الإعلام.. صوب البريد.. نفس الرائحة.. نفس النفاذة.. يوجّه انفه صوب السماء.. نفس الصنّة.. يتشمم الملف الذي بيده.. يغالبه التقيؤ.. يرمي به في برميل قمامة ويفر قافزاً رغم وزنه الثقيل إلى دراجة نارية صادف مرورها.
أحد الأوباش نبش البرميل وتناول الملف ثم دخل به مبنى ليس على بابه لافتة.
***
الوقت ظهراً والمنتدى الإذاعي مكتظ بالروّاد، شجيرات قصيرة أمامه تصنع بعض الظل.. تحتها يقف بعض المطربين.. يبتسمون ويدخنون.. منهم من يمضغ العلكة مشكلاً منها فرقعات يفرقعها ثم يعيد الكرّة..
موظفات الإعلام والإذاعة اللاتي يستعددن للمغادرة يبتسمن.. منهن من تمضغ وتبصق علكتها على الإسفلت.. سيارة مارّة تدوس العلكة.. يصيح أحد المطربين الشواذ: وووه يامينتى.. المستكة ماتت.. سوسو اطلب الإسعاف السريع.
شاذ آخر ينزع هاتفه النقال من حزامه المرصّع بالصدف ويشرع في ضغط الأرقام بمرود ذهبي.. خميسة.. تسيعة.. سبيعة.. صفير.. واحد.. ثم يضع الهاتف على أذنه ويغني: يا مينتي.. يامينتي.. سوداني طوّف ليلتي..
أغلب هؤلاء الشواذ يملكون سيارات حديثة مكيفة وهواتف نقالة.. أحد الخبثاء علّق قائلاً: الشواذ قليلون في البلاد والطلب عليهم كثيف..
ملحن لوطي يداعب مطرباً شاباً بنغزة إصبع في إبطه.. فوفو ينطط صارخاً بغنج.
دخان النرجيلات والسجائر يصّاعد ملوثاً نقاء الجو.. المراوح تدور دون فائدة.. أجهزة التكييف المعلقة في الجدار عاجزة عن تبريد الحرارة المنبعثة من جمر النرجيلات وأنفاس الروّاد..
أجلس صحبة مريم، وشاركنا عبد نفسه الجلسة.. أوقفنا حديثنا الصامت وتدارشنا.. هو مهموم.. سكران.. مفلس.. قال لنا: مسؤول في أمانة الثقافة يطلبني الأحد القادم.. وقبل أن يواصل الكلام يدخل صحفي شاذ (بمبتشي) أي موجب وسالب.... بنطلونه حرير وردي.. يقول لعبد نفسه: مطربة شعبية جاءت منذ نصف ساعة تبحث عنك.. اعذرني.. لم أدخل المنتدى.. قلت لها كان واقفاً هنا يمضغ معنا العلكة.. عموماً هي ستعود مجدداً.. غداً.. أو بعد غد.. يشكره عبد نفسه بنظرة تفاهم.. ينصرف الشاذ ويواصل عبد نفسه حديثه لنا وارتشاف قهوته..
ممثلة تجلس مع مسؤول الإعلام تصيح للنادل: كرسي سلوم وجمر.. ويسعل عبد نفسه محملقاً في الممثلة المصبّغة.. يسحب من النرجيلة نفساً عميقاً.. كأنه يجذبه من آبار الدخاخين.. الماء داخل القنينة يبقبق.. يكوّن فقاعات سرعان ما توالى انفجارها.. نظر إلينا عبد نفسه نظرة رضى وقال:
ـ ما رأيكما لو ترافقاني الأحد القادم إلى أمانة الثقافة؟ سأتكلم عنكما.. وربما أتحصّل لكما على قروش.. النقود من حقنا.. أليست الأمانة اسمها الثقافة.. ونحن مثقفون.. أنت روائي.. وأنتِ شاعرة.. وأنا وأعوذ بالله من كلمة أنا.. ناقد كبير.
قالت مريم: يطلبونك أنت وليس نحن.
قال عبد نفسه: لكننا واحد.
قالت مريم: هم يحتاجون إلى نقاد وليس إلى مبدعين!
زد على ذلك أننا خارج المؤسسات.. ولا نطيق الدوائر ولا المثلثات ولا المربعات الرسمية.. نطيق شبه المنحرف فقط.. لو كانت الأمانة على شكل شبه منحرف فسنزورها.
قال عبد نفسه: لكن..
وقاطعته مريم: نحن لسنا مثقفين.. نحن من المدينة الدايخة..
من حي المحيشي..
قال عبد نفسه: لكن افهما وجهة نظري..
قاطعته مريم: نحن نكتب ونعيش فقط.. عندما تتكون أمانة للكتابة والعيش فسنزورها وننال منها حقوقنا الطبيعية..
الجمعة عطلة رسمية.. السبت لم نلتق.. الأحد جاءت مريم صباحاً وجئت ظهراً.. سألتها عن عبد نفسه وموضوعه في أمانة الثقافة.
قالت مريم: لا أدري.. منذ نصف ساعة رأيته خارجاً من مبنى الإعلام صحبة المطربة الشعبية المسكة الليبية.. غادرا في سيارة المسكة الليبية.
وبدأت التخمينات في رأس الزمن.. هل تحصّل عبد نفسه على عمل في أمانة الثقافة؟ أم على مساعدة مالية؟
سألت مريم: ما علاقة عبد نفسه بالمسكة الليبية؟
هل أمانة الثقافة لم تشغله فشغلته المسكة الليبية مديراً لأعمالها أو بودى جارد (حرس شخصي)؟ لا ندري.. وفي نفس الوقت ربما شغلته.. فعبد نفسه متعدد المواهب كما يزعم.. وإن تحدث يشعرك أنه يفهم كل شيء.. أي متع كله.. هو معروف في الوسط الثقافي كناقد.. نشر عدّة مقالات حول المدرسة السيميائية في الأدب.. وأجرت معه المحطة الفضائية الليبية حواراً أذاعته في برنامجها صباح الخير أول جماهيرية .. تحدث فيه بإسهاب عن أفكاره وآماله ونظريته السيميائية.. أوضح للمشاهدين معنى السيميائية وفسّرها لهم على أنها علم الدلالات أو العلامات نشأت من المبدأ العربي في الفراسة واقتفاء الأثر.. في نهاية الحوار أعطى المشاهدين تعريفاً بسيطاً للسيميائية هو: السيميائية بصّاصة الأدب.
في موقع الذبابة على الشبكة العالمية نشر دراسة عن السيميائية، وأرفق مدير الموقع للمقالة لوحة تشكيلية عبارة عن يد بها خمس أصابع.. سأل سوسو عبد نفسه ما معنى وجود الكف بجانب مقالك القيم.. ما دلالة ذلك حسب نظريتك السيميائية.. أجابه عبد نفسه ضاحكاً: معنى ذلك أن العالم به خمسة سيميائيين فقط، عبد نفسه واحد منهم.
ضحك سوسو وسأل: وأنت أي إصبع في هذه اليد؟
أجاب عبد نفسه: أطولها عندما يـنحـني!
منوّر.. منوّر.. يانـزيك.. هكذا قال سوسو وضحك كل من في المنتدى، وقـبّل سوسو خد عبد نفسه فصفعه عبد نفسه على مؤخرته برقة ليقفز سوسو مبتعداً مرحاً منتشياً إلى أبعد حد.
سمعت المسكة الليبية طراطيش كلام عن المدرسة السيميائية ورائدها في ليبيا عبد نفسه، وفسّرها لها شيخ الحضرة في شارع البزّار بكلمات بسيطة:
البعرة تدل على البعير
والخطوة على المسير
والآهة على السرير
قالت المسكة الليبية: العيطة على السرير.. هذا هو صاحبي.. فأين أجده؟!
وبإطعامها حفنة جلجلان لعدّة زرازير بصاصة عرفت مكانه وسعت إليه.. الفنان الحقيقي دائماً متواضع.. والمسكة الليبية فنانة حقيقية كعبد الجليل عبد القادر كعلي الجهاني عليويكة كحميدة درنة.. ككل نغم أصيل انبثق من حنجرة ليبية وسكن وجداننا.. كانت المسكة الليبية تعاني صعوبات مالية نتجت من كساد السوق الغنائي وظهور منافسين لها من الجنسين.. وظهور فرق أخرى من الدول المجاورة.. فرق مصرية تونسية تشادية سودانية.. إلخ.. قالت: إن دام هذا الحال سأفلس وسأجدني أتسوّل امام الفندق البلدي.. زارت تقازة (عرافة) فظهر اسم عبد نفسه معربداً في جنون الودع.. مخلوق في الخمسين.. له قلب ماكر ووقح.. خارج الهوية.. لا يؤمن بأي شيء.. لا يصلي ولا يصوم.. وإن حج فليس للعبادة إنما لمآرب أخرى.. في حياته صام يومين فقط، وما زال يبحث عن طريقة سيميائية يسترجع بها هذين اليومين من الله.
هو لا يعمل، لكن دائماً لديه نقود.. ودائماً لديه خمر ودائماً لديه سيارة.. فيما مضى سُجن عقد من الزمان، يقول: لأسباب ثقافية.. بعد الخروج في أصبح الصبح عام 1988م استأنف طريق حياته من جديد.. لكن زاد تمسحه بعتبات من سجنوه.. زار كافة مؤسساتهم الثقافية.. طرق أكثر أبواب المسؤولين الجدد والقدماء.. وعرض عليهم خدماته.. دائماً يتكلم.. كلامه كثير.. كثير جداً.. وكله جدل.. يبدو للمستمعين أنه فارغ من المعنى.. هو منحاز للأدب الشفوي وللحكايات الشعبية ولأغاني الأزقة والشوارع والبلكونيات.. عندما أخبره فوفو أن المسكة الليبية تسأل عنه ألقى على رواد المنتدى خطبة حول فن المسكة الليبية.. قال إنها فنانة حقيقية.. خلال خمسة عقود من الزمن أبهجت كل الليبيين.. شاركتهم أفراحهم وأحزانهم.. انتصاراتهم وهزائمهم.. صاحبتهم في مسجلات السيارات وفي غربتهم خارج الوطن.. قال وهو يوجّه كلامة لفوفو: كنت أسمعها منذ كنت أعيش في مرسى مطروح.. كان صديقي الزرزور آنذاك صغيراً نبعثه لشراء سجائر كليوباترا وجلب زجاجات البيرة والبراندي.. هو ليس قريبي.. لكن يسكن جنب عشتنا ولا ندري لأي نجع ينتمي.. يسألني أحياناً من التي تغني في البي كب فأجيبه المسكة الليبية فيقول الزرزور: يا رب أروح ليبيا وأشوفها..
أشرطتها متداولة في كل مصر.. تنافس أشرطة أحميدة موسى.. وبوعبعاب وعدوية.. صوتها جهوري رنان ذو قرار وجواب عميقين.. صوتها يصل القلب قبل الأذن.. أو يصل الأذن من لسان الروح:
حيه عليه النار كلاتا.. والعين السوداء خلاّتا
يا بابور الغالي وينا.. رانا مالمرجا ملينا
الغالي هاتا.. حطّا بين أمه وخواتا
سبع سنين عيني ما راتا
تبكي بالدمعة الحزينة
عندما سمعت المسكة الليبية الناس تتحدث عن نظريات عبد نفسه اهتمت بالأمر وفهمت الموضوع عن طريق معاونيها.. فسعت إليه والتقته في مبنى الإعلام.. ناقشته قليلاً فتقاربت وجهات النظر واتفقا في كثير من النقاط.. في نهاية اللقاء قررت أن تضمّه إلى فرقتها كمدير أعمال وحارس شخصي ودرباك وزمّار وعازف احتياطي.. بالإضافة إلى عمله الأصلي في الفرقة وهو نقد الكلمات والألحان واختيار الأجود منها.
وافق عبد نفسه على الفور دون قيد أو شرط.. وهما نازلان من دروج عمارة الإعلام، غمز أحد المصورين لصديقه فبصق عليه عبد نفسه ووبّخه قائلاً:
ـ مالك تغمز؟ المسكة الليبية أشرف من قبيلتك كلها.. هي بتغني وتقبض وأنت تصوّر وتقبض الريح..
وأعجب الدفاع الوقح المسكة الليبية فابتسمت ابتسامة واسعة أبانت بعض أسنانها الذهبية.. ربتت براحتها على كتفه وهمست له: ما تعدلش عليه.. وفي نفس الوقت نجك لي وكبّر مقدارك..
باشر عبد نفسه التجارب مع فرقتها، وتفاجأ إذ وجد الصحفي مسعود من ضمن الفرقة.. قالت له: مسعود شاب راقد ريح.. طرد من الإعلام والصحافة فشغلته سخّان درابيك.. في نفس الوقت ساعدته على الزواج من الراقصة مسعودة.. هو الآن تحت التدريب.. يتدرب على الرقص.. بصراحة جميله سابق.. أيام كان صحفي كتب عني عدّة مقالات رائعة وأجرى معي حواراً نشر في الصفحة الرئيسية.. في الغناء صوته مثل نعيق الغراب، لكن سرعته في صعود وهبوط السلالم رشحته لوظيفة سخّان الدرابيك.. وقلت ربما يستطيع أن يكون راقصاً.. دربته على الرقص.. في الأيام الأولى أتعبني.. جسده لا يستجيب إلا لرقصة الحجّالة.. وأنا لا أحتاج لحجّالة بدوية في فرقتي.. أرسلته لصالة الجمباز في المدينة الرياضية.. ليليّن لي المدرب فتحي الورشفاني جسمه قليلاً.. بعد شهرين من التدريب الشاق صار جيداً.. صار صالحاً لأداء رقصة الكسكا وبوسعدية والغزال الذبيح.. فصّلت له ثياباً نسائية على مقاسه.. وأدخلته إحدى حفلات الفويهات شارع دبي.. أسدلت على رأسه بيشة (وشاح أسود شفاف).. وسقيته ثلاثة كؤوس ويسكي ليذهب خجله ويهزهز مؤخرته جيداً.. والحقيقة الفرخ أبدع.. أبدع.. نال إعجاب الحاضرات ونفحته عوانس العرس بعدّة هدايا ذهبية وبضع مئات من الدنانير نين كتره تعبّا أفلوس..
مثلما غيّر أبو إصبع حالة صاحب سينما التقدم، غيّر عبد نفسه حالة المسكة الليبية إلى أفضل الأفضل.. اختار لها أفضل الملحنين.. ووظف دهاء المدرسة السيميائية في أغانيها فصارت الكلمات أقوى دلالة والجمل الموسيقية، ثم شحنها بجرعة معاناة والرقصات مزجها عبد نفسه بإيماءات خنثوية مهيجة مسيّلة للعاب.. استلهم من فن البالية أناقته ورشاقته، ومن القنوات الإباحية غمزات شهوانية وترقيصات حواجب تصاحب أداء الفرق طول الوقت.. اعتمد اعتماداً كلياً على الصورة.. الكلمة التي لا تجلب صورة للمخيلة استبعدها مهما كانت بليغة..
كل حفلة يبتكر الجديد.. ويضيف إلى الأغاني الكثير من السوقية والفهلوة والتفاهة لتواكب روح العصر وقيمه المنهارة وناره المدخنة ومبادئه الفاقدة رائحتها.
نجحت الفرقة وكسبت الكثير من الأموال التي عوضت كساد السنين الفائتة.. صار عبد نفسه مستور الحال وفي بحبوحة.. زوجته فرحت وزغردت له طويلاً.. كل فجر يعود إليها بقفة بها ربع شاة ضأن وزجاجة نبيذ أصلي.. وعلبة سجائر وقراطيس بخور ومكسرات وحلويات وشوكلاته.. أطفاله سمنوا.. يفطرون يومياً على الشواء.. يلبسون أزياء جديدة كل يوم.. يتعلمون في مدارس خاصة كأولاد الزرزور.. العمل مع المسكة الليبية رائج لا بطالة ولو لليلة واحدة.. الأفراح على وذنها صيف شتاء.. ربيع خريف.. ضاق الزمن بحفلات الفرقة المستمرة.. الطلبات كثيرة.. أعراس.. حفلات ختان.. حفلات نجاح.. مناسبات وطنية.. صوفية.. الدفع مقدم والحجز يتم بصعوبة وأحياناً بوساطة من الوزن العاهر الثقيل.. سوسو دائماً يتوسط.. وفوفو هو الوحيد الذي لا يرد له عبد نفسه طلباً، خاصة إن وقف خلفه ووشوش له.. عائلات بنغازي العريقة والغنية لا تعتبر العرس عرساً إن لم تحيه المسكة الليبية، والعريس يكتئب ويتعنن إن لم تكن المسكة تصدح عند دخوله العش.. العائلات المتغانية تقاتل وتتوسط بأقوى الوساطات وتقدم أنفس الهدايا لتتحصّل على موعد مع المسكة الليبية.. لم تكن ليلة الدخلة الخميس أو الأحد.. صارت المسكة الليبية هي التي تحددها حسب مزاجها ومزاج عبد نفسه.. ذات حفلة سكر عازف الأكرديون غاية السكر وفجأة في منتصف الحفلة تقيأ الأرز والشوربة والعصبان.. الفتيات صرخن.. وأم العريس تأففت من القيء وأم العروس امتعضت وأقفلت منقارها بإصبعيها.. لكن المسكة الليبية مطربة حقيقية ذات خبرة كبيرة وسرعة بديهة.. قلبت الموقف لصالحها وصرخت فيهم: منكم مش منا.. عجوز سحارة تريد إطعام العروس السحر في العصبان.. العصبانة أخطأت فم العروس وتدحرجت إلى فم عازفي الأعمى المسكين .
الحفلة ستستمر رغم أنف الساحرات الشريرات وعلى العروس خميسة وحويته وقرين.. وزغرودة للعريس ولأم العريس وجدتها وعمتها وخالتها.. ولكل الجارات.. ورقصة جديدة من مسعودة وراجلها.. ودقيِّ يا مزيكا.... وفمّك تبيلا تسويكا.. أنتِ يا سمحة يا مستيكا.. وحيه علي يا أمي.. يزلحق راقي من كمي.
وتلفنت بهاتفها النقال لعبد نفسه الذي ارتدى زي الأعمى مع نظارة كنظارة ملحن يا مسهرني سيد مكاوي و عكاز أبيض رقيق.. دخل الخيمة يزغرد ويصفّق وقادته مسعودة إلى مكانه جنب المسكة.. ثبتت على كتفيه وظهره أحزمة الأكرديون وبدأ العزف لتتعالى الزغاريد وتشتعل الحفلة وتصعد الركح عدّة مراهقات وصبايا.. يرقصن شبه عاريات.. ومع الجو البهيج واللمسات المختلسة لعبت مخيلة عبد نفسه لعبة المضاجعة عن بعد.. أو اليوغا الجنسية، وانتصب وتفصد عرقه وتفطنت المسكة الليبية لآهة فلتت منه فقرصته في فخذه بشدة وذابت صرخته في صراخ البنات للأغنية التي لعلعت بها المسكة:
يا سامط ما تلمسني
لكن بلسانك الحسني
وتعالى صراخ عبد نفسه والبنات والصبايا أيضاً عندما لعلعت بالأغنية الأخرى:
ما نمشوش على كرعينا... تسلم سيارة غالينا..
..كانت حفلة جميلة.. غنى فيها عبد نفسه أغاني ارتجالية نالت استحسان الراقصات والحاضرات وغنى لهن أيضاً أغنية بوعبعاب: وين الغالي يا دار.. وينو كاحل لنظار.
كانت المسكة الليبية ثملة في قمّة بهجتها ونشوتها.. تنظر في عيون الجميلات وتغني عليهن أغانٍ مخصوصة، تتخيل لو كانت رجلاً لتلعب في هذا القطيع العاهر بعضوها الثقاب.. كانت تتأمل صدور الفتيات النافرة حديثاً وتغمز امرأة ماضغة ناضجة ذات مواصفات شبقية حارة.. تدعوها إلى زيارتها في الشقة، وأثناء حفلة الرقص تصحبها إلى غرفة داخلية بحجة إصلاح زينتها.. تمكثان في الغرفة زهاء نصف ساعة وتخرجان مترنحتان في غاية الارتواء والمرح والانبساط..
كالعادة رجع عبد نفسه إلى بيته فجراً.. سلم على زوجته وعانقها وناولها قفّة الهدايا.
خلعت له ملابسه ووضعت له رجليه في الماء الدافئ.. قالت له: لماذا ظهرك عرقان وعليه آثار أحزمة.. قال لها: عازف الأكرديون مرض فأخذت مكانه في الحفلة، وانهمكت في غسل رجليه وتدليك أصابعه، وفجأة وقفت وأحضرت له مظروفاً..
ـ هناك من جاء بهذا المظروف في غيابك .
فتحه عبد نفسه على مهل.. رسالة بها قراراً بتعيين عبد نفسه موظف في أمانة الثقافة على قانون 15 الخاص بالمرتبات.
ابتسم وتناول من القفة خمسة عشر ديناراً دسها في الرسالة وأعادها إلى المظروف ثم رماه في الكانون المشتعل.. شهقت زوجته لائمة: حرام.. حرام.. هذا كفر بالنعمة قال عبد نفسه:
ـ لا كفر ولا حاجة يا شيخة.. هذا العمل لطرد العين بس. تعرفي يا حبيبتي أنا مطلوب للعمل مع من.. مع الست.. عرفتي الست من؟.. سيدة الغناء العربي أم كلثوم.. لا ألحن لها.. ولا أعزف لها.. ولا أحرسها.. فقط اكوي لها المنديل الذي تكمشه في يدها لحظات الغناء.. أصله أشهر مطرب في العالم الآن هو الشعبان عبد الرحيم وهذا الشعبان كان مكوجي.. وأنا عندما أكوي منديل الست أم كلثوم أصير مطرباً كبيراً بيكره إسرائيل وأبو أم إسرائيل.. الناس كلها تعرفني.. العالم كله بيعرفني.. وأسمن.. وفوفو يعجبه سمني.
وتجرّع من قنينة الخمر ثم وقف يرقص ويغني ويبعثر النقود في أرجاء الغرفة.. تأمل النقود برهات وبدأ يغني ثم يصرح قائلاً: مريولا ليبنسكا تعرّي تمرّغي على هذه الدولارات.. وأي مائة دولار تلتصق بجسدك الحلو الناعم هي حلال عليك.. كانت مريولا تبذل مجهوداً جباراً.. تتمرّغ بوحشية لتفرز عرقاً تلتصق به الدولارات..
عبد نفسه يغني أغاني بولندية.. زوجته ذاهلة لا تفهم شيئاً.. حفظت الاسم فقط مريولا ولبنسكا تعرف أنه سكران.. تجامله.. توافقه في طلباته الرعناء.. تردد وراءه حبيبتي مريولا ليبنسكا.. قالت له: سأزوجك هذه المريولا.. وتحيي الحفل زهرتنا الليبية.. وأنا يا عبدو الغالي سأرقص في عرسكما أحلى الرقصات، وانتفض عبد نفسه فاغراً فاه مغمضاً عينيه كصيني يضحك وصفعها بقوة صارخاً بهستيرية: أنا مراتي مش رقاصة أنت مش رقاصة.. أنت بنت ناس.. بنت عائلة.. أخوك ذكير.. جنتل.. شناباته كبار.. أنت مش رقاصة.. فوفو.. فوفو.. مراتي مش رقاصة.. مش رقاصة.
ونطح برأسه الجدار ثم تهاوى.
***
عندما أسبح في الماء يبتل جسدي
عندما أسبح في الفضاء تبتل روحي
جسدي أحبُّ له الجفاف
أما روحي فياليتها تغرق
لا أستطيع أن أختار
بحر الأرض أم بحر السماء
سأنشطر إذن
نصفي يغوص..
ونصفي الآخر يرتفع
أرقبهما حتى يعودا
يا لهما من عصفورين مشاكسين!
ذات مرّة كنت فخاً وعلى شفا حفرتي طعم من أماني
هربت منهما
لم أغص
ولم أرتفع
تدفقت إلى الأمام
وعندما لاحت مني التفاتة إلى الوراء
ندمت..
لأنني رأيتهما في حلقة واحدة
نصفها فوق
نصفها تحت
سريعاً عدت لأشطرهما
في تدفـقي سقطت الدودة من الفخ .
قال أبو إصبع: هذا النص لا ينشر.. به رمزية مُـرمّـزة..
ماذا تعني الدودة؟
وماذا يعني الفخ؟
إنه يلعننا يا أستاذ زرزور ويشتمك أنت ومن تمثل بالذات.. انظر إلى علاقة الزرزور بدود القمامة وانظر إلى دلالة الفخ في النص! قد يطبق على إصبعي الثمين ويبتره.. وقد يطبق على منقارك فيبتره أيضاً.. أنصحك بعدم نشر هذا النص..
قد يسبب لك مشكلة لها أول وليس لها آخر.. وأجابه الزرزور عبر الهاتف.. أنا لا أرضع إصبعي.. مثل هذه النصوص مكانها ليس سلة المهملات إنما الجهاز الأعلى لرقابة المطبوعات في العاصمة.. ونسخة أخرى للذين نحبهم هناك.. أنا لا ألعب.. أحب أن أطعم أبنائي حلالاً.. هناك نص آخر خذه الآن.. جاءني من نفس الكاتب.. طبعاً لم أنشره واتخذت ضده كافة الإجراءات الصارمة.. اسمع النص ربما يأتيك ولا تتفطن له.
يجيب أبو إصبع: مسكين أنت.. عقلك خضر.. كيف لا أتفطن له؟.. أنا متخرج من السينما.. هذه الأفاريات ما تمشيش عليّ.. الرمزية أعرفها أكويس.. أنت يا زريزير تعرف أحمد رمزي.. سهير رمزي.. هاني رمزي.. رامز النويصري.. رميز.. لكن رمزية لم تمر عليك.. أنا درستها كويس من الألف إلى الياء.. من طق طق إلى السلام عليكم.. حتى في لعبة الكارطة سداسة دائماً أنا الرايس الوحيد الذي أملك رموزاً خاصة.. أي شيء يسبب لك قلق أخبرني به.. أي واحد كاسرلك رقبتك قولي عليه.
ويجيب الزرزور: مقتنع بتفوقك في عالم الرموز.. وأعرف أن أي نص تتفطن له.. أنت ذكي.. وليس كرئيس تحرير مجلتنا.. مجلة الثقافة.. الذي لا يعرف كلمة لا أبداً.. أي شيء ينشره كما يأتي من الكاتب أو الشاعر وأقول له: وأنت أين رئاسـتك؟ أين هيبتك؟.. اشطبْ سطراً.. تدخـّل في النصوص.. املأ سلة القمامة.. لا أدري ماذا أفعل له.. قاهرني والله يا أبا إصبع.. دائماً أكتب فيه التقارير.
أكتب فيه بصورة شبه يومية ولا إجراء اتخذ ضده حتى الآن.. أشعر أنه مرابط.. ماشي بالبركة.. هو شاعر صوفي.. مفرداته الشعرية قريبة من مفردات الدراويش ولغته تعج بالمصطلحات السلفية.. دائماً يقرأ القرآن.. وقبل أن يستقل المصعد أو يتحرك بالسيارة يقول: باسم الله وتوكلنا عليه وبسم الله مجراها ومرساها. والشيء المثير والخطير والذي لم يتفطّن له غيري أنَّ على ظهر يده وشماً قديماً عبارة عن قلب حب و مقود سفينة.. قلب الحب لم أكترث له فللشيوخ الحق في الحب أيضاً.. لكن المقود.. بصراحة بلغت عليه فوراً.. قلت لهم أنه يطمح للقيادة.. أيقونة المقود تشير إلى السلطة والقيادة.. قلت لرؤسائه أن يتفطنوا لمدسوساته في ثنايا المقالات.. مثل هذا الرجل الذي في يده مقود لا تمنح له رئاسة مجلة.. قد ينعطف على حين غرّة بالمجلة إلى فضاءات الزندقة أو الماركسية أو الماسونية أو غيرها من الأفكار الهدّامة.. هذا الرجل يا عالم في يده مقود.. مقود وشم.. منقوش بالدم والكحل.. لا تمنح له رئاسة مجلة ثقافية مؤثرة إطلاقاً.. امنحوها لنا نحن أصحاب الأيدي النظيفة من الأوشام.. أنا أو أنت يا عزيزي أبو إصبع أو ابن عمي دكتور الحوووأ ق.. لكن فيك يا وادي.. تكلمنا.. كتبنا.. صرخنا.. ومفيش فايدة.. لكن الحقيقة يا أبا إصبع شعرت براحة الضمير لأنني قمت بواجبي ووضعت منقاري على مكمن الداء بالضبط والمفروض أن تساعدني يا أبا إصبع وتضع إصبعك جنب منقاري.. لا تخف لن أنقبك إن نجحنا في انتزاع رئاسة تحرير المجلة.. سنلعن الملّة أقصد نتقاسم الغلّة بالتساوي.. وبالمقابل أشعر أنك لن تغدر بي وتبعبصني أبداً.. يجيب أبو إصبع: حشاك.. حشاك.. ابعبص العدو.. ومتأكد أنك لن تـنقبني ولن تعض الإصبع الذي لحّسك البسيسة.. عموماً دعنا من هذه المشاكل.. وكلها أمور سهلة.. المجلة في أيدينا.. الجريدة في أيدينا.. البلاد في أيدينا.. خلينا في المهم: اقرأ النص المشبوه.. حسّك شوقتني إليه..
حاضرْ خذ عندك:
التوقد منثور بالماء
والماء محتار بين الإطفاء والإرواء
الشمس تمتص تقايض الماء بالدموع
نعم يا زرزور زدني.. هذا الكلام خطير.. الماء في الدموع سمٌ في القازوزة..
الدموع شروق جديد من سماء تمطر لأعلى
النخلة تميل لتقبِّل الأرض
الوهج لا يحرق فراشة
والمصباح يضيء نهار
والبحر قاعة أفقي
أشرب قارعة فنجان.. أمضغ أذني الإبريق
شبعي يشكرني.. أتصدّق فلا أجد لمن.
نعم يا أستاذ زرزور.. هذه دعوة للامتناع عن دفع الضرائب والزكاة.. مؤامرة لإفلاس خزينة الدولة.. دعوة عصيان مالي.. زدني هذا نص مشبوه.. صيد كبير.. ثمين..
الشمس تمتص كلماتي
تلقمها تفتح الورود
إن كان لقافيتك قفا فلن تكون شاعراً
الأرض تدور.. التاريخ يدور.. نحن ندور..
لكن ليس في دائرة .
عظيم يا أستاذ زرزور.. سوف نعلمه الدوران على رأسه في المثلثات.. واصلْ هذا الغيث النافع..
نسقي الورد
يشكرنا الورد
لا نسقي الورد
يشكرنا الورد
القطف مؤلم
ونحن ورد
نفاق ربّت على كتف مبتسم.
يقصدنا ابن الكلب يا أبا إصبع هاهاهاهههههههههههههههههه
استمر.. استمر.. يقول عن إخلاصنا للثورة والمبادىء إنه نفاق..
الحروف تتصارع في الكتاب وكلنا يبدأ من أول صفحة
الماء يسكب في الكأس ليعود إلى البحر
الذهب دموع متجمدة لمعادن سرق عرقها
أفضِّل أن أموت في الواقع ولا أموت في الخيال..
حسناً سنذيقه الموتتين يا أستاذ زرزور.. واصلْ..
الإنسان مبهم كفقرة من قصيدة نثر
ما الفرق بين لسان اللهب ولسان البشر
إنه يقصدنا يا أستاذ أبا إصبع: يقصد لسانينا
أهرب من الهرب أجده مثلي.
لن يهرب يا أستاذ زرزور.. لقد وقع.. طاح برأسه..
من يجيد التحدث بالعيون
لن يتوقف بكاؤه
ومن يجيد الاستماع بالقلب سيذوب
ومن يستخدم عقله يجن
ومن يُجن لن يرتاح لأنه كان عاقلاً
تظاهرت أمام عقلي بالغباء فضحكت..
ويصرخ أبو إصبع: قالها بعظمة لسانه.. اعترف.. هو.. يهاجمنا صراحة.. لكن يتظاهر بحالة الإلهام والشعر والأدب.. كلمة فضحت كل شي.. هي اعتراف ضمني بالجريمة وشروع مع سبق الإصرار والترصد.. استمر يازرزوري العزيز.. عندك مكافأة إنتاج لدينا نهاية الشهر ومكافأة إضافية على تشمشيمك لهذه النصوص بالذات، وفي نفس الوقت سنأخذ ملاحظتك حول يد رئيس التحرير بعين الاعتبار.. استمر.. واصل.. ماذا بعد..
دموعي عبّرت عن حزن لم يبدأ بعد..
قلمي هو الوحيد الذي تركني أبكي كما أريد..
قال أبو إصبع: يكفي.. يكفي.. ابعث لي النص بالفاكس أو احضره لي شخصياً حالاً.. لن أغادر المكتب إلى حين حضورك.. يظنون أن البلاد سايبة بدون حرّاس.. نحن حرّاس.. نحن حرّاس الثورة والأرض والشعب ومصنع القازوزة.. آه من مصنع القازوزة.. أحب أن أكون مديره.. أنا أفهم في القازوزة كويس.. مديره كان مدرساً، وما علاقة التدريس في المدارس بخضخضة القازوزة؟ يجب تطبيق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب.. أنا أكفأ منه.. أنا أفهم في القازوزة كويس.. نعرف الببسي كولا.. والميراندا.. والسفن آب والبيتر سودا.. والسينالكو.. نفهم فيهن اكويس.. وبعدين بعد ما استلم المصنع اعرف كيف أحمّس المنتجين للعمل.. وأعرف كيف أرفع سقف الإنتاج وأعرف كيف أسوّق الإنتاج سريعاً وبالسعر الذي أريد.. عندما أستلم المصنع سأبني للمنتجين سينما كبيرة ـ أجلس لهم تحت الشاشة وأحمسهم للعمل.. أضع إصبعي في فم ليلى علوي أو ليلى طاهر واغني لهم:
قـزقـز قـز.. الببسي حلوة بعد الرز.
أحب القازوزة يا زرزور مثلما تحب أنت قصب كل المجلات والجرائد والإذاعات الليبية..
ويجيب الزرزور: لكن الصحف والمجلات الليبية تتأخر في الدفع.. دائماً انتظر أسبوعين حتى أقبض.. وأنت عارف حالتي أكويس وعارف ظروفي الصعبة.. وأنا ما تحصلت على شيء من إيماني بالثورة والدعاية لها.. الأموال تلهف وأنا يأتيني الفتات.. ياريت اللي يمطر عليهم في طرابلس يبشبش علينا.. نفسي أنتقل لطرابلس.. يارب.
يجيبه أبو إصبع.. لا عليك سأسعى لتحسين وضعك.. لدي فكرة.. أمس ليبيا فازت على مصر في كرة القدم.. لماذا لا تكتب في صفحة الرياضة.. اكتب أي شيء وسوف أنشره في جريدتي.. لا تقل لا أفهم في الفتبوول.. قل إن المباراة كانت قوية وحارة كالهريسة.. والخطة التي لعبت بها ليبيا المباراة خطة ثورية.. واللاعبون أولاد البسطاء أبناء الطبقة الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة.. قل إن حارس المرمى ينظر إلى الأعلام الخضراء ويهمه أن يرتفع اسم البلاد عالياً..
وقل أيضاً إن اللاعبين رفضوا أن يلعبوا بكرة خضراء وفرضوا على الفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) أن يستبدلها بكرة عليها نجمة سداسية وعلم أمريكا ليحلو الركل.. اكتب في الرياضة فأنت رياضي طويل كيف عود السباقيتي.. ورشيق.. ومن رأيي أن تقترح على مجلتكم الأدبية استحداث باب الرياضة الثقافية وتكون أنت أول من يكتب فيه.. أكتبْ عن الرشاقة والليونة في شعر أبي نوّاس، وعن المراوغة والتمرير دون النظر للخصم في شعر أبي العلاء المعري، وعن التسديد في الزوايا في شعر جرير وعن النطح تحت الحزام في شعر المتنبي.. اسمع يا زرزور: قراء الرياضة أكثر من قراء الأدب.. مقال واحد تشكر فيه جورب أو قفاز حارس المرمي يجعلك مشهوراً وتتحصّل على نقود تحوّلك من زرزور يجمع القصب المتناثر من الموائد إلى تمساح يبتلع خزنة مصرف ليبيا المركزي..
حاضر يا أستاذ أبا إصبع.. كلامك مقنع وجميل وأمس كنت في الشرفة أدخن كرسي معسّل وأتأمل الطريق الخالية، أحاول أن أكتب مقالاً أو قصيدة، وفجأة امتلأت الطريق بسيارات تطلق أبواقها ومن نوافذها يلوّح شباب مبتهجون بالأعلام الخضراء.. نزلت بسرعة ركبتُ أطفالي والتحمت في الزفة.. سألت السائق الذي يحاذيني في الطريق ما الأمر؟ شنو فيه؟ ما لها الناس تعيط كدا ليه.. قال لي: ليبيا فازت على مصر في الكرة.. وصرخت في أطفالي اخرجوا الأعلام الخضراء من تحت الكراسي.. ولوحوا واهتفوا وضغطت بقبضتي على المنبه وصرخت: حيه كلوها الفوالة.. قال ابني الصغير من الفوّاله وما معنى كلوها؟!
قلت له اسكت يا ابن الكلب وشرحت له المقولة فصار يصرخ هو الآخر من النافذة حي كلوها الفوالة.. ما ينسوها.. ويا أستاذ أبو إصبع أنا لست غريباً عن كرة القدم.. كنت أحكم المباريات في المدرسة وكنت ألعب في الشارع حارس مرمى لأنني طويل.. وكنت أحكّم أيضاً في دوري رمضان المبارك، وفي مرة صفرت على ركلة جزاء فنطحني رئيس الفريق الخاسر برأسه على أنفي وسال دمي وأبي اشتكى للشرطة وسجنوا رئيس الفريق في سجن الكويفية، ولم نكتب لهم سند صلح حتى أقامت لنا قبيلته مجلس صلح عاجل تحصلنا بموجبه على بضعة آلاف من الدنانير.. بعد المسار (مجلس الصلح) أمسكني أبي من أذني محذراً إياك ثم إياك أن تضرب أحداً.. دائماً احكم المباريات وصفّر على ركلات الجزاء وخليهم يضربوك على فسختك.. فسختك كنز وأنا ما ندري.. الرياضة ليست غريبة عني، كنت لاعباً وحكماً وجياب كورة من وراء الباب.. وأستطيع أن أكتب كتاباً رياضياً كاملاً ـ وأستطيع أيضاً أن أعلق على المباريات العالمية، وعندما يسجل الهدف أقفز على رجل واحدة وأصرخ قووووووووول..
سأكتب عن مباراة ليبيا مع مصر وأحللها وأوضح للقارئ سبب هزيمة الفريق المصري الفوّال.. أكيد لم يفطروا فولاً يوم المباراة، وأكيد لعبوا ضدنا بروح معنوية مغموسة في الفسيخ، وأكيد الفريق متأثر من برنامج الخصخصة والعولمة والإرهاب وتصادم الحضارات والقطارات في الصعيد، وأكيد أيضاً أنهم غدوا المدرب الإيطالي تارديللي بمكرونة مبكبكة بدل المكرونة السباقيتي التي طلبها.. وأكيد أنهم لم يتوكلوا على الله ولم يقرأوا الفاتحة ولم يأخذوا الريح معهم.
قال أبو إصبع: يكفي.. يكفي.. تحليلاتك صائبة وصحيحة اكتب عن هذه الأمور بتوسع وصفحة الرياضة على حسابك ارتع فيها كيف ما تريد.. كيف ما يعجبك.. سأضع عمودك بجانب عمود الأستاذ محمد بالراس علي.. هناك الصحفي الفيل دائماً يمدد خرطومه ينبش كل شيء.. ويحتحت الطين الناشف.. هذا خطر علينا سأعفيه من الكتابة وأمنحك مساحته.
سأجعل عمودك ملوناً وأطول وأعرض من عمود الأستاذ محمد بالراس علي.. أنت تكتب مقالاتك من وجهة نظر علمية وثورية.. بالراس علي يكتبها من وجهة نظر برازيلية.. كل كلمتين نجد بينهما سامبا.. وانت عارف أن بسكويت السامبا ما يمشيش مع القازوزة، وبصراحة بيني وبينك أريد تثوير صفحة الرياضة وإبعاد العناصر التي لم تـتـزرزر وتـتصبع جيداً.. اكتبْ وسأكون معك وليس ضدك.. المقابل المادي مضمون.. تريد حتى مقدماً موافق.. لو أرسلت لي المقال اليوم فسأحذف مقال امجودة الفيل وأضعك مكانه، وإن احتج أقول له ماء البحر أمامك وارتشفه بخرطومك.. لقد عقدني كثيراً.. دائماً يسأل عن قضية الحواسيب المسروقة..
قال الزرزور: حواسيب.. قضية... مسروقة..
وتفطن أبو إصبع للأمر ـ فغيّر الموضوع وقاية نقرة منقار ـ أقصد يا زرزوري الحسابات المسروقة.. أي الاختلاسات التي تحدث في الشركات وفي شباك تذاكر المدينة الرياضية والرسوم التي يتقاضاها الحرس البلدي من أطفال البراويط وبراريك الفندق البلدي.. طبعاً الجريدة ليس اختصاصها مثل هذه الأمور.. هناك جهات رقابية معنية تتعامل مع هذه المواضيع.. نحن في الجريدة نتعامل مع الصحفي المخطئ والمهمل بالطرد الفوري.. لا نمنحه أي فرصة للاختلاس.. مثلما حدث لنا مع الصحفي مسعود الذي نشر خبراً كاذباً عن وفاة مطرب مشهور على طول طردناه.. قالوا لي زملائي في لجنة التحرير: نسامحه.. راقد ريح.. نعطيه فرصة.. وقالت السكرتيرة: من منكم لم يرتكب خطيئة فليطقرني بصنب.. مسكين.. مازال شاباً.. كلنا نخطئ لكن لم أوافق ولم تؤثر فيّ عواطف أسرة التحرير والسكرتيرة العطوف.. أمسكته من أذنه وقلت له: معاش انشوف وجهك في مقر الجريدة وضربته كانشوا حتى تتدردح مع الدروج وصار يعرج.. وأكويس أنني طردته.. تعرف ماذا فعل في مؤسسة الصحافة؟ لقد قام بجريمة أخلاقية.. حاول اغتصاب إحدى زميلاته العفيفات.. يقولون إنه كان تحت تأثير مخدر سقاه له أحد الأشقياء صباحاً في مقهى المنتدى.. أذابه له في شاي الكوشري.. حتى الآن لم يُعرف من وضع المخدر للصحفي مسعود.. التحقيق وصل إلى طريق مسدود.. وتم حفظ القضية والتحفظ عليها.
قال زرزور: لا يوجد طريق مسدود أمام الزرازير.. سأتناول القضية. أستطيع أن أعرف من سقى مسعود الشاي المفخخ.. تخدير موظف عام له علاقة بأجهزة حساسة كالإذاعة والإعلام جريمة أمنية لا يمكن السكوت عنها.. لن أكتب في الرياضة الآن.. لدي شهية لشمشمة واضع المخدر في الشاي.. هل ستناولوني الملف أدرسه وأعاهدكم على أن أنقب دودة الجاني في زمن قياسي.. قال أبو إصبع: تعال.. لا مشكلة.. الملف أمامي الآن ولا تنسَ أن تحضر لي النص الأدبي الذي قرأته علي..
تناول الزرزور القضية وقابل مسعود في جلسة مغلقة امتدت من الفجر إلى النجر.. جعله يتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله ومع من جلس ومع من ركب ومع من تحدث ومن صافح ولمن ابتسم وماذا تناول من طعام.. وكم مرّة تبول وكم مرة ضرط.. وكان مسعود مرعوباً متجاوباً.. سرد له كل شيء عن ظهر غيب.. ولم يتعب زرزور في معرفة واضع الأقراص في الشاي.. هو ومن غيره.. نجيب الذي لم ينشر له مسعود مقالاته ورماها في سلة المهملات.. هو الكييف المدمن وصاحب الطرف والمقالب.. يفعلها ونصف.. أحضر نجيب من سوق الحشيش في سيارة شرطة مقفلة.. استجوبه زرزور في زنزانة بالمبنى الذي ليس على بابه لافتة.. اعترف بوضعه الأقراص في شاي مسعود نكاية فيه لأنه يهمل مقالاته ويرميها إلى سلة المهملات.. لم يش باسم الذي باعه الاقراص.. قال له اشتريتها من أفريقي في سوق واقادوجو قرب الفندق البلدي.. أخذه زرزور إلى هناك وتجولا في المقاهي والدكاكين والمواخير.. قال نجيب: ليس العبد موجوداً.. ربما سافر أو قبض عليه أو غرق أثناء محاولته الهجرة إلى إيطاليا عبر مراكب التهريب.
تعليقات
إرسال تعليق