رواية شرمولة للروائي الليبي محمد الأصفر (2\6)
والوحدة.. من حقي أن أسحب حتى دمه.. من حقي طرد أي عضو وسحب بطاقته مثلما من حق منسق الروابط أن يحل في أي وقت يشاء رابطة الأدباء والكتاب وأن يضع على ملاكها اليد والكراع أيضاً.
أنا أمين مش لعب.. أنا أمين.. أمين الرابطة وليس أمين الهنيدي.. أجلس على كرسي دوّار.. سأغير السكرتيرة العتيقة مريم.. أحيلها إلى الإنتاج في مصنع الدواجن أو المشروبات.. لا.. المشروبات لا.. ربما تتفرقع من زجاجة وتعود.. والسكرتيرة الأخرى نجيوة أنقلها إلى الدور الأول لتستلم عملها الجديد كسكرتيرة لمناصري الصحفي النشط عبدالله الزائدي.. دائماً التجديد محمود.. أي إنه ظاهرة صحية كما يقولون في الراديو.. دائماً أحب تجديد البطاقة الشخصية وجواز السفر ورخصة السياقة التي اشتريتها من البيضاء بمئتي دينار.. سأحضر سكرتيرة جديدة أنتقيها بمزاجي من قطيع الموظفات.. الطول كذا سنتمتر.. العرض كذا سنتيمتر.. الوزن كذا كيلو جرام.. الشفتان.. الأنف.. الخدّان.. النهدان.. المؤخرة وآخ من المؤخرات.. عنده حق الشاعر درويش يكتب قصيدة في مؤخرتي.. ستكون سكرتيرة مميزة .. لا تلبس وشاحاً ولا سروالاً.. لا تجلس إلا ورجلها فوق رجل.. لا تتوقف عن مضغ المستيكة وفرقعة البالونات.. أختار عطرها بنفسي.. وأحمر شفاهها بنفسي.. أشترط عليها أن تحفظ لي مقتطفات من أغاني المغنيين العالميين .. سكرتيرة قـش.. تقول لي صباح الخير يا حبيبي زعبور.. تقفل الباب بهدوء.. تسدل الستائر.. تضيء النور الأحمر الهافت.. آسف الأخضر البازيلي.. أنا لست شيوعياً ابن كلب وحرام كمان.. ولا أشجع أي فريق يلبس أحمر.. تسرّح لي شعري وتمشط لي شنبي الهتلري الصغير.. وتطبطب على بطني قليلاً.. تـنغـزني فجأة بإصبعها في مكان حساس لأنتبه ويتجدد نشاطي.. ثم تمنحني قبلة صباحية.. أفتتح بها يومي.. وكل ساعة تمر تمنحني قبلة أطول وأبطأ.. كلما مرّت الحياة استطالت القبلات.. وآخر الدوام.. أحاول ركوبها على مهل..وإن فشلت ألجأ إلى حلقوم الفياجرا وأغني: فوق الخيل فوق الخيل.. شد العزم وشد الحيل.. فوووق فووووق.. فوق الخيييل.
هذه بعض من أحلام الفتى الطائر زعبور.. يخطط وينفذ ويحلم.. ومن حق كل إنسان أن يحلم وأن يبني أهرامات ثم يقوّضها.. وإلى الآن لم يحن موعد التصعيد ولا ندري من سينجح: زعبور أم قادر بوه؟ كلاهما عنيد ومجنون سلطة.. كلاهما حصر أسطورته في اعتلاء القمة.. عبد نفسه هو الآن موالٍ لزعبور.. لكنه عادي جداً.. ليس له مبدأ.. قد ينقلب إلى كفة قادربوه في أي لحظة.. ويوم التصعيد إن وجد فرصة ليكون أميناً فلن يتردد أبداً وسيدفع بنفسه كالسهم للمنصب الفخم.. ولو نجح عبد نفسه أميناً للرابطة الأدبية فمعنى ذلك أن العالم يتمرغد بالمقلوب، وأن الرابطة مثل مباراة كرة القدم فيها مفاجآت وبها حصان أو بوبريص أسود يفوز.. متجاوزاً المعطيات ومحطماً التوقعات المنطقية.. لكن عبد نفسه لا يستطيع أن يكون أمين رابطة.. تركيبته ليست تركيبة أمين.. وحتى وإن صار أميناً سيكون اسمياً فقط لأنه سيتغيب.. ستعود آجلاً أو عاجلاً الماسة الليبية من زيارة العمرة وسيلتحق فور وصولها بفرقتها.. من يشبع في الأرز واللحم والعصبان والسجائر والويسكي والنساء والرقص والغناء والوجوه المرد الملاح والشواذ الناعمين كحلقوم مصنع كانون.
ماذا سيصنع في الرابطة؟ يتصبح في شدوق زعبور ويتمسى بقادربوه؟ أرمي الكناسة يا عبد نفسه.. سيبك من الـشرموط....... والتحق بالحياة .
وجوده في هذا الجو مع الأصدقاء كان علي مضض.. لم ينس العشرة حتى بعد الثراء.. أحياناً يتذكر أصدقاءه الجوعى فيترك حفلته مع المسكة الليبية ويفاجئهم بقصعة أرز زاخرة باللحم والعصبان.. هو الآن في هذا الشهر الرمضاني يقضي إجازة.. المسكة الليبية تعتمر.. أين سيذهب؟ البلاد مملة.. لا مكان أجلس فيه وأستعيد فيه مهاراتي في النقد السيميائي العتيد سوى مقهى عين الغزالة.. الغزالي لا أستطيع الجلوس معه في مكتبه طويلاً.. مكتبه مزروع باللواقط والمجسّات ولصقة فيران الكلام.. ومثلما أنا مدمن سيميائية فهو مدمن تقارير.. الفاكس دائماً خط ساخن والأوراق يلصقها في بعضها كي تصل أحبابنا يا عين على هيئة بكرة ورقية متصلة.. في الشغل الاستخباراتي لا يعرف حتى أبيه.. وأنا دائماً سكران.. وسبق سجني سنوات.. كنت أحضر ندوة أدبية لأدلي بوجهة نظري السيميائية وأفحم المحاضر الماركسي الأعرج.. أطلعه بالدة على بوشليف.. خرطوني معهم.. قلت لهم أنا سيميائي.. شغلي أدبي لساني وليس سياسياً.. فلم يفهموا.. وبعد الخروج في أصبح الصبح لم أعوّض بوظيفة مناسبة تنسيني ليالي الألم والحرمان من القرابا.. لا أستطيع المكث طويلاً في مكتب الغزالي.. أخاف أن تنتابني نوبة لعن فألعن العالم بشخوصه وجغرافيته.. والغزالي عبقري في جغرافيا المقاصد والتآويل.. سبق أن أشتغل مستشاراً ثقافياً لأمين الثقافة والاعلام.. سبق أن اشتغل في لجنة إجازة النصوص الكلامية.. يقول دائماً أنا لا أضر أحد.. الضار والنافع هو الله.. أخاف أن تنتابني نوبة لعن.. سينسى العشرة في لمحة عين.. سينسى جلساتنا في مقاهى النت.. سينسى نقاشنا الصباحي حول مقالات جريدة الجماهيرية.. سينسى العيش والملح والسكر والشاي والزلابية والمخاريق، وسريعاً ما سيوزع اللعنات على الأمكنة والرؤوس بدقة يحسده عليها إله البصاصين وأريح فيها شكارة بحر مليانة بيامبو..
لا مكان يستعيد فيه عبد نفسه مهارته في النقد السيميائي سوى هذا المكان.. مقهى عين الغزالة حيث يجتمع نفر من الأدباء والمدعين والمتشاعرين والباحثين عن دور.. ووجد أن الكل مهتم بالصراع الضاري بين القطبين زعبور وقادربوه، فصار يدلي بدلوه ويناقش ويضحك من الصداع، يتأمل حياتهم السائرة على عجلات الصدفة.. قد لا ينجح هذا ولا ذاك.. ربما تسقط ورقة توت من فوق فيعتمد من اسمه فيها.. الأتباع والمريدون دائماً منافقون.. ألم يتخلوا عن يسوع ويقدموه للأعداء؟! آه.. آه.
هذه النماذج لم تمر عليه في دراساته السيميائية القديمة.. النموذج الزعبوري والنموذج القادربوهي جديدان بالنسبة للوطن الليبي.. صراع بين مدينتين أو تيارين.. تيار الحداثة وتيار القدامة.. الاتزان والجنون.. لكن ربما يُلغى كل شيء.. إن لم يرق هذا الأمر لوزير الثقافة.. فهو التيار والموجة والإعصار.. ينصب من ينصب ويستبعد من يستبعد.. يقفل ويفتح.. ثقافته مفاتيح ومغاليق وأقفال.. يتفلسف.. يكتب.. هاجسه أمني أكثر مما هو ثقافي.. لديه مقص.. هو الرقيب.. سيضع من يريد.. رؤساء تحرير الصحف والمجلات.. المراكز الثقافية.. أمناء الروابط الفرعية والعامة.. حدد شروطاً جديدة للالتحاق برابطة الأدباء والكتاب من ضمنها الإيمان والولاء.. الأدب ليس عسكرية.. والكاتب الذي يؤمن هو فاشل كبير.. الأدب مثل الثورة لا يستقر على حال.. دائماً يتجدد.. وإلا صار آسناً.. سيضع الوزير من يريد، وهؤلاء الاتباع الذين يأكلون السفنز والزلابية والمخاريق. سينفضون من حول مُطِعمهم القديم ليركعوا أمام محتقرهم الجديد.. أعضاء من الرابطة القديمة التي تم حلها رفعوا دعوة إلى محكمة الشعب.. كيف يتم قضم جزء من كعكة سلطة الشعب.. الآن الدائرة مفتوحة والهواء سيدخل منها، والمؤتمرات الشعبية نفسها سيطالها الحل المزاجي، واللجان الشعبية أيضاً.. هكذا نلعب على إرادة الناس.. إن كان العضو أفكاره شيوعية أو رأسمالية فهو في النهاية منضو داخل الإطار.. داخل الرابطة أو المؤتمر، والمؤتمر به عقول كثيرة وليس رؤية واحدة.. الجميع يطرح أفكاره على الناس.. ليس سراً، إنما أمام الجميع ولتؤمن الجماهير حتى بالجنون.. الحرية لا محدودة.. هكذا علمتنا الحياة .
محكمة الشعب ستنظر في القضية، وربما تحكم ببطلان القرار ومعاقبة من كان وراءه فالحياة لا نستغرب فيها شيئاً.. وقد تحل محكمة الشعب نفسها وقد يعتذر وزير الثقافة نفسه ورئيس الوزراء عن هذا الأمر وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، ويشعر قادربوه بالأسى وزعبور بالحزن، وعبد نفسه هو الوحيد الذي لا يكترث لشيء.. لا يؤمن بشيء. سيذهب للسكر وللمومسات.. وعندما يستوي رأسه يأتي ويقول أريد حقي من ثروة هذا الوطن.. أنا مناضل.. سجين سابق.. كاتب اضطررت أن أعمل درباكاً وزماراً.. لست حزيناً.. لأنني لا أدربك إلا لنفسي فأنا عبد نفسي وإله نفسي أيضاً.
لا ندري من سيفوز ويأكل الموز..
لا ندري من يحالفه النجاح ويأكل التفاح..
لا ندري من تكون نهايته سعيدة ويأكل العصيدة..
لا ندري من يريح فيها وطاقته والجرّة.
الأيام ستعرفنا بذلك.. وربما تكون هناك عودة إن شرملنا مرة أخرى في هذا الوادي الملئ بالزرع، وإن لم نشرمل فالفائز لا يهم إلا نفسه، والخاسر لا يهم إلا نفسه، ونحن القراء ما نحن إلا متفرجون على هذا الحدث وعلى تبادل الأدوار..
فمن نتائجه لن ينالنا شيء..
نحن الحقراء.. الحقراء.. الحقراء.
***
أزرع في رواية شرمولة أي شيء.. أعتبرها كقفة العرس.. قـُـفة مقفلة وبداخلها مستلزمات كثيرة توزعها العروس على المهنئات.. رواية شرمولة قد تجلب التقيؤ.. وقد تجلب الموت من الابتسام.. الموت من الابتسام أرحم من الموت من الضحك.. أنا لست كاتباً.. أنا كاتب شرمولي.. لا علاقة لي بالصحف والمجلات والأنترنيت والثقافة والإعلام والأمسيات الأدبية والمهرجانات والاتحادات والنقابات وروابط الكتبة والشعراء وملتقيات الأدباء وغيرها.. علاقتي بهم هي أحاول أن أتحصل منهم على نقود فقط.
أنا كما أقول دائماً: لست أديباً، وبطاقة رابطة الأدباء والكتاب التي حُلّت سأرجعها للذي أعطاها لي قبل أن أتركها لأحد الفنادق أو البيوت الشبابية ضماناً للدفع.
لقد أحضرها لي الأستاذ إبراهيم حميدان الأمين المساعد للرابطة المنحلة.. لا أعرف كيف تحل الأربطة رغم أنها عديدة اللـفـّـات.. ذات ندوة صيفية عن الهوية شاركت فيها عدة أسماء أدبية أذكر منها:
إدريس المسماري / يوسف الشريف / إبراهيم حميدان / د. نجيب الحصادي / نوري الماقني / محمد عقيلة العمامي / رمضان بوخيط / د محمد المفتي / أحمد الفيتوري / سالم العبار.. وغيرهم.. ومن ذكرت هم شلة واحدة باستثناء العبار الذي هو من جناح آخر..
الندوة عن الهوية، لكن الذي تحت الندوة تربيطات تضبط في الخفاء.. للاتفاق على الأسماء المرشحة للأمانة العامة لرابطة الأدباء والكتاب الليبية.. في منتصف زمن الندوة شرف القاعة الناقد السيميائي محمد عبد الحميد المالكي بمعية ابنه اليافع الذي يحمل عنه عبء حقيبته الثقيلة.. جلس وأصاخ السمع، وعند انتهاء ورقة أحدهم ألقى المالكي مداخلته ناسفاً كعادته دائماً كل تنظيراتهم.. اختلف معهم.. قال لهم أنا خارج الهوية.. داريوش شايغان سرقتم أفكاره ومقولاته.. وفوكو وبارت وبن نكران وحتى باشلر أيضاً، واحتدم النقاش بينه وبين الناقد نور الدين الماقني وابن المالكي اليافع تـنرفز وأدخل يده في جيبه استعداداً لرمي الخط ولوّح (مفرقعات احتفالية) على المنصّة.
ولم يصلا إلى نتيجة.. ولم يشتبكا بالأيدي أو الكانشوّات رغم المشادة الأحد من عركة التقازات.. الماقني جذبه الدكتور الحصادي إلى جانبه والمالكي غمزه صديقه محمد السنوسي الغزالي الذي كان حاضراً كضيف شرف، فانسحب سريعاً إلى الكراسي الخلفية.
استمرت الندوة حتى نهايتها.. قُرئت فيها كافة الأوراق السمينة والتي فيما بعد نشرت في مجلة عراجين "محررها زعيم الشلة الأستاذ الناقد إدريس المسماري ".. ومنها ما نشر في مجلات ثقافية تونسية وسورية صديقة.. الحقيقة أن هذه الندوة أقيمت من أجل الهوية.. الهوية الليبية.. لكن الحقيقة الحقيقية أن هذه الندوة كانت ستاراً لاجتماع تربيطي استعدادي لخوض انتخابات الرابطة القادمة.. وطبعاً حضرتُ الندوة من الكساد.. لم أتقدم بورقة.. فأنا لا أفهم في النقد.. والهوية في مفهومي تعني البطاقة الشخصية باللهجة الشامية.. شربت القهوة وأكلت البيتي فور والمالفيه وفي نهاية الندوة انتحى بي الأستاذ إبراهيم حميدان جانباً ـ وهو بالمناسبة قاص وشرطي جوازات وأمين مساعد لأمين الرابطة الدكتور علي فهيم خشيم ـ ومنحني بطاقة زرقاء بها صورتي واسمي وتاريخ ميلادي وصفتي (قاص) وبها رقم عضويتي في رابطة الأدباء والكتاب الليبية.. قال لي المالكي وهو يرمقني بنصف عين من طرف قصي: كول واعرف عليش تأكل.
خرج الجميع من المبنى واختفت شلة الهوية في مكان ما.. وغادرتُ إلى سوق الحشيش. وجدت مروّج خمر جالساً على مصطبة بيتهم في الظلام.. منحته خمسة دنانير فمنحني عدّة كؤوس أنستـني أبو أم الهوية.
هذه التربيطات وهذه الندوات المشبوهة لا تعنيني.. لكن إن حضرت التصعيد فسوف أرفع يدي مع الأستاذ إدريس المسماري.. لأنه إنسان طيب معي.. لم يكتب ضدي في بداياتي كما فعل ابن العربي.. وعندما أزور الرابطة في الدور الخامس يتركني أجلس في الشرفة أتأمل البحر والميناء و النوارس والبنات المارات في شارع عبد المنعم رياض.. وينادي سكرتيرته مريومة يوصيها على فنجاني قهوة وبسكويت وماء بارد.. الهاتف على حسابي.. الحاسوب.. البريد المصور (الفاكس).. المجلات.. وعندما تزورني صديقة يترك لي المكتب إلى ما شاء الله.. وكلما يسافر إلى مصر أو سوريا أو المغرب يحضر لي مجموعة روايات مهمة، يعيرها لي ثم ينساها ولا يطالبني بها ليعطيها للعوانس والمومسات كما يفعل السمين ابن الفيتوري .. ذات عشية زرته في البيت قرب شعبية المرسيدس.. لم أجده.. استقبلتني زوجته الشاعرة أم العز.. قالت لي إدريس يحبك كثيراً ومتحمس لكتاباتك.. أنا أيضاً تعجبني كتاباتك وأقرأها مراراً من دون ملل، وأوزّع منها على الصديقات العربيات.. قدّمت لي عصير عنب وقطع مقروض غارقة في العسل.. قلت لها لا أحب الجلوس في المرابيع فخرجنا إلى الفناء المكشوف.. الوقت أصيل.. العصافير تزقزق في أعشاشها.. لا أريد الشمس تغرب.. قالت لي: سنضيء لك مصباح الأصيل وفوانيس الحلم..
أحببت أم العز من أول لقاء.. خلتها غزالة تركض على أديم رفاتي.. تزور جَداً قديماً لها في فيافي المقرون أو غابات الجبل الأخضر.. دخلت قلبي هكذا من دون مقدمات.. دخلتني كما القصائد والموسيقى وابتسامات الأطفال.. غمرتني بكلمات ندية ومصافحة حارة تذيب الجفاء.. ارتشفت بهجتها المليئة بالمرارات واغتسلت ببريق عينيها الذي لا يمرُّ عليَّ في الواقع، ولا أذكر أنه مرَّ في سالف الخيالات.
سمعت كلماتها.. حكيت لها عن تركي لمريم.. وعن الخبز الحافي والحب الجاف..
قالت لي: مريم طيبة حظها سيء.. لا تقلق.. ليس هناك نهاية حقيقية أبداً.. الحقيقة فيكما.. قد تجتمعان في زغرودة مني.
حكيت لها عن حبي لغزالة منقوشة على الجدار..
قالت لي: رائع جميل.
حكت لي عن عملها في الهلال الأحمر ومشاكله وخدماته الإنسانية. قلت لها لو صرت مليونيراً من التشرميل فسأؤسس الهلال الأصفر وأعيُّنِك رئيساً له.. لماذا الهلال الأحمر بلون الدم؟.. الصليب الأحمر بلون الدم؟..
الهلال الأصفر هو الهلال المضيء.. هو الأفضل.. لكن الألوان لا تعني شيئاً في مفهوم الحديد.. الصديد دم أصفر.. الشمس في الصحارى نار صفراء.. الذهب أصفر وهو المفسد الأكبر.
عموماً هذه المرأة محترمة جداً.. في حضورها عشت إنسانيتي.. هي كليبيا حينما أغادرها.. تتسيّد سرّة القلب.. هي كليبيا عندما أعيشها.. عندما اهتف باسمها في المدينة الرياضية ساعة تسجيل الهدف.. لم أندم على أي زمن قضيته بجانبها.. وطبعاً إن صار تصعيد وأنا حاضر فسوف أرفع يدي مع زوجها إدريس المسماري.. لا أُومن بالديمقراطية، أومن بالحب فقط .
***
مقهى عين الغزالة بائسة
الرواد على أصابع اليد
الأشجار شهباء من رمضاء النهار
الهواء ليس كما الهواء الذي كان أمس
خانق يفرّز جسدي عرقاً يفترس ياقتي
أجهزة التكييف تعمل
لكن الشمس أقوى من الكهرباء
ما كتبته سابقاً كذب في كذب
فالجو جميل..
تمام التمام..
فقط يعكره بعض الثـقلاء..
أنا أرشف القهوة الآن وأصيب من شطيرة البريوش الهابزة محاولاً إبداع بعض السطور.. لا أدري ما سأكتب.. قد أتوقف بعد قليل.. أنا الآن على السكة ورياح مريم تدفعني لا أدري أين..
الوجهة مفقودة واللحظة الأخيرة دائماً بها منتظرون.. ستقفل المقهى بعد قليل.. وحيداً جالس أخربش.. النُدل في انتظار أن انتهي وأنا لا أريد أن انتهي.. أنا سيجارة لم يشعلها عود ثقاب.. أشعلها دفء الشفتين ومسح زجاجها نسيم الصباح.. الغبش جميل.. بارد منعش.. أستـنشقه وأعطس.. فيرتج جسدي بكامله فأشعر أنني غبّشت مرارة الدنيا ذات الخلفية السكرية السوداء.. أنا غبّشت مرارة الدنيا.. الدنيا ستشكرني.. الدنيا ستلعنني.. لا أعرف مزاج الدنيا.. وما نوع قهوتها التي تشربها.. حلوة.. مرّة.. حامضة.. حارة.. أين اختفى فمك أيتها الدنيا لأتذوقه.. أين يا مورينا.. يا مريم.. لقد رأيتك تشربين.. ضباب.. ضباب.. خراب.. دخان أسود.. أشهب.. قوس قزح يهرب.. يصير مستقيماً.. يغوص في تربة الظلام.
***
.. أريد أن أحكي عن المغرب.. لقد بخرت لي خطيبة الروح الآن.. بخورها العطر جذب حروفي إلى هناك.. أنا في مرتفع مائل صوب الغرب.. حبري يندلق نحو المغرب.. يسيح في واحات تونس والجزائر.. يتعفر بطين مراكش.. وينقش على رق الغزالة حروفاً شرمولية صوفية تقرأها الشمس وتتغنى بها الأقمار وترقص لها نجوم القيلولة والعشية.. ويسألني خاطري عبر الصحفي المهير:
• تردد اسم الكاتب المغربي محمد شكري في عدة قصص لك، كذلك في رواياتك. ما السبب؟ وما يعنى لك محمد شكري بالضبط؟
* بالضبط لن أقول.. لكن أقول لك إنه كاتب عادي صادق يكتب كما يعيش، لا يتقعر أو يتفلسف أو يثرثر أو يعوّج الدلاع أو يقمّط الفقوص.. أحترمه كثيراً وكلما تذكرته وأنا أكتب وضعت اسمه حتى وإن فسد العمل.. والحقيقة السي محمد شكري بهار نادر يجعل طبختى أشهى مما أتصور.. والحقيقة الأخرى أنني لم أجده في أي من نصوصي حشواً أو نشازاً حتى أحذفه.. أنت تعرف يا صديقي النماذج التي أحذفها.. هو يزورني وعلى أوراقي يجد متكئاً مريحاً له فمرحباً به دائماً.
• وعندما مات الله يرحمه ما كان رد فعلك؟
* بكيت كمن يبكي على طفل دهسته سيارة.. لكن لم أشعر أنه مات.. شعرت أنه ولد وأراه الآن طفلاً مشرداً يذرع شوارع وأزقة مدينة طنجة يبحث عن رغيف، وأنا من يرسل له هذا الرغيف من رباية الذايح بنغازي.. أمثال شكري كائنات لا تموت.. والذي لا يصدق يزور طنجة ويخبرني: هل شكري مات حقاً؟!
• وهل زرت يا محمد طنجة في يوم من الأيام؟
* نعم زرت طنجة عام 1986م عندما كنت مدرساً وتاجر شنطة.. مكثتُ فيها يومين.. شربتُ الشاي الأخضر بالنعناع.. أكلت من طعامها الشعبي شوربة الحريرة والسمك وعصير برتقال بوصرّة والكسكسي بالبرقوق.. تجوّلت في أسواقها وشوارعها الجبلية.. أتيتها بحراً.. ومن حضر معي غادر إلى ليبيا بعد أنْ اشترى بضائعه في نفس الباخرة غرناطة.. أنا لم أغادر. سهرت في أحد المراقص واستمعت إلى غناء عربي، أغنية لعبد الحليم حافظ قارئة الفنجان على ما أظن.. جلست بجانبي فتاة نحيلة تشبه حبيبتي مورينا.. ملامحها هادئة.. حكينا مع بعض ودخـّـنا الكيف وشربنا بعض الشراب المُرنـّح.. وأقلعت الباخرة بينما أنا نائم في سابع حلمة.. استيقظت منتصف النهار.. وهتـفـت لزميلي في المدرسة الأستاذ عبدالله التاورغي في بنغازي ليرسل لي تذكرة عودة إلى ليبيا جواً. مكثت في المغرب عشرين يوماً.. لم أبق في طنجة إلا يومين.. اشتريت من أسواقها العتيقة ناي قصبة.. ثم شددت الرحال إلى الدار البيضاء كازابلانكا.. سكنت في فندق اكسلسيور قريباً من مقهى فرنسا المعروف ومن فنادق حياة ريجنسي وسفير ومرحبا، ومن مقاهى الزردة والزهور وويلكم فرندس ومن سوق باب مراكش العتيق أيضاً.. كان الجو جميلاً.. تجاهلت تجارتي وقررت أن أصرف كل المال سياحة واستجماماً.. فالراحة نصف المؤونة.. عزفت على الناي في الحدائق التي لم اعد اذكر اسمها.. عزفت ألحاناً مرسكاوية ليبية.. الناي غربي السلم لكن انفاسي شرقية غارقة في المغرب والأندلس.. كذلك تعرفت على عدة فتيات وعدة أصدقاء.. نجلس في المقهى ونحكي ونتناول الطعام والشراب معاً وندخل السينما ونتسكع في سوق درب عمر وأزقة منطقة باب مراكش العتيقة والقريعة، وكنت سعيداً جداً جداً أكاد أزغرد. وجاء عيد الأضحى ونسيت أهلي في بنغازي واستضافني أحد الأصدقاء من الدار البيضاء في بيتهم.. تناولت صحبة أسرته الكريمة وجبة كسكسي ولحمة كبيرة من خروف العيد.. هذا الصديق من أشقياء عين السبع لكنه ليس نصاباً أو نذلاً.. قلت له تعال إلى ليبيا اعمل هناك فقال لي ولد كازا ما يسافرش، يحمّل الزلط على ظهره كيف الحمار ولد كازا يحرق يحرق فوق فوق، وأشار إلى الشمال حيث طنجة وأوروبا والموت.
• والمغرب ماذا يعنى لك ومراكش بالذات؟
* أحب المغرب وكل كتابه وكاتباته وخاصة مليكة مستظرف ولطيفة باقا ومنيوة وفيق، وفي كرة القدم أشجعه بجنون ولا أحبه أن يخسر أبداً.. عندما يخسر أبكي من جدّي.. وفي كل كتاباتي لابد أن أدخل المغرب وإلا فقدت الحبر والمعنى والورق ودفء الإبداع.. بلاد المغرب جنتي ومراكش واحتي التي ألجأ إليها كلما تخشـّب الخيال.. سأكتب ذات يوم كتاباً عن المغرب كما كتب هنرى ميللر كتابه عملاق ماروسي عن اليونان.. سأكتب رواية عن المغرب بها كل شيء.. لكن ليس الآن.. عندما أجد أسطورتي.. أو تجدني من أحب..
• أحكِ لنا عن ذكرياتك هناك..عن مكان وصلته.. توقفت فيه ثم مضيت..
* حسناً.. استمع الآن والآن بالذات وصلت مكناس قاصداً مدينة فاس لمقابلة التاجر ابن ميسور الذي تعاملت معه في بنغازي وطرابلس منذ عامين.. لم أستطع المواصلة إلى فاس.. إحساس ما انتابني.. اقتلعني من الحافلة وغرسني في الطمي الخصيب..
تركت المحطة ورائي.. متجولاً في المحيط.. مطاعم صغيرة على الرصيف.. دكاكين ضيقة وأكشاك خشبية تبيع السجائر والشاي والخردوات والتمر والمكسرات.. في الناصية مخدع هاتفي وبجانب المسجد بناء طيني متهالك كتب على أعلى بابه بخط رديء: حمام بخاري.. رجال.. نساء .
الوقت بعد الظهر والفصل شتاء.. شمس القيلولة الشتوية تشاكس فلول السحاب.. غدران هنا وهناك في وسطها تسطع شمس باهتة.
بعض الدكاكين وضعت أمام أبوابها أحجاراً مستطيلة لتمكن المارة والشراة من العبور.. برق خاطف بين حين وحين وشبه صدى رعد متلاشٍ يلامس حُلم أذني.
مكناس.. مدينة الولي الصالح الصوفي بن عيسى.. وكأنني أسمع الآن صديقي بن عيسى بالرزق في حي الصابري العريق يترنم بلازمته الدائمة:
يا بن عيسى يا ولي مكنــاس.. افزع وهز الرأس
يا بن عيسى يا قطب الأسرار.. افزع لنا بــــــالله
هذا ذكر الله والأنــوار.. والعون مــن الله
أنت شيخي يا بن عيسى مدّني بالكأس
يبري ويجلى الباس
يا بن عيسى يا ولي مكناس.. افزع وهز الرأس
كثيراً ما ردد صديقي بن عيسى هذه الترانيم في أوقات الضيق والقلق خصوصاً أيام امتحانات معهد المعلمين الذي تخرجنا منه سوياً.
صوته عذب هادئ ودقاته على درج الدرس أو حافة المقعد ذات إيقاع موزون.. أسكن حي المحيشي إلا أنني كثيراً ما أزور الصابري. وتتواصل زياراتي يومياً أيام الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، أستمتع باحتفالات ومواسم الزوايا الصوفية.. ونشرب عصير اللوز والرمان ونصيب من التمر وحلوة الزاوية الملونة اللذيذة.. في هذه الاحتفالات ألتقي أصدقاء كثيرين.. مدرسين.. رياضيين.. فنانين.. شعراء.. كتاب.. خليفة عبدالهادي.. مفتاح المعوّج.. على الطيار.. عاشور الديجاوي.. عبدالحكيم العبود.. محمد العريبي.. نوري الصلابي.. حمد بوشعــالة (القعيد).. محمد العنيزي.. والشاعر الصوفي الشيخ محمد المزوغي والذي يستقبلنا دائماً في مربوعته بحفاوة بالغة.. نتسامر معه ويقرأ علينا أشعاره ذات النفحة الصوفية الدافئة.. مازلت متأثراً بقصيدته الرائعة "قرية عشق".
لو أن العالم يصبح قرية عشق
لانهزم البؤس
وولد القادم
إنسان الحـب
وأزهر وأزهـر هذا الكون
لو أن العالم يصبح قرية عشـق
لا نهار الزمن
واحترق الحاجز بين الصحو
وبين الحلم
وتجلى المطلق في الإنسان
قصيدة شرطية.. (لو) واحدة مقابل ثلاث جوابات تغرقنا في أنوار التمني وفيوضات الرجاء.. في عقل كل كائن كلمة لو.. وكل كائن يستخدمها كما يُحب.. وهذا الشاعر الإنسان يعشق السلام.. الحب.. الزهور.
"لا نهزم البؤس"
"وولد القادم إنسان الحب"
"وأزهر و أزهر هذا الكون"
وتتواصل أنواره الفائضة المستمدة من أعماق ابن عربي والبسطامي والحلاج والنفري والسهررودي والرومي وبن عيسى والأسمر والزروق والبدوي والجيلاني والشاذلي والسنوسي وغيرهم من الصوفيين ذوي القلوب الكريمة الشفافة هاتكة الحجب ومعانقة روح المعنى والنور بجلال وهيبة يباركها الخالق بإذنه وقدرته .
هذا الشاعر الحالم بتصغير الوجود الحاضر المليء بالدمار والموت والمرض والجوع والجهل إلى قرية صغيرة زاخرة بالعشق.. فالعشق هو أبو الفضيلة وأمها وهو أس الخير.. القرية التي أساسها عشق ستكبر مكللة بكل أدبيات العشق من صدق ومحبة وحنان وصفاء ونور وشفافية.. هذا الشاعر يحاول أن يبني العالم من جديد على قواعد المحبة فيبحث عن المحبة الأصيلة بشغف.. يحسها قريبة.. قريبة جداً.. يكتشفها.. يلامسها.. يراها مضيئة دافئة بين كلماته.. فيمزق الزمن المحسوس يؤرّبه ذرات لا تتكوّم.. يجعله ينهار.. يذوب.. يتلاشى.. يحترق مكانه.. يريد أن يستخلص زمنه الخاص النظيف الشفيف.. يمدد يده في الفيض.. يغرف من بئر المستحيل.. هذه البئر التي يعتقد بإمكانية وجودها في تماس الصحو والحلم.. لم يقل بين الصحو وبين النوم.. لأن الهموم التي تكبل الإنسانية الآن لا تجعل شاعراً حقيقياً ينام.. هذا الشاعر الذي ينشد قصائد يعوّل على جدواها كثيراً، بل بشبه يقين عنيد.. يراهن على فعاليتها وقدرتها على التغيير.. يقول لنا إنها الدواء.. الدواء الإنساني الشافي لأمراضنا وشذوذاتنا.. ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.. الشعر دواء القلوب.. وغذاء النفوس وأمل الأرواح في تلألأ نورها.. الشعر دواء ناجح لا تصمد أمامه جراثيم الوسوسات، أما فيروسات الحسد والبغض والأنانية والتجبر والدمار فتموت في حضرته وتندثر.. كل الرذائل والموبقات والعقد تهزم أمام الشعر.. أمام الكلمة البينة التي خلقت هذا الوجود.. فكن.. فكن.. فكن.. فكان كل شيء أراد.
إنسان شاعر يبحث عن الخلاص بسلاح بسيط، أو لنقلْ يحفر الصلادات بمعول متانته دقات قلب وكلمة صدق طيبة حنون.. الإنسان قرية عشق (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).. الإنسان أولاً.. وثانياً.. وأخيراً.. ويعيد لنا القصيدة أكثر من مرّة فلا نملّ، يستغرق في قراءتها بحماس.. يتجلى بعد كل فقرة منها.. تنز من صدغيه قطيرات عرق.. ومن عينيه النديتين يتألق بريق.. يدخل ابنه سالم بسفرة الشاي.. يضعها على الطاولة الواطئة.. يبتسم لنا ويغادر..
ويستمر الشاعر في إنشاده ناظراً في عيوننا بعمق رافعاً صوته بنهاية القصيدة إلى أقصى مدى:
"وتجلى المطلق في الإنسان"
ونتساءل كيف يتجلى المطلق في الإنسان.. ونسأله ونسأل بعضنا بعضاً.. ويسألنا السؤال.. ويقول إنه الشعر.. لا يسألني أحد.. الشاعر لا يقدم إجابات.. إنه الشعر.. كائن عصي عن التفسير نابع من روح الروح.. مشتعل من جُدَى المَلَكَة الأم.. الشعر هو الروح.. والروح علمها من أمر ربي..
كلمات فاتنة.. عاشقة لآذان وقلوب.. صداها لا يبتعد منا إلا ليعود.. وحين يحافظ الإنسان على الصدى من التلاشي فذلك هو قمة النقاء ورأس الوفاء.. فالصدى هو ظل السمع وبلل العيون النازف من أنهار الفرح.. في الصابري لي أصدقاء كثيرون.. لا ضرورة لذكرهم بالاسم فالأرواح المتآخية لا أسماء لها.. الصابري جميل.. عرجون فل.. بحر منعش.. نخيل.. ظلال.. زوايا.. مساجد عتيقة.. سلخانة تسكب فرثها ودمها في البحر القريب.. أنبوب واسع يزحف من تحت الطريق المسفلت.. سمك كثير مزدحم عند المصب.. بين الحين والآخر نستمع إلى فرقعة بارود.. فنصيح:
جولاطينة.. جولاطينة.. حيه علينا..
ونرى حيث مصدر الصوت غطاساً أو ثلاثة يبرزون من الماء.. يلملمون الأسماك الطافحة ويخرجون إلى الشاطئ.. بعض الفضوليين يسبحون حيث تمت فرقعة الوجه، يجمعون ما تبقى من أسماك صغيرة ولا أحد يشي إلى الشرطة.. أحياناً لا يبتعد الغطاس في الوقت المناسب أوان تفجيره للعبوّة، فتبتر ذراعه أو رجله أو يتشوه جسده أو يموت.. لكن لا أحد يتعظ.. فالصيد بواسطة الجولاطينة إدمان وعادة.. يمارسه أكثر عيال البحر باستمرار رغم خطورته الكبيرة وحظره من قبل السلطات.. في مرات كثيرة خاصة في فصل الصيف نرى ازدحاماً أمام الشاطئ.. أحد المصطافين غرق.. الكل يبحث عنه.. الكل يواسي أهله الحزانى .
إنها شرمولة البحر السنوية وضريبة رذاذه المنعش.
على شاطئ الصابري تُبنى كل صيف سقائف جميلة من القش والسعف.. كل سقيفة أو كوخ تزين جدرانها بألوان وأعلام النادي الكروي لأصحابها.. أكثر السقائف والأكواخ مزدانة بأحمر أهلي بنغازي.. وبعضها بأخضر النصر وبعضها بأسود وأبيض فريق المنطقة الفهد التحدي.. لكن بالأزرق لا يوجد أي مسقف فمشجعو نادي الهلال يصطافون في القرية السياحية ولا يمكثون مستظلين بالسعف والقش.. إنهم يلقبون بفريق (البنكيك) أي المرفهين أو آكلي الكيك والبستيك وجيلاتي معمل ما ماش المرشوش بالسكر الناعم .
وصلت مكناس.. وتناولت غذائي في سقيفة على الطريق.. حريرة (شربة مغربية) وقطعتي سردين مقلي وكوب آتاي أخضر .. السعر رخيص خمسة دراهم تقريباً.. ليس معي نقود كثيرة.. أنفقت معظمها في محطة بني ملاّل.. دعوت رفيقي في الكرسي إلى وجبة إفطار.. ربما المتبقي معي الآن أثنا عشر درهماً، والتاجر ابن ميسور الذي اعرفه في فاس اتصلت به هاتفياً من بني ملال ولم يعجبني كلامه.. سلامه جاف وترحيبه به لكنة ارتخاء.. هذا الارتخاء جعلني أمتعض منه وأتذكر صديقي المرح الكريم بن عيسى بالرزق في حي الصابري وأتذكر أنه متزوج سيدة مغربية بنت شيخ عيساوي في مكناس.. أنزلني قلبي في مدينة مكناس وكما قلت تغديت وأطلقت لقدمي العنان.. لا أعرف المدينة ولا أحياءها.. لم أزرها من قبل.. تجوّلت عشوائياً.. مقبرة.. جامع.. فتيات محجبات.. أُخَر سافرات.. سيارات في الطريق.. سوق شعبي عشوائي.. أتخيل بنغازي.. وقلت سأذهب الآن إلى زاوية بن عيسى في مكناس.. أعرف أنهم سيرحبون بي.. سيكرمونني ويطعمونني الكسكسي بالبرقوق ولحم الخروف ويمنحونني ما أحتاج إليه من مال.. فأنا صديق صهر شيخهم الكبير. سأقول لهم أعرف الأستاذ بن عيسى بالرزق وأترنم لهم بنوبته المباركة:
يا بن عيسى يا ولي مكناس
افزع وهز الرأس
ولكن شعرت باطمئنان وأحسست بالشبع والامتلاء بمجرد ما تواردت الخواطر السابقة إلى ذهني.. فقررت أن أذهب إلى الدار البيضاء.. ففيها أعرف بعض الدكاكين في منطقة القريعة.. كنت قد اشتريت منها بضاعة منذ أيام.. سأقترض منهم مبلغاً يكفي عودتي إلى مراكش حيث خطيبتي الكريمة التي كلها نقود وذهب وماس وعفاف وخفة دم وظل..
في محطة حافلات مكناس سألت المحصل عن ثمن تذكرة إلى الدار البيضاء قال لي: اثنا عشر درهماً.. حجزت تذكرة وركبت.. وصلت الدار البيضاء ليلاً.. سوق القريعة مقفل.. تسكعت في شوارع كازا بلانكا الدار البيضاء علني أصادف أحداً أعرفه.. سألت مومساً متكئة على عمود نور: يا الشريفة ماكاين فندق رخيص بالجوار؟
.. نعتتني نزلاً شعبياً في منطقة باب مراكش ذهبت إليه.. صاحبته امرأة اربعينية.. قلت لها لا مال لدي وأريد أن أبيت، وغداً بإذن الله الواحد الأحد الفرد الصمد أحضر لك الخمسين درهماً ومعها مليون دعاء.. وافقت فناولتها من جيبي الخلفي جواز سفري المدعوك.
في الصباح أحضرت لي رغيف شعير وصحناً به زيت زيتون دافئ وكوب شاي ساخن.. تناولت هذا الإفطار اللذيذ الذي بعث في روحي الدفء والنشاط ثم اقترضت منها درهمين ركبت بهما حافلة حتى سوق القريعة.. هناك دخلت محل أحذية وملابس كنت قد اشتريت منه منذ أيام كسوة رياضية وحذاءاً خفيفاً وقبعة وحزاماً جلدياً.. ضيفني على الشاي وحلوة كعب الغزال وثرثرنا ملياً عن كرة القدم وعن جديّة اللاعب الدولي مصطفى النبت وعبثية اللاعب الدولي أحمد البهجة.. بعدها صارحته بحالتي.. قلت له أنا بهجة ضيعت بفني هدفاً.. أحتاج إلى بعض المال لأعود إلى مراكش.. قال لي: وخا.. وخا.. يا خوي.. اشحال بغيت؟
قلت له: تكفيني مائتا درهم..
فناولني من الدرج خمسمائة وأردف حبيت أكثر انزيدك.. قلت له بارك الله فيك.. وإن شاء الله نادي الوداد الأحمر يهرّس فريق الرجاء الأخضر ويحوز البطولة.. مائتان تكفيني بالزايد.
سددت أجرة الفندق اثنين وخمسين درهماً وركبت حتى مراكش بسبعين درهماً، وبعشرين حتى قلعة السراغنة قرية خطيبتي.. قالت لي: كنت سأرسل لك أخي بالنقود حتى كازا بلانكا.. قلقت عليك بالزاف.. مرة ثانية مانتركك اطيح فاس لحالك.. فاس قلوب نحاس.. وقلبي يا مودي ذهب.. ما تبعد عني أبداً.. البارحة كنت ادهن جبيني وصدري وجنبي بزيت الزيتون وأدندن بالأغنية التي هذيت بها ليلة مرضتك بالحمّى:
يا بن عيسى يا ولي مكناس
افزع وهـز الرأس
يا بن عيسى يا قطب الأسرار
افزع لـنا بالله
***
أثر في المرابط الصالح بن عيسى وعبقه الروحاني.. استدعى لي بركة جدتي المرحومة وهي تنصحني.. صوتها يتعمق في الآن.. الآن.. يا احميده إن اصطدت البوعبعاب (الهدهد) فاسقه وأطلقْ سراحه.. إنه طير مرابط.. إنْ حطّ فوق بيت ما فذاك البيت ستأتيه بشارة مباركة.. هكذا قالت لي جدّتي عندما رأتني أغمر الفخ بالتراب ولا أبقي منه شيئاً ظاهراً فيما عدا دودة الخضر ذات اللون الزيتوني الغامق.
ابتعدت أجلس في ظل نخلة منتظراً أنْ يرى طائر ما دودتي الراقصة من الألم و المربوطة بسلك معدني رفيع فينقبها لينطبق عليه الفخ وينتفض به محاولاً الخلاص منه أو الطيران به فأركض نحوه سعيداً وأخلصه من الفخ وأتفحصه.. إن كان مجروحاً أو مكسوراً أذبحه بشفرة الحلاقة.. وإن كان سليماً أحتفظ به في القفص حتى أبيعه أو أقايض به..
طيور كثيرة وقعت في شرك فخي.. زرازير.. حمام.. امبريمات.. بوبشيرات.. ذبيبينات.. طيور خليش.. طيور عضيض.. كتكوت صغير.. ديوك حبش.. لكن البوعبعاب.. لم يلمس دودتي.. يطير قريبا من الفخ و لا يتوقف عليه.. يحوم حوله.. يحط بجانبه.. يلتقط من التراب المحيط به حبيبات شعير وقمح وشرائح عشب.. لكن الدودة التي تغويه برقصها المؤلم لا يلتفت لرقصها.. لا يقترب منها.. لا يلمسها.. وإن اقترب منها طائر آخر فلا ينبهه أو يمنعه من نقرها.. وعندما ينقرها ذاك الطائر الغافل وينطبق عليه الفخ المعدني.. البوعبعاب لا يساعده ويتركه لمصيره، وعندما آتي جارياً يطير البوعبعاب مبتعداً ليربض على قمة أقرب شجرة أو نخلة.
كنت راغباً بأن أصطاد بوعبعاب ثم أنفذ كلام جدتي التي أحبها فأسقيه الماء وأطلق سراحه.. لكن البوعبعاب عنيد لا يلمس دودتي.. ولا يقترب كفاية من فخي.. يعذبني كثيراً.. يجعل حواسي كلها متحفزة مستـنفرة.. تتابعه باهتمام.. يحط قرب الفخ.. يرفع منقاره إلى الشمس.. يغرزه في الأرض.. ينتشل به شيئاً.. ينقره عدة نقرات.. يفتته أجزاء صغيرة.. يأكله على مهل منتبهاً للمكان المحيط به.. أي اقتراب منه أكثر من المسافة التي يرتئيها هو آمنة يجعله يبتعد.. لا يهرب بعيداً.. لكن يبتعد أمتاراً معقولة.. تمكنه من نقر طعامه في سلام.
أكثر من مرّة ذهبت إلى جدّتي حزيناً لأنني لم أصطد البوعبعاب فتقول لي أحسن.. أحسن.. فكك الله منه.. بريكته.. نجوت من ذنبه.
كان كلام جدّتي يدخل من أذني اليمين ويخرج من الشمال.. كان لدي توق عنيف كي أصطاد هذا البوعبعاب.. ليس لشيء غير أن أطلق سراحه لأنال ابتسامة رضا من جدّتي.. غيّرت الطعم.. استبدلت الدودة الخضراء بصفراء.. استبدلت الصفراء بكسيرة خبز مبللة.. بشريحة طماطم.. بقطعة جبن.. بحبّة زبل ناتئة من بطنها حبّة قمح.. لكن لم أوقع بهذا البوعبعاب.
عطلتنا الصيفية على وشك الانتهاء.. سنترك الريف حيث يعيش جدودي ونعود إلى المدينة.
سأعود مهزوماً.. البوعبعاب لم أصطده.. وبقية الطيور التي اصطدتها لا أهمية لها.. فلا يوجد فوق رؤوسها تاج.. حتى إنْ أطلقت سراحها فلن أشعر بالسعادة كثيراً.. جميل جداً أن تقبض على طائر متوّج وتطلق سراحه.. سيسجّل لك ذلك تاريخ الجدّات.. وستحكي جدّات العالم كلهن عن هذا الفعل غير الشنيع.. ستبتسم أيضاً أمنا حوّاء عاشقة التفاح.. وستوظف هذا الفعل الحكاءة المخضرمة شهر زاد في حكاياتها المقاومة لغطرسات الملوك.. مقاومة الملوك دائماً تكون بالجسد والحكاية.. الحكاية تحتاج إلى جسد.. والجسد يحتاج إلى حكاية.. والملك يحتاج إليهما معاً.. سأعود إلى المدينة مهزوماً.. البوعبعاب وحده هو من يسعدني.. منحي الحرية له تتويج رائع لرحلتي الريفية.. لن أطلق سراحه مباشرة فور القبض عليه.. سأسأله عدة أسئلة تحيرني منذ زمان.. لن أجد لها إجابة إلا عند معاشر البوعبعاب.. أسئلة تتعلق بالمستقبل.. تبدأ بمتى وكيف ولماذا وكم وهل وأين وووو..... أداوي بهذه الأجوبة جراح غموضي وقروح حيرتي وما يتبقى منها فائضاً عن حاجتي أبيعه للكسالى والفاشلين.. سيجيبني أولا ثم أداويه وأسقيه وأطلق سراحه كما أوصتني جدّتي بالضبط.. لأن البوعبعاب كما تقول مرابط.. وأي جريمة شنيعة أنْ يصطاد الإنسان مخلوقاً مباركاً؟! لكن هواية الصيد بها شحنة عظيمة من العناد.. وشحنة عظيمة من الصبر.. شحنة عظيمة من التوتر وشد الأعصاب.. كان ذلك الأصيل على وشك أنْ أغادر.. الفخ لم يمسك شيئاً سوى بعض الطيور الصغيرة التافهة التي رميت بها إلى القطط.. سرت صوب الفخ.. رميت دودته للنمل.. نظفته من الغبار.. وحفظته في المخلاة.. وفجأة رأيت بوعبعابا رشيقاً يمرق سريعاً من بين نخلتين.. يحلق عالياً ثم يهبط حاطاً قرب مكان الفخ.. نقر التراب الذي كان يخفي الفخ وابتعد صاعداً إلى أعلى النخلة.. لكنه عاد مجدداً.. فعل ذلك أكثر من مرّة وكأنه يحثني أن أعيد نصب الفخ.. لكن لا يوجد لدي دود.. بحثت هنا وهناك عن طعم فلم أجد.. عند نافذة المربوعة القديمة رأيت بوبريصاً هابطاً إلى أسفل.. حذفته بحصوة صوان حادّة الحواف فأصابته ووقع أرضاً.. وقع منفصلاً جسده عن ذيله الذي شرع يرقص بشدة.. لم أهشم رأسه ببوز حذائي وتركته يهرب بعيداً مبتوراً.. وبسرعة ربطت الذيل الراقص من منتصفه وعدت إلى حيث الفخ، فنصبته بطعم جديد.. برقص جديد.. بإغواء جديد.. ذيل البوبريص يرقص بانسيابية.. ما إن ابتعدت عشرين متراً عن مكان الفخ حتى هبط البوعبعاب قرب الفخ.. الذيل يرقص بحركة سريعة متألماً من السلك المربوط بشدة حول خصره.. وخائفاً من البوعبعاب الذي سينقبه ويشطره إلى نصفين واضعاً حداً لحياته وقاتلاً أمل العودة للجسد الذي كان فيه.
رفع البوعبعاب منقاره إلى السماء ثم أنزله بقوة على ذيل البوبريص فانطبق عليه الفخ وصار ينتفض بشدة مثيراً زوبعة هائلة من الغبار ومتنقلاً بالفخ القابض عليه بإحكام من مكان إلى مكان محاولاً تخليص نفسه ولاعناً البوبريصات وذيولها الراقصة.. جريت نحو الفخ سريعاً.. أمسكته بحذر.. وخلصت البوعبعاب المعفـر بالتراب بعناية.. لقد كان سليماً.. تفحصت جناحيه ريشة ريشة.. تفحصت منقاره ولسانه ورجليه وعنقه.. لا جرح.. لا رض.. لا كدم.. قررت أن أسقيه فغطست رأس منقاره في غدير الماء فلم يفتحه ليشرب.. لم أعرف السبب ولم أبحث عنه.. لقد كنت في قمة السعادة آنذاك.. انطلقت راكضاً إلى كوخ السعف حيث جدّتي تعد لنا العشاء.. فقابلتني أمامه وهي ترمي قشور الخضر في حفرة القمامة.. صحت سعيداً.. أخيراً اصطدت البوعبعاب.. فصاحت جدّتي بألم.. احميده.. ابعده عني.. أطلق سراحه فوراً.. قبل أن تغيب الشمس.. لكن ياجديده أريده أن يجيبني عن مجموعة أسئلة.. قلت لك أطلقه فوراً.. الآن.. وقبل غروب الشمس.. رضخت لأمر جدتي وأطلقت سراح البوعبعاب بأن رميته في الهواء.. فطار قليلاً واصطدم بجذع نخلة فسقط أرضاً.. جريت نحوه.. فلم يهرب.. رفعته أتفحصه.. أنظر إلى عينيه.. كان بهما طبقة من تراب.. كانتا غارقتين بالدمع.. غارقتين بدمع الطيور الطائر.. بحثت عن منديل لأمسحهما له.. فلم أجد.. هرعت به إلى الغدير وغسلت له عينيه.. ورميت به عالياً فطار قليلاً واصطدم بجذع زيتونة هرمة.. فسقط تحتها.. ما الأمر؟.. هل صار البوعبعاب أعمى؟.. يا لها من جريمة ارتكبتها هذا الأصيل.. سأخذ هذا البوعبعاب معي إلى المدينة.. سآخذه إلى البيطري.. فلربما يستطيع أن يشفيه.. أو يصنع له نظارة تمكنه من تبين دربه.
بقية الأيام توقفت عن صيد الطيور.. بل حطمت الفخ بحجر صوان وجعلته كتلة معدن صماء لا معالم لها.. رميتها لتعلق على سياج المزرعة.. بقية الأيام كرّست وقتي للعناية بهذا البوعبعاب الأعمى.. وضعته في قفص واسع محافظة عليه من عبث القطط وخيانة الكلاب والثعابين.. أسقيه الماء العذب وأطعمه القصب والقمح والشعير.. أغسل له عينيه بماء نظيف.. أجلس بجانبه لساعات طويلة.. أستمع لصوته محاولاً أن أحوّل صوته إلى إجابات عن أسئلتي.. أحياناً أغني له فيتسمر منصتاً إلي.. جدتي سعيدة لأنني أعتني بهذا البوعبعاب.. وعندما تحضر لي بعض الفواكه أو الحليب والتمر تغني لي:
تعال خبر يا بوعبعاب.. أنت صادق مانك كذاب
وعندما تبتعد عني يغادرني خجلي وأكمل بقية الأغنية العاطفية لصديقي البوعبعاب:
واسرعْ في الجيّة
روف عليا
وقول لبو جمّة مسفية
راه قلبي ذاب
يريد إيدزّ معاك جواب..
يا بوعبعاب
تعال خبّر يا بوعبعاب
يا بوعبعاب
انت صادق مانك كذاب
وأشعر أن البوعبعاب سعيد فيحرك رأسه ويفرد جناحيه وتعود إليه شهيته فينقر عدّة حبات قمح دفعة واحدة ويغطس منقاره في وعاء الماء ويشرب.
في إحدى الليالي حكت لي جدّتي القصة التي علموها لنا في المدرسة الخاصة بالنبي سليمان الحكيم والبوعبعاب وبلقيس ملكة سبأ والعفاريت.. تحكيها لي بأسلوبها الشائق الممتع غير الممل.. الأسلوب الذي يجعلني أرى العفاريت أمامي وبلقيس أمامي وسليمان أمامي والبوعبعاب الذي تأخر لكنه جلب خبراً مهما أمامي.. أنظر إلى بوعبعاب سليمان الحكيم.. وأنظر إلى بوعبعابي الأعمى.. فأشعر بالحزن.. لكن لا أندم على صيدي له.. هو قدره وقدري أيضاً.. وعلى كل مخلوق أن يحترم الأقدار ويتعامل معها بطريقته.. أعامل البوعبعاب الآن معاملة جيدة.. وهو يعاملني بالمثل.. هو كنزي الأعمى.. وأنا إفلاس يرى.. علينا أن نتعايش الآن كيفما اتفق.. ولننتظر الصباحات القادمة.. فلربما تجلب لنا شيئاً يرمم نقصنا.. أو يمزجنا بعضنا في البعض.. علينا أن ننتظر الطعم الذي سيغوينا.. سيأتي صباح أعمى يبحث عن رؤيتي وصباح مبصر يزيح غشاوة البوعبعاب.. وإن لم يأت هذا الصباح المنتظر.. فسنشكر الليل.. خاصة المقمر منه.
قبل أن أذهب إلى زيارة جدتي في الريف لم أكن أعرف الفخ.. يوم الخميس حيث السوق الأسبوعي للقرية رافقت أبناء عمومتي إلى السوق.. باعوا ما جلبوا إلى السوق من طماطم وفلفل وحناء وبصل.. واشتروا ما يحتاجون إليه من لحم ومعلبات وحبال وجرادل ومحاش وبرويطة.. واشتروا لي فخاً صغيراً.. علموني كيف أصطاد به الطيور.. في البداية تقززت من ربط الدود ثم بعد ذلك تعودت وصار الأمر عادياً جداً.. الفخ على شكل مربع من السلك المعدني.. يقابله مربع آخر ينطبق عليه.. بين المربعين يوجد سلك بطول السبابة يشبه المسمار.. تقابله حلقة صغيرة يمرق فيها لغرض التشريك.. أثناء الصيد تكون وضعية طرف المسمار على طرف الحلقة بحيث ينفصلان وينطبق المربع العلوي على السفلي عند أدنى حركة.. وأي شيء يكون بين المربعين أثناء الانطباق يقع في الشرك.. المربعان يربطهما سلك حلزوني متين بطريقة تمنحهما آلية الانطباق السريع.. مربع الفخ له أربعة أضلاع.. أربعة فصول.. أربعة أصول.. بـينها هوّة.. المربع السفلي هو الأصل.. المربع العلوي المنطبق هو الصورة.. الفخ فك علوي وسفلي.. الفخ يعض الحياة.. المسمار والحلقة هما الذكر والأنثى.. أما الطعم فهو اللغز.. فهو الشيء المصطاد المسخر.. لو تحرر الطعم فستكون الحياة طازجة.. وسيرقص الدود من دون ألم.. وسيزحف ذيل البوبريص ماسحاً الأرض من الدماء.. وسيجيبنا البوعبعاب بعينيه الحنونتين.. أما لسانه فسوف يعجز عن الإجابة به.. حتى عندما نلح عليه و نقول له تكلم يابوعبعاب.. لا يتكلم.. لكنه يفتح منقاره إلى آخر مدى ويوجهه إلى أعلى ليمتليء بالشمس.
ومن تراب الفخ والبوعبعاب المرابط ومن طين مراكش وبركات مكناس إلى طين وغبار سلوق وبنينة والرجمة ووادي القطارة وبعض الحكايات والشعر والذاكرة الراشة سفيف بهارها على أعصاب يقظتي.. إلى الملائكة دوجي والشاعر علي الفزاني والقاص سالم العبار.. أصدقائي الأعزاء المؤثرون في وجداني.. الذين أحبهم وأكتب عنهم وأراهم دائماً وروداً عطرة تزيّن حروف مدينتنا الناطقة بدفء الملح وعبق النعناع.. تلك الليلة ولج المستشفى الكبير ببنغازي طفل هزيل.. أنفه محتقن صدره يخرخر.. يحاول العطس دون استطاعة.. حرارته مرتفعة يهذي بهمهمات وكلمات لا مفهومة.. يصحبه كهل ربعة.. أمارات القلق على وجهه واضحة جليّة .
طببه الطبيب سريعاً.. أوصى له بحقنة جعلته يصرخ ويقاوم الممرض الفزاني الذي تركه للممرضة دوجي الماهرة في إقناع الأطفال بقبول الحقن..
ـ ما ارّيدش إيباري.. ما ارّيدش إيباري
ـ حاضر.. حاضر.. ما تريدش إبرة أنغيرها لك (بلبوس)
(زربوط).
ـ لا.. لا أنا دخيلتك.. إلا اللبوس..
ابتسمت دوجي مقتربة تغوص إلى عمق عينيه النديتين..
هو يبادلها ذات النظرة.. النظرة صخب البصر الراكض في هدوء المستقبل.. ألا تقول أوائل العرب (عينك نظر) تخيّلها تصغر الآن.. تخيلته يكبر الآن.. يلتقيان في واحة ظليلة.. على رمال شاطئ هادئ.. في حديقة بذيخة وارفة.. نسيمها انتعاشات ربيع.. كمادات مبللة مسحت بها جبهته.. سألته عن أحوال أمه فتعبّر وذرف ناشجاً وسط اللعاب والمخاط المندلق من منخريه وحواف شفتيه..
دائماً البكاء يزيح السدود من أمام الرئتين.. بكى غايته فهدأ تنفسه.. كانت أمّه حزينة.. غاضبة من أبيه الذي فعل ما فعل.. الطفل يحكي لدوجي بذاكرة طريّة.. يحكي عن رحلة أبيه من القرية إلى المدينة..
"دفعني أمامه على الحصان.. وطوال الطريق كان يدندن بأغان حزينة فيها أسماء لنساء ومواقف لفرسان.. أرجل الحصان تثير زوابع ترابية صغيرة.. تذكي رائحة معطف أبي.. لم تكن المرّة الأولى التي أرافقه فيها إلى السوق.. أحس دفئاً حقيقياً وأنا أتشبّث بمعطفه الصوفي الباهت المنبعثة منه رائحة لها مذاق الأبوّة .
باع الحصان وأحصى الثمن ووضعه في جيبه مع النعال المتآكل الذي نزعه المشتري ورماه..
طلب مني أن انتظر مالئاً كفي بالحلوة وكتفي بالتربيتات وغاب في شارع الشطشاط المقابل للفندق البلدي..
قست المسافة التي تفصلني عن البيت الذي ابتلع أبي.. تسللت إليه حتى وصلته.. جلست أمامه في مواجهة نافذة تطل منها امرأة مصبوغة الوجه تمشط شعرها أمام مرآة يد .
مرَّ بها رجل أشار بإصبعه فابتسمت وأشارت برأسها فدفع الرجل الباب ودخل .
أمام كل نافذة وباب امرأة.. ومن كل باب رجال يدخلون ولا يخرجون وآخرون يوزعون نظراتهم بين النوافذ التي بدت مغلقة.. يمرون بي يمسدون شعري أو ينظرون إليّ نظرات لا أجد تفسيراً لها، لقد تأخر أبي وكدت أطرق الباب لو لم تُفتح النافذة التي أجلس تحتها، فأقف مذعوراً لأرى امرأة تفرد شعرها وتعلك شيئاً.
لم أشعر إلا بيد تلوي أذني و تلطمني، رفعت بصري لأجد أبي.. دفعني أمامه وهو ينهرني ثم تحولت قسوته إلى عتاب.. ثم ضمني إليه ومسّد شعري.. قرأت في عينيه اعتذاراً، تشبّثت بمعطفه لكن لم أجد تلك الرائحة، لقد تبدلت بأخرى لا عبق لها.
اشترى لي ثياباً جديدة ولأمي رداء وسواكاً وقماشاً.. في بيتنا وضع الأشياء أمامها واخرج النعال من جيبه وجلس أمام أمي مطاطئاً حزيناً.
رأيت دمعة تنحدر ببطء من عيني أمي وتسقط على الملابس الجديدة، وقالت بصوت أشبه بالحشرجة:
(بعت الحصان)..؟!"
((التضمين السابق من قصة الفارس للقاص سالم العبار))
التصقت بأمي مهدئاً..تنظر إلى الأسبطل الصغير.. المخلاة الخاوية التي تهزهزها الرياح تؤلمها.. ما طاقت أن تعلقها في أعناق الحمير.. ما زالت تتذكر صهيل الحصان.. تسترجع حمحماته وهفيف سبيب عنقه وذيله.. مازالت تستمتع بصخبه المصاحب للزغاريد المنطلقة من حفلة الكشك القريبة.. ثمة علاقة وطيدة بين الزغاريد والصهيل والتصفيق.. كل الأصوات تولد من الحناجر المهتزة وتموت إذ ترحل عن أرحامها.. الصدى رسالة ألم.. وصيّة وداع من الصوت الميت المتفتت في التلاشي.. التلاشي صخب مخبوء في عوالم العدم..
أوقفت دوجي تداعيه الحزين المؤلم وأعطته قطعة حلقوم مغموسة جيداً في السكر الناعم.. ثم أوقفته تجّره من ذراعه.
ـ عشان صحتك وعشان أمك تفرح وتضحك وتزعرد خذ هالإبرة لا تخف.. لا ألم.. و بعدين أنت راجل ما شاء الله.. شوفو شناباته الصغيرات ما أطولهن.
وأومأت للممرض الفزاني فأسدل عليهما الستارة البيضاء لتتنازع القهقهات المشتركة مع ألم الوخز و حرقان كحول المطهر.
كان أبوه ينفث سيجارة تلو أخرى.. سعيداً لاهتمام دوجي المرحة بابنه.. تمنى أن يكون هو المريض.. سأستحم بالماء البارد في عز الفجر، وأعرّض جسمي المبلل لريح الشرقي.. لكن من يُحضرني إلى المدينة.. حصاني بعته يا خسارة.. ولا أحب ركوب بابور السكة.. (عنقر) شنته الحمراء.. لامس بقوس حافتها حاجبيه الكثيفين.. ثم ركل بعصبية الجدار المبلط بالقيشاني.. أعطاه الفزاني وصفة الدواء ليجلبه من صيدلية زقوقو .
ـ إنشاء الله بالشفاء.. ولا تترك الولد يلعب في الغدران.. البرد دائماً يتسلل من تحت.. من تحت يا حويج..
السماء دائماً شافية.. منذ بيع الحصان والطفل يعبر الغدير حافياً.. يخلع حذاءه التشيكي.. يرفع بنطلونه البلوتي حتى الركبة.. يكفي فردتي حذائه المحشوتين بالجورب على ظهر الحقيبة ثم يرفعهما فوق رأسه ويمضي بحرص إلى الضفة الأخرى حيث مدرسته.
ذات مرّة حاول العبور على جحشة واطئة فأسقطته بعد أن جفلت جرّاء صوت غليظ مازحه به أحد القرناء.. قبل أن تغرز دوجي الإبرة في وركه همست له:
قل ماما دوجي
قال: ما ما دوجي
ولما سرى الدواء في أوردته وشرايينه تعالت حرارته.. وقبيل أن تنخفض أخذ يهذي:
دوجي نار.. نار.. دوجينا.. نار.. دوجينار.. دوجيناررر..ر..ر
ثم انفلت العرق من كل مساماته بغزارة.
قال الطبيب: الولد حرارته عالية.. لو لم يسعف بالحقنة سريعاً لأصاب وجهه الشلل.. لتشوّه.
قالت دوجي: الحمد الله.. الحمد الله.. ربي يخليه لمينته.
دوجي ممرضة مالطية.. بحكم إسلامها صغيرة ومكوثها ردحاً من الزمن في بنغازي أجادت اللهجة المحلية.. تتدارجها بطلاقة.. تتحاور مع الجميع في قضايا الساعة، تفهم في كثير من الأمور.. الزرع.. الحصاد.. الفن.. الأدب.. الجلامة.. تفسير الأحلام.. كرة القدم.. السياسة.. كثيراً ما تتحدث عن الأم تريزا ونضالها وعن خديجة الجهمي وصفية زغلول وجميلة بوحيرد وحتى الفونشة ومريانا وكوّشي ليبيا.
الممرض الفزاني شاعر كبير.. مهتم بالأدب ومهموم بالثقافة.. ينظم شعره مقتفياً خطى السياب و البياتي ويغايرهما ليجد صوته.. يجايل المسلاتي والفاخري والفقيه ويراسل النيهوم في أوطان الجليد..
أراجون يناوشه وإلزا يراها متمثلة في دوجي.. دوجي هي ليلاه الأثيرة.. كان قد تزوّج وأنجب باكراً.. هكذا هي الحياة تختارنا ولا نختارها.. لو كانت أبصارنا طويلة لما استمررنا نستنشق الشهيق.. لاختصرنا الطريق.. النهاية قاتمة.. البداية مؤلمة.. والوسط مترجرج كعجينة مختمرة.. يتأملها.. تتأمله.. قدحة التأمل تطلق المأثورة: اللي كلا قسمة ايواطي عينه... هذه المأثورة التي طالما قرأها وقرأتها معه.. دوجي الراهبة في محراب الرحمة الملائكية.. دوجي خمرة الصبر والرجاء.. نكهة التفاؤل الوشيك.. يا لها من ابتسامة.. ليتك دون ابتسامة.. لكن استحالة.. فنسيج الملائكة ابتسامات لمواليد شعبي.. تهدهدهم مراجيح الفراشات وتغرّد في إسماعهم بلابل شفافة.. ابتسامة ومضيغ.. ومشاريع فرقعات دافئة.. كثير.. كثير جداً على شاعر حساس.. أخفض عينيه ورفع جناحيه صوب أراجون وإلزا.. شاكياً لهما ما اقترفته الأحلام من مجهضات لملذاته وملاذاته.. لماذا يُسمى الحلم حلماً إن كان تحققه عنقاء خيالية؟!
دوجي يمامته البتول العذراء.. المكتفية دون هزِّ نخيل.. النخل مائل من الريح فلماذا نهزهز لظلالنا المترنحة؟ في الليالي الدامسة الجافة يحلق معها على بساط الدفء.. هذه الراهبة التي سيضاجعها التراب وسيفضض الدود المشاكس بكارتها الظاهرة.. الدود قطار زاحف على شهوات متبلدة.. لماذا لم يُخلق الدود كروياً كي نركله؟
الدود عريس العوانس الأبدي.. العفّة بكارة طائرة إلى ذكور الجنّة و صهير النار.. مكان المذابح جماد مُعاقب والدم والرماد والأحزان مواخز لمشاعره النائمة.
دوجي لهب أبيض.. ماسي الملمس.. عاجي اليباس.. رأسه محمر.. سهم واصل إلى نخاع المكان.. يفتت ذريرات الزمان.. يثقبها.. ينظمها عقداً في جيد الظلام.
الظلام يضيء بقناديل سوداء.. الطوق عنقه يتقاتم.. هي لا تحب أن تعلّق المخلاة في هامات الحمير.. طالما هام بها في أيام ضياعه.. في القاهرة.. في الشام.. في الأندلس.. في روما.. باريس.. لندن.. بغداد.. يرقص معها حافياً.. منتعلا ً.. عارياً.. لابساً.. يطرق دروب الإبداع.. مجرّباً.. سابراً كل غور سحيق مستحيل.. يود الخلاص.. الخلاص.. يشدو:
"سأعبث بالطقوس وأعلق للمرايا
لا قبلها.. ولا بعدها
يصعد نص إلى سدرة من رؤايا
يسكن النبض.. بعد انتهائي..
يسكن في نواة الخلايا
أقفلت النوافذ المهملات
وأعلنت بوحي.. لديك
ومزّقت كتاب النساء وحطّمت الهدايا
أنتِ معي!!
أنتِ معي..!!
أبداً معي..
وأعلم أنكِ مائدة من الطين
يمامة.. قدر.. أنها
مسروجة لسوايا"
((التضمين السابق من ديوان فضاءات اليمامة العذراء للشاعر علي الفزاني))
رحلت دوجي في يوم دقائقهُ تنوح.. رحلت دوجي.. زفت إلى التراب.. التراب عريس عجول.. مأذونه ملك قابض.. ثوب فرحه كفن.. أغانيه وأناشيده صلوات و دعوات .
رحلت دوجي.. غاصت في كتاب الأزل.. تدثرت بصفحات الذكرى المشدودة بسلك البيان ودبابيس الحكمة والبليغ والخيال..
ما أشد ثقل الأغلفة.. ما أعتمها على بثيث الحروف.. لذلك لا نقفلها.. ولا نطويها.. رغم البرد والوحشة و الوجيع.. وكيف نقفلها على أوراق.. أجنحة.. تخفق.. تصطفق.. وتنثر التئامها على شظايا الرحب..
هي مطر منقوش بماء القلب.. بارتعاش النبضات.. القلب وردة.. دقاتها ذبول.. بكاؤها هطول.. رقصها خيول.. عبقها قبول.. خطها خجول.. آه لولا ندى الحظ يا مورينا.. آه لولا الآه.. بكارة احتراقنا..
***
الشاب الطويل ذو الخطوة الواسعة، ذو الوجه الخمري الناتئ عظام الخدّين، ذو العيون الغائرة، النافث لسيجارة لا تفارق فمه، والمتأبط عدّة أوراق ملفوفة في عدد قديم من جريدة العرب اللندنية.
ألتقيه شبه يومي، كلما صعدت شارع عمرو بن العاص يقابلني هابطاً إلى الفندق البلدي، بعد ساعتين تقريباً يدخل عليّ في مقهى مراكش الواقعة يمين الكاتدرائية القديمة والشبيهة بالسرداب الطويل.. أطلب له قهوة بالحليب فيمدّني بقلم جديد، أشك أنه مسروق من إحدى المكتبات، أباسمه ابتسامة عرفان ثم أدسّ القلم داخل حقيبتي الفحمية المهترئة، مقايضة مقنعة نفعلها بآلية تامة.. كثيراً ما تساءلت لماذا يجلب الأقلام الجديدة بصورة شبه يومية، لكن اليوم بالذات طفح السؤال اللحوح، فقررت أن أصارحه، وما إن هممت حتى ابتعد تاركاً كوبه نصف امتلاء..
ـ نسيت شيئاً.. انتظرني..
الخامسة مساء ولم يعد، غادرت المقهى صوب الفندق البلدي، وبينما أنتظر حافلة المحيشي القطران الجديد لاح لي قادماً يلهث، عرقه متصبب كعدّاء ماراثون.. كانت عيناه طافرتين بالدمع ومسحة حزن تكسو تقاسيم وجهه..
ـ إن شاء الله خير.. ما الأمر؟
ـ الخيرة فيما اختار الله.. رُفعت الأقلام وجفـّـت الصحف..
ناولته منديلاً كفكف به وتهالكنا معاً على مصطبة الرصيف.
كان الأصيل قد دخل وأمست الطيور تزقزق وتؤوب إلى شجيراتها المتناثرة بعضها يرتفع ويبتعد متوارياً في الأفق..
ـ تعيش أنت.. الحاج صاحب مكتبة هنيبال مات..
ـ سبحان الله.. إنّاَ لله وإنا إليه راجعون..
ـ اليوم الصباح كنت معه، ضيّـفني على كوب شاي ومنحني قلماً جديداً قائلاً:
ـ هل أكملت الرواية؟
ـ ما زلت في المنتصف..
ضحك وأردف:
ـ أحسن.. لا شيء أحلى من المنتصف..
وتجاذبنا أطراف الحديث زمناً ثم تركته وأتيتك، وإذ جلست وحسوت أول رشفة مسترجعاً تسرباتي، تذكرت لفافتي المنسيّة على رف داخل المكتبة، فعدت سريعاً لأفاجأ بخبر رحيله معلقاً على الباب المقفل..
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.. البقاء لله وحده..
ـ لا أدري متى ستفتح المكتبة مجدداً، أوراق الرواية في اللفافة ولا أستطيع النوم دون أن أتوسدها..
تألمت لفقده وحزنت عميقاً، كان مرحاً سعيداً، كل يوم يقص عليّ فصلاً من حياته، يسرده بتجل تام، كأنه يقدّه من روحه بسكين حادة، أوداجه تحمر، عيناه تتألقان، عرقه ينز، عروق صدغيه ورقبته تبرز، ولانفعاله الشديد وتداخل الكلمات في بعضها أطلب أن يعيد و يبطيء، فيرضخ دون ضجر، كنت أدوّن كل شاردة وواردة بما فيها التفاصيل البسيطة العابرة. يرحمه الله كان يظنني مثقفاً كبيراً، يومياً يمدني بالأقلام الأنيقة والأوراق الناصعة البياض، ويقدم لي الشاي المنعنع المعطر بالزهر، وكلما أتمّ سرد فصل من قصته حملق في الأرفف المكتظة بالكتب وصاح: لماذا قصتي لا تباع لتـُـُقرأ وتعتبـٍِـر منها الناس، لقد فعلت كل شيء، عشتُ بالطول بالعرض وبالوتر أيضاً.. ويصمت هنيهة متفكرا ثم يتمتم بهدوء: لكن لن أبيعها أنا، لن أُسوّق نفسي بتاتاً أبداً، ويتأمل وجهي طويلا فأشعر أنني فهمت ما يعني..
كثيراً ما يدخل ابنه إسلام وهو في ذروة الحديث فيصرفه سريعاً بمنحه عشرة دنانير لشراء الخضراوات صارخاً فيه حين ابتعاده: احذرْ أن يغشك الأوباش ولا تنس الليمون والنعناع وقليلاً من الزيتون الطازج..
كان المرحوم من مواليد معتقل العقيلة
يوم مولده استشهد عمر المختار
ويوم عرسه اغتصبت فلسطين
وفي 5 يونيه 1967 م توفيت الحاجة أمه
أمّا أبوه فحدثْ ولا حرج.. فمنذ حقب خرج ولم يعد..
لا أستطيع القص بالتفصيل، آه من الجُزئيّـات كم هي منهكة. سأقص كامل القصة فور استرجاع اللفافة، لابد أن أسترجعها، أخشى أن يستغل الورثة دسامة عفويتها، ففي هذا الزمان الأخوة كارمازوفيون يتذابحون لأجل فص علكة مضغته مومس.. آه ماذا أفعل؟ عقلي ليس معي الآن، تأخرت عن الجنازة، ومقبرة الهواري بعيدة عن الحي ولا مركوب ولا مال لدي، سأذهب إلى المأتم في الماجوري، أتعشّى وأعـزّي.. ما رأيك لو رافـقـتـني؟!
ـ لا أطيق المآتم والأفراح..
ـ إذن لقاؤنا غداً في مقهى مراكش، عند منتصف النهار إن كان ثمة نهار قادم.
أرسلت هذا النص إلى الصديق القاص غازي القبلاوي لإبداء الرأي.. قال لي: نص جميل لكن لماذا أنهيته في مقهى مراكش.. بإمكانك الاستمرار إلى مقهى القبة الفلكية بطرابلس ومقهى الصفا ومقهى جنان النوّار، فهناك ثلة كبيرة من الأدباء والأدعياء.. ولم أعلق آنذاك أي قبل ثلاث سنوات.. ونشرته في مجلة الصدى.. لكن كلمات غازي ما زالت ترن في رأسي.. أشعر أن هذا النص متواصل.. وفعلاً التقيت الشاب الطويل ذا الخطوة الواسعة، ذا الوجه الخمري الناتئ عظام الخدّين، ذا العيون الغائرة، النافث لسيجارة لا تفارق فمه، والمتأبط عدّة أوراق ملفوفة في عدد قديم من جريدة العرب اللندنية.. في إحدى الشوارع الخلفية لشارع عبد المنعم رياض.. هو.. هو.. لم يتغيّر خلال هذه السنوات الثلاث.. تصافحنا.. دعوته على قهوة في مقهى عين الغزالة.. أراني حذاءه المثقوب.. الأحذية رخيصة هذه الأيام.. خاصة المجلوبة من الصين.. هو لا يملك ثمن حذاء.. بالكاد يجمّع بعناء ثمن سجائره.. نرشف ونثرثر.. اقترح عليه رأسه أنْ يدخل المسجد.. منها عيد ومنها قدّيد.. يصلّي ويخرج مباشرة فور نهاية الصلاة.. ينتعل أول حذاء مناسب ويفر.. يقول له رأسه إنه صلى ونال الجزاء مباشرة.. أما صاحب الحذاء الذي لم يخرج واستغرق في أوراد مكملات الصلاة والأدعية، فسيجد مكان حذائه حذاء عز الدين المهترئ المثقوب.. سيغضب أول الأمر لكن سيتذكر أنََّ الله مع الصابرين.. فيصبر ويجمطها.
الطقس بارد.. المساء ممطرة.. وحذاء عزالدين مثقوب يسّرب لقدميه ماء المطر الممتزج بماء البالوعات الفائضة.. جوربه مبتل أيضاً.. دخل حمّام المقهى.. خلعه.. غسله.. عصره جيداً ثم لبسه وواصل رشف القهوة ببطء.. هو بردان جداً.. جسده يرتعد.. وأسنانه تسمع اصطكاكها على عنق الفنجان.. يشعل سيجارته.. يمجُّ منها.. يحكي لي عن بؤسه اليومي.. حتى الآن بطالة.. لم يتوظف.. لم يتحصّل على فرصة عمل شريف أو سخيف.. تحصّل على عمل رديء.. عامل على حفّارة في الصحراء مع شركة نفط سويدية.. غاب عن بنغازي شهراً ثم عاد.. العمل مضنٍِ ضنك.. من الفجر حتى الأصيل.. والجو في الصحراء قائظ نهاراً.. بارد جداً ليلاً.. هو نحيل.. ضعيف.. بُنيته الهشة لا تسعفه في تحمل هذه الأعمال اليدوية القاسية المحتاجة لعضلات شمشون وجَلد على التعب غير محدود..
وجد في الصحراء الأفق الممتد.. والصمت النظيف.. في فترات الراحة يتأمل السراب.. يغرف حفنة رمل.. يسربها من راحته حبيبات حبيبات.. الرمال طيبة طاهرة لا تلوثنا وإن تبللت بالماء.. رمال ناعمة مثل سميد الكسكسي.. الشمس حارقة لكنها صافية.. هواء ساخن لكنه جاف.. اكتسب صدره بعض الصحة ونفسه استراحت من ضوضاء الفندق البلدي و(بربا قاندتْ) شارع قنصلية الطليان عمرو بن العاص.. روحهُ انشرحت وتخيّلت ذاتها في ملكوت متسع شاسع لا متناهٍ.. في الليل يجلس على الرمال.. يتأمل القمر.. يتخيّله حبيبته المبتغاة.. يفتح له ذراعيه.. يحاول احتضانه.. وعندما تغيّـبه سحابة عابرة.. يجن جنونه.. ينشج بالبكاء.. ويشرب كأس خمر جديد.. يعيد الكأس إلى جوار القنينة ويشعل سيجارة محشوة بالكيف.. يمجّ منها.. يجفف دموعه ثم ينظر مجدداً فيرى السحابة الجاثمة على القمر قد بكت أو قد ذوّبها النور فانزاحت بعيداً بعيداً.. فيتمتم فار أوي.
يفتح المذياع الصغير.. يقلب في محطاته باحثاً عن موسيقى مناسبة.. إذاعة عربية تبث أغنية ليبية قديمة:
سلم علي.. من يسلّم عليَّ
ثلاثين ميّة
وعلى عـد موج البحر بالوقيّة
أغنية شجيّة أعادت دفء دموعه إلى مقلتيه.. هذه المرّة دموع فرح وحنين وحب.. صنع من الرمل الذي افترشه وسادة متسرّبة.. اتكأ عليها بكوعه فساحت إلى الجانبين مفسحة لعصا ذراعه قبراً ناعماً..
استغرق في التأمل ومواكبة الأغنية بصوته المنساب والذي لم يعد أجش.
انتهت الأغنية وبدأ موجز لأهم الأنباء فأخفض الصوت.. ووقف يمشي حافياً على رمال الليل الدافئة المنعشة.. تتسرب بين أصابعه.. يغوص بمشطي قدميه.. يرفعهما.. يصعد كثيباً.. يهبط منه.. ظلال أمامه إن ارتفع أو انخفض.. ظله يتبعه يطول ويقصر حسب الزاوية المنبعث منها الضوء.. يغيب الظل إن دثرت سحابة غامقة قمر النور.. شعر برغبة في التبول.. حفر حفرة.. بمشط قدمه اليمنى.. وبرك على حافتها.. استعاذ ثم بال.. رغوات بوله أضاءها القمر ومع انفجار فقاعاتها واحدة تلو الأخرى.. جثم على مكانها الظلام.
عاد إلى المذياع.. رفع مؤشر الصوت.. برنامج ثقافي حول الأدب الليبي.. الروائي العالمي إبراهيم الكوني يلقى محاضرة عن قداسة الصمت ومحنة التعبير.. يحاور الحضور من المثقفين والمهتمين.. في نهاية البرنامج سنبث ملخصاً للمحاضرة والمحاورة.. الآن نقدّم لكم قصيدة رائعة جديدة للشاعر الليبي الكبير بالقاسم المزداوي.. هذه القصيدة بعنوان رحومة:
كأي عريف في الجيش
كان قوياً
ينهر الجنود المارقين
ويحرص على التقاليد
العسكرية
كان لا يأنس
إلا لأمه وزوجته
وزهرة عباد
الشمس
فقد.. يمناه أثناء
معالجته لغم
حربي قديم
فأحالوه على التقاعد
لعدم اللياقة البدنية
ماتت أمه
وكثر عياله
وضاقت به السبل
فابتنى كوخاً
لبيع الفحم والبيض وأمشاط العجائز
وظل يهمس
لزوجته
كل فجر
إننا نبيع
عندما
ينام الآخرون
في حملة النظافة الأولى
مسحوا كوخه
فاحتمى بسياج الركام
وظل يداوم
على البيع
وفي حملة البلدية
الثانية
مسحوا الركام
والبضاعة
فغادر المكان
وزهرة عباد
الشمس.......
تأبط المذياع وواصل المشي خبط عشواء مستمتعاً بالتصفيق الحاد والبكاء والصفير الذي تصاخب عقب انتهاء الشاعر من قصيدته السردية الرائعة.. متذكراً الأغنية التي قبلها..
سلّم عليّ.. من يسلم عليَّ.. ثلاثين ميّة.. وعلى عد موج البحر بالوقية..
أنوار معسكر الشركة قريبة.. هو لن يضيع في الصحراء.. لن يبتعد عن المعسكر أكثر من كيلو متر واحد.. وفي رقبته علق جهاز الكتروني يدل عليه.. واصل السير.. يغني.. يفكر.. يسترجع كلمات قصيدة رحومة.. رحومة سيء الحظ مثله.. متكسر مثله على الشط.. رحومة مسكين.. ضاع عمره هكذا.. هباء غير منثور.. ليته ضاع هباءاً منثوراً.. ولكانت ابتعدت النثائر والمناثير والمنثورات والنواثر وتوزعت في أرجاء الكون.. وربما وجدت للإنسان ارحومة مكاناً أفضل لتعيش فيه فتستدعي بواقيها من الأرجاء.... القصيدة مسبوكة جيداً.. كزميتة زليطنية.. وتعتبر التقاطاً فذاً.. وستكون قصيدة ناضجة ومتكاملة ومن عيون الأدب الليبي الحديث لو تدارك الشاعر بعض الهنّات الخاصة بالتكثيف والاختزال والتقشف في الكلمات المستخدمة.. لكن ماذا نفعل؟ إنه الإلهام الذي لا يكترث بالصنعة ولا يحسب للنقاد أي حساب.
تجرّع هذه المرّة من فم القنينة ورمى الكأس من أعلى الكثيب وتابعه وهو يتدحرج ببطء حتى همد.. الرمال حضن دافىء للزجاج.. عندما أتشاجر وحبيباتي أرمي بهن على الرمال وأرحل.. وتواصل البث الإذاعي ووصلت فقرة محاضرة الكوني فجلس عزالدين على قوز رمل مرتفع نسبياً.. معسكر الشركة تحته مضاء.. رفع مؤشر الصوت وأصاخ..
الكوني يتحدث عن الصمت وعن الفلسفات العالمية التي مجدت الصمت.. وعن معنى الكلام وعمّا يتعلق بالصمت والكلام في الكتب المقدسة.. وتحدث عن ارتداء الطوارق للثام لأنهم يخفون اللسان الذي هو أداة الخطيئة (الكلام) تحدّث كثيراً وعميقاً.. وانفتح باب النقاش.. ابن الذيب رأى أن المحاضرة صعبة.. وكان أفضل لو كانت حول تجربة الكوني الروائية.. ابن المزداوي تحدث حول استخدام الكوني لفقرات من الإنجيل والتوراة وتساءل لماذا لا يستخدم أو يستبدل تلك الفقرات بالأحاديث النبوية الشريفة؟ أحد طلبة الدراسات العليا سأل الكوني: أين يا أستاذ إبراهيم القضية العربية وفلسطين من كتاباتك؟
وقال الأديب ابن الخازن.. إن الكوني رشحته رابطة الأدباء لجائزة سلطان العويس، لكن حسابات أصحاب الجائزة كانت أخرى.. واستمر في مداخلته يمدح الكوني ويشكره كثيراً.. وبعد يوم فقط قال عنه في ندوة عن البطل في الرواية الليبية نظمتها رابطة المحامين (هذا صانعته الدولة).. ولو نظرنا نظرة صريحة لوجدنا ابن الخازن هذا مستشاراً بمقابل في أكثر مطبوعات الدولة.
وقال ابن عتيقة إنه لم يفهم شيئاً من المحاضرة.. ويجيب عز الدين نيابة عن الكوني.. يضع فمه على مؤخرة المذياع.. ينفخ.. ينفخ بشدة.. يتحدث عن فلسطين: كيف لا تدخل فلسطين إلى روايات الكوني؟ بصراحة فلسطين لا دخل لها بالصحراء.. أدب الشرق الأوسط له خصائصه.. وأدب الصحراء له خصائصه.. والحقيقة أن هناك كثيراً من الكتاب المبدعين الذين تناولوا فلسطين في أدبهم.. سبق أن أثار هذا السؤال الروائي السوري الكبير حنا مينا وسأل الكوني عن القضية العربية في رواياته، وأجاب الكوني بأنّ هذا الحنّة ضيّق الأفق. كان ذلك في ندوة الرواية بالقاهرة منذ أعوام.. ويوشوش عز الدين مؤخرة المذياع.. دعونا نتفاهم يا أدباء.. كثير من الكتاب تناولوا قضية فلسطين.. حللوها.. فككوها.. سميئوها.. نظروها.. دهنوها.. غسلوها.. مسدوها.. هرشوها.. لونوها.. رقّصوها.. سرقوها.. باعوها.. اشتروها.. ضاجعوها.. مزقوها.. عذبوها.. وخزوها.. بعبصوها.. عقموها.. لكن لم يحرروها.. بل لم يحرروا منها حتى شبراً قصيراً.. والحقيقة أن الكوني كاتب صحراوي.. ليبي يكتب ذاته من خلال قبيلته.. الكوني كاتب صحراوي.. يكتب عن الصحراء.. ما دخل فلسطين في أدبه؟ كيف سنحشر القدس أو رام الله أو ثورة الحجارة أو منظمة فتح في رواية السحرة أو نزيف الحجر أو في رواية يوم في الدنيا ويوم في الحنين؟ ويخرج المزداوي من ثقب التسجيل هاتفاً في ذاك الليل البهيم: فلسطين عربية.. لا حدود استسلامية.. صارخاً في وجه عزالدين السكران المصطول المسكين.. بل فلسطين لابد أن تدخل في أدبه.. كيف ليس للصحراء علاقة بفلسطين؟ لها ونصف.. رواية نزيف الحجر من المفروض أن تكون هذه الأحجار النازفة ترمز إلى أطفال وثوّار الحجارة.. لو جعل الكوني روايته نزيف الحجر حول أطفال الحجارة لكان أجمل.. لما مات أو استشهد محمد الدرة غيلة وغدراً في حضن أبيه.. لو استبدّل الودان بطل الرواية بالشهيد الطفل محمد الدرة لكان أفضل وأروع، ولأقامت له وزارة الثقافة تمثالاً على هيئة تارقي يطقرب على مهري.. لو جعل الحجر الذي ينزف هو الحجر الأسعد الأبابيلي الذي يرمي به أطفالنا الشجعان الدبابات الصهيونية، لكان أروع ولكسبت القضية ولانتصرت أدبياً وصحراوياً أيضاً ومرّة أخرى يا أستاذ عز الدين..
تعليقات
إرسال تعليق