رواية شرمولة للروائي الليبي محمد الأصفر (1\6)
العاشرة مساء.. رذاذ مطر خفيف.. دخلت المنتدى.. مكتظ كالعادة.. العادة واسعة.. الاتساع متكرر.. التكرار رتيب.. التلفازان يعرضان كرة القدم.. طاولة قريبة من الباب يجلس إليها الصديق عمران لامين.. يشاركه الجلسة صديقاه الرياضي أحمد المديني والفنان المسرحي سعد المغربي.. جلستُ معهم.. صافحتهم.. سعد يحكي عن مهرجان المسرح المغاربي المزمع إقامته في الفترة القادمة.. سعد قلق.. خائف أن يفترس المهرجان التأجيل.
غادر سعد.. بقينا نتفرج على مباراة برشلونة وريال مدريد.. لاعب برشلونة رونالدينهو يمتعنا بينما لاعب ريال مدريد رونالدو يغرقنا في البهيج.
عمران لامين رياضي قديم.. وصديق للفنان الشعبي عبد الجليل عبد القادر.. عاشا معاً مذ كانا صغاراً.. لعبا معاً في فريق الحرية.. في العشية يلعبان الكرة.. في الليل يسهران في مقهى الفزاني صحبة الأصدقاء.. مقهى الفزاني الآن بقال مواد غذائية يقابل سور مستشفى الجمهورية جهة الفندق البلدي.
بعد كل مباراة تنتظم في المقهى جلسات حميمة.. يحتدم النقاش حول مجريات اللعب.. الأصدقاء من كل الشرائح يعرضون آرائهم.. أغلبية المشاركين فنانون.. لاعبون.. عازفون.. مؤلفون.. عبد الجليل عبدالقادر.. الشيخ الفيتوري.. علي العماري.. عبد الله مجيحيد.. محمد العرق.. بوشعالة.. الشاوش.. أحمد عبدالحفيظ.. خليفة العرج.. وغيرهم.. أحياناً يأتي إلى المقهى صاحب عرس لدعوة عبد الجليل عبدالقادر.. يرفض عبد الجليل إحياء العرس والذهاب معه.. يقول له مشيراً بإصبعه: رفاقتي..؟
يقول له صاحب العرس: مرحبتين بيهم معاك..
يقول عبد الجليل: لا توجد سيارة.؟
يؤجر صاحب العرس سيارتين أو ثلاثاً يستقلونها جميعاً مبتهجين.
كانوا شباباً طيبين.. احتياجاتهم بسيطة.. في النهار يعملون في الجيش والميناء والإسكان والبلدية وغيرها.. في العشية يلعبون كرة القدم في ملعب المحيشي.. وفي الليل يغنون المرسكاوي في الأعراس أو على شاطئ المنقار أو عين زيّانة.
عبد الجليل يسكن في شارع كويري.. أحد شوارع بنغازي العتيقة المتفرعة عن سوق الجريد.. أحياناً يختلف إلى حي الرويسات.. يقضي أياماً جميلة عند أمّه الحنون.. ثم يعود مجدداً إلى بيت أبيه وزوجته المصرية الطيبة .
معظم أوقاته يقضيها صحبة أصدقائه في فريق الحرية.. يتنقلون من حي إلى حي.. ومن ملعب إلى ملعب.. لا يفترقون إلا أواخر الليل.
عبد الجليل يحب كل الناس.. وكل الناس تحب عبد الجليل.. كل من يخالطه يحبه.. إنسان متواضع.. عطوف.. حسّاس.. حنون.. طيب.. سريع الغضب.. سريع الرضا والصفح.. قلبه أبيض.. لا يُبقي فيه أي ذرة حقد.. الغضب والخصام والعصبية حالات مؤقتة.. تزول سريعاً كضباب.. التسامح شريعته.. الحب مبدأه الأصيل.. سريعاً ما يبتسم وينسى السيئات..
عبد الجليل إنسان.. صاحب موقف ومروءة.. صاحب طرفة وقفشات.. كريم.. بل سخي جداً.. ما قفل بابه في وجه أحد.. ما رد أحداً خائباً أبداً .. حتى إن كان جيبه فارغاً اقترض للسائل.. مربوعته لا تفرغ من الضيوف.. دائماً يقول: اللي يعطي ربي يعطيه.. هو يعطي كل شيء.. الحب.. الصداقة.. المال.. الدم.. الطعام.. السجائر.. السيارة.
في السبعينيات لعب كرة القدم.. ترأس فريق الحرية الشهير جماهيرياً وغير التابع لأي نادٍ رياضي.. الكل يتحدث به.. الكابتن عبد الجليل.. المطرب عبد الجليل.. كان يلعب بعصبية.. بقوة.. يلعب بجدية مفرطة.. اشتراكه في المباراة يستقطب جمهوراً غفيراً.. يأتي من كل أحياء بنغازي وضواحيها.. هو مدرب الفريق أيضاً.. أحياناً لا يشترك في المباراة ويدفع عوضاً عنه بوجه جديد موهوب. إلى عالم الكرة الساحر.. يلعب الكرة بانفعال بإحساس رهيب مع كل تمريرة موفقة ابتسامة، مع كل لعبة خاطئة تقطيبة حزينة مع كل هدف ضائع آهة حسرة تنبع من أعماق الفقدان.
كانت مباراة الحرية والتعاون هي مباراة الموسم.. الديربي الكبير.. فريق التعاون قوي جداً.. يضم نخبة من أمهر اللاعبين لكن فريق الحرية هو الأقوى.. هو فريق النجوم.. لم تنس ملاعب المحيشي أصحاب اللمسات السحرية ومبدعي الكرة السهلة المنفتحة.. لم تنس كوكبة اللاعبين المهرة الذين يستنطقون الكرة ويجعلونها تغني.. أقدامهم تعزف الألحان على أوتار العشب اليانعة والكرة بينهم راقصة ملساء مجنونة.. الملعب غير مسيّج.. المتفرجون جالسون على أحجار غير منتظمة تبعد متراً من خط التماس.. منهم من أجلس ابنه على رقبته.. رجلاه متدليتان تدقان بكعبيهما الصغيرين على صدره.. الطفل يطوق رقبة أبيه بذراعيه ويصيح: جليل.. جليل.
.. ابد جليل.. بُـبَّة يا بابا جليل.
كانت الكرة آنذاك بين قدمي عبد الجليل ومدافع عنيف أوقع به أرضاً.
الجماهير تصرخ لكل لمسة حلوة.. لا تسمع أي كلام بذيء أو سباب للجلالة.. لا تسمع سوى الكلمات العفيفة المشجعة.. عندما يُضيّع المهاجم فرصة هدف: معلش.. ياما راح.. يأخذ سؤّك.
وعندما ينقذ حارس المرمى عرينه من تسديدة محكمة في الزاوية: عظيم.. أحسن يا رشيق.. يا فدائي.. وعندما يستقبل لاعب الوسط الكرة بصدره أو يمررها بالكعب: أيوا يا لاعيب.. يا فنان.. يا حشاني.. يا خطيب.. يا بليه..
في الملعب الكرة تغني.. التمريرات جمل موسيقية.. مراوغة المهاجمين دق طبل على جلود الطين.. هدف الرأس شكشكة بندير مبهجة.. واهتزاز الشباك سكر الأناشيد.. أما الفرص المهدرة فهي قمامة.. قمامة كروية وأجنّة مجهضة راحلة بآهات المساكين.
لكل فريق أناشيده وأغانيه.. في الانتصار غناء مفرح.. في الخسارة غناء حزين.. وعقب نهاية المباراة يتعانق الجميع كأسرة واحدة في يوم عيد..
يتحممون.. يتعطرون.. يجلسون في مقهى الفزاني جهة الفندق البلدي.. يحتسون الشاي ويتجرعون عصير البرتقال المنعش.. ويتحاورون مستعرضين ما قدّموا من إبداع أثناء المباراة.. تسمع وجهات النظر والتعليقات والتعقيبات ونقاط النظام التلقائية.. تسمع أيضاً أطروحات فنية للمدربين.. لقاء في مقهى لكنه ندوة رياضية متكاملة.. حوار واع موضوعي.. وفي نهاية الجلسة يغادر كل فرد إلى مبتغاه.. راضي النفس.. مفعم الروح بالمرح والحياة..
في التسعينيات ولج عبد الجليل مجال التدريب في النوادي.. فدرّب أشبال فريق السواعد بحي المحيشي.. جمعهم من المدارس والحارات والشوارع.. حل مشاكلهم.. من كان عاطلاً ألحقه بعمل شريف.. من يدرس ساعده مادياً ومعنوياً.. من هو جندي زاره في الثكنة وأوصى عليه الضباط وتحصل له على إجازات.. ومن لديه أي مشكلة عالقة مع جهة ما تدخّل فيها وساهم في حلها .
عبد الجليل شخصية محبوبة في البلاد.. لا أبواب تقفل أمامه.. هو لا يطلب الخدمة لنفسه.. لكن يطلبها للآخرين المحتاجين.. كل المسؤولين يحترمونه ويقدرون روحه الإنسانية وفنه الأصيل.. كلمته مسموعة في البلاد.. في المدينة الرياضية يعمل مديراً لملعب كرة القدم.. يشذب العشب ويرتق الشباك.. هو المسؤول عن الملعب.. المفتاح في عنقه.. لا ينام إن كان هناك خلل يمنع قيام المباريات.. ينظف غرف الرياضيين والحكام.. يستبدل المصابيح العاطلة بصالحة.. يصيّن صنابير المياه.. يفعل ذلك صحبة فريق الصيانة النشطاء.. والذين يخجلون عندما يرون عبد الجليل يبادر في العمل الذي يكلفهم به.. فيدبُ النشاط فيهم ويستجدونه أن يستريح:
تريّح يا أستاذ.. والله ما صارت. ويمسح أحدهم كرسياً ليجلس.. لكن عبد الجليل لا يجلس.. يظل واقفاً يراقب سير العمل و يتابع التفاصيل.. يناول هذا مقشة.. والآخر مكشطة مطاط.. والآخر زرّادية أو بعض الصواميل.. ليس الإشراف العام على الملعب هو كل عمل عبد الجليل.. فهو أيضاً عامل تهدئة مهم للجماهير الغاضبة الثائرة.. خاصة أثناء المباريات الحساسة حيث تنشب المشاجرات وتحتد الاعتراضات على قرارات الحكم.
كثيراً ما تدخل عبد الجليل ورفع يده للجماهير طالباً منها أن تجلس وتهدأ وتتوقف عن قذف الحجارة وقنن الماء إلى داخل الملعب.
الجماهير تعرف عبد الجليل جيداً.. لا تستحمل أن تراه حزيناً مكتئباً.. أو مقطباً مكشراً .
عندما يغضب عبد الجليل يكسوه الحزن الكبير.. لو كنت إنساناً حقيقياً لن تحتمل هذا الحزن الكبير.. حتماً ستتوقف عن العبث.. حتماً ستخجل وتهدأ.. سينسيك هذا الحزن العظيم الذي أنت سببه عصبيتك وعربدتك.. الفنان عبد الجليل عندما يغضب يوقف الموسيقا في الدم.. ما عاد ينساب عبر الدم سوى البكاء.. يشعر الفوضوي أو المشاغب برحيل شيء ما من نفسه..
يسعى بأي طريقة أن يستعيده.. يتوقف عن رمي الحجارة.. وعن السباب ويفتش ببصيرته داخل الملعب.. ليجد عبد الجليل قرب السياج رافعاً يده.. ناظراً بأسى وعتاب للجماهير الغاضبة.. يتحوّل غضب الجماهير إلى تصفيق صاخب خاصة عندما يصفق لهم عبد الجليل شاكراً استجابتهم ومثمناً روحهم الرياضية العالية ورقيهم الحضاري.
في مباريات الفريق الوطني يطلب من الجماهير أن تشجع أكثر وتحب أكثر وتغني أكثر.. يحمسهم.. يهتف معهم.. وإن سجل فريقنا الليبي هدفاً تجد عبد الجليل وسط اللاعبين يعانقهم ويذوب في رحيق فرحتهم اللذيذة.
عبد الجليل إنسان طيب.. درّب أشبال السواعد.. هو على دراية بعلم التدريب..لم يدرسه في المدارس.. التقطه من ملاعب التراب والطين و الكاولينة والرمل.. استشفه من محاورة المدربين واللاعبين الدوليين.. هو ليس غريباً عن كرة القدم.. لعبها وتفنن فيها.. عرف أسرارها وعرفت أسراره.. تابعها عن كثب.. منحها ماله وجهده وأعصابه.. كل أندية بنغازي تعرفه.. وأكثر اللاعبين الموهوبين أصدقاؤه.. ونيس خير.. فوزي العيساوي.. طه الساحلي.. على البشاري.. بن صويد.. الحشاني.. بيزان.. وغيرهم.
شعبية عبد الجليل ليست في بنغازي فقط.. فهو شعِيب أو مشعوب حتى في طرابلس.. كثيراً ما ذهب إلى طرابلس وأحيا أفراحاً لأصدقاء هناك.. هو لا يقبض مالاً عن غنائه.. فله عمله في ميناء بنغازي البحري وله عائدات بيع أشرطته.. العرس يدخله دائماً من باب الصداقة والفرح والإنسانية.. هو متواضع متواضع جداً.. متواضع مع الجميع.. حتى الفنانين الصاعدين يقبل بصدر رحب أن يغنوا معه في نفس الحفلة بل في نفس الوصلة بيت ببيت.. في فترة السبعينيات أذكر عرس الصديق فرج الدوبادي بحي المحيشي.. أحيا إحدى لياليه الفنان عبد الجليل وشاركه الغناء الفنان الصاعد آنذاك سيف النصر.. عبد الجليل غنى أولاً:
ليش البكاء يا لعين يا مهبولة..
كنك على الغالي ايجيبه المولى.
ولحقه سيف النصر بأغنية:
ليش البكاء يالعين وليش الحيرة..
واللي جفا انسيه ديري غيره
وكانت حفلة لطيفة مزدحمة بالناس والفرح.. الغناء في صالة ضيقة: ستة أمتار مربعة في بيت شعبي من بيوت حي المحيشي.. والحضور كثيف.. لا موطأ لقدم.. والأجواء مبهجة بهيجة.. المطربان يغنيان والحضور يستمتع بينما الزغاريد في خيمة النساء المجاورة تتعالى ولا تتوقف.
عندما درّب عبد الجليل فريق أشبال السواعد أخذ الفريق في رحلة رياضية إلى مدينة طرابلس.. كان الفريق محل حفاوة من الطرابلسيين.. لعب عدّة مباريات جدية.. كان عبد الجليل وفريقه محط تكريم وتشريف من نادي الاتحاد صاحب الشعار الأحمر والحليف الاستراتيجي لنادي الأهلي البنغازي النادي المحبوب والمفضل لعبد الجليل.
المأوى والطعام ومصروف الجيب للرياضيين على نفقة نادي الاتحاد.. ورأى الأشبال الصغار كيف تصنع الرياضة الحب.. وكيف يصنع الفن الأصيل عشقاً عميقاً لا ينتهي..
عبد الجليل لا يدرب الفريق كثيراً.. لعب خمسين مباراة بعشرين تمريناً فقط! بعد كل مباراة يعطي ملاحظات عامة عن أداء كل لاعب.. وقبل المباراة يلقي محاضرة قصيرة.. يقول لللاعبين غنّوا.. غنّوا.. كرة القدم أغنية.. الملعب خيمة عرس.. أنتم غنوا بأقدامكم وصدوركم وجباهكم.. الكرة حنجرتكم.. وأقدامكم عبير الهواء.. كل لاعب حر في الملعب.. لن أقيدكم بشيء.. يهمني الفن.. ارتطام الكرة بالعارضة أو القائم أحلى عندي من اهتزاز الشباك بهدف قبيح نتج عن دربكة أو لعبة حظ.. يهمني بالأساس الفن.. الموسيقى.. الغناء.. رقص الكرة بين الأقدام.. كرة القدم حرية تبقى في الذاكرة ولا تمحوها صافرة النهاية.. فريقه الصغير كفريق البرازيل كفريق هولندا.. كفريق تشيكيا أو البرتغال.. تمريرات ذكية ذات عمق ومعنى.. لعب هادئ سريع طموح جموح.. هم يلعبون ولا يؤدون مباراة.. عبد الجليل يبتسم.. لا يصرخ.. لا يشتم أو يتنرفز.. يترك الصغير يبدع.. يفجّر موهبته.. يقول له: أنت تحلم في الفراش.. أنت تلعب في الشارع مع أقرانك الصغار.. لست مطالباً بشيء.. لا نريد الكأس.. لا نريد البطولة.. نريد الفن.. نريد روح اللحن.. الحياة.. يقول لهم أثناء المباريات التي تُجرى في قيظ رمضان.. الجو ساخن يا شباب.. حمو.. لا تجروا وراء الكرة.. اتركوها هي التي تجري.. أي مرروها ولا تحتفظوا بها أو تركضوا وراءها.. أنتم صائمون يا شباب.. لكن الكرة فاطرة.. المنفوخة فاطرة.. ويضحك الجميع هههههههههههههههه.
تحصل بهذا الفريق الفني الفتي على البطولة.. وككل الفنانين في الدنيا.. لابد من الإصابة بالملل حتى من توالي الانتصارات.. النجاح يجعل الآخرين مرضى.. وعبدالجليل يحب الصحة لكل الناس.. لذلك بيّت أمراً في رأسه.. فذات يوم بارد جداً.. كان عبد الجليل في منتصف الملعب.. الصافرة في يده.. وحزمة غلالات التدريب الملونة تحت إبطه.. يدرب الفريق بجدية.. يأمر اللاعبين بالركض وعدم التوقف وقاية من البرد.. لكن الشيء المحيّر لعبد الجليل أنه في كل خمس دقائق يستأذن أحد اللاعبين.. يقول غداً لدي امتحان مهم.. يسمح له عبد الجليل بالمغادرة ويعلمه بزمن التدريب القادم.. بعد انتهاء الحصة التدريبية تفاجأ عبد الجليل إذ وجد اللاعبين المستأذنين يلعبون البلياردو في صالة النادي الدافئة.. غضب عبد الجليل.. تمتم: وكأنك تشخ في الرمل.. ثم ابتسم مضيفاً: لقد مل الفنانون الصغار..
ثم غادر النادي ولم يعد.
إنه الملل.. ليست هذه أول مشكلة واجهت عبد الجليل.. لكنه الملل الملل الممل.. لا يريد أن يبقى.. فوجد السبب.. خرج من النادي حزيناً.. لم يتبعه أحد.. لم يستجده أحد للعودة.. الكل يعرف عبد الجليل.. لا يحب أن يتراجع عن قرار اتخذه.. لا يحب أن يفعل شيئاً دون حب ورغبة.. خلاص.. العيش والملح خف.. لقد خانه هؤلاء الأوغاد الصغار الذين صنعهم ولملم ضياعهم من شوارع حي المحيشي المتربة.. لقد خانه هؤلاء الصغار كما خان يهوذا المسيح.
لكن.. تبقى الذكريات.. تبقى الحياة التي رسمناها على ضباب الزفير وعلقناها على زمن نظنه ضاع.. يبقى النسيم الذي لم يذبْ في كثافة النسيان.. في أحد الأعراس بحي المحيشي كان عبد الجليل يغني وبجانبه مساعده في الإشراف على الفريق جبريل المعداني
.. جبريل أيضاً إنسان طيب كريم منح الكثير من وقته للأصدقاء وللرياضة وللفن وللمروءة.. وكان عدد من أشباله الرياضيين حاضرين العرس: حميد الياباني.. بالعيد عويطه.. عادل نحول.. إسماعيل الرجباني.. خالد بربش.. مفتاح البشتي.. خميس وحفيظ وسليم التاجوري.. علي رجب.. خالد خليفة.. رمضان النائلي.. فتحي النائلي
(القندوز).. علي ميلاد.. عبدالسلام العبيدي.. سيف النصر.. حميده الحاج (حارس المرمى) مرعي الشعلالي (سطاش).. صالح بالعيد.. وحتى الرياضي الخلوق محمد عبدالله الذي اختفى فيما بعد في ظروف غامضة كان قد استأذن للصلاة في الجامع القريب والعودة.
كان عبد الجليل يغني في قمة تسلطنه وطربه:
ألفين مبروك يا عريسنا.. ألفين مبروك
ألفين مبروك... وفي فرحك جينا انهنوك
ألفين مبروك يا عريسنا .. ألفين مبروووووك
وفي نهاية الوصلة قاد أحد الأشبال الغيطة الصاخبة المرحة:
أمتا إيجي ولد هالشقراء
واندزا للروضة يقرا
وسلم خوتا اللي صبولا
تصبايت عسكر في الدولة
وانتهت الوصلة ووضع العازفون آلاتهم جانبهم.. أشعلوا السجائر وقدمت لهم كؤوس الشاي وفناجين القهوة.. وخرج اللاعبان صالح بالعيد ومرعي الشعلالي ليجدا عبد الجليل منزوياً في المنور وحيداً يدمع.. سألاه: شنو فيه؟!.. من زعلك يا أستاذ؟!
ومد له صالح منديلاً..
ازداد نشيج عبد الجليل وعبرته انفجرت في عويل حاد.. تركوه يأخذ غايته في البكاء حتى انتهى.. لم يتركهما يسألانه وأجابهما:
عريس الليلة غنيت في عرس والده!
معلوم أن عبد الجليل تزوج مرتين ولم يرزق أطفالاً.. هذه الأمور وكما نعلم من عند الله.. يرزق من يشاء الذكور.. ويرزق من يشاء الإناث.. ويجعل من يشاء عقيماً.. وعبد الجليل بالمعنى العميق ليس عقيماً.. فكل الصغار أبناؤه.. فهو أب لكل الإنسانية.. وأب لقيم الخير والمحبة.. وأب للحياة برمتها.. أب حنون.. صادق.. رحيم.. باتوس مؤسس قوريني يبكي لمرض أي من رعيته وعبد الجليل يصرخ إذا مسّت شوكة إصبع صديق.
الآن عبد الجليل مُـقعد على كرسي لكنه يمشي.. يجري.. يلوح بيديه.. بروحه.. بقلبه.. نفسه تسبح في أجواء بنغازي ووجدانه ينساب مع أنسام ليبيا.. وأحلامه تتنامى وتتداخل.. تصافح التاريخ.. بالأمس القريب كانت مباراة الأهلي بنغازي صاحب الشعبية الهائلة والذي يشجعه عبد الجليل مذ كان صبياً، وفريق حي المحيشي السواعد الذي يحبه عبد الجليل أيضاً، والذي درّب أشباله وعاش بين ربوعه ونواحيه زمناً طويلاً أنتج له أصدقاء وأصهاراً وحياة.
دخل الفريقان الميدان.. وهتف جمهور الأهلي الغفير.. التقط الفريقان الصور التذكارية وأجريت القرعة وتوزع اللاعبون على أرض الملعب، والحكم رفع الصافرة إلى فمه لينفخ بداية المباراة. وفجأة انفجرت ضجة وصفير وصراخ ومفرقعات احتفالية غطت السماء.. ظن الحكم أن إحدى الشخصيات الاعتبارية وصلت إلى أرض الملعب فأرجأ إطلاق الصفير ليرى هل من تعليمات.. لكن لا شخصية رسمية ولا اعتبارية وصلت.. عبد الجليل عبد القادر شرّف.. وصل.. دخل الملعب على كرسيه المتحرك.. يدفعه صديقه الطيب الوفي مرعي وتحفه الغزالة من اليمين ومورينا من اليسار.. الكل رحب بعبد الجليل وصفق لحضوره.. الحكم ومساعداه.. اللاعبون والبدلاء.. المدربان.. المصورون والمعلقون والصحفيون.. أطفال جلب الكرات الطائشة.. عناصر الشرطة الواقفة حول الملعب.. حتى سيارات النجدة والمطافئ والإسعاف أطلقت صافراتها وأضاءت أنوارها مرحبة به.
بكى عبد الجليل.. تأثر في الصميم.. لم يحتمل هذا الوفاء.. وهذا الحب النبيل الجليل.. ربت على عنق الغزالة ومسح على رأسها براحته، ثم نظر إلى أعلى حيث أعمدة النور العملاقة التي بدأت تضئ الواحدة تلو الأخرى.
***
هذه المدينة المليئة بالبعوض كيف أجيئها وكيف أذهب عنها؟!
والأثر شمس مشرقة والأبصار مبيد يسحقني والأصدقاء.. لكن يا حسرة.. أين انتم أيها الأصدقاء؟ أيها الراحلون عنوة إلى عوالم الألم.. أخبروني ماذا يوجد خلف كل ألم؟ ماذا يوجد بعد أن تخنقكم الحبال؟ أو يثقبكم الرصاص؟ أو يذيبكم الحامض؟
ماذا يوجد بعد الدم؟
...............................
ماذا؟!
........لم أسمع
أعيدوا ماذا؟!
................ ماءٌ يفور وبلا بخار..
في ليلة العيد الازدحام شديد.. بشر.. سيارات.. مشاعر.. تسامح.. شجارات.. علاقات تقام.. أخرى تقوّض.. تسوّل.. زكاة.. خمر.. زنا.. انصطال.. شموم.. سموم.. صوت آلة عصر القهوة.. ضجيج طحّان البُن.. دخان.. ضحكات.. تلصص.. تربيطات.. صحة وجه.
مقهى عين الغزالة مكتظ.. على الجدار رأس غزالة.. عيناها الجميلتان ترانا.. لا أدري ماذا تسجل عنا في ذاكرة الطلاء.. الطلاء يتقشر ويعاد الرسم في كل مرة.. الغزالة باقية مادام المقهى يحمل ذات الاسم، وإذا تغير فلا ندري ماذا سينقشون؟
ربما يتحوّل هذا المقهى إلى قصّاب وتبزغ من جدرانه معاليق تتدلى منها الشياه.. ومن واجهته المطلة على شارع جمال عبد الناصر يعلقون رأس عجل مُصبّـرة أو رأس جمل مشقوقة الشفاه.. تلحظها المارة ويراها ركاب السيارات من نوافذهم.. رأس أعمى.. عيون عمياء.. واجهة تتدلى من دون رأس غزالة موشوم.. جدار بلا رأس غزالة تتأملنا عيناها في سكينة و وقار.. وكلما وجدتنا سعداء نفثت من مسك روحها أحلاماً رشيقة وارتعاشات نقاء.
رأس الغزالة يقول
عيناها تقولان
رشاقتها تقول
والمسك ماذا يفعل؟ هذا قدره.. لا يتفتق من الغزلان إلا بعد الذبح أو الموت أو الفناء.
فلنمجد هذا الوطن المحتفي بإبادة البعوض..!
ولنحاولْ أن نصل إلى المسك في ظل الحياة أو في شمسها الحارة، ليس مشكلة.
مقهى عين الغزالة مكتظ.. وأنت يا حبيبتي لا أجدك الآن.. لا أجد قلبك الطيني أغترف منه نبض تسليات.. لا أجد في هذا الآن والمكان سوى الضجر.. أخرج إلى مقهى الانترنيت القريب.. أبحث عنك في عناكب الأنوثة.. أرسل لك قائلاً: أنا ذكرك أينك أينك أينك أحبك.. وأشتاق إلى نعومة عنقك.. قبل أن أضغط زر الإرسال أجدك واقفة بجانبي: عطر (بلو ليدي) يفعم شوق روحي.. وشاحك القرنفلي.. بلوزتك بلون السماء.. جونلتك الدجين الزرقاء.. مداسك الجلدي الخفيف الماشي مع الوشاح.. إكسسوارتك البسيطة بساطة الأطفال.. حضورك الطاغي.. هيأتك كما أنت تمنح رؤيتي مصل انتشاء.. أحب مريم ولا أريد أن أعرف لماذا بتاتاً إطلاقاً قط.. أصافحك بحرارة الحرارة وبوهج الاشتياق.. أصافح أختك ذات السنوات السبع والأخرى ذات الاثني عشر عاماً.. أحسني في جنة تعيش.. جنة وصلت إليها قبل الموات.. تجلسين بجانبي إلى جهاز الحاسوب.. تتفقدين بريدك.. ونتغازل ضمناً عبر برنامج الماسنجر.. يجففني ظمأك فأخرج لأعود بعلب المشروب الباردة.. عصير فراولة لذات السبعة أعوام.. عصير برتقال لذات الاثني عشر.. وأنت يامريومتي اللذيذة أقدم لك علبة بيتر صودا مُرة المذاق.. لو كنتِ مراهقة لقدمت لك حموضة البرتقال.. لكن أنت يا سمارة نضجي يا ذات الثلث قرن من العمر.. يا كبيرة في تجلي الحياة.. يا ظفري الأجد المتجدد.. فأقدم لك مرارة الماء.. أتجرع معك المرارة.. لنرحل سوياً بها إلى عوالم الحلاوات.. هل في حياتك تجرعت مرارة الماء.. فلنفتح العلبة.. فتحنا علبة الدنيا.. تجرعنا منها.. والعرق الذي بزغ على جبهتينا سنبحث له عن منديل يتذوقه.. لم نجد أفضل من لسان الهواء.. خرجنا إلى حديقة 23 يوليو القريبة.. جلسنا تحت الساعة الخرساء.. صار النسيم يجففنا.. عطسنا متقابلين وضحكنا حتى دمعت عيوننا.. قلتِ لي لابد أن أغادر الآن.. غداً عيد سأشتري ملابس للصغيرتين.. للفراولة والبرتقالة وربما للمرّة أنا .. إلى لقاء.. إلى لقاء.. إلى لقاء يا صدفة القدر الرائعة.
وعدت منشرحاً إلى مقهى عين الغزالة وقد زال الضجر.. زالت من مخيلتي هموم الحياة كلها.. أشفى سريعاً بعد الشعور بالحب.. أشعلت سيجارة.. أكتب بمداد رمادها.. أخربش بجمرها.. أرسم بدخانها.. الغزالة تراقبني بعينيها وقلبها و أخالها تهزهز ذيلها القصير ورأسها وتقفز خارجة من المقهى.. أجري وراء عبقها المسكوي عبر شارع جمال عبد الناصر.. يلوّح لها المطرب عبدالجليل عبد القادر من مربضه الدائم أمام جمعية المعاقين مُترنماً:
كيف الرأي يا ريم الجليبة.. الخفـّـة عيب والغيّة مصيبة
ياريم الغزيّل.. عاشق فيك من وأنت عويّل
عيونك سود ووشامك مليّن
بحر النيل ما يطفي لهيبة.
تغمزه الغزالة غمزة ذات دمعة وتواصل الركض..
وصلت منطقة البركة.. انعطفت يميناً إلى الكيش.. عبرت إلى الفويهات.. أمام مستشفى الأطفال عجزت عن الغمز للمرضى الصغار.. وانهارت تشاركهم الذرف.. ذرفتْ معهم أيضاً وإذ فتحتُ عيني قليلاً لم أجدها ولمحتها خيالاً بعيداً يختفي في سحاب منطقة الهواري.. مصنع الأسمنت ينفث غباره السام.. المقبرة مزروعة بالقبور.. مستشفى الأمراض النفسية ضاج بالصراخ والضحك والهستيريا.. واصلتُ الجري وراءها.. قرية جردينة.. النواقية.. وعندما اختفت في عجاج سلوق حيث مرقد الشيخ عمر المختار تساءلتُ أين ذهبتْ؟! أين الغزالة يا شيخنا المختار..؟ لم تجبْ الرفاة!.. فعدت حثيثاً إلى رباية الذايح بنغازي.. دخلت المقهى لاهثاً.. وجدت الغزالة تبتسم.. الجدار المرسومة عليه تبسّم هو الآخر.. مريم حبيبتي تبتسم لنا جميعاً.. قالت لي: اشتريت للصغيرتين ملابس جميلة ورخيصة.. وأدخلتهما المسرح الشعبي لمشاهدة مسرحيتـنا شيّع وطّي..
هما تشكرانك على الفراولة والبرتقال
وأنا أشكرك على علبة البيتر صودا المرّة..
واصلنا النظر من خلال زجاج المقهى.. نوافذ المسرح العليا مقضـّـبة.. وصوت الغيطة المغنـّـاة في المسرحية يتـناهى إلينا شجياً شعبياً:
يا غزالة خطّي خطّي
وعا لسبّورة خطّي خطّي
عمري عدّا شيّع وطّي
***
الأحلام في قاع عميق
الذكرى تنفخ روحها
تطل حينما تنام
وحينما نستيقظ تـنـثـقـب فـقاعة الذكرى
كهذا الحاضر
وذاك القادم
وتلك السنين
الأحلام في قاع عميق
غائصة حتى قمتها في التهاويم
من راكمها إلهي في هذا القعر؟!
من أقعدها على شفا الجرف ونفخها للحضيض؟!
أين تلاشت آهة قلبك؟
أنا أراك.. أسمعك.. أشمك.. أتذوّقك
ألمسُـك بأصابع ضمخها المسك وطرّاها الحنين
أنا حواس تسعى صوبك
روح تسبح تحت شمسك
ظلها يجعل الورد سعيداً
يرقص مع الريح
ويضئ مع الظلام
أحلام الغزالة تجري في مضمار الروح.. نقطة دم سكـنـتـني منذ الأزل.. في داخلي مقبص مسك هو أنتِ.. في داخلي عبقة عطر وابتسامة حظ هما أنتِ.. في داخلي أنتِ.. في خارجي أنتِ.. أنت.. أستبقيك.. أسقيك.. أحلم بك.. وأغنـّـي لك..
الأحلام دون عطرك جواثيم ثقيلة.. خيالات تتهاوي وتذوب في غبار مثلوج.. الغزالة سكنتني.. عيناها الضاجتان بالجمال دمعي.. لهاثها المفروز في الملذات عرقي.. الموت صياد.. السكين صيّاد.. الرصاص صيّاد.. ضيق النفس صيّاد.. الجمال يقتله المعربدون والبدو والأعراب.. يأسرونه ويعرضونه فـُـرجة في أقفاص.. الغزال في حديقة الحيوان حزين.. منزوٍ في زاوية حادة.. عازف عن لوك العشب وازدراد الخبيز.. نـتفرج عليه صغاراً.. نشاكسه ليركض.. نوخزه بمهماز رفيع.. يحتمل الألم ولا يركض.. يبتعد إلى ظلام ولا يركض.. أنا الفنان عبد الجليل عبد القادر صغيراً.. أزور حديقة الحيوان أو سجن الحيوان.. أقف ساعات أتأمل الغزال.. أغني له مواويل الصمت.. يرمقـني ملياً.. يحكك بطنه بحافره.. يهزهز رأسه ويدس خيال ذيله بين إليتيه.. يتحرك أمامي ببطء.. يتمشى وئيداً.. يحجل وئيداً.. أخاله يرقص لي (باليه) الحيوانات.. يحفزني.. يستـفـزني.. يزرع في حنجرتي مبذورة حزن.. حبال العبرات تخنقـني.. تنقش في صوتي بحّه أستعذبها وتستعذبها الآذان.. يلهمني فأغني وأهرب من بريق المعجبات باحثاً عن إنسان غزالة عيناها واسعتان عميقـتان.. ينبعث من دواخلهما المعنى وينهمرُ من بصيرتهما بلل الشموع.. لا أجدها ولو وجدتها لما صرت فناناً. أغني ناشداً جنة الصوت ذات الجدار المثقوب المصدِّر ترانيمي إلى جدران صمّاء أفجّـرها زهوراً وأمواهاً ورعشات لا تجعلنا جنابة.
الآن الغزالة تمر أمامي.. بُغيتها سلوق.. أشير لها بيدي المشلولة.. يدي التي لم تطلق عليها الرصاص أو تنصب لها الشراك أو تقذفها بالحصى أو الوشاية.. يدي الداقة قضبان قفصها دقات نغيمة تبعث الأمل في نفسها وتبشرها ببزوغ أزمان الخلاص وتحلل الفولاذ.
ماتت الغزالة ذات يوم وقـُـدّم لحمها الطري قرباناً لملك الغابة بينما روحها ظلت تحوم في ميدان الشجرة.. تحوم وتحوم.. لتحط أخيراً وتنتقش على جدار المقهى المسمى باسمها.. تغادره كل يوم.. ترحل جنوباً إلى سلوق.. تصل ضريح شيخ الشهداء عمر المختار.. تتعفر بالتراب في ذات المكان الذي شنق فيه البطل.. ثم تعود حزينة باكية إلى ألم المكان..
هي تتأملني الآن
زمان كنت أتأملها في القفص
الآن دار الزمان لتتأملني كسيحاً على كرسي مقعدين.. مهملاً على الرصيف.. كأي حجر أو علبة صدئة.. هيه يا زمن كم أنت أرعن! لكن.. هكذا هي الحياة.. هكذا سنتها..
التاريخ يعيد نفسه والنفس تعيد التاريخ والخالون من النفوس لايعيدون ويعادون.. أنا غنيت للغزالة كثيراً.. ليتها تلتفت الآن.. ليتها تقف وتغني لي.. أحتاج إلى جرعة من غناء الغزالات.. لقد مللت نهيق الحمير ونعيق الغربان ونعيب البوم وهتاف السفلة المنافقين النافقين.. الشارع الذي أقف فيه الآن شارع جمال عبد الناصر.. للأسف الشديد هو مسفلت بالقطران ولكني استمعت إلى نقيق الضفادع.. أيتها الغزالة احمليني إلى غدير جنبه نخيل.. بطنه حناء.. ظهره عشب نجيل أتقلّـب عليه.. الأسمنت غزانا الآن والاخضرار اغتاله الرماد.. مصنع الأسمنت ينفث الدمار والدخان.. والغدران التي أراها أمامي وأحياناً خلفي أو تحيطني هي بالوعات أفاضها مجتمع الاستهلاك والهلاك.. أنا غنيت للغزالة كثيراً.. ليتها تقف الآن وتغني لي.. الأوباش لا يقفون.. يمرون في مركباتهم وعلى أرجلهم ولا يقفون.. ولا حتى يحيّون أو يسلمون بتحية الإسلام السلام عليكم.. صرت غريباً والله.. أنا الصدّاح بالنشيد الليبي الأصيل.. الأغاني تعيش في الوجدان.. والحنجرة التي اهتـزت إبداعاً لها للأسف تنسى.. ما وقف لي سوى بعض الأصدقاء.. مريم.. محمد.. سميرة.. وثلة بسطاء من أحياء المحيشي والكيش والصابري وشعبيات السرتي والمرسيدس والكعب العالي والزيتون.
الدنيا يا مريم بالوجوه والآخرة يا غزالة بالأعمال.. والمتحزم بالأيام وحتى بالعصور عريان.. وما يغرّك كبر عرجون بالصيص وفيه المرارة.. وآه.. آه كم هو الزمن مُـر.. أمر من مشروب دلاع الحنظل.. مريم ومحمد دفعا بي الكرسي حتى منطقة الرويسات.. أعاشوني ذكرياتي الحية في زمن يجحدني.. تزودت من تراب طفولتي بزيت أصيل.. طرَى يباس المشاعر البلاستيكية.. تزودت من هناك بنفحة أمل أمدتني بسبب فطري للحياة.. وأنتِ أيتها الغزالة مررتِ بي الآن.. غمزتِ لي ومضيتِ في دربك إلى هناك حيث شيخ الشهداء سيدي عمر المختار النائمة طهارة رفاته في سلوق.. مررت من أمام مستشفى الأطفال تبكين مع من غدر بهم الإيدز.. مررت بمستشفى المنفوسين وبالمقبرة الحديثة الكظيظة.. صفوف تعقبها صفوف.. قبور منتظمة متراصفة.. آخر محفورة جاهزة للقادمين.. غمزتِ لي ومضيتِ تبتسمين.. آه.. من ابتسامة الغزالة الشبيهة بابتسامة الجنين عندما يصكك في ظلمات الرحم.. منذ خرجنا يا حبيبتي عجزنا عن الصك.. والابتسام نمارسه سراً وفي الظلام.. لوّحت لك برأسي فغمزتِ لي وما فهمت غمزتك كما ارتسمت على براح البصر.. فهمتها بطريقتي.. وكما ارتأت لي.. همستِ لي أن أصبر.. أن أتغاضى..(أن ما نعدلش) (أن نبرى شنكة!!)
(أن نعمل نيسة) قالت لي:
أنت يا عبد الجليل في داخلي تركض.. وأطرافك النائمة هي التي أركض بها الآن.. انتظرت عودتك من هناك.. غربت الشمس وتوارت النجوم.. هدأت الريح.. انطفأت البروق.. صمت الرعد.. البحر مات وأمواجه انتحرت على نتوءات الصخور..
الزيت في طنجرة أمي قتلته النار.. أنا بصلة تبكي يا غزالة الروح.. والقدر سكين شرّحني إلى حتحتات.. أنزف دمي الشفاف النفاذ.. أنا على شفير الآن.. أمي أينك.. مريم أينك.. محمد أينك.. غزالتي أينك الآن.. أنوف الأوباش تشتاق لاحتراق رائحتي.. لن أقفز.. لن أتهاوى.. لن أنحني وسأنغرس سنبلة في ترائب الوجدان.. ولتتجلىَ ولتتعالَ ورودنا إلى أعلى.. أعلى.. ولنغنِ يا أحباء الموّال الذي موّلت به الغزالة الأم لصديقها الهدهد الرابض على قضبان قفصنا:
يا طير لو نشاكيك بما صار لي وما جرالي..
عامين ما تنبّت الريش وعامين في الجو جالي..
وتقول مريم: وهل عامان تكفي يا مودي؟
سأرضع رحيقك طوال الزمن
لن أنفطم عن عشق يتشربني
عيناي تحبانك
وإن عميت
فأحلامك حتماً ستـضيـئـني ..
***
عادت الغزالة من سلوق.. سألتها كيف حالك وما الأخبار؟!
قالت: المطرب عبد الجليل عبد القادر مريض.. أراه كل يوم قابعاً على مقعده المتحرك أمام عمارات الاستثمار بشارع جمال عبد الناصر.. يتأمل السيارات المارة ويتملّى في وجوه الناس ببصر الصمت وعتاب الود.
في سلوق أهرش هموم جلدي العسلي على رفات الشيخ عمر المختار.. أسامره قليلاً ثم أعود.
اليوم أنشدت له قصيدة النخلة للشاعرة الكبيرة الحاجة مبروكة مصطفى عريش.. انبسط منها شيخ الشهداء كثيراً.. ولا أعرف كيف وجدتُ بجانبي ناقة بيضاء فاخرية ضرعها السخي يكرم فمي فأمتص لبناً لذيذاً دافئاً يطفئ حلاوة ما لـُكت من تمر.. ناقة ترضعني وكأن أمي ما اصطادها الطغاة بعد..
محمد سأقرأ لك قصيدة النخلة التي أطعمتني ذات تيه:
نبدأ بحمد الله.. خلق الإنسان وعالم ضميره
ونصلي على المختار.. في كل صبح وظهيره
ونوصيك يا صاحب العقل.. خليك واعي البصيره
دير بالك من النخلة.. غانية العيلة الفقيرة
اللي من تمرها أدير حمل.. ومن سعفها ظفيره
ومن ليفها نفـتلوا حبل.. ومن لا قبيها مجيره
ومن كرنافها نطووا بير.. يطلع اميه غزيرة
ومن جريدها جيراط وخس.. فيه انقيل بالظهيره
ولو ريت حتى خشبها.. منه فوائد كثيره
منه سقف للبيت.. ومنه بيبان خيره
ومنه الفلاح مبسوط.. مقام لجياده ايديره
وكل خشبه لها دور.. مهما كانت صغيره
انهاجيك ياعمة الكل.. يا نابتة في السريره
يكفيك ياهايفة الظل.. وصية نبينا الشهيره
قال اكرموا عمتكم النخلة.. قول نابع من ضميره
ونختم بالصلاة على الزين.. شفيعنا يوم نقعدوا في حيره
قصيدة مؤثرة يا غزالة.. أخال أن هذه الحاجة مثقفة ومتحصلة على درجة الدكتوراة.. لكن الحقيقة أنها أميّة لا تقرأ أو تكتب.. قرأت الحياة وعاركتها.. تربت على القيم وعاشت من أجلها.. قصيدة زاخرة بالخير والظل والماء والشفافية والصحة والإيمان.. نابعة من قلب يعيش أرقى حالات اليقين.. أيتها الغزالة.. أنا حزين الآن.. لقد تركت مريم وأتيتك.. أحبك أنتِ.. أحب أن أرافقك في حياتك هذه.. أن أهجع بجانبك نقشاً أبدياً على الجدار.. لقد مللت هذه الحياة.. ما عدت أطيق وجوه البشر الكالحة النافقة من النفاق.. لم ترد الغزالة.. العامل الإفريقي يرش الجدار بالماء المصوبن ويكشطه بعنف بمطاطة حمراء مثبتة في عصا طويلة تصل حتى أقصى السقف.
خمس دقائق ويرتفع آذان الفجر
الفجر أصيل الليل
المغرب شروقه
وقيلولته بعد منتصفه بقليل
الجو بارد
والسماء هواءها عليل
قمرها منير
مطرها غزير
وليلها طويل.. طويل.. أطول من عمر من دون عشاء..
آه من الليل.. الليل ظلام.. ظلام شفيف.. الليل دوام عاشنا ويعيشنا.. وليلنا يا مريم لم نجرّب ديمومته.. حدسنا المتقطع لا يُفلسف..
حدسنا دافئ جداً.. في أتونه يذوب الفهم
وعلى حرارته تنضج الفراشات أحلامها
لا أدري من منا الفراشة ومن منا اللهب؟!
نحن فراشة واحدة
جناحاها نحن
لهبها نحن
نورها نحن
هل مِـنا منْ جرّب دفء الفراشات؟!
أحيانا يحرق الإنسان نفسه..
أحياناً يبتعد بها ويحرق إنسانيته..
والرائع انه لا غنى لنا عن النار حتى في الجنة.. سأشعل سيجارة أخرى.
ساعة واحدة وتشرق الشمس وتخرج الناس من بيوتها.. منهم من يظل نائماً حتى الضحى ومنهم من هو كحالنا يخرج باكراً.. باكراً جداً.. جداً.. جــــداً كثيراً..
أخرج من فقاعتي.. أركب حافلة من حي المحيشي حتى ميدان الفندق البلدي.. ومن الفندق البلدي أخذها (كعابي) ماشياً حتى شارع عبدالمنعم رياض.. أتوقف زمناً في ميدان الشجرة ثم أمضي.. خطواتي الأمامية تمحو ما تراه العين وتخرس ما يلج الأذن من مصاخب.. خطواتي تدوس الأرض مرغمة.. تمحو خطوات سبقتـني.. وخطوات قادمة خلفي تمحو خطواتي.. محو.. محو.. محو.. التراب سبّورة نخربشها بأقدامنا.. نوشمها بقدرنا.. البذور تطل خضراء.. ونحن إذ نندفن يندثر طليلنا.. ربما أرواحنا تـُحلق فوق الأرض.. ولا تتماس معها إطلاقاً.. التراب يجرح الروح.. والمشاعر الحافية تخدشها جوارب النفاق..
عندما أسكــفـتْ لي مريم حذائي قلت لها:
أين الجورب؟ فـلبستـني.
***
أجلس في مقهى عين الغزالة.. أمامي الباب مفتوح.. يخرج منه دخان السجائر.. يدخل عبره نسيم الليل.. السيارات تمر بطيئة.. بعيد أمتار نقطة مرور ميدان الشجرة.. أشجار قزمة أراها بعد الطريق.. خلفها نخلات دقيقة الجذوع.. خلفها المسرح الشعبي.. يمين المسرح حديقة.. وراءها مستشفى 7 أكتوبر.. الزمن كما الأسماء يتغير.. كما الأسماء يموت.. يُغسل.. يُكفن.. الزمن نسمة تتحرك لها جنتها ونارها.. ظهرنا المعوج صراطه.. وضلعنا الأعوج هاويته الغائرة.. آه ما أقل رعشاتنا وما أكثر ركضنا في مضمار المستحيل.. ليت المستحيل يركض فينا قليلاً ليتذوق حلاوة ما ذاقها أبداً .
أحاول تـقـطيف عنب المستحيل.. أعصره خمراً في جرار مُمْكني.. مُمْكني نسمة تعض التروس.. بسمة لا أسنان لها.. بيد أن شفتيها حادتان.. ولسانها ضمادة دهشة طاهرة.. عنب المستحيل دالية زاحفة.. ندوسها بأرجلنا فتشرب الأرض أنخابها وتتفجر بذورها.. وتـُـلبس أصابعنا جوارب العطر فتفرح أظافرنا براحتها الناعمة.
الشفتان حادتان
اللسان ضمادة معنى
الابتسامة لا أسنان لها
الأظافر تلبس جوارب العطر
قلمي خرباش على جدران مقهى عين الغزالة.. هذا المقهى المتحف.. في الماضي كان محلاً لبيع التحف واللوحات التشكيلية وآنية الكريستال.. صاحبه يوناني.. ربما كان الآن رفاتاً أو عجوزاً هرماً يحتسي النبيذ.. لا أرى وجهه.. أنفاسه تصلني.. تتشكل إلهاماتي بحياة تستكتبني.. أستكتب أعصابها فتبوح لي:
في مقهى عين الغزالة قهوة وسجائر
وحفنة أصدقاء
يغادرون تباعاً
وتلفاز سجين في رف
احتكره الدوري الإيطالي وقناة الجزيرة
وحروفية لمريم معلقة إلى الجدار
الغبار يكسوها
وعامل النظافة لا يمسحها إلا كل حولين
هي حزينة
خاصة عندما يشطفون البلاط آخر الليل
ويقولون لنا: معلش شطبنا..!
السيارات تمر أمامي.. وسعف نخيل الزينة يعلن عن ذاته بالحفيف.. المسرح الشعبي يعرض مسرحية شيّع وطّي.. بينما سيارة إسعاف تعوي أمام مستشفى بردوشمو.. 7 أكتوبر..7 التمور.. الخفير يصلي العشاء ومفتاح الباب مربوط في تكة سرواله. هو الآن انتهى من شعيرة التشهد وبدأ في أوراد طويلة يتوسل بها عزرائيل الإبطاء والله عز وجل الرزق والمغفرة.. العاشرة مساء الآن.. والشارع أمامي اسمه جمال عبد الناصر وزفّة عرس تمر.. سيارة العروس تتموضع على مقدمتها باقة ورد محاطة بالبالونات الملونة.. أمامها رتل دراجات نارية.. إحداها يركبها راكب من خلاف أي ظهره لقائد النارية ووجهه لموكب العرس..
يصور الزفة بكاميرا فيديو.. العروس محصورة بين عجوزين عطرتين ترتديان الكساء الليبي وتزغردان.. خال العروس السمين يبرم شنبه بيسراه ويمناه تقبض على بندقية صيد (خرطوش) أخمصها بارز من النافذة.. مرسيدس الزفة موُجرة من معرض سيارات بمعيّة سائقها الغاني..
في صباح اليوم وصلت المنتدى الإذاعي بشارع عبد المنعم رياض مشياً على الأوهام.. لم أتوقف كالبارحة في مقهى عين الغزالة وواصلت إلى المنتدى الإذاعي.. جلست جنب مريم لاهثاً عرقاً..
مريم في يدها منديل مسحت به أنفها ثم جبيني. لا أدري كيف صارت جبهتي فمي ولا يدها أنفي.. انتقلت لي انفلونزا العجيلات.. والآن أرشح بشدة.. ومنديلها الصباحي اهترأ ودفنته رياح التفتت في قبور الذكرى.. نسيم الليل ينعشني ويعطسني.. ومريم الآن في غرفتها غارقة في صلواتها وأوراقها وأحلامها.. والعالم ينزلق إلى وجهته التائهة على عجلات متخلخلة مفشوشة.
آه من ينفخ بالونة التراب هذه ويريحنا..
أكتب أشياء أحبها.. أعيشها صباحاً فتنعش حبر المساء.. أعيش عطسات بين السطور وسعالاً ليس ديكياً.. وقهقهات أتوق لها إذ تكون يد قلبها في يدي.. أيدينا المتشابكة متوحدة البصمات.. آخر رتل من موكب العرس مر.. المكان هدأ قليلاً.. وبدأ واضحاً حفيف الشجر والنخل.. وبوّابة المستشفى فتحت بابها الفولاذي وانزوى الخفير في ركن قصي يعيد ربط المفتاح في تكته بإحكام.. بدا منشرحاً راضياً فقد أتم صلاة الشفع والوتر ودعا غايته طالباً ما أراد.. المريض أدخل غرفة العناية الفائقة.. وغادرت سيارة الإسعاف المستشفى.. توقفت أمام مقهى عين الغزالة.. نزل منها السائق وطلب مكياطة خارجية.. أي قهوة بالحليب في كوب ورق.. كوب الورق يختلف عن الفنجان.. الفنجان يُقرأ بينما كوب الورق يُرمى من النافذة.. أعد له النادل أحمد التونسي المكياطة وسأله: رأيتك صباحاً تمر من هنا مسرعاً تزربز (تتملص) بسيارتك بين السيارات وتعوي بصخب..
ما الحالة التي كنت تسعفها؟!
أجابه السائق: لا توجد في السيارة أي حالة.. فقط كان معي إفطار الممرضات خفته أن يبرد..!
الرشح يأتي بالكلمات الراشحة والسطور المريض حبرها والمعاني التي سئمت أروقة الجدية.. فداعبت حلمات الهزل لتـنجو..
الرشح يأتي بالعطسات المبهجة
وبالدميعات المتسربة من قضبان الرموش
الرشح جميل.. حرارة وبرودة ممتزجتان في كأس
موسيقى.. اتشي.. اتشششي.. اتششششششششي...
وبين كل سطر وآخر تكمن عطسة..
رذاذ دخيل تسلل إلى نقائي
أمسح بقاياه ببقايا مناديلي
وأرمي البقايا في نيران ذاكرتي
هذا الرشيح يجعلني أتأوه
أتألم بلذة تكتسي جُل جسدي
روحي تتأمل
جسدي يتأمل
قلبي يتأمل ويضحك.... هههههههههههه
وعقلي يخبش جدار مُخي
فيسيح أنفي راشحاً برذاذ يعذبني
رذاذات أخرى تحاول أن تدخلني
لماذا يا رب جعلتـني بوابة..؟!
جعلتني باباً لا أملك مفتاحه..
أريد أن أتحوّل إلى قفل مفتاحه في تكتي
ولو إلى حين يا رب
أوراقي بعاثر.. أقلامي خواثر.. دموعي ذوارف.. وأنفي يرشح.. وبين كل سطر و سطر أعطس.. وأعطس.. ثم أكح .
آه يا قلمي.. يا من تنقش حقيقة حبري بدخان يصاعد.. آه سأكسرك.. سأنقذ أصابعي من وحل خربشاتك و أنزرع فتيلة دفء بين سطور الليل، وإذ تبعثرني عطستك المضيئة.. أكون منديلها الذي يتمزق..
الحمى والرشح والحب شيء واحد.. شيء يجعلني أكتب.. أخربش ندمي على أوراق أمزقها بمقص أعمى.. أعتذر منه ولا أتلقى رده..
مريم بجانبي.. تلوك علكتها.. تخرج من حقيبتها بالونة حمراء تـنفخها.. تترك الهواء يخرج من الفرجة الضيقة.. خروجه يحدث نزفاً أسمعه.. نزف زغاريد هوائية.. تنفخ مجدداً وتناول فمي علكتها التي ذهب سُكرها.. أمضغ وأتأمل التلفاز النازف.. تتركني إلى طاولة أخرى تجلس مع أصدقاء.. أغار جداً وأنهمك في كتابتي غائباً في ظلام رخو.. أخاطب شاعراً أحبه.. آسف العلكة في عيوني.. لا أبصرك يا رهين المحبسين.. لقد جنيت ولك سُعدت لأنك ضحيت.. آه لو كانت مريم معي لكتبت حروفاً وأنجبت هموماً ومضيت.. فلا تقتلني بنظرك اللا أعمى.. عكازك ينبش الطين.. مدببٌ عكازك اللعين.. اعتـقـني لهشاشتي.. أذني ترى.. فمي يرى.. عيني ترى.. أفكر بلهاثي وضحكاتي إلى الداخل وآهاتي عُــرى..
استحممت كثيراً بوحل الصدأ فلم يشعر الصدأ بأي غربة تذكر.. لا أدري لماذا ما شبعت؟!
عيناي والتراب توأمان ..
كنت أبحث عن جوع جديد وعن ظمأ أجد..
شربت كؤوس الارتواء فما ارتويت..
أريد ولا أريد.. قلق خفي يتنازع راحتي
هدوئي يصارع صخبي..
كل شي رتيب
الموت والحياة.. الجنة والنار.. رحمة الرتابة.. جحيم المألوف..
أنا أين؟
مورينتي أين؟!
إلى متى شهيق وزفير يتناطحان؟
شكلي هو شكلي..
أنا هو أنا..
قلبي يدق سبعيناً وقد يزيد
دمي في مضمار العروق ولا تجديد
سئمت.. سئمتُ.. وذروة الإحساس تستزيد
مريم في نبضي وسميرة لا ترحل من الوريد..
كيف سأنهي بداياتي؟
وكيف سأبدأ من جديد؟
وكيف سأولد يا إلهي وأنت خلقتـني فقاعة
لا فم لها.. ورياحك القريبة.. أعنف من البعيد؟!
وتعود مريم إلى طاولتي.. تطفئ غيرتي بنداوة ابتسامتها. ترفض غيرتي أن تـنطفئ.. أصفعها وتصفعني.. تتناثر المياه الباكية.. تكفكف بكمي.. أكفكف بمنديلها مسبب الانفلونزا.. أنكس رأسي معتذراً.. تنكس رأسها معتذرة فتلحظ حذائي الجديد.. تلوثه بقاع حذائها ثم تهمس في أذني:
جوربي كقلبي أغسله كل يوم
بينما حذائي لا أنظفه من وحل الشتاء ومن غبار الخريف..
السبب هو قدمي
ترفض ركل الترهات بحذاء نظيف..
***
في صباح تـُـرّهي عمَّ الصمت المنتدى فجأة.. الكل بصره إلى المدخل.. مدير الراديو والتلفزيون وصل.. خلفه أبي إصبع والزرزور.. هما من الصحفيين العوّالة الذين لهم باع طويل في التطبيل والهدهدة والطرطرة.. لم نهتم للصمت الذي عم.. ولم نلتفت لنرى القادم الجديد.. كنا نستمتع بمشاهدة مباراة ليبيا ومصر، نتابعها بتوتر وحماس ككل الليبيين البسطاء الطيبين.. عدسة المصوّر مسلطة على الجماهير حيث ظهرت مريم تعتلي كتف أبيها وتهتف: ليبيا ليبيا ليبيا ليبيا.. ومع كل هجمة لفريقنا تقفز من كتف أبيها إلى أكتاف أخرى تردد معهم هتافاتهم وتعود..
في مدرجات الظل ثمة طفل آخر يلوّح براحته الغضة لمريم.. مريم تراه وتبادله التلويح.. الجماهير تهتف.. والأطفال يتقافزون ويركضون منصهرين في مخلوقات الهتيف.. مريم تركض إلى مدرجات الظل.. والطفل يركض إلى مدرجات الشمس.. خلف المرمى يلتقيان.. يصعدان الساعة الالكترونية الكبيرة ويهتفان.: ليبيــا.. ليبيا.. وعندما سجل الموهوب نادر كارة الهدف الأول ابتلعهما الهتاف.. وصدى الصراخ كاد أن يقتلعهما لولا حضن ليبيا الدافئ الذي ثبتهما في حبّة القلب وسُـرة الروح.. صارا الهدف المشع الذي يُرى في قلب الساعة.. هدف فرحة من فتى وفتاة.. هدف ينبض في روح الزمن.. وفي قدحة التاريخ.. طفلان متعانقان تحتضنهما أم.. يشعان في عمق اللحظة ويهتفان والجماهير بأعلى منهما ترد: ليبيا ليبيا ليبيا.. وليبيا تمنح الجميع الود وتبكي بدموع من مطر وتقول: لم أكن أعلم أن لي محبين أوفياء..
أكل هذه الجماهير تحبني؟!
والآخرون الذين أمام التلفازات في كل مكان من العالم.. والذين يحتفلون بي في الشوارع ويهتفون باسمي ويلوّحون بأعلامي يحبونني أيضاً.. لكن لماذا.. لماذا.. ليش.. علاش.. لواه؟.. ماذا قدمت لهم ليحبوني؟.. ماذا قدمت لكم يا أبنائي لينبثق منكم كل هذا الوفاء..؟ آه ما أجمل هذا الشعور.. ما أحلاه.. سأدعو لكم أن تنتصروا دائماً لأراكم وأسمعكم وأعيشكم.. أحبك أيتها الجماهير.. أنا ليبيا أمكم الحنون.. دائما ينتابني الغضب والحزن إذ أراكم تشجعون غيري.. في بطولة كأس العالم تشجعون البرازيل.. في كأس أفريقيا تشجعون المغرب.. في الدوري الإيطالي روما أو يوفنتوس.. في الإسباني برشلونة أو ريال مدريد.. في الإنجليزي مانشستريونايتد أو ارسنال.. أتألم من تشجيعكم غيري ويغلبني البكاء والنحيب وأقول أين أنا؟ أين أنا؟ أين ليبيا المبدعة الرشيقة الجميلة الرائعة الودود.. لابد أن نكون في هذا العالم.. نحن لا ينقصنا شيء.. الحب موجود.. الخير موجود.. والزيتون والرمان والنخيل.. وليبيا لم تأت من فراغ.. لم تدخل المجد من شارع فرعي.. لها تاريخ.. مستقبل.. لها وجود في قلب العالم.. هي سرة الكون وعروته.. ورمز شموخه وعزته.. إنكم تحبونني بغدق الغدق رغم أنني مقصرة في حقكم.. وماذا في يدي لأعطيكم؟ أنا مثلكم.. تنقصني أشياء كثيرة.. أكاد أجف.. لكن عرق هتافكم وماء صرخاتكم باسمي أغرقاني في الأمل.. أحبكم.. أحبكم.. فخذوني أنا لكم.
وتواصلت المباراة ومازال الطفلان متعانقين في قلب الساعة.. يبتسمان بود، وبكيا إذ سجلت مصر هدف التعادل.. وتركا الساعة ليمتزجا.. لينزرعا في تراب الجماهير.. يهتفان لحظة السكون والصمت واليأس بصوت جهوري طفولوي.. ليبيا.. ليبيا.. ليبيا وتنبعث جذوة الحماس.. وتضئ شرارات الثـقة ظلام التخبط والارتباك وتشب نار رد الاعتبار في أقدام لاعبينا المهرة لتصل الكرة للعبقري طارق التائب.. يمررها سهلة فاتنة للغزال الأسمر أحمد سعد الذي يودعها الشباك بحرفنة وثبات فتشتعل المدرجات وتخرج الناس إلي الشوارع.. والساعة الالكترونية تـنثر ورودها الليبية الفائحة على أعراس الزمن.. وأبو مريم الطيب يذوب وسط الجماهير ويجد ذاته يشدو بقصيدة يرتلها بلسان فائض بالفرح زاخر بالابتسامات والمراحب، وليبيا تردد خلفه ومعه وفيه:
ذهبت إلى المدينة الرياضية
لم أجد مكاناً لأجلس
فضاعت مريمي في وسط الزحام
بدأت أصرخ وأبحث عنها
وأتذكر أمها.. من دون جدوى.. من دون جدوى..
كانت الجماهير تزأر وتؤازر
وكانت الرايات الليبية تلبس الأفق
وفجأة لمحت مريم من بعيد
تصرخ وتصيح وتـقـفـز
ليس ألماً..
ليس آهاً..
إنما ليبيا.. ليبيا.. ليبيا.. ليبييييييا
وعندما سُجل هدف الفوز
عانقت مريم أباً آخر.. أخاً آخر.. جداً آخر....
رفرفت معهم
رقصت معهم
طارت معهم
كنت أناديها: تعالي.. تعالي..
وكانت ترد: لا تخف يا أبي
لن أضيع.. لن أضيع.. لن أضييييع..
***
في مقهى عين الغزالة أذاقـتـني أول طعامها.. شرائح بطاطس مزدانة بصلصة الطماطم والمايونز.. أردت أن ارشش عليها بعض ملح فلمحت دموعها تسيل إلى الداخل.. غرزت الشوكة في شريحة ناضجة وأطعمتـني ودها.. تخيلتها رسامة.. تمزج الحرف باللون بالخط.. تدهنني جدران بنغازي بحبر مالح.. يجلي ولا يلغي.. مريم فتاة ليبية.. بنغازية.. تاريخ ازديادها 1975م.. ليسانس مسرح.. أهلاوية.. منطلقة.. تعيش كما الريح.. هي مطري.. وطينتي.. هي مدينتي المتمردة على التعـصم.. إن صارت عاصمتي سأطير إلى قرية مهدها.. قرية عامرة بالنخيل والزيتون والبرتقال.. نقية طاهرة.. حمامها الفوار.. وليها الصالح سيدي بوعجيلة باتر النحس والتبيعة.. سأجدها هناك.. بذرة بكر.. تمتزج بنواة تمرة.. تستظل من قيظ الظهيرة في كهف زهرة رمان.. انشّ النحلة التي تريد امتصاصها.. أهدهدها في راحتي.. أريحها في ظل شجرة حـناء.. جانب غدير فائض من فحل سانية غزير.. اضعها جنب الضفادع اللطيفة تتعلم منهن زغاريد للأنبياء..
أكره العواصم والمركزية والقوة.. أحب الضعف الذي لا يهزم.. أحب الشجر الذي يحارب عتو الرياح بالرقص والانحناء.. أحبُّ بلدة العجيلات.. من ترابها انبثق نوري..لا أعرف كيف أحب هذه المريم.. لو عرفت لتحولت معرفتي إلى هرب.. أجلس بجانبها على الطاولة.. يفوح منها عطر شممته حين ولادتي.. عطر ممتزج بالصراخ.. من يقــّبل رضيعاً يشمه..
نسيم الحياة يبعثر شعرها.. يكتظ على كتفيها وصدرها.. وجهها صغير طفولي سكري.. عيناها زوبعة من جنون المشواش والفراعنة.. صديقها الجالس معنا منهمك في تصفح رواية ملحمة آل ماركس للإسباني جوينتو كونسولوا.. يقرأ كلمات ويضع خطاً سميكا تحت أخرى مثبتاً نظارته مهزهزاً رأسه الضخمة أمارة الفهم والاتفاق أو النفاق.. بعد أن أتممنا تناول صحن البطاطس المشترك حمدنا الله وشربنا القهوة من فنجانين.. قهوتها مُرة بالحليب وقهوتي مُرة بالزهر.. البطاطس جمعتـنا.. والقهوة فرقـتـنا إلى مذاقين.. رغم أن المرارة واحدة.. صديقها الجالس معنا يواصل استغراقه في قراءة ملحمة آل ماركس وتدوين مقتطف من فقراتها.. نرقبه برهة لئلا يحتاج شيئاً ثم نستغرق أعمق منه في ملحمتـنا الفائحة.. نتباسم.. نتلامس بأطراف أصابعنا.. نتكلم بصراحة أو قل الصراحة نفسها تتكلمنا.. نتحدث في مواضيع شتى.. حي المحيشي.. نادي أهلي بنغازي.. العجيلات.. الغجر.. الأدب.. الفن.. الرسم.. العالم.. النهار الأسود.. كل شيء.. كل شيء.
الشيء هو الحرية والحرية ضائعة إن تشيأت.. قلت لها.. قالت لي.. قلنا لبعضنا ولكم أشياء لا نعرفها.. خرجت هكذا.. ولدت عبر لحظة فجاءة.. عبر بسمة لهفة أو خاطر حنين.. أشياء لا توصف.. لا تكتب.. لا تتخيل.. قشعريرات وجدانية تصيبنا بدفء حارق في عز الشتاء..
قلت لها بلغة الصمت والخجل وقالت لي بلغة الصراحة والصخب.. مزجنا الصمت في الصخب والخجل في الصراحة فولد حـبـنــا.
سألتني ما رأيك في ماركس؟ قلت لها أحب روسيا وأدبها وفنها ورقصها على الجليد وشطرنجها وفودكتها وطبعا بناتها، وهربت فوراً من صفعتها.
***
لا أرغب في الاستمرار.. هذا الحب لا يروق لي.. ثلاثة أشهر ولم نلعب شيّع وطّي.. لاشيء بيننا سوى كلمات.. ضحكات.. ابتسامات.. لمسات وهمية.. الحب الصوفي في شريعتي ملعون.. لا أحب الصوف حتى في عز الشتاء.. الصوف يجعلني أحط جلدي.. يدفئني بمقابل.. سأتركك قبل أن تتركني الحياة.. سأهرب هروب الظل من الشمس.. أصابعي تعاتبني وشفتاي تلعنان جذور ملتي بينما ذاك الشيء يصفني بالبغل ويتوعدني بسبات نوم طويل .
سأتركك مرغماً وليس راغباً.. منساقاً ببراءة لفطرتي الإنسانية.. لا أقتنع بالمثل العليا والأقوال المأثورة.. أقتنع برغبته فقط.. جسدي للغير وقلبي لك وحدك.. ما ينفع قلب من دون جسد.. أريد حباً كاملاً.. شرمولة كاملة لا ينقص فيها شيء.. قلب.. جسد.. روح.. أنتِ لم تمنحي ذاتي سوى كلمات.. الكلمات تضحك وتسخر مني.. تكدس أمام مخيلتي أقراطاً من أدوات الاستفهام.. مريم عدّي نــيـ..... خلاص.. مع السلامة.. لن أستمر.. سأتوقف الآن.. أنهي الأمر معك حالاً.. لا يمكنني الانتظار حتى تنضجي على نار هادئة.. النار حارقة هادئة أو ثائرة.. سأتدارك أمري مبكراً وأتوقف عن هذا العبث.. خسارة قريبة ولا مكسب بعيد.. سأخسر كلماتك وابتساماتك ومرحك وسأربح هروبي المترنح منك.. الهروب جميل طري.. يجعلنا أحراراً.. يمكـّـننا من بدء صفحة جديدة.. لن آتي لهذا المنتدى اللعين.. ولا مقهى عين الغزالة.. آه الغزالة مسكينة.. ستبكي لفراقنا.. وربما تفرح.. أنا فرحان الآن.. سأضاجع الغزالة في العراء.. سأراودها.. سأنصب شباك حبي في طريقها.. كل يوم ترحل إلى بلدة سلوق عبر شارع جمال عبد الناصر وتعود وحيدة باكية من دون غزال.. ربما أكون أنا غزالها.. ربما أكون حيواناً في صورة إنسان أو العكس.. آه من عينيها الدامعتين.. أجمل من شفتيك يا مريم.. وخداها أنضر من خديك الشاحبين.
لو لحستُ خديك لذهب الشحوب.. لكن حتى الآن لم يحدث شيء ولساني لا يطيق الانتظار في هكذا أمور.. سألحس الغزالة فور عودتها اليوم.. ألحس كامل جسدها.. هي عارية.. بطنها بيضاء.. باقي جلدها عسلي اللون وعلى جبينها شامة سوداء تفوح بالمسك.
لن آتي للمنتدى الإذاعي يا مريم مرة أخرى.. أخاف سحر طيبات القلب.. لا أحبُّ خطط التدارك التي تجيدها الفتيات.. خلاص قررت.. حتى شارع عبدالمنعم رياض لن أطأه كي أفطر في مطعم سي عبدالغفار.. ولا شارع جمال عبد الناصر وعمرو بن العاص أيضاً.. أنا أكفر بالحب الناشف.. سأختفي من أمامك قدر الإمكان.. لن أجعلك ترينني.. وإن رأيتك سألبد في أول زقاق ضيق.. أخاف منك ِ حتى في الفراق.. في اللقاء أجلس صامتاً.. لا أدري لماذا؟!.. وفي الفراق أخاف أن ألتقيك.. وفي الأحلام ووه ه ه أرتعش من صدق وهجك.. ما هذا يا مريم؟! أحبك كل هذه المدّة ولا شيء يصلني منك.. لا قـُـبلة.. ولا قرصة.. ولا اختلاء على بساط وثير أو حتى على ماكاوة باردة.. حب ناشف فقط.. اللعنة عليك وعليَّ أيضاً.. لماذا تركت مشاعري تتورط في علاقة كهذه.. علاقة ألم.. تفرّج على البضاعة وممنوع اللمس.. علاقة ستقودني إلى الأخوة والصداقة.. إلى الكذب على رغباتي.. علاقة ريموت كونترول.. حب عن بعد.. بص بعينيك وصلي على النبي.. تفرّج وتخيّل.. لقد مللت الخيال.. أريد أن أتذوّق.. أشم.. ألمس.. أنفخ بالونات.. أضاجع.. أعيش من لحظات الارتعاش والدفء والانفجار اللذيذ ما طاب لي.. الحب الناشف قتلني.. نشف مشاعري من غناء الماء ورقصات الترائب.. سأهرب منك إلى حيث أغرق.. إلى حيث بغيتي في الضجيع.. عفواً مريم.. ما يحدث معي الآن ليس خيانة أو نكوصاً.. هو حقيقة.. شعور أصيل.. أحب ذراعيك الفتيتين ونهديك المحصورين في منهاد ضيق.. أعذريني حبيبتي.. سأتركك الآن.. ما نقدرش انتحمل.. الغزالة ترفسني.. وكل العالم أشعر أنه يحتقرني.. كيف تبقى هكذا؟ لا أستطيع.. عاجز عن أن أستمر معك بذكر أعمي أو كبت عنيف..
***
كل العالم لن أستبدله بارتعاشة واحدة من ذقنك.. فما بال رمقة من عينيك.. أيتها الأم الحنون.. التي رأيت الدفء في لبنها فذاب جليد الروح ونبتت الأزهار في نفسي.. إلهي.. نفسي مزهرة.. من أزهرها؟! دقات قلبي بذور روتها سواقي دموعك.. أنا المسؤول عن مزيق ذريفك.. أنا طراوتك التي خصّك بها الزمان.. ماذا لو كنتِ كائناً من جفاف.. ماذا لو كنت جليد مشاعر مخبول.. وهراء معنى سخيف.. كيف ستكون الحياة ستتكسرين هشيماً ذاوياً مع أول هبّة ريح.. لكنك الآن طرية.. أعصابك تنضح بطراوة التوتر والانفعال.. أنتِ إنسان حي.. يمنح أزهارنا ندى لا يذبل.. أنتِ ها هنا.. في كمثرة القلب.. في الركن القصي.. الجنة الخالصة.. أو جنة الجنان.. أو جنة المكان.. فالجنة عندما تحاسب وتصرّط قد تتهاوى إلى النار وقد تعبر إلينا.. هنا.. في قلبنا الذي اعتقد أنه واحد وإنْ تعدد الدق.. هنا.. وهناك.. أيتها الأم الحنون التي رأيت الدفء في لبنها فذاب جليد الروح ونبتت الأزهار في نفسي.. لن أستبدل العالم كله بارتعاشة واحدة من ذقنك.. فما بالك بدمعة من مقلتيك.. ارتعاشة ذقنك أنا أعصابها.. تركلني مشاعر أعماقك فلا ارتعش في كل وجهك.. ذقنك فقط.. ذقنك وياللا!.. أغار من الفضاء أن يلحظ كل هذا الجمال.. أمواج لحم تنثني في لمحة عين.. تتماوج كتجاعيد ترفض التكرّس.. تتجعد قليلاً ثم تنطلق في بهاء ناعم دبق.. كإبنتك مهجة حين تتمطى داخل رحمك.. حين تكمشك بأصابع غضاضتها فتصرخين فرحاً: محمد تعال شوف.. لحمي يغـني.. يرقص.. يقرظ شعر الوحم ويقصد نثر الأمومة.
أضع راحتي على بطنك.. ترتخي البُنيّة وببطء تـتـنوّى إلى الداخل.. لا أعرف إلى أي اتجاه.. حبيبتي.. يا سُرّة رفضت أن تنقطع.. مسكين النسيان.. لقد تمزق.. مزقته الذاكرة أشلاء.. برادته التهمها حنين مضيء.. ذقنك.. آه ذقنك.. آه من ذقنك الذي قتلني.. المرتعش هكذا دون إذن.. سأعضّه إن لم يكف.. لماذا هو هكذا يرتعش بنسق.. كبرق برق فجأة.. بل كالفجاءة ذاتها.. هذه الارتعاشة هي آلهة الفجاءة.. لا أدري كم ارتعشتِ في غيابي.. كم ارتعشتِ ألماً وحزناً وفرحاً.. ارتعاشتك صارت تاريخاً على تباريح جسدي.. قلمي لن ينساها.. وفي البرد إذ أسناني تصطك أتذكرك.. وأتذكرك ذاكرتي.. وأتذكر ذاك الدفء المرتعش تحت شفتك السفلى.. ونحن جالسان في الحديقة.. وأنا أرمي الأقلام في البحيرة.. أقلامي الآن طاهرة كأنت ِ.. توضأت في ماء رؤيتك.. وسجدت على بياض ورقك.. وكتبنا ببصمات جبينها.. ونقشت ارتعاشتك على أثير مسكين مر صدفة.. يحتاج إلى بسمة حظ تقرأه ومعجزة يقين تغيّر مفاهيم الوجود الذي غيبنا .
أنا الآن في بنغازي.. أنا الآن أغني:
وكانت المدينة نائمة
وكانت السماء صافية
وكانت يا مورينتي المؤامرة
وكانت المدينة في الصباح
بركة دماء
وكانت السماء في الصباح
مثلك باكية
وكانت الحروف ترتعش في ذقنك
وتسجّل ما ترى للعيون القادمة.
بنغازي هذا المساء حزينة.. أنا أفتقدك وأبكي.. مريم لم تنفع معي.. لن ينفعني غيرك.. أنا عارف روحي اكويس.. أنت دوائي الذي يجعلني أصلّي.. أنت جـنـتي.. أقبل المواعظ منك فقط.. أهضم التقريرية والمباشرة منك فقط.. يا ثقـتي.. يا صدقي.. يا رساخـتي.. يا نقائي.. يا عيوناً تراني.. يا عصباً يحسّني.. يا مشروع أنثاي المفضلة الوحيدة.. أنا أبكي.. والمطر غزير.. والسماء وجهي.. بروقها عيناي.. رعودها انفجار عبراتي.. أنا أبكي وبنغازي حزينة بلا بكاء.. فقط تذرف الملح.. الملح حزين.. قروح الإنسانية تؤلمه جداً.. غير أن الريح تنفخ وتنفخ وتريحه وتريحها وتريحنا نحن أيضاً..
وأنا طفل يا سميرتي، كلما جُرحت أو كُدمت أبكي وأنفخ المكان فيخف الألم.. يخف ويخف.. ثم يتلاشى.. الريح تنفخ الآلام.. البرق يضيئها.. الرعد يغني لها.. المطر يغسلها.. وعند الفجر تبزغ الشمس فتظلم الآلام.. والدم يعود إلى مضامير العروق.. ارتعاشة ذقنك ليس مردها سريان الدم.. لكن سريان الروح.. دم الروح غير دم البدن.. تلك الارتعاشات يا أمولتي ليست سراباً.. هي ماء اللحم الحي.. هي ماء الحياء والمحبة والأمل.. ليست سراباً يا ماجدتي في ذاكرة العدم.. في ذاكرتي مناجم من هذه الارتعاشات لا تحد.. أنهل منها متى ظمئت أو جعت أو توحدت.. الدم يعود إلى مضامير العروق.. يجري في الوجه.. يصيّر الوجنتين حمراوين كتفاحة مصطولة.. خاصة حين أنظر في عينيك و أبتسم لك..
أنت يا حبيبتي.. يا غزالتي العطرة.. يا بنغازي لحمي وحياتي.. في بنغازي لن يشي بنا أحد.. لن ترانا عسس المقادير وزيوف الجبر.. هنا الملح.. ملح كركورة.. يامحنـّـي ذيل العصفورة.. عليك ملايح كركورة.. بنغازي.. يا جبل الملح الثمين.. يا جموع التراب.. يا ترياقاً ضد العفن.. يا بركة الصلاح.. يا حباً ما بعده حب.. البحر جميل.. السماء أجمل.. الهواء الذي بينهما ما تأخر علينا قط.. أبداً ينعشنا وينعش الهجير الذي يبرد.. ثم يصعد.. ثم يمطر.. ثم ينبت الورود والنعانيع والياسمين.. الصابري عرجون الفل.. الصابري عمره ما ذل.. وسنأكل الشرمولة على شاطىء البحر.. غمسة لك وغمسة لي.. لن نعدّها في صحن معدني أو فخاري.. هناك صخور بها فجوات وانخفاضات وطعوج أفقية.. سنختار حفيرة صغيرة على هيأة صحن.. تكون قريبة من الموج.. تعلو سطح الماء بشبر.. نغسل الخضر بماء البحر ونهرسها بأيدينا في التجويف.. ونضيف زيت الزيتون، أما ملح السباخ فلا.. ماء البحر الذي غسلنا به الخضر ورششنا بعضه في الشرمولة به ملح.. نسمّي بسم الله ونأكل هنيئاً مريئاً من صحن الأرض.. غمسة لك وغمسة لي وغمسة من خيالنا لمهجة وأخرى لأفواه جائعة تحوم حولنا.. نستشعرها ولا نراها.. نأكل ونتأمل الأفق.. فلوكة صيد تعود إلى المرفأ.. أطفال يمرحون على الرمل أسفل منا.. نوارس تلتقط حلمها من البحر.. وسحاب صغير يرحل وئيداً.. آه بنغازي.. آه حبيبتي.. ارتعاشة الذقن.. قمة البؤس و اليأس.. أنا حزين لأنك بعيدة.. مريم لم تنفع معي.. تركتها.. لم أعد آتيها كل صباح.. وإن أتيت فلا أمكث دقيقة أو دقيقتين.. أنت في ذاكرتي ثـقـب حلمة.. نور دمعة.. دفء آهة.. أنت في ذاكرتي نور الأم.. وارتعاشة ذقنك قنبلة تبعثرت داخلي فكنست من محيطي كل الإناث والذكور.
أنت بعيدة الآن في طرابلس الغرب ترافقين أباك في المشفى.. أنا لا أحب طرابلس الغرب.. أحب بنغازي وعُمان.. تعلمت من عُمان شرب القهوة العربية ولوك التمر.. تعلمت من عُمان نواميس أصيلة مبهجة.. ريحان.. زعفران.. لُبان.. وبخور فائح يمنح الأنفاس انتعاشات رائقة.. تعلمت من عُمان أن الفراق ليس يأساً.. أن الشتاء ليس بارداً.. فالمطر هو الدفء.. والدفء هو حياة الدموع.. والدموع الميتة يا حبيبتي لم أتعلمها من عُمان.. تعلمتها من طرابلس الغرب ومنها أيضاً تعلمت شرب المكياطة الإيطالية هكذا من دون تمر..
أنت يا حبيبتي تمرتي الأصيلة.. لا أحب طرابلس التي أنت فيها.. أحب عُمان التي أحببتك فيها منذ أزل.. كنتِ قدري آنذاك.. كنتِ بدريتي.. قدريتي.. مريمي.. ماجدتي.. أملي.. كنتِ قريبة جداً مني.. وكنتُ قريباً جداً منك.. وما قرب دائمٌ ولا بعدٌ يطول.. الآن أعيش في عصر البعد.. وها قد انفجرت صهاريج الدنو فأدخلـتـني قبور الفراق والابتعاد.. وأرى القبر الذي سيلتهمني.. فور ما يضعوني فيه سأخرج منه.. سأجعله شرفة تـفتح في عينيك.. أطير كل فجر.. وعند المغيب أغرّد كالعصافير.. وأهجع إلى العش.. كل يوم يمضي أكبر في التراب.. زمن التراب كزمن الحياة .. أغرسك فوق قبري زهرة تهتز مع الريح.. من جذرها أشم عبق ذقنك الباكي.. أدفئها وأرويها بأحلام ريقي.. أطير كل فجر إلى جويمع زنقة كرشود.. أستمتع بالآذان الكريم.. أصلي في جامع بن ناجي العتيق.. ومع شروق الشمس أجول في شوارع روحك.. أرى الناس الساعية إلى رزقها وببراءة متواطئة أراقب العشاق الطازجين.. أرى التلاميذ في طوابير المدرسة يحيّون العلم وينشدون الله أكبر فوق كيد المعتدي.. أرى بيتنا القديم.. أرى حياة العشب في الزوايا والأخاديد وعلى الأرصفة الترابية المحاذية للإسفلت.. أرى كرسينا الخشبي في الحديقة.. ومقعدنا المشترك في مقهى نت الفلبين بجهة المقريف.. أستمع إلى وقع خطواتنا.. أي صداها القديم.. أتمسح بجدران شوارع ميزران وأول سبتمبر والمقريف.. وأدفن حزني في ألوان الأوشحة المتدلية من مشاجب المحلات..
وأقف طويلاً هناك.. هناك.. أقف متفكراً.. في البقعة المضيئة.. حيث موطأ التفاتتك القلقة من أجل حبنا.. أمام مهتـفة ومقهى روجينا.. أرى الناس الساعية إلى رزقها وأرى ذكرانا الساعية إلى حبها.. أرى حتفي القديم.. وقهوة ابتسامتك التي أجلس في بهجتها كل صباح.. أرى الحياة التي توقفت في حياتي.. أقضي نهاري بين هنا وهناك.. بين أظرف المكان في الزمن الطرابلسي الضنين..
وفي المغيب أغرّد كما العصافير.. وأعود إلى عشي الترابي.. إلى قبري المنير بشقاء أبدك.. أخاف أن أتأخّر في المدينة.. أخاف أن تغيب الشمس ولم أدخل قبري.. أخاف القدر الذي يسطرنا معا في قرطاس بشهود.. أخاف يا وجه قهوتي الظلام اليابس.. عدوّي الأول الآن هو الظلام.. هو غياب ارتعاشة الشمس.. أضواء الكهرباء لا تغني.. أضواء البروق لا تروق لي.. أي ضوء غير ضوء الشمس يؤذيني.. أعود عند الغروب.. أدخل عشي.. قبل أن أدخل أسلم على أزهاري.. أرى نحلة تمتص من حياتهن.. أرى نملة.. دودة.. جرادة.. الكل يتكالب على زهرتي.. أدخل قبري سريعا.. أدفيء جذورك الأصيلة بجمرة من ثبات.. أسقيها بما جمعت من حنان النهار.. أخاف أن تـُـحنيها الحشرات.. أخاف أن تنحني وتنام جنبي.. لا أمانع إن أحنتها الرياح.. أسقيها بريق حكمتي الساذجة وبِبـريق صدقي التلقائي أضيئها.. أسقيها بطيراني إليك من ألف كيلو متر حيث رباية الذايح.. أسقيها بنافذتي الطليلة على سمائك.. وحين يحين الفجر أطير.. وحين يحين المغيب أعود.. أفعل ما أفعل.. ويفعلني الفعل في مكان الديمومة الذي أنا فيه.. وزمن الطين يمر وموائد الطين تمر وأسئلة الطين تمر.. وزمن النار يمر وزمن الماء والتراب والهواء.. يمر.. يمر.. وأتوزّع في الأرجاء.. أنفث عبيرنا.. ومع كل نفثة تنبت سنبلة ترتعش كذقنك الذي أقرصه بأحلام سبابتي وإبهامي فـيُجَـن .
***
مقهى عين الغزالة مكتظ.. وأنتِ التي هناك لا أجدك الآن.. تقرئيني عن بعد.. لا أجد قلبك أغترف منه حفنة تسليات.. لا أجد سوى الضجر..
أصدقاء يغادرون إلى مقهى مراكش خلف الكاتدرائية القديمة حيث يحلو لهم العبث مع الندل المومسات.. يقودهم عبد نفسه ويراصفهم الأستاذ زعبور الساعي بكل ثقل مؤخرته لترؤس رابطة الأدباء والكتاب.
في النهار يصومون رمضان.. في المساء يتفحشون عليه.. آخر الليل يستمنون على المحطات الفضائية وهم منبطحون على بطونهم.. ثم يستغفرون ويلعنون الشيطان.. مسكين أيها الشيطان.. مسكين أيها الفجر المشهود كم تقبل من توبات..
ربي أحبك.. أحبك يا الله.. يا شروقاً عظيماً.
المشهد أمام عين الغزالة بميدان الشجرة ها هو.. عبد نفسه يقود الشباب إلى مقهى مراكش.. يراصفهم الأستاذ زعبور.. ومن مكان غير منظور يراقبهم الشاعر قادربوه بأسى وحسرة.
قادربوه شاعر شاب.. يمتلك الموهبة والأدوات.. ليسانس لغة عربية تقدير .. حائز على عدة أحزمة أدبية محلية وعربية.. نشر شعره في عدة مجلات وصحف ثقافية.. بل نشرت له حتى مجلة العربي الكويتية العريقة في صفحاتها الأم ودفعت له بالدولار الحي.
لا يخطئ في الإملاء والنحو والصرف.. على دراية تامة ببحور الشعر.. يجيد القراءة والإلقاء ومسك الميكروفون.. بل موهبته الكبيرة تتركز في مجال إلقاء الشعر صحبة موسيقى العود وقصبة الناي.
قارئ نهم وكاتب مقالة أدبية رفيعة ومعد برامج إذاعية وتلفزية ومنظم مهرجانات وندوات وأمسيات وأصبوحات ومؤتمرات.. خطه جميل أنيق وقيافته مقبولة في كل الفصول والأحوال..
بدأ بكتابة الشعر العمودي ثم انتقل إلى القرظ بالتفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر.. وبرز في الشعر الحر محققاً فيه عدّة قفزات مهمة على الصعيد المحلي والعربي .
وعندما استغرق فيه واستنفذ ما لديه من هذا اللون.. كثف قراءته وسافر إلى مصر وتونس والأردن والمغرب على حسابه الخاص.. التقى بالشعراء والكتاب المهمين.. حلمي سالم.. هشام قشطة.. محمد عفيفي مطر.. فاطمة ناعوت.. مليكة مستظرف.. صلحية الشماخي.. المنصف المزغني.. أولاد حمد.. قاسم حداد.. محمد بنيس.. خالد النجار.. أحمد بخيت.. جرجس شكري.. وحضر عدّة دورات لمعرض القاهرة للكتاب ومن خلال هذه الحكحكة بالفعاليات الأدبية العربية ركل الشعر الحر تيرو وانخرط راكباً الموجة الجديدة.. موجة الحداثة وما تحتها وما فوقها وبعدها وجوّاها.. صار من المنافحين حد التطرف عن قصيدة النثر.. استلهم كل ما نظـّـرته سوزان برنار وحفظ عن ظهر قلب أشعار بودلير و سان جون برس و أدونيس و سعدي يوسف وأنسي الحاج ووديع سعادة ومحمد الماغوط.. وغيرهم.. من قبل كانت قصيدة النثر بعبعا له.. لا يتقبلها ولا يتذوقها وفي كل حوار يُجرى معه في التلفاز يقول: لدي عليها تحفظات ولا أعتبرها شعراً.. أين الوزن.. أين البحور.. أين القافية.. أين الذي قرأناه في الجامعة.. إلخ.
صالح قادربوه شاعر والشاعر بطبعه متقلب لا يرسو على حال.. يهيم في كل وادٍ ويغوص في كل سبخة أو مستنقع أو برميل مجهول.. دائماً في حالة بحث عن الجديد وإذا وجده يتجاوزه إلى الأجد.. بدأ قصيدة النثر زاحفاً على بطنه حابياً على ركبتيه ومع الأيام شبَّ قليلاً وتعثر ووقف مرة أخرى رغم آلام التهميش والاستهزاء.. وقف طويلاً يتأمل المشهد حوله ليصرخ مدوّياً:
إلهي لا يوجد سوى خمسة شعراء.."نعيمة الزني.. عبدالسلام العجيلي.. سالم العوكلي.. عاشور طويبي.. وأنا سيدهم..". وقف راسخاً ثم مشى وهرول والآن صار يركض في طول البلاد وعرضها.. جدي جامح أصيل نجح في الفرار من صيادي الجمود والكلاسيكية.
وجد نفسه في هذه القصيدة التي استطاعت أن تلملم أشلاء ذاته الممزقة.. الشعر الآن حياته.. يقوله بحروفه وبرقصه وبأنفاسه وآهاته.. دخوله في التصعيد لترؤس رابطة الأدباء والكتاب نوع من الشعر.. شعر كراسي.. هو الآن يتأمل قطيع زعبور الذي عبر الطريق والجاً بداية شارع عبد المنعم رياض قاصداً مقهى المومسات يتأمل ويصفـّق يديه متحسراً متأوهاً: ليتهم يفكرون بنصفهم العلوي.. ربي العنهم وصبَّ عليهم سوط خصاء.. زعبور اشترى ولاء الجميع.. حتى صديق قادربوه الدائم التهامي القصير، تَّم استدراجه ذات ليلة في دياجير مقهى الحديقة المشبوه المقابل لمركز المتفوقين التعليمي.. قال له زعبور: هذه النادل الليبية سأجعل عبد نفسه يمكنك من الركوب عليها.. لا تنزعج سأدفع عوضاً عنك كل المصاريف.. سنرتب لك الأمور.. جهز سلاحك فقط واسترنا ارحم ولديك.
زعبور يدفع ولا يهمه سوى الكرسي.. سيعوّض خسائره من أول ميزانية تصل.. سيلهف ثلاثة أرباعها ويملأ ملفاً كبيراً بالفواتير الوهمية.. في الليلة الفلانية أقمنا نشاطاً.. في عيد كذا خرجنا مسيرة تأييد وتجديد ولاء.. ورفعنا أعلاماً وعلقنا عقود زينة على شرفة الرابطة تضيء 24 ساعة لمدة شهر.. وأولمنا لكل الجماهير بريوش بالعسل وشطائر هامبورجر وشاورما.. وأقمنا معرض كتاب زايط ولا معرض القاهرة أو فرانكفورت.. وأرسلنا برقية حروفها كتبت بماء الذهب.. سألهف الميزانية.. ليس أفضل مني من أقاموا حفلة مألوف لليلة واحدة بـ 150 ألف دينار .
الكلمات تطرق أذن قادربوه.. تخبش مشاعره.. قادربوه يبكي.. يبكي شعراً لا يمسحه بمناديل ورقية.. لا يدري لماذا الجميع يهاجمونه ويتهمونه بالغرور والبخل، وهما تهمتان مردودتان من اساسهما حسب رأيه.. الغرور من سمات العظماء.. والموهوبين.. وأي شاعر لا يعتبر نفسه عظيماً سيفشل حتماً وينتهي ولن تقوم له قائمة.
البخل ليس ذنبه.. الله غالب عليه.. من قبل كان طالباً لا مرتب له.. والآن هو عاطل تمّ فصله من عمله في مجلس تنمية الإبداع.. فـُصِل لأنه غاب عدة أسابيع عن العمل.. كان في مصر يشارك في الأمسيات الأدبية ويتغنى بقصيده النثري الجديد.. استغرق في حالة شعرية لا تقاوم.. نسي كل شيء وعاش جنته وجحيمه.. كانت معه فتاة شاعرة.. استحلفته بأمل دنقل أن لا يعود إلى ليبيا.. كانت لديها قصيدة مبتورة.. وكان لقادربوه ديوان كامل مبتور.. عاشا في شقة تلك الأسابيع.. كلاهما أكمل قصيدته من الآخر.. غرقا في القراءة والغناء وقرظ الشعر.. قادربوه معذور.. فصله تعسفي.. لم يكن غائباً عمداً.. كان مكرهاً على الغياب.. والفصل جزاء ظالم.. يكفي أن توجّه له رسالة عتاب.. ويُسأل إن شاء الله سترتنا مع الشاعرة وما طلعتش فيشنك.
في مناظرة نظمها الأصدقاء في مقهى عين الغزالة بين المرشحين المزمعين لترؤس رابطة الأدباء والكتاب: الأستاذ الكاتب زعبور والشاعر قادربوه.. خاطب كلاهما الحضور لكسب أصواتهم وزعزعة ثقتهم في كفاية المنافس للمنصب.
وبعد مخاطبة الجمهور بالتزام الهدوء والاستعداد للاستماع.. تناول كل منهما الكلمة لربع ساعة ثم أذن للحضور في مناقشة النصوص.. قرأ زعبور مقالاً لكاتب مخضرم معروف جاء فيه:
ليس مهماً أن يكفرك الشباب الملتزمون كما يسمونهم في حيّكم لمجرد أنك لا تـتـفق معهم في إطلاق اللحية وحف الشارب وتقصير السراويل ولا تستغرب إن جعلوك شيوعياً وأعذرهم فهم حتى الآن لم يسمعوا بأن الشيوعية اندحرت وانتهى زمنها منذ أيام بروستيرويكا غوربا تشوف ولم يعرفوا شيئاً عن العولمة وثورة المعلومات والاستنساخ والجحشة دوللي و.. و..و.. إلخ.
ليس مهماً أن ترى جارتك المحجبة المحترمة في شارعكم منزوية تتبادل العهر مع آخر في سيارة رابضة في شارع مظلم أو على أحد الشواطئ المهجورة..
ليس مهماً أن تجلس لتذاكر لطفلك في المساء وتكتشف الكم الهائل من الأخطاء اللغوية والمغالطات التاريخية.. ليس مهماً أن تفتح عينيك في الصباح فلا تجد ماء ولا كهرباء بمنزلك مع أنك تدفع فواتيرك بانتظام فمؤسسة الكهرباء والماء تقطع التوصيلات بشكل جماعي لإرغام الناس على الدفع.. ليس مهماً أن تكون عاجزاً عن دفع ديونك للسوداني في الدكان المجاور، فالمنطق يقول هو يملك المال وأنت وأطفالك تستدينون.
ليس مهماً أن تجلس في مأتم جاركم المتوفي فيجعلك الفقيه المصري الصادح في مكبرات الصوت أعصى مخلوقات الله في دنياه من دون سبب واضح ويبشرك مقدماً بحجز غرفتك في جهنم.
ليس مهماً يا قويدربوه أن تحب
ليس مهماً يا قويدربوه أن تكره
ليس مهما أن تكون على كرسي الرابطة أو لا تكون.
الشيء الوحيد ذو الأهمية هو أن نعيش بسلام مصحوبين بالبركة ودعاء الوالدين لكن احذرْ البركة فقد جعلوها في السعودية حبّة يمكنك اقتناءها من أي صيدلية أو سوبر ماركت أما دعاء الوالدين يا قادربوه العاق فقد ضيّع قدسيته منذ زمن بعيد.
تصفيق حار وصفير من الجميع.. حتى المارّة الذين لفتهم الازدحام تابعوا جانباً من المقال وصفقوا له.
وجاء دور الشاعر قادربوه.. ارتشف من قهوته وشرب جرعة ماء.. ولم يبدأ حتى عم الصمت وشغـّل له صديقه طارق شريط موسيقي راي.. أخفض الصوت إلى مدى ضعيف وبدأ صالح يقرأ قصيدته الجديدة: ممنوع الابتسام:
رائحة فاصوليا مطبوخة
رائحة ماء قديم
رائحة زنزانة مجهولة النزلاء
رائحة صوت بليد
رائحة قطة صغيرة مسحوقة على سكة حديد صدئة
رائحة نكتة لا تقال أمام العائلة
رائحة كلب أعرج منتفخ البطن
رائحة حمام بخاري
رائحة امرأة بلحيةٍ
رائحة إبط عفن من دون شعر
رائحة زهرة لا رائحة لها
رائحة عميان
رائحة قلب مقدد
رائحة آلات مكدّسة في مصنع
رائحة أحاديث مسرودة في الهواء
رائحة أريكة راسكولينكوف وصالونات سارترية
رائحة شحاذين متسخين يتوسدون أرصفة نظيفة
رائحة مومياوات تلعب القار
رائحة شعراء ممسوسين بلعنة القات
رائحة موعد غرامي مكرر
رائحة ندم و خيبات
رائحة وقاحة بربطة عنق
رائحة سوق محلية مسقوفة بالضجيج
رائحة مرايا محدّبة
رائحة قبعة ثقبها القمل
رائحة عين متلصصة على ورقة في امتحان نصف السنة
رائحة إذاعات موجهة إلى جدار من الأسمنت العازل
رائحة قادة عسكريين
رائحة إجازات طارئة
رائحة ست درجات بمقياس ريختر
رائحة أنشوطة متهدلة لا تزين أذنيها أقراط الممسكات
رائحة جلطة دماغية
رائحة مترجم فوري
رائحة وجوه عابرة في بهو فندق
رائحة برجين وطائرة ورقية
رائحة جوع تونسي
رائحة أسماء مطرودة من السجل المدني
رائحة مغنية من الدرجة الثالثة
رائحة تدرج وظيفي
رائحة روايات سيئة الترجمة
رائحة بحارة متقاعدين
رائحة فيزات مزورة
رائحة أفلام هندية تعج بالرقص
رائحة مقهى متخف عن الرقابة الصحية
رائحة تقارير من العيار أربعة وعشرين
رائحة لهجات عامية لا يستعملها أحد
رائحة قوانين وضعية موضوعة على الرف
رائحة حديقة حيوان طيب
رائحة طابور طويل جداً أمام شباك مصرف مفلس
رائحة سياسيين
وقنوات فضائية خاصة
رائحة ملل أحسه الآن
رائحة نقاط ثلاث أضعها نهاية السطر الأخير من قصيدة
عامود.. أي
رائحة متلق غبي
ينتبه لما أقول.. ثم يبتسم!!!
انتهت القصيدة وتصفيق بسيط وابتسام واسع.. ابتسام استغراب ينم عن عدم استحسان وعن قلة فهم اعتبرها قادربوه وقاحة وسوء ذوق.. هناك مؤامرة تهميش يقودها خبير الشائعات ومدير حملة زعبور الانتخابية الإذاعي مراجع بوظل. هو أيضاً مدرب كرة سلة حشد كل اللاعبين والمدربين، ملأ لهم استمارات عضوية وكل واحد منهم حشا في جيبه مقالاً أو قصيدة أو قصة مسروقة من منتديات الانترنيت.. كل واحد من جماعته في جيبه مقالة سلوية أو قصيدة سلوية قال لزعبور يوم التصعيد سيقفون معك. هؤلاء الطوال سيرفعونك وينطون بك إلى حلقة سلة الرابطة.. يرفعونك إلى أعلى ويحطون بك على الكرسي الدوار.. لا تقل لي ما علاقة كرة السلة بالأدب والثقافة.. لا تقل ما علاقة السلال بالجرائد والمجلات.. توجد علاقة كبيرة.. بل علاقة مصيرية كالعلاقة التي بين فرقعات القازوزة وفرقعات الإعلام... اقتنع زعبور ووقع لهم الاستمارات وتم دفع الرسوم عنهم وصرف بطاقات فورية لهم..
النادل المستوه في الاستماع تبددت عليه القهوة الساخنة.. صرخ ألماً ولعن قصيدة قادربوه ورائحتها.. أكثر الرواد غادروا واضعين على أنوفهم مناديل ولا ازدحام أمام الباب.. جماعة زعبور قال بعضهم لبعض لم نفهم شيئاً من قصيدة هذا القادربوه وتوجّه كبيرهم إلى قادربوه قائلاً: ألا وضّحت لنا يا نزيزير عصره؟!
غادر صالح المقهى إلى مكان ما.. لا ندري أينه.. مكتب إحدى صديقاته المحاميات أو ركن منزوٍ في مكتبة عامة.. كان حزيناً لأنه غير مفهوم من العوام.. وتذكر كتاب الفيلسوف الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام) وكم تألم لتهكم الشاعر العمودي فرحات النـّـزيك إذ صاح وراءه وهو خارج: قادربوه.. قادربوه.. لماذا لا تؤلف كتاباً عنوانه (القول العطر في شم النثر)؟
الكل ضد قادربوه.. الكل لم يصفق إلا مجاملة وببطء.. لم يستحسن قصيدته أحد.. وحدها الغزالة الموشومة على جدار المقهى رمشت عيناها وأدمعت وخرجت خلفه تركض في شارع جمال عبد الناصر.. تمارس جولتها اليومية حتى رفات شيخ الشهداء عمر المختار في سلوق.
عبرت جسر جامعة العرب الطبية، ولاحت منها التفاتة إلى اليمين فرأت الشاعر قادربوه جالساً على صخرة في شارع البط.. أحياناً يخربش في دفتر صغير وأحياناً أخرى يشاهد المتريضات من نساء بنغازي المكتـنزات.. متحجبات وسافرات.. صغيرات وكبيرات.. يتأمل كتل الشحم في مؤخراتهن ثم ينظر إلى السماء التي بدأت تغيم وتنثر رذاذها المنعش ببعثرة مجنونة صارخاً إلى متى my gad!!.
بعد خروج قادربوه والغزالة اقترح الشاعر فرحات النـّـزيك ـ وهو من مؤيدي زعبور المتعصبين ـ أن ينشد بعض قصائده ليمسح من ذاكرة الأسماع رائحة ما هذى به قادربوه فأنشد:
قصيدة في مدح المطربة أم كلثوم
وقصيدة في رثاء المطربة ذكرى
وقصيدة فخر وتمجيد لمسلسل رأفت الهجّان الذي ضحك على اليهود في قلب عرينهم.
وقصيدة غزل في ليلى.. لا أدري من ليلى.. ليلى علوي أو العامرية أو مراد أو ليلى طاهر أو ليلى غفران.
ثم ختم وابل قصائده بقصيدة هجاء نارية لعدوه اللدود الشاعر صاحب قصيدة في مؤخرتي درويش.. ولم ينس فرحات النزيك أن يضمّن قصيدته فقرات من المقال المطوّل الذي سطره الكاتب أوريّث في مثالب الشعراء الشباب وأخطائهم الفادحة التي يغطي منها الشيطان قريحته.
أنشد شعره براحة تامة.. لم يزاحمه ابن الركابي ولا ابن حمادة ولا ابن العيلة ولا ابن مطر ولا بنت الياس ولا بنت عيّاش ولا حتى جابر نور سلطان.. الجرسون مستمتع والمصري الذي يزيّت السرانتي مستمتع.. وكل الحضور مستمتعون يتناولون الزلابية والمخاريق والسفنز على أنغام الشحرور فرحات.. أحدهم قال شعر صلوحه قريب من الناس نابع من معاناتهم.. يشتغل على الحياة اليومية وعلى محلات الكاسيت وعلى نشرة قناة الجزيرة وقناة العربية.
عندما وقف فرحات بعد التعليق لينشد قصيدة وليدة اللحظة عن المجاهدين في الفلوجة وزعيمهم الزرقاوي، غمزه زعبور، وعبد نفسه سحب منه مكبر الصوت بعنف.. قال عبد نفسه: نحن ناقصنا هموم.. حتبوّز الجو يا فرحات.. سيبك يا راجل من الزرقاوي وجماعته.. الشاعر فرحات له قصيدة مشهورة بعنوان جنون البراغيث رفضت نشرها كل الصحف والمجلات، وأخيراً وجد لها مكاناً مناسباً فمسمرها بمسمار عشرة على جدار خشبي بسوق الحشيش.. أخذ أمامها زعبور صورة لأجل بطاقة الرابطة الجديدة.. صورة أربعة في ستة وراء المعلقة الأولى واجب على الجميع.. كل المناصرين حذوا حذو زعبور.. توجهوا إلى هناك وأخذوا صوراً لهم.
انتهت قصائد فرحات.. وصُفق له كثيراً. ووقف الجميع بناء على رغبته دقيقة حداد على هزيمة قادربوه المتوقعة في الانتخابات.. بعد ها بدأوا يلتهمون السحور وزعبور يدفع للنادل ثمن المأكولات والمشروبات ويأخذ البيعة الأكيدة من الأسنان الماضغة.. عبيِِّ البطينة تستحي العوينة.
زعبور وقت الانتخابات كريم.. حتى المتسولين الذين يدخلون المقهى يُحالون إليه فيدفع لهم بسخاء ويسألهم هل تقولون الشعر؟ هل تكتبون؟ هل تعرفون السباكة أو كرة السلة أو بيع القازوزة؟ هل لكم علاقة بالثقافة والأدب من قريب أو بعيد؟
يجيبون: لا يا بيه.. فيطلب منهم الدعاء لينجح أميناً للرابطة.. فيدعون له طويلاً ويخرجون؟
حسب المعطيات التي أمامنا زعبور (واكل الجو) هو أمين الرابطة.. الكل يؤيده وقادربوه ليس معه أحد سوى صديقه طارق وبعض الصحفيات اللاتي يرسمن على الزواج به أو بصديقه على الأقل.. لكن هذه البرامج الانتخابية دائماً تحكمها عوامل أخرى.. غير متوقعة.. لا تخطر على بال.. فربما يتفوق من معه صوت واحد فقط على صاحب غابة الأصوات.. فقيمة الأصوات ليس بعددها إنما بصخبها وغلظها وحدّتها وقوتها..
وقادربوه لديه ورقة رابحة يحتفظ بها في جيب إبطه.. ورقة مخضرمة مخضوضرة.. ضليعة في مثل هذه الأمور تستطيع أن تبعث جذوة النصر من الرماد الميت.
معه الأستاذ أبو جبور.. وهو عنصر مهم في مؤسسة الدولة وفي لجان الإشراف على التصعيد.. أبو جبور يعرف قادربوه جيداً.. نستطيع القول إنه ربّاه على يديه.. دائماً يدعمه معنوياً وأحياناً قليلة مادياً.. ومازال موعد التصعيد لم يأت بعد والدنيا مثل كرة القدم لا تعرف من يفوز بالمباراة.. دائماً هناك مفاجأة.. خاصة في الزمن بدل الضائع.. وآخٍ ما أضيع زمننا يا لله..
أبو جبور ككل المحظوظين في البلاد.. يتقلد عدّة وظائف.. هو يختلف عن الزرزور الذي يكتب بمقابل في كل جريدة ومجلة.. أبوجبور لا يكتب للنشر.. يقولون إنه يكتب التقارير دون أن يضر أحداً.. ويحيلها إلى جهات الاختصاص.. هو يتقلد عدّة وظائف.. مدير لمعهد الالكترونات.. رئيس للشؤون الإدارية والمالية بالمركز الثقافي.. منسق الفعاليات العربية والأفريقية والعالمية.. لديه دار نشر.. لديه قرطاسية.. لديه جمعية استهلاكية.. لديه هنقر دجاج في النواقية.. وعيادة أسنان وحلاق في شارع عمر المختار.. وسنفاز في منطقة الزريرعية.. وقوميستي في حي المحيشي.. وتشاركية بناء وتشييد في شبنة.. وتشاركية أعراس ومآتم.. هو يجيد لعبة الاستثمار جيداً.. دائماً يلبس قميصاً واحداً مخططاً بالأبيض والأخضر، ولا يتحرك إلا في سيارات عامة ولا يهتف إلا بهواتف الدولة.. هو يلعب بالنقود لعباً.. خزنته مليئة ودرج مكتبه مليء وجيبه مليء وفمه مليء بالشاورما وعندما تقول له ترى دينار يا أستاذ بوجبور يعطيك دينارين.
أبو جبور يعرف قادربوه جيداً.. نستطيع القول ثانية إنه رباه على يديه مذ كان في اتحاد الطلبة.. مذ كان في براعم واشبال الفاتح.. دائماً يلازمه كظله ويساعده في أعماله المتشابكة.. ويعمل عنده في قرطاسيته دبّـاس طلبات ولصّاق دمغة وخرّام ملفات..
زعبور لا يقلقه أو يؤرقه شيء سوى هذا الأمر.. لكن رغم ورقة بوجبور الداعمة لقادربوه، فإنّ زعبور واثق من النصر.. سيشتري صفقة قرطاسية الرابطة من قرطاسية بوجبور ووليمة الاحتفال من سنفازه وهنقر دجاجه.. هو واثق جداً من النصر.. التقازة التشادية في منطقة السبّالة قالت له يا وليدي أنت الأمين والرئيس وبطل الفيلم، فأرسل لها مع شاعره وتابعه فرحات النزيك رداء وسباطاً وثلاثة كيلو جاوي.. هو سعيد الآن.. واثق من نفسه ومن نصره المبين.. يدخن براحة ويرتشف الكوبتشينو بلذاذة وعلى مهل ويبتسم لعبد نفسه حليف الجميع وحليفه الآن.. عبد نفسه إنسان عجيب.. ربما نتناوله مفصلاً فيما بعد.. هو لا يهمه التصعيد.. من يفوز.. من يخسر.. من يجلس على الكرسي أو على الخازوق..هو يريد أن يضاجع المومسات على حساب الغير.. يستدرج الشباب والكهول السذج إلى أوكار الدعارة.. القوم عطشى.. لا تجارب واقعية كافية.. عمرهم ضاع في الاستمناء.. المرأة نقطة ضعفهم وشاغلهم الأول والأخير.. هم في مقهى مراكش والمومس العراقية تقدم لهم المشروبات والابتسامات على طبق من نفاق.. وعبد نفسه يغازلها ويرمي لها بالحبال.. المومس لا تعرف أي حبال.. لا تعرف سوى المال.. من يدفع يركب.. ومن لا يدفع تبصق على مؤخرته.
هذه الأيام عبد نفسه مفلس.. نقوده لا تسعفه حتى بشراء قبلة في الحمام.. دائماً مخمور.. ليل نهار.. صيام فطر.. مثلما سنقول في فصل قادم لا يؤمن بشيء.. لا يهمه شيء.. لا يقين مظلم أو مضئ يعترف به.. يروق له أن يعيش حياة بوهيمية.. خارج الهوية والوعي.. يتأمل.. يسكر.. هو لا يحشش.. يشرب الخمر المحلي فقط.. يخففه بالماء.. يمزز بمخلل الليمون والخيار.. لا يأكل الشكولا مع الخمر. يقول إنها تسبب تليف الكبد وأنا كبدي عاوزه.. يركض وراء المومسات من أي جنس أو عمر أو لون.. هو عاطل الآن.. جيبه يزغرد فيه الفار.. والذي لديه المال هو زعبور فقط.. وزعبور يحب موظفة في شركة المطاحن، وقد عاهدها برومانسية قديمة على أن لا يخونها مع أي ليبية نظيفة بعض الشيء، فما بالك مع عراقية أو مغربية أو فوّالة مصرية مزفرة؟! قال لعبد نفسه لا أحبُّ هذه الأصناف.. اعتبرني لا أنتصب.. وما المشكلة أن يعيش الإنسان هكذا.. كثيراً ما أبدع المخصيون ووصلوا إلى كراسي الحكم.. انظر كافور الإخشيدي وغيره.. لن أترك المضاجعة تلهيني عن الأمر الأجلّ.. في رقبتي رسالة.. أتباع.. أنا أدفع من أجل الكرسي وليس من أجل الكـ... وعن طريق الكرسي سأركب الجميع.. الأجساد دائماً تنحني أمام الكراسي..
أضع ختم الرابطة في جوربي وكل الدعوات الخارجية لا أمنحها لأحد.. أحتفظ بها لنفسي.. أسافر أنا وجماعتي المقربين جداً فقط مثلما يفعل ابن خشيم وابن نافو وابن الغيطاني وخدوجة بالضبط.. أنا الكل في الكل وإن جاءت دعوى محلية إلى اجخرة أو تاكنس أو قرية العلوص فسأكلف أحد الأتباع بالذهاب.. طبعاً قادربوه ما دمت أميناً للرابطة فلن ينال أي دعوة.. إلا دعوة تشيله للجحيم من غير رجعة.. لكن قد أرسله لجلب الماء من بقال شارع عبد المنعم رياض.. أيام كانت الرابطة ترضخ تحت ربقة تيار الشيوعيين كنت أزورهم.. أقصُّ نشرتهم كل يوم وأستمتع بمشاهدة الورّاد الشاب قادربوه وهو يجلب قنن الماء مقابل الاحتفاظ بباقي الخمس دنانير.. الشيوعون دائماً يحتاجون للماء البارد والببسي كولا في الصباح.. لا ندري لماذا..
والآن وأنا أمين الرابطة أريد أن احترمه.. أعوّضه عن ما لحق به من إهانات.. لن أرسله لجلب الماء.. سأرسل الجدي لجلب القهوة المكياطة من مقهى مراكش.. قهوة لذيذة تعدّها لي المومس العراقية بالذات.. هذه المرأة اللعوب الطروب التي عاصرت صراعنا.. وإن تلكأ في العودة وتعطل وبردت القهوة.. نهاراً فيشطة.. أكبها فوق رأسه وأرسله ثانية لإحضارها من مقهى عين الغزالة البعيد نسبياً عن عمارة الإعلام.. ما أحلاها من متعة أن ترسل شاعر قصيدة نثر لإحضار قهوة لك ولضيوفك الكلاسيكيين.. متعه كبيرة جداً.. انتشاء مجنون.
وطبعاً إن رفض قادربوه إحضار القهوة أعاقبه فوراً وبصرامة أسحب منه بطاقة عضوية الرابطة.. من حقي سحب بطاقة أي عضو رأسه لا تتماشى مع أهدافنا في الحرية والاشتراكية.
تعليقات
إرسال تعليق