رواية شرمولة للروائي الليبي محمد الأصفر (3\6)
لا أريد أن أسمع مثل هذا الهراء.. أنت عامل بسيط على حفارة.. اترك الشعر والأدب لأهله.. اترك جلف الخبزة لخبازه.. لا تقل ما دخل أدب الكوني في قضية فلسطين.. سأقنعك.. اسمعني فقط.. اجلسْ على هذا الكثيب.. أولاً سأنشد لك قصيدة أرحومة.. يصيح عز الدين لا.. لا.. أرجوك أرجوك.. سمعتها منذ قليل.. ووقتها ليس بالليل.. أنت لا تسكر ولا تنصطل وعذاب نعيمة بس.. وقتك في الضحى والأصيل.. لا.. لا.. فقط اسمعني.. قصيدتي تنفع في كل الأوقات وقد تكون علاجاً نافعاً لك.. أرحومة يعبر عن كل كادح مسكين مثلك بالضبط.. معلش اسمعها مرة ثانية.. القصيدة متعددة التآويل.. لكن لا.. أنا الغلطان.. جاي للصحراء أنافس في الكوني.. وبعدين معليش.. أنت يا زيزو جاهل لا تستحق قصائدي.. أنت أمّي.. سنواصل الحكي عن الصحراء والقضية الفلسطينية.. سأقنعك بأن الصحراء لها علاقة بالقضية الفلسطينية، بل الصحراء في صميم القضية الفلسطينية.. كل قضية هي صحراء لأنها تنشف الريق والجيب والنفس والحياة.. متى نرتاح من القضايا ونهتم بالحب والسلام ورحمة يعيش سعيد مطمان هاني البال مرتاح الضمير عنده حويش وفلوس وكريهبة وحصان؟ نعود إلى علاقة الصحراء والكوني بالقضية الفلسطينية.. وتناول قرطوع طويل من قربة اللاقبي الحلو.. اسمع يا زيزو:
ألا تتذكر فخامة الرئيس المرحوم ياسر عرفات؟
ألم تسقط طائرته في الصحراء الليبية ذات ليلة عاصفة متربة.. من أسقط طائرته؟ أو فلنقل كيف سقطت وكــــيف نجا من الموت؟ الكوني غبي.. لو وظف أساطير الطوارق لهذا الحدث الجلل لكسب نوبل الآن أو منذ سنوات.. آلهة الطوارق هي التي أنقذت سيادة الرئيس.. والشياطين الصهيونية هي التي أمرت الإبل بإثارة الغبار والرمال في الهواء.. وقرون الودادين والوعول هي التي طيّرت الربّة الحجرية صوب السماء لتعرقل طيران الطائرة ويتخيلها جهاز إنذارها صواريخ معادية تتجه إليها.. هاك القصة حسبما جاءت في الصندوق الأسود.. لو كتب الكوني أن معبداً سرياً أو طوطماً أزلياً مدفوناً في الرمال هو الذي أثر على ميكانيكية الطائرة وأسقطها لأقنع كل القراء.. كيف يا زيزو تقول ما دخل الصحراء وأدب الكوني الصحراوي في قضية فلسطين؟
نفدت الزجاجة ورمى بها عز الدين مع المذياع إلى أسفل الكثيب.. تابعهما في الظلام حتى همدا.. عاد إلى المعسكر مهتدياً بأضوائه الباهرة الواضحة.. دخل غرفته.. استحم.. تعطر.. أخرج من حقيبته عدّة كتب ليقرأ قبل النوم: كولن ولسن.. ماركيز.... فوينتس.. همنجواي.. نيتشه.. كافكا.. جويس.. ديوستوفسكي.. بريخت.. صامويل بكت.. تولستوي.. فلوبير.. تشيكوف.. جوركي.. كونديرا.. ابن رشد.. الجاحظ.. التوحيدي.. كانتازاكي.. شتاينبك.. فوكنر.. كرواك.. بورخيس وغيرهم.
أختار رواية زوربا لنيكوس كازنتزاكي.. وقبل أن يبدأ القراءة شرّع النافذة فبان له القمر متألقاً مستديراً باعثاً أنواره حوله.. تجرّع كأساً أخرى بها قطعة ليمون طافحة.. واستغرق يقرأ بتأن وتركيز ومتعة.. ولما وصل مشهد زوربا يعزف الجيتار ويرقص ويغني على شاطئ البحر الليبي بكريت لم يحتمل زيزو، وقفز واقفاً يركض خارجاً إلى الصحراء.. يسبح على الرمال.. يتمرّغ فيها.. يكتحها حوله وفوقه، يغني بمتعة:
"افرش منديلك على الرملة وأنا عاوز أحكيلك"
يشعر أنه سيطير.. يقفز إلى أعلى.. صوب القمر المتلألأ.. يخال النجوم تقترب منه.. تتكاثر كرمال الصحراء.. تضيء الأفق.. تبهّـره أكثر.. تشعله.. السراب اختفى.. استحال أمواج مطر أفقية تردمه كلما تقلب.. تردمه وتلفظه.. تدفعه برفق ومودة.. تتجمع تلك الحبيبات التي جعلها وسادته في بداية الليل.. تدخل تحت رأسه كوسادة.. هذه المرّة لا تتسرب.. كوعه صانع القبر بعيد ورأسه مرتاحة.. القمر يغطيه بنسيج نور دافئ.. يرحل يغيب.. يحلم بأحلام صنعها أو صنعته.. دخل فيها أو دخلت فيه.. هو سعيد الآن.. دافئ وغائب في حضوره المختار.
في اليوم الثاني لم يستيقظ باكراً ليلتحق بفأس الحفارة الضجاج.. سجله مشرف العمل غياب.. وتم استبعاده فوراً وتعويضه بعامل مصري صعيدي متين لا يعرف زوربا ولا مائة عام من العزلة.. لا يعرف سوى أكل البصل والفول والفراخ المحشي والفجل والعمل المتواصل كحمار من حجر الحديد.
عاد عز الدين إلى رباية الذايح في أول طائرة مغادرة.. صرف ما تحصل عليه من مال.. بعد أسبوع أفلس من جديد.. بدأ يعيش كما ذي قبل على السرقات الصغيرة ومساعدات الأصدقاء.. هو لا يسرق مالاً أو سيارة.. ولا يسرق من محل بائس في حي المحيشي أو شعبية السرتي.. هوايتـــه سرقة المحلات الفاخرة.
(السوبر ماركت) في الفويهات وطابلينو وحي الدولار.. يسرق المكتبات أيضاً.. يقول عن أصحابها إنهم حمير بجم لا يفهمون في الثقافة ولا يقدرون الأدباء والشعراء.. بصاصين للبوليس والمخابرات.. صاحب مكتبة في الفندق البلدي اتفق معه مؤلف على طباعة رواية وتوزيعها.. قبض ثمن الطباعة.. وبعد شهور اعتذر عن الطبع.. كان قد عرض الرواية على الأمن الداخلي في المدينة فقالوا له ممنوع ممنوع: لا تطبعها.. ولا أدري كيف أصدروا قرار المنع.. وأين الرسالة.. ومن قدّم لهم أصلا طلباً لإجازة النص.. وما علاقة الشرطة بالكلمات والبوح والشعر؟ والسؤال الصادح بنفسه هو ما دخل المخابرات في الروايات؟ ألا يوجد في طرابلس جهاز رقابة المطبوعات المختص بهذا الأمر؟ لكن يبدو أن الشرمولة ليست في هذه الرواية فقط.. يقول عن أصحاب المكتبات إنهم تجار وليسوا رسل علم ومعرفة وإنهم خطر على أمن المجتمع، فهم الذين يبيعون الكتب التافهة.. الحبة السوداء.. السحر.. الأبراج.. علاج البواسير والثعلبة.. روايات عبير.. كيف تتعلم اللغة الإنجليزية في خمسة أيام.. والعبرية في ثلاثة.. والأفغانية في يوم ونصف.. كيف تعد الكعك والغريّبة والحلويات.. كيف تشوي الحجل والبط والديك الرومـي وكبدة الوز..
يقول عنهم أنهم سماسرة أوغاد مفسدون يبيعون الكتب الداعية للخرافة والتفاهة والتطرف.. يبيعون أيضاً البخور والمسابح وكتيبات الأدعية الصغيرة للشحاذات.. سرقاته بسيطة جداً.. قطع شوكلاتة.. علب قهوة نسكافيه.. قنن عسل.. أقلام.. كتب أدبية ذات قيمة كالروايات العالمية أو كتب صادق النيهوم وابراهيم الكوني ومحمد الأصفر.. قواميس معاجم موسوعات علمية مصاحف.. وكل شيء خفيف ظريف رخيص ذو قيمة معنوية ومادية.. هو حزين الآن من صديقته المغربية فتيحة.. دائماً يزورها.. كل ضحى يلتقيها في مقهى ملحق بفندق المدينة.. تبيعه قبلة دافئة بخمسة دنانير.. هو حزين الآن.. شفتاه جافتان شققهما الحرمان.. يحتاج إلى قبلة ترطيب بأي طريقة.. المومسات من قوانينهن الصارمة أن لا يمنحن بالآجل أبداً.
حاول أن يبني معها علاقة حب عاطفية.. بيد أنها لم تأخذ الأمور بجدية.. فور انتهاء القبلة تمسح شفتيها وتعيد صبغهما بالأحمر الفاقع.. تبتسم.. ثم تغادر إلى حالها.
قال المخبر: أريد قهوة وليس لدي مال.
قال عز الدين: يا سبحان الله! دائماً مفلس! ألا تتقاضون بدل ملاحقة واستدراج؟
قال المخبر: بلى.. لكن هذا الشهر متأزم مالياً.. دفعت المرتب والبدل في شراء هاتف خلوي وسددت ديوني لتاجر الحشيش.
شرب القهوة على حسابنا وأشعل له عز الدين سيجارة كانت مرشوقة خلف أذنه.. دردشنا ثلاثتنا حول كرة القدم وكرة اليد وكرة القلب واللسان والرقبة.. وانفتحنا له وتهاوى دفاعنا فخضنا دون تحفظ في القضايا المحلية والدولية التي طرحها.. جمع حصيلة لا بأس بها من مادة تقريره حول قياس الرأي العام.. شكرنا وغادر.. بعده بقليل غادر عز الدين.. خاض في شوارع بنغازي يبحث عن رزقه اليومي.. قوت دماغه وحطب قبلته وانتصابه القصير.. يبحث عن الغفلة أين هي كامنة ليجذب من خيراتها بعض الزاد.. ساعة أو ساعتان كافيتان.. بعدها يعود إلى المقهى.. يجدني أكتب وأقرأ.. يمنحني قلماً كالعادة هدية.. أكتب به فأشعر أنني أبدع.. الحبر المسروق به سر ما.. به نار حقيقية.. جذوتها من خميرة الجحيم.
بقلمه تتسهل الأمور.. والدروب تفقد متاهاتها والحفر تردم نفسها أمام البوح.. و المطبّات تستوي لترنّح أقدامنا على وهيج الحرف.. الإلهام لا يعاندني والسرد يتكوّم أمامي والشعر يضيئني والنور المائي والغازي يغمرني.. يحدث لي إحساس لحظة العطس.. ممزوجة في لحظة القذف.. ممزوجة في لحظة تجرّع جرعة كبيرة من مشروب السيفن آب الغازي.. أشياء ترتفع إلى دماغي.. لا أدري أين كانت مختبئة بالضبط.. أسبح في الإبداع.. أصل إلى أعماق بعيدة سحيقة جداً.. لا أجد فيها أي منغص من منغصات تؤرقني.. أعود إلى سطح الورقة الوارف.. أخربش صدفاتي وماساتي.. موريناتي.. مريماتي.. غزالاتي.. أؤرّخ هذه الصدفة التي أوجدتني في هذا العصر العزديني.. أغني.. أرقص.. ألعن أجهزة القمع حيثما وجدت.. أنقش عز الدين بأصباغ أبزاد العظيم.. أعطيه القلم لينمنم معنا شقاءنا الأبدي.. طرائف.. ملح.. أخبار.. حكم.. بؤس.. شقاء.. فرح.. حزن.. كبت.. امتلاء.. عز الدين يصلّي الظهر ويسرق حذاء.. وبعد العصر يدخل المخبر إلى المقهى.. يبتسم لنا.. يسألنا عن الأحوال.. يصر على دعوتنا على قهوة عربية مذاقها (قـد).. يبدو أنه قبض.. قال: من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.. الحمد الله.. أخاف الله الرزاق الكريم العاطي.. تحصلت على مال.. كنت أشمشم في ناحية سيدي حسين مررت من دردوحة شارع الشين.. التقيت أحد الشيوخ.. صافحته بحرارة وقبلت يده ظهراً وبطن وسيف.. سألته عن أخبار الجامع.. هل هناك ما يزعج؟ هل هناك ملتحون أو مشمرون أو موشوشون في الأركان المظلمة؟ أجاب: الحمد لله.. لقد تخلصنا من كل هؤلاء.. لا يوجد في الجامع سوى بعض الشيوخ الهرمة وبعض السودانيين والتشاديين الأميين وبعض الصبية الذين يحفظون القرآن على اللوح.. والذي لا يحفظ جيداً نعلقه إلى الفلقة دون رحمة.
لا يوجد أحد من أولئك الذين على بالك.. خلاص.. راحوا فيها .. عهدك بهم عهد.. انتهينا منهم.. الجامع الآن نظيف من اللحى.. حتى الدكان الملحق بطرف الجامع أجرناه لحلاّق.. الجامع الآن جامع حقيقي.. الحمد لله.. لا شيء يزعجنا البتة.. الأفكار الهدامة والزندقة والشيوعية والماسونية انتهت بعون الله.. لا شيء يزعج إطلاقاً.. لا تجمعات.. لا دروس أو حلقات ذكر مشبوه.. توجد فقط بعض سرقات الأحذية.. تصور في صلاة ظهر هذا اليوم بالذات سُـرق حذائي.. لكن لم أغضب.. ولم أدعُ على السارق بالثبور والجحيم.. لقد احتسبت وصبرت.. أعرف أنني سأنال عن صبري جنة عرضها السموات والأرض.. جنة أسبح فيها وأطير.. لا أحتاج فيها لأي مداس دنيوي.. لم أحزن.. جاري الحاج الزنتاني صاحب شركة تستورد الأحذية من الصين.. أهداني حذاءاً فاخراً.. سرقة الأحذية كما نعلم جميعاً أمر تافه جداً.. لا تشكل أي خطر يذكر على أمن البلاد والمجتمع.. أعرف أن حذائي لا يتجرأ على سرقته سوى زنديق مارق.. انتقام جبان وأيم الله.. أكيد سرقه أحد الشباب الذين أبعدناهم عن الجامع وطهرنا الخلوة منهم.. قلت له لا تكترث للأمر.. سأتصرف يا شيخ.. حذاؤك سيعود بإذن الله.. سيعود ملمعاً بقفا وبطن من سرقه.. وشكوت له حالتي المالية.. قلت له إنني مفلس محتاج إلى مال.. لا أملك ثمن القهوة والمواصلات والسجائر.. لم يتكلم واتجه إلى صندوق الصدقات.. فتحه بالمفتاح الاحتياطي وناولني منه بعض المال.. قال لي ضع في جيبك ولا تحصِ المبلغ.. يجب أن لا تعلم يدي اليسرى ما أعطتك يدي اليمنى.. ثم أرسلني إلى صديق في مصلحة الزكاة.. قال تجدهم حتى في قيلولة ربي .. هم يعملون بإخلاص وتفانٍ طيلة الأربع وعشرين ساعة.. مصلحة الزكاة لا تتقيد بالدوام الرسمي للدولة.. لا تقفل مكاتبها إلا في حالة واحدة.. حالة انعقاد جلسات المؤتمرات الشعبية لتمكّن جماهير الحقراء من حضور الجلسات وتقرير مصيرهم .
ذهبت إلى هناك.. لم يماطلوني.. منحوني نصيبي من الزكاة.. دخلت تحت بند الغارمين.. والحمد لله بنود الزكاة كثيرة.. كلها تنطبق علي.. فأنا عابر سبيل.. وأنا من المؤلفة قلوبهم.. من قبل كنت شيوعياً أحمر كفلفلة ديك رومي مزكوم.. بعدها تأسلمت وكنت مستعداً في أي وقت لتفجير نفسي أو قتل كائن من كان.. بعدها اهتديت للصواب.. جيت للطريق والحمد الله.. عرفت طريق الصلاح والنور على أيدي أحد شيوخ الصوفية.. ذات حضرة.. جدبت وأنا شبعان.. أتجشأ البازين ولحم كوستيلية القعود حتى كاد أن يغشى علي.. أوقفوني مجدداً أجدب وسقوني شراباً حلواً بخر من رأسي كل الأفكار الهدامة والخزعبلات.. واظبت على حضور حلقات الذكر والجدب حتى نظف قلبي تماماً.. تبت توبة نصوحة وإصبعي العزيز صار دليلي.. عرفني طريق الخير أين وأنار لي درب الصواب.. أشير بها إلى الأشياء فتختفي ولا أراها مجدداً.. أعطني وصفاً كاملاً لحذائك الذي سرق.. رقمه.. لونه.. خامته.. مصنوع من الجلد أو القوما أو أي أوصاف أخرى تعتبرها علامات فارقة تدل عليه.. سوف أشمشم أرجل المارة.. وأجند كل اسكافي في رباية الذايح.. سأصل إليه في زمن قياسي.. لدي أساليبي.. متأكد من أنني سأعيده لك فوراً.. لا يمكن أن أترك قدميك الشريفتين حزينتان.. قد يركبهما الجرب والاكتئاب.. قد يدبرهما حذاء الزنتاني الجديد.. لا يمكن.. لابد أن أبحث عنه.. لابد أن أعيده لك.. أنت جميلك سابق ومعروفك في جيبي لا يمكن أن أنساه.. منحتني مالاً من صندوق الصدقات وأرسلتني إلى أصدقائك في صندوق الزكاة.. فلم يقصروا معي ودفعوا لي مباشرة دون أوراق أو ملف.. كتبوا في السجل أرسِل لنا هذا الإنسان من قبل أحد العدول المعروفين بالورع والحكمة.. آه يا صديقي الشيخ.. من البترول لم أتحصل على شيء يذكر.. خدمت أكثر مما أخذت.. لكن الحمد لله.. الزكاة موجودة.. أحب الزكاة.. وتقرميش الزكاة وبلع الزكاة وأكل الزكاة.. وأتوا الزكاة إلى مستحقيها يا مرتدين.. يا أعداء الله.. يا كفار.. سأمر على الدكاكين والسماسرة والميناء والمقاهي والمطار وسوق العرب وسوق المصرية وسوق النملة وسوق دينارين وسوق السيارات وسوق السعي واللوح والفحم والرابش.. أطالبهم جميعاً بتأدية الزكاة.. أنا المحتسب.. أنا المحتسب أيها التجار.. أيها الناس.. ادفعوا الزكاة.. حتى وإن كنتم أصحاب مرتبات.. أنا المحتسب.. ادفعوا الزكاة يا ظالمين.. البلاد مليئة بالفقراء والمساكين.. أرامل.. مطلقات.. أبناء غير شرعيين.. أطفال إيدز.. مجانين.. معاقين.. مدمنين.. بطالة.. شبعانين.
هناك في البلاد مؤلفة قلوبهم وأنا منهم.. هناك غارمون وأنا منهم.. أكثر الناس استدنت منهم وعجزت عن السداد.. من أين يا حسرة.. المرتب ضئيل والمصاريف ضخمة.. هناك عابرو سبيل وأنا في هذه الحياة الدنيا عابر سبيل.. هكذا قال لي الشيخ المروّكي وسمعت ذلك في أشرطة الشيخ كشك والقرضاوي والشعراوي..
هناك أيضاً العاملون عليها.. وأنا منهم.. بل أنا من العاملين عليها الحقيقيين.. سأجمعها لكم عنوة.. بحد السيف وزناد المسدس وغلظ الحبلة.. هكذا أخبرت موظف الأوقاف المشرف على منح الزكاة.. أنا من العاملين عليها.. ستمتلئ خزائنكم بأموال الزكاة حتى تفيض إلى الجمام.. حتى ينكسر الصواع.. أي واحد لا يدفع أعرف كيف أدفـِّـع نطف أجداده الميتين.. أعرف كيف أنتزع الأشياء عنوة.. أنا فنان جداً في انتزاع العنوات والأظافر والاعترافات.. سأعتبره من المرتدين وأؤلِِّب عليه الصبيان والرأي العام.. أحاربه بكل أسلحتي البارزة والمستترة، وأبرزت لموظف الأوقاف بطاقتي التي تخولني احتجاز الناس والتحقيق معهم في أي وقت وفي أي مكان.. وإن قالوا وحقوق الإنسان والوثيقة الخضراء الكبرى أعمل نفسي مسمعتش.. أقول لهم: في سرّي طبعاً غنوا هنا عندكم.. وأضرب بشدة حتى يدوخوا ولا يعودوا لذكر كلام المدارس والمثابات والإذاعة المرئية، وإن هذوا في دوخانهم بكتاب تحيا دولة الحقراء أعفس على رقابهم وأسقط عليهم بمؤخرتي كما في مباريات المصارعة الأمريكية.. وعندما تكون مؤخرتي النتـنة علي رؤوسهم يخجل المساكين من أن يصرخوا: واقائداه.
أنتما صديقاي.. في الصباح سقيتماني قهوة مجاناً.. وقهوتكم هذه مباركة.. فتحت لي أبواب الخير.. شربتها وأنا أتأمل معكم رأس الغزالة الجميل المعلق على جدار هذا المقهى.. الشيخ أعطاني نقوداً من صندوق التبرعات وجماعة الزكاة قبلوا طلبي وأعطوني دفعة لا بأس بها على الحساب.. والآن بحبحت والفضل يرجع إلى الله.. يرزق من يشاء بغير حساب.. ومن يتق الله يجد له مخرجاً.. أنتما طيبان.. حرام الواحد يشنتل فيكما ويشوهكما بتقرير عفن.. احكيا كما تريدان.. العنا كما تشاءان.. انتقدا أكبر كبيرها.. لقد أحببتكما من أول رشفة.. لكن بصراحة أشم رائحة جوارب منتنة.. أنا مثل أخيكما، سأهبكما بعض المال لتشتريا جوارب دافئة جديدة نظيفة ناعمة.. من يعط الله يعطيه.. الدنيا شتاء والبرد قارص.. خذا.. خذا.. خذا.. تمتعوا بالثروة..
أنا نظرتُ لرأس الغزالة الموشوم على الجدار ثم اعتذرت.. بينما عز الدين أخذ منه كمشة الدنانير وجاهد باستماتة في إخفاء قدميه تحت الطاولة.. في هذا النص يوجد خلل في الزمن.. الغزالة تنظر.. لكنها ليست من الشهود على الخلل.. أنا مَـن رأسي ليس معي.. رقبتي ليست ممسكاً.. وشعري خيوط من زئبق شفاف.. زئبق رشيق يتمدد في فضاء الحرية ويتسع.
***
مقهى عين الغزالة مقهى حديث. في الستينات كان محل تحف وأواني كريستال ولوحات تشكيلية.. هو خاصةُ التاجر اليوناني الذي عاش طويلاً في بنغازي السيد كاريد اكس .
يمين المقهى كانت خمارة مشهورة يرتادها الأوربيون وبعض تجار وأعيان بنغازي.. يجاورها مدرس سيارات فيما مضى كان سينما التقدم.. في هذه السينما نجد أبا إصبع جالساً أسفل شاشة العرض يدق الفتاحة على زجاجات المشروب وينادي:
قز.. قز.. قز..
قازوزة برتيلو مسكعة..
أناناس مسكعة..
كيتي كولا نص ونص..
وإذ يتقدم منه زبون يناوله زجاجة ويدس الثمن في كيسة قماش مربوطة إلى عنقه.. كان يفتح الزجاجات بفرقعة قوية تجعل بعض القطرات الممتزجة بالغاز تسيح على حواف الزجاجة.. وإن كان الفيلم شارعاً في العرض فلا ينادي بصوت عالٍ إنما يتمشى بين صفوف الكراسي على أطراف أصابعه متجنباً الكراسي التي يجلس إليها فتوات لوطيين..
يتجول أثناء عرض الفيلم ويهمس: قز قز قز.. وذات عرض كان الفيلم مباراة ملاكمة بين البطل المسلم محمد على كلاي ومنافس آخر.. عندما أسقط كلاي منافسه بالضربة القاضية ابتهج أبو إصبع وركض صوب الشاشة فتح زجاجتين كيتي كولا وخضهما بقوة ليتناثر المشروب ملوثاً قماشة العرض البيضاء.
في نهاية العرض رأى صاحب السينما القماشة الملوثة فغضب ووبخ أبا إصبع على فعلته، بل قرر منعه من بيع القازوزة داخل السينما وأمامها أيضاً..
عاد أبو إصبع إلى كوخهم الصفيحي حزيناً.. صبرته جدّته قائلة:
ـ الأرزاق بيد الله.. وبصراحة يا وليدي أنت غلطان.. كيفاش تلوث الشاشة بالقازوز..
بعد أسبوع أرسل صاحب السينما في طلبه وأفهمه أنه لا يقصد قطع رزق أحد.. لكن قماشة العرض لابد أن تكون نظيفة لتظهر عليها الصورة واضحة.. خاصة صورة بطل الفيلم وبطلة الفيلم التي يحبها كل المشاهدين.. أعاده إلى العمل بعد أن تعهد له أمام أمه وجدته أن لا يخضض أي زجاجة قرب الشاشة.. لم يكرر أبو إصبع خضخضة القناني من جديد.. كان يبتهج بطريقة ابتكرها بنفسه.. أي ممثلة يقترب وجهها من الشاشة يضع إصبعه في فمها ثم يلحسه.. الجمهور يستحسن هذه الفعلة ويصفق ويصرخ ويصفر.. وتضاعف عدد الروّاد وفرح صاحب السينما فمنح أبا إصبع جائزة عبارة عن قفازات جلدية.. قال له أصابعك ثمينة.. أصابعك تساوي ذهباً.. الآن أصابعك رأسمالي.. مصدر رزقي.. وإصبعك الغالي يجلب الجمهور للشباك والمال لخزينتي وكيسة عنقك.. حافظ على إصبعك من البرد.. حتى قـُـرص الهاتف لا تدره به.. إصبعك خاص بأفواه الممثلات والراقصات الجميلات فقط.. وازدادت الإيرادات.. وصار حجز التذاكر من الأمور الشاقة في المدينة بسبب الزحام الشديد.. واشتهرت السينما.. سميت سينما أبو إصبع بدل سينما التقدم، ونافستها في هذه الصرعة الإشهارية عدة سينمات أخرى كهايتي والاستقلال والنصر، فاكترت باعة كازوز ووضعتهم جنب الشاشة ووضعوا أصابعهم في أفواه الممثلات مثلما يفعل أبو إصبع بالضبط، لكن الجمهور لم يستسغهم ولعنهم ورماهم بالبيض الفاسد وطماطم جالو المبطبط.
بل بعض الفتوات ضربوهم ووزعوا زجاجات مشروبهم على الجمهور مجاناً..
سينما أبو إصبع (التقدم) هي الوحيدة التي تمتلك الإصبع الأصلي المصوّب إلى الفم مباشرة، حتى وإن كان أبو إصبع ظهره للشاشة.
انحلت أزمة صاحب السينما المالية، وسافر بفضل هذا الرواج المفاجئ إلى أداء العمرة، ومنها طار إلى القاهرة وروما ولندن لجلب علب أحدث الأفلام المصرية والإيطالية والكاوبوي.. وفي طريق العودة عرج على أثينا واقتنى منها فيلم زوربا ليعرضه أيام عيد الفطر المبارك.
منح أبو إصبع شهادة خبرة سينمائية وشهادة حسن السيرة والشكوك.. وشهادة خاصة تؤكد أن أبا إصبع فأل خير يفيد كل من يشغله، وقوته تكمن في إصبعه السحري بشرط أن يترك لهذا الإصبع عنان الحبل على الغارب، أي كامل الحرية في الحركة والوقاحة..
وبفضل هذه التزكيات من ذوي الخبرة والاختصاص صعد إلى أعلى المراتب الوظيفية.. اشتغل في عدّة وظائف مهمة.. كلها أبلى فيها بلاءاً حسناً.. وقزقز فيها حتى ارتوى.. ومن القزقزة وحشو الأصابع انخرط في سلك الصحافة.. الآن هو صحفي كبير.. يشار إليه بالبنان.. له شنب طويل متدلٍ ولحية على هيئة قفل ومكتب وسيارة وهاتف نقال وسكرتيرة ومقال يومي وإن مرض قليلاً أو قال آه ه ه عولج على الفور خارج الوطن على نفقة المجتمع.. فماذا لو فقد المجتمع إصبعه؟!
صار رئيس تحرير لجريدة أخبار بنغازي.. الثامنة صباحاً يصل صحبة السكرتيرة إلى مبنى الجريدة.. يدخلان المكتب ويشرعان في التحرير.. العاشرة صباحاً يخرجان وقد تحررت بنغازي وضواحيها أيضاً.. بقية اليوم يمضي في رقابة المطبوعات والمطابع وبقية العمل الروتيني.. بين حين وحين يخرج أبو إصبع إصبعه ويضعه في فمه.. أحياناً يفتح التلفاز ويضعه في فم مذيعة قناة المستقبل التي تعجبه أو تغمزه.. ثم يبدأ في الإشارة والتوقيع على المواد الواصلة لإبداء الرأي.. يقابل المراجعين والمراجعات.. يقبض ثمن إعلانات التهاني والوفيات والجهات العامة والمؤسسات التجارية والصناعية.. يفتح ملف المواد الإبداعية.. يتـفحصها سطراً سطراً.. يتأكد أنه لا سُم مندس في عسلها.. يتفحص ويبتسم ويتمتم: قز.. قز.. قز.. هذا لن ينشر... أو سينشر في عام الرز.. وهذا يعدل وتشطب منه سطور الخاتمة.. هذا.. يا عيني على هذا.. يحال إلى جهات الاختصاص.. به كلمات غير مرغوب فيها.. هذا مسكوت عنه.. هذا ممنوع.. هذا عليّا الطلاق ما ينشر.. هذا غير صالح للنشرحتى يوم الحشر .. هذا يمس الأخلاق.. هذا الدين.. هذا القومية.. هذا فلسطين.. هذا أمن المجتمع.. هذا أمين الشعبية.. هذا ولد عمه.. هذا خوه بالرضاعة.. هذا مدير القازوزة.. هذا مدير الصابون.. هذا مدير العلفة.. الخ.. ويتوقف أمام مقال منمق مطبوع.. يبتسم ويوقعه بالموافقة متمتماً.. هذا توسط له الزرزور كله شكر ومديح وردح وتبندير.. حتى صفحة الرياضة يدس إصبعه فيها، يحذف منها عدة سطور.. الشعر الشعبي أيضاً لم يسلم منه.. كذلك صفحة الشباب والطبخ وطب الاعشاب. والطريف أن صفحة الكلمات المتقاطعة مزقها وألغاها من الجريدة لأنه عندما جمّع حروف الكلمة المفقودة وجدها: إصبع معوج.
دعونا قليلاً نتحدث عن ثقافة أبي إصبع وعن مشوار عمله مذ كان صبياً يبيع القازوزة في السينما إلى أن صار من اساطين الإعلام والثقافة في البلاد.. فبعد أن كبر أبو إصبع عن بيع القازوزة بحث عن عمل أفضل.. ونظراً لمعرفته لكل رواد السينما، ولثقافته السينمائية الكبيرة، حيث أنه يعرف كل الأبطال.. طرزان.. سوبرمان.. الوطواط.. زكور.. رشدي أباظة.. جيمس بوند.. توفيق الدقن.. فريد شوقي.. المليجي.. جون واين.. فهد بلان.. الفونشة.. رينقو.. سارتانا.. ويشي.. شكوكو.. هرقل.. ما شيستا.. يوسف وهبي.. قزقيزة.. وغيرهم..
فلم يتعب أبداً في إيجاد عمل.. مثل هذا الإنسان المؤهل مطلوب باستمرار من ذوي الاختصاص.. عنصر مثله رضع الثقافة مباشرة من بز أم شاشة العرض في سينما النهضة لا يبقى عاطلاً أبداً.. مازالت الناس تذكره.. كان أقرب الجمهور إلى الشاشة.. دائماً يضع إصبعه في فم البطلة فيصفق له الجمهور بجنون..
في عرض عيد الأضحى وضع إصبعه ببطء في فم معشوقة عنترة عبلة فصرخ الملاكم المشهور جقرم في أبي إصبع.. اسحب إصبعك يا...... وحاول أبو إصبع أن يسحب إصبعه من فم عبلة سريعاً إلا أن جقرم عالجه بصفعة وبصق عليه وأمسك بزجاجة يريد كسرها على رأسه، لولا أن شيبوب اقترب إلى أسفل الشاشة مبتسماً فصافحة جقرم وقبّـل جبينه، ثم عاد إلى مقعده وسط صيحات الجمهور وصفيرهم وهتافهم:
قزقزقز.. يا أبو إصبع هيا فـز.
المهم أن أبا إصبع بعد أن ثـقـفـته دور السينما عن طريق غمس إصبعه في أفواه الممثلات والراقصات ثم امتصاصه، قدّم ملفاً يحمل كافة مؤهلاته وقائمة بأسماء كل الأفلام التي شاهدها والكاسيتات والاسطوانات التي سمعها، ومباريات الكرة التي حضرها والأعراس التي رقص وصفق فيها.. إلى هيئة الرقابة الثقافية، فوظفته الهيئة فوراً وباشر عمله في همّة ونشاط.. يجيز ما يريد من كتب ومجلات وجرائد.. يشطب على كيفه وهواه.. دائماً يضع نصب عينيه أمن المجتمع الأخلاقي والثقافي.. هو عارف كل الخدع وكل الشراك وحتى الطروح والأفاريّات.. رجل تعلم على كراسي السينما التي تنطبق على نفسها فور ما تقف من عليها.. تعلم في الظلام.. هو الأقرب إلى نور الشاشة وإلى أفواه الفنانات والمغنيات..
اشتغل زمناً لا بأس به في الرقابة الثقافية.. وعندما تأسست جريدة أخبار بنغازي ألحِقَ بها كرئيس تحرير.. عندما التقيته ذات صباح في سوق الجمعة يتبضع ويراقب قال لي: كيف تنشر روايتك في مصر..؟ أين موافقة رقابة المطبوعات؟! أين رقم الإيداع في دار الكتب الوطنية؟
أين الترقيم الدولي..؟.. أين نحن ؟!.. أين؟!
كانت مريم تجيبه بضحكاتها من فمي..
لقد انتهت عصور الأرقام.. هذا عصر النت.. عصر أصابعنا!!
ابتسم أبو إصبع ثم قال:
قز.. قز.. قز..
الببسي سمحة بعد الرز .
المنتدى الإذاعي مبنى مستطيل سقفه صفيح مبطن باللوح الرقيق تتدلى منه عدّة مراوح كهربائية تدور صيفاً وشتاء.. أعلى جدرانه بضع أجهزة تكييف حديثة.. تلفازان متقابلان.. كبيرهما هو الأقرب إلى طوار المطبخ.. في منتصف المبنى نافورة صغيرة بئرها محاط بسور قصير مبطن بالقيشاني.. أعلاه ثبتت بعض أصص الورود الصناعية..
المبنى يشرف على شارع عبد المنعم رياض.. يقابله مكتب بريد بمسقط جانبي.. يمينه مبنى أمانة الإعلام ومؤسسه الصحافة وروابط الفنانين والكتاب والصحفيين.. مبنى طويل من سبع طوابق تقريباً.. الدور الأول تشغله مؤسسة الصحافة، الثاني أخبار بنغازي والإذاعة المحلية.. الثالث والرابع الإعلام.. الخامس رابطة الأدباء ورابطة الفنانين.. السادس شركة خدمات إعلامية.. السابع مركز بحوث وأرشيف.. السابع سطح المبنى وخزان المياه.. ومن خلال زجاج المنتدى نرى الشارع الآتي من ناحية شارع جمال عبد الناصر والمنتهي في جسر ملتوٍ يفضي إلى منطقة جليانة العريقة.
شارع عبد المنعم رياض يبدأ بالفندق الكبير تقابله شركة الخطوط الجوية السورية، بجانبها مصوراتي البحبوح محمد الوسيع العاج يومياً بالرياضيين والحكام والمدربين واللاعبين المتقاعدين وبمشاهير مشجعي كرة القدم المحلية.. محمد الوسيع إنسان طيب رائع كريم يعشق الرياضة والفن ومن هواة جمع الصور الليبية النادرة القديمة.. يجاور مصوراتي الوسيع محل مترجم قانوني فقرطاسية وبقال ثم مطعم صغير يليه مبنى التدريب المهني الذي تقابله شركة البريد والهواتف وشارع ضيق يفضى إلى فندق قصر الجزيرة والكاتدرائية القديمة والبحر.
من شارع عبدالمنعم رياض تتفرع عدة شوارع ضيقة تـُـفضي إلى مستشفى 7 أكتوبر بردوشمو سابقاً وإلى مبنى شركة الكهرباء ومجمع الدعوة الإسلامية الاستثماري .
من خلال زجاج المنتدى نرى حافلات وسيارات الموظفات تصل تباعاً.. يدخلن عمارة الإعلام في نشاط.. يوقعن في سجل الحضور.. بعضهن تخرج وتتجه عكس اتجاه السيارات صوب قلب المدينة، حيث شوارع بن العاص والمختار والعقيب وقصر حمد وفياتارينو.. يرتعن هناك بين نوادي الأنترنيت ومحلات الأزياء والأحذية.. يمرحن مع الشباب الوسيمين والبائعات الفاتنات، ومع الحادية عشرة ضحى يعدن إلى عملهن وهن في قمة الانشراح.. منهن من تواصل تسكعها حتى منتصف النهار لتعود منهكة إلى حافلة العودة، ومنهن من تعود إلى بيتها مباشرة دون المرور مجدداً على العمل..
من خلال الزجاج نرى المشهد جلياً.. سيارات مسرعة.. مارة سارحون عقولهم تدوي.. وجوه جففها الحشيش لأدباء وفنانين ورسامين.. نرشف من قهوتنا.. تارة نكتب وتارة أخرى نرى.. وتارات أخرى نستغرق في ألمنا، فأرى وجهها ينضح بالحكايات وترى في وجهي أصداء ولّدها سريدها البهيج .
ملامحنا تقاسيم ألم تعزف أنينها على أوتار الفرح.. نحلم بانتشاء طافح.. ونتمادى رغم الاكتظاظ.. تخلل أصابعها في أصابعي.. وتلمس ظفري المعطوب الذي أقفلت حافلة طرابلسية بابها على حياته.. اسودَّ ظفري.. مات.. توقف نموه.. وتحته انبعثت مهجة.. مورينا.. مريم.. غزالة.. ظفير شفاف صغير جداً.. يدفع حشرجات الماضي إلى الأمام.. انبثقت مريم من جذر قديم.. جذر ذاكرة مستقبلية.. جذر قضاء وقدر.. جذر انغرس يوم أطعمتني البطاطس في مقهى عين الغزالة.. تضحك مريم الآن وتنفلت حروفها من ثنايا قهقهاتها.. لو كنت أعرف أن تلك الشرائح البسيطة ستعيشك لي لأطعمتك قنطار بطاطس.. كانت تطعمني بشوكة لدائن بيضاء، وعندما تستغرق في عيني حين وضع الشريحة في فمي تنسى صديقها المتمركس وترحل إلى عوالم لا أعرفها.. يسرح خيالها في ما يحدث الآن.. شريحة البطاطس في فمي وهي لم تجذب يدها والنادل قطع استغراقنا.. وضع فنجان قهوة آخر لصديقها فانتبهت وسقطت الشوكة على حافة الطاولة ثم الأرض.
لم ترفعها ولم تطلب من النادل شوكة بديلة.. صارت تلتقط شريحة بإصبعيها تبردها بنفخات متتالية وتضعها في فمي.. كنت أفعل مثلها وأتأمل جدران المقهى خجلاً سعيداً أستحضر ما عُلّق على هذه الجدران فيما مضى من لوحات تشكيلية لعظماء الرسامين..
الآن الجدران صقيلة ملساء تظهر عليها صورتنا فقط، والتي ستمّحي فور ما تغادر أو تطفأ الأنوار.. جميل جداً أن نلتقي في مكان فني.. محراب إبداع قديم تحدثه لقاءاتنا.. مقهى في قلب بنغازي.. مقهى عين غزالة نحن دموعها إذ يصطادها القدر.. ونحن مسكها إن رحلت روحها إلى السماء.. مقهى كانت متحفاً ومحل تحف وأواني كريستال نقي.. مريم تدمع.. الآن أغمس في دمعها إصبعي وبحبر القهوة أنقش على نعناع خدها: أحبك إلى الأبد المليء بالآهات، وأرسم على ما كتبت قلباً يخترقه سهم أصفر.. استأذن صديقها وغادر متأبطاً سِفْره رواية ملحمة آل ماركس .
قلت لها: ما رأيك في النقيش؟
قالت لي: أراح نفسية خدي وداواني من بثور القيح القديمة..
لكن متى تنقش لي بحبر الشاي؟
قلت لها عندما يكون الشاي شفافاً أي لا أخضر ولا أحمر.. وصعدنا إلى الدور العلوي من المقهى.. جلسنا في الركن المخصص للعائلات أو العشاق.. كل الطاولات خالية.. جلسنا إلى طاولة قرب الزجاج.. مثل طاولتنا في المنتدى الإذاعي.. تبادلنا قبلة دافئة وطلبنا شاي كيس نرشف منه ونراقب المارة.. نرى رؤوسهم.. نراهم من أعلى وهم يسيرون وعقولهم تدوي.. نرى أسقف السيارات المغبرة واللامعة.. نرى الدخان المتصاعد من العوادم والسجائر.. نرى الحياة بصخبها السريع.. نرى أشياء كثيرة من فوق.. نراها من خلال عازل زجاجي.. نرى قممها القصيرة بينما قممها العالية مازالت عصية المنال.. مازال الشجر ونخيل الزينة هو الأطول.. مازالت النجوم نرى قاعها وجنباتها فقط.. القمر قمته لا نراها.. الشمس تحرق أبصارنا إن أطلنا التحديق.. المساء جميل وجلوسها بجانبي بكامل زينتها البسيطة أضفى على المساء نوراً إنسانياً، وتعيد قولها: متى تكتب على نعناع خدي بحبر الشاي؟
وغمست إصبعي في بقايا دمع أسمر.. هو شفاف بيد أن كحل عينيها سكب فيه بقعة ليل.. عيناي في فنجان الشاي حيث أرى وجهها يصّاعد على مرايا البخار ويعود هاطلاً على شريحة الليمون.. يؤرجحها وسط الكون ذات اليمين والشمال.. أرجوحة الألم تولد فأرى إصبعي سينقش على خدها.. أرى كلماتنا تنقش على بخار الشاي بحبر الريق.. ببريق عيوننا.. وبِريق قبلتنا القصيرة.
أرى كلماتنا ذهبية.. تنافس باصفرارها صفرة الليمونة الغارقة في الكوب.. نتوسّل إليها أن لا تتبخر وتترك إصبعي.. أرتجف كمن أوحي إليه.. مريم تدفع إصبعي.. تغمسه في لحظة الصفر ونتركه ينقش على جدارية مصيرنا الواحد.. المجهول.. المجنون
كفيف أنا
خذي بيدي
يا عكازتي
فالدرب شائك
وأنتِ بصيرة
تتقين الفخاخ
لا تتركيني رهيناً للإيثار
أهب العرق
ولا أبقي لكِ أو لي
غير صفحاتٍ من ورق
ومركباً على وشك الضياع
وشراعاً وقلاعاً
من خيالٍ يحترق
وتقرأ ما نقشت على خدها بعيون داخلية.. تلمس نقيع الحبر.. تتذوق نكهة نعناعه.. تتابع معانيه.. ينفد حبر الفنجانين، وشريحتا الليمون تجفان.. وإصبعي أيضاً يجف.. ونتفطن أننا لم نوقّع تحت النص.. ونحتار وتذهب حيرتها إذ تمتص إصبعي وتمرره على حاجبيها ثم شفتيها ثم خديها وأظافرها.. ليقول لي أنـُـهَـا الراهن إنها قوية شرسة وإن خبشاتها نقوش أبدية على صخور قلبي وإن أظافرها صلدة حادة خارقة ماسية.. جوهرها نابض بالحياة وبالثورة وبالاقتحام.. أظافر صادقة لا تعرف الارتجاف.. أظافر ليست من عاج الفيلة المتشارسة إنما من قرون الخراثيت الشاكسية.
مريم لها قرن واحد.. وليس نابان مرتجفان.. مريم لها حب واحد.. وظفر واحد.. وأصفر واحد.. أنا التي نبتت تحت ظفرك الميت يا حبيبي.. ظفرك المقتول في طرابلس.. مرابطة.. جدي سيدي بوعجيلة مداوي قلوب كل البسطاء.. خاصة الصفر منها.. يقطع النحس ويزرع التفاؤل في صحارى اليأس.. أنا بنية.. من حي المحيشي.. أشجع نادي الأهلي بنغازي.. مثله مشواري طويل.. سأكون معك ولك وفيك.. لا أخاف.. أستطيع أن أهرب.. أن أعيش داخل جنونك اللذيذ بعقل مترنح أو حتى من دون عقل.. أنت عقلي وحبيبي وكأسي وسيجارتي وارتعاش جنوني وجنتي الواثقة من وجودها.. أحبك.. أحبك.. ولن يبعدني الزمن.. فأنا هو الزمن الحقيقي.. وأنا مقود الزمن الأصيل.. لو أردت أن أنهي هذا العالم البغيض فسأبكي وأغرقه بملح يرسّب كل طوف.. كيف عرفت تاريخ ميلادي 1975م..
احترت في الأمر.. هكذا هي الصدف ذات الدلالة.. الرقم دال جداً.. فبعد فطامي، أي بعد عامين تغيرّت ليبيا من النظام الجمهوري إلى النظام الجماهيري لتنقل العالم من عصر إلى عصر بغض النظر عن النجاح أو الفشل.. حروفنا ليست سُدى.. والإبداع يا حبيبي أن تأتي الأشياء دون قصد.
هل تصدّق يا أصفر أنني لا أعرف كيف أحببتك.. منذ زمن أتأملك.. وأخطر أنواع الحب هو الذي يبدأ بالتأمل.. أراك أينما كنت.. أوسوس بك.. أشاكس بذاكرتي شياطين خيالك.. أضاجع خجلك بأمطار جرأتي.. أراك في الشارع.. في الجرائد في الخيال في الأحلام.. في الأبراج والنجوم.. قتلتني ابتسامتك.. تمنيت لو كانت على وجهي.. أنا أيضاً أبتسم.. أبتسم مثلك بعفوية.. لكن في مرايا قذرة تـُـبشعني.
ثلاث فناجين قهوة متتالية حسوناها وعلبه سجائر سحقناها في المنفضة، وكمٌ هائل من الحديث أهدرناه، والنظرات تبادلناها وما مللنا، وصخب واسع سمعناه، وآذان لا ندري عددها سمعتنا، وضوء طبيعي وصناعي بدد ظلامنا وظلام يرقبنا في الأركان منتظراً غروب محيطنا ليكتنفنا.. قلوبنا تدق.. أنوفنا تسحب الهواء وتخرجه.. السيارات كالعادة تمر.. البشر كالعادة تمر.. والعادة كالعادة تمارس نزقها.. والعيون تتمتع بالمناظر الصامتة والمتحركة.. تتمتع أيضاً بسكون الأشجار وثبات سياج الفولاذ لمدرس السيارات المقابل..
نظرنا إلى بعض.. وقفنا.. خرجنا.. فالنا الخروج:
نخرج من مقهى عين الغزالة
نخرج من فنجان القهوة
نخرج من أفواهنا
نخرج ونخرج ونخرج
نحن القراءة
التي غسلتها الصنابير
خرجنا والمطر يبللنا.. لا مظلة معنا.. ونخاف الاحتماء تحت الشرفات القديمة.. عندما نقبر سيكون سطح الأرض شرفتنا.. والسماء شرفتنا الأخرى التي نتخيلها..
خرجنا والمطر يتهاطل والناس تقرأ ذوباننا ولا أجد من يتوقف ليحملنا.. دخلتُ ومريم البقال لشراء سجائر ومناديل.. خرجتُ.. ثلاث سيارات تعرض خدماتها على مظهرها.. ركبنا مع أولها.. شاب وسيم يرتدي بذلة وردية.. أصلع نصف رأس.. طويل ممتلئ.. على أوداجه تظهر آثار النعمة وعلى مؤخرته جودة العلف والماء..
فتح لمريم الباب وأشارت لي لأركب في الكرسي الخلفي..
انطلق بنا على أنغام أغنية للمطرب الشعبي جمال عاشور:
حبييبة يا حبيبة.. اليوم جارن عليا..
نيراناً قوية.. دارن دور.. دارن دور فيّا.. نبا يصعب سريبا..
قالت مريم: أنا مرّوكيّة.. رشيد صديقي يعمل في مزرعة بالقوارشة خاصة أحد المسؤولين في الدولة.. أوصلنا إذ سمحت إلى محطة حافلات القوارشة بالبركة.. رشيد تأخر وصاحب المزرعة سيوبخه أو يسجنه أسبوعاً في مستشفى الأمراض النفسية القريب.. وقد يطرده فيقطع رزقه بالمرّة.. رشيد يُعيل أخوته اليتامى في فاس والحياة صعيبة بالزاف!
قال الشاب: سأوصله للمزرعة.. لا تقلقي يا عصفورتي.. وأنتِِ ما برنامجك؟
أنا أعمل في مزين بالفويهات الغربية.. أعمل صباحاً حتى الساعة الرابعة بعد الظهر.. وفي المساء لا عمل لدي.. متفرغة لحياتي الخاصة جداً..
وانسابت السيارة المرسيدس عبر شارع جمال عبدالناصر كما النسيم وجمال عاشور يغني عبر مذياعها:
حبيبة يا حبيبة..
يا فرحة أيامي
يا بهجة احلامي
نحلم بيك حتى في منامي
معاك العقل موعارف طريقه
ويزداد انسياب السيارة فنترك وراءنا مباني مختلفة طويلة وقصيرة حديثة وعتيقة .. المركز العالمي لأبحاث ودراسات الكتاب الأخضر، نقطة الأمن الشعبي المحلي، والمثابة الثورية لسيدي حسين.. مثابة المدينة ذات المعمار الجميل المتمثل في القبّة الشبيهة بشمس.. عمارة استثمارية من سبعة طوابق مكتظة بالشقق المخصصة للشركات ومكاتب المحاماة والقانونيين.. في الطابق السادس من العمارة مقر مجلة الثقافة العربية.. هو مقر جديد.. المقر السابق في نفس الطابق لكن في الجناح المقابل.. منذ شهور صُين على نفقة مجلة الثقافة العربية، وعندما انتهت الصيانة وظهر المقر بمظهر جميل استولى عليه أحد المسؤولين النافذين، فخصصه لشركة تتبعه ونقل المجلة لهذا المقر البائس الذي كان مقراً لشركة تركية أفلست وغادرت..
حبيبة يا حبيبة.. أنتِ بالي شغلتي
وعيوني ذبلتي
غبتي ليش وكنك ما سألتي
أدموع غزار تكتبلك قصيدة
وازداد الانسياب في شارع جمال.. المباني التي وصفناها سابقاً تقابل بعضها.. يساراً نجد حلواني غازي.. فمطعم الرفاقة للدجاج المشوي على الفحم.. فمدرس سيارات كان في الزمان الماضي ملهى الألمبيك الليلي.. الجهة المقابلة مدرسة شهداء يناير يقابلها مباشرة مديرية الأمن وجهاز البحث الجنائي.. بعض شجيرات دفلى متبعثرة بمحاذاة المدرسة.. ورودها حمراء وبيضاء ووردية.. نصل سور فندق تيبستي المحوّر إلى محلات تجارية ومصرف وشركة ملاحة وبريد مكالمات دولية.. في الضفة المقابلة عمارات سكنية عالية أسفلها محلات مختلفة.. ملابس.. أحذية.. أدوات منزلية.. صيدلية.. وأيضاً فندق القرضابية السياحي.. قبل الإشارة الضوئية يميناً نجد عمارات الاستثمار.. آخر عمارة تحتها مكتبة الشهيد أحمد مصباح.. نتجاوز الإشارة الضوئية لنجد حديقة عامة تقابلها عمارة سكنية كبيرة إحدى شققها يقطنها مدرب كرة القدم المعروف خميس الفلاح، وأسفلها صالة عرض للشركة العامة للأثاث.. نهاية الحديقة محل زجاجي لبيع الزهور.. أمامه شجرة ورد وارفة شد نظرنا رجل يرتدي ملابس رياضية، يده اليمنى في قفاز احمر قابعاً على كرسي مقعدين ومستنداً إلى جذعها.. وجهه مألوف.. على مُحيّاه ابتسامة صامتة.. قالت مريم للشاب: من فضلك توقف قليلاً.. ارجعْ إلى الوراء، أخفض الشاب غناء جمال عاشور وعاد بطيئاً أمتاراً إلى الوراء.. نزلنا.. صافحت مريم المُقعد بحرارة وصافحته أيضاً بحرارة وقبلت جبينه.. فتحتُ له المظلة فأمر بحركة من عينيه أن نعيدها خلف الكرسي.
إنه عبد الجليل عبد القادر.. مطرب بنغازي الكبير.. مطرب يا طير سلم لي على غاليا.. هو مريض الآن.. يعاني الشلل.. يجلس على كرسي مقعدين تحت شجرة دفلى.. المطر يتهاطل على رأسه وهو سعيد.. والشاب يرقبنا من خلال المرآة على مضض.. عبد الجليل سعيد..
روحه تنثر المطر وتغني أغنيات الطفولة:
يا مطر صبي صبي.. طيحي حوش الربِّي
والربِّي ماعنده شي.. مفيت قطيطيسة تعوّي
صارت مريم تغنيها وهو يبتسم بعينيه ويحاول جاهداً تحريك عجلة الكرسي في الاتجاهين راغباً الرقص.. صرفت مريم الشاب المخنث بلباقة ذكورية وغنت له من النافذة مواكبة جمال عاشور في المذياع:
حبيبة يا حبيبة.. أنتِ دايا ودوايا
أنتِ فرحي وشقايا
نرسم فيك شمعة في سمايا
أنا لولاك في حالة صعيبة
قال الشاب: تغني ليبي يا حلوة؟
قالت مريم: و أعجيلي كمان.. هههههههههههه
وضحكا معاً.. ناولها بطاقة لامعة بها رقم هاتفه وعنوانه وصفته.. هو رجل أعمال وشاعر غنائي وعازف ناي لا ينفخه بفمه.
المطر يتهاطل لطيفاً.. أي بسرعة بطيئة منعشة.. مريم على يمين عبد الجليل.. أنا على يساره.. نكلمه يرد بعينيه.. يفضل لغة العيون على لغة اللسان.. السيارات تمر ولا تتوقف.. دفعنا بعبد الجليل الكرسي صوب البركة.. منطقة البركة حي معروف من أحياء بنغازي القديمة.. أشار لنا أن ننعطف.. انعطفنا يساراً.. تركنا السيلس (صومعة الغلال) وأبراج عادل القماطي التجارية تحت الإنشاء.. أشار لنا ثانية أن ننعطف.. انعطفنا يميناً، عبرنا من تحت جسر رأس عبيدة صوب حي الرويسات العريق.. جامع عبد الله عابد على يسارنا.. تجاوزناه.. بعده إشارة ضوئية.. فمدرسة قرطبة الابتدائية.. تقابلها حديقة جميلة نظيفة.. السيارات تمر تسعى للمرور بسرعة قبل احمرار الإشارة.. المطر يهطل بطيئاً والسيارات تبطئ سرعتها وتتوقف أمام الإشارة.. وصلنا وسط الرويسات.. توقفنا أمام قصاب الشطشاط.. ذلك الأهلاوي العتيد الذي ينحر الجمال والنوق والثيران كلما أحرز نادي أهلي بنغازي بطولة.. عبد الجليل عبد القادر صديقه.. يعرفه منذ زمن طويل.. كيّس له كيلو لحم خروف وقطعة كبد عجل وشريحة دسمة من سنام القعود.. وضع له الكيس في خرج ملحق خلف الكرسي.. سدد عبد الجليل الثمن فقبل الشطشاط المال على مضض وهو يردد مراراً:
ـ عيب يا قندوز.. مش بينا فلوس.. رزق واحد يا راجل.. سلملي على الحاجة العزيّز..
والقندوز هو الاسم العائلي للمبدع الشعبي عبد الجليل عبد القادر .
أين يا عبد الجليل؟ قلنا له.. أين تريد.. أي اتجاه ندفع بك؟
ينظر إلى السماء.. ندفع الكرسي ببطء.. لا نتحرك أمتاراً.. ننتظر رأيه ورغبته..
إلى أين.. اين أبنك المبتغاة ؟!
هو صامت.. نحن صامتون.. المطر يهطل ببطء..
نظر إلى الأفق.. بعض أشعة شمس تسللت من كثيب السحاب.. قوس قزح ارتسم بوضوح.. قوس قزح يجاهد السحاب.. الوانه السبعة راحلة إلى بياض عظيم..
قوس قزح أبهج عبد الجليل.. فمه يرمش كعينيه..
لسانه يتحرك ويبزغ.. يتلمظ التراتيل..
لا لعاب يسيل.. فقط دمعتان امتزجتا بقطرتي مطر وساحتا على الوجنتين.. مسحت مريم جبهته الوضيئة براحتها.. وضعت في فمه سيجارة سحب منها نفساً عميقاً.. وأشار لنا أن نواصل الطريق.. برق شكع في السماء الآن.. ذاكرته نخالها قد بدأت تحكي من جديد.. الآن نسمع ضوضاء الذاكرة وارتعاش الحنين.. أشار إلى شارع ضيق محاذ لمصنع كانون للحلويات والحلقوم.. عبرنا به الطريق ودخلنا الشارع الذي أشار.. سطر من الدكاكين الصغيرة القديمة التي تبيع القصب والشعير والقمح والبرسيم.. حزم البرسيم خضراء طرية عبقة مكومة فوق بعضها حتى منتصفها مغطاة بخيشة مبللة.. أكوام الشعير والقمح فوقها صواع ألمنيوم له ممسك على هيئة قوس مقداره ثمن.. أربع بالات تبن فوق بعضها عند مدخل الدكان.. أحد الدكاكين يبيع الفحم والقاز ويملأ أسطوانات الغاز الصغيرة (بريموس) بواسطة خرطوم متصل بأسطوانة كبيرة.. دكان آخر يبيع عصافير وأسماك زينة.. يعرض أيضاً في أرجائه الأحواض والأقفاص ولجم الكلاب وشكاكيم الحمير وبعض السروج .
في هذا الشارع الترابي نشم عطراً من نوع خاص.. لا نشمه في بقية الشوارع.. رائحة البرسيم تختلط برائحة الكيروسين برائحة الفحم برائحة التبن والشعير والقمح.. الكل مختلط بزقزقة العصافير في أقفاصها والأخرى القابعة فوق الأشجار القريبة خاصة آوان الأصيل.
الذاكرة فينا وفيه بدأت تتأجج راسمة لهبها بألوان النور، ومع انتشار الشمس على الغدران يتقاوى تأججها.. تطل الذاكرة عبر الغضون وتسري سواداً أشهب في شعيرات البياض.. لقد عشت في الرويسات أيام طفولتي.. وشبابي سلخت معظمه هنا.. في هذه الربوع.. هذه الدكاكين تعرف عبدالجليل.. سي عوض.. سي بوزيد.. سي بوعجيلة.. سي مراجع.. عمتي سدينة.. هذه الشجيرات تسلقتها صغيراً.. أغصانها الهرمة الآن تعرفني.. حتى عندما تركنا حلاقنا الصفيح لنسكن في حي المحيشي لم أنقطع عن هذه النواحي العطرة.. أصدقائي أذكرهم.. الزرقاني.. على لامين.. عمران الفرجاني.. سردينة.. المزوغد.. بو فاخرة.. الشيخ الفيتوري.. مفتاح التاجوري.. العماري.. اشويب.. امجيحيد.. بوشعالة.. وغيرهم من الرفاق الطيبين.. لعبنا الكرة هنا.. قرب جبانة العويلة.. بعنا النحاس الذي جمعناه من كناسة الإنجليز واشترينا بثمنه أحذية رياضية من سوق الرويسات العتيق.. آه سوق الرويسات.. سوق كبير كل شيء فيه.. بضائعه رخيصة وأصلية.. إيطالية إنجليزية.. وبه كنادر تشيكية صلبة وأنيقة في قاع مقدمتها حذوة حديد صغيرة لامعة.. من هذا السوق اشتريت لأمي الحنون شالاً صوفياً ما رأيته باد قط.. نذهب مشياً حتى ملعب 24 ديسمبر في البركة.. نشاهد مباريات الأهلي والهلال والنجمة والاتحاد واتحاد درنة أيام كانت الكرة جميلة وحلوة ولها طعم.
دائماً نركب الكاروات التي تجرّها الخيول أو البغال حتى الفندق البلدي ونعود إلى الرويسات قبل غياب الشمس، نتسكع في أزقة سيدي عبد الجليل والحميضة والسبالة والكيش وأحياناً نبتعد حتى الفويهات والرّحبة، وفي العـيد نزرد في البوسكو (حديقة الحيوانات) نشاكس القرود ونرمي للفيل الوحيد كسر الخبز وقشور الموز أمّا الأسد والنمر والغزلان فنتأملها بإعجاب ومتعة.. في اليوم الثاني نذهب إلى مدينة الملاهي في وسعاية الفندق البلدي.. نستقل الطائرات والمراجيح ونلعب البخت فنربح السجائر والراديوات الصغيرة والكور والألعاب، وأحياناً نخسر ليقول لنا الطلياني أو المالطي عبر مكبر الصوت بصوته الجهورى الملتوي الغليظ: معــلش يا أولاد.. فرصة ثانية.. فرصة ثانية.. مافيش فرتونا..
لكن لا نلعب مرّة أخرى، وندخل بالقروش المتبقية دار العفريتة حيث نصرخ ونضحك ونصفق ويشد بعضنا بعضاً في الظلام، وإذ نخرج من دار العفريتة المظلمة الصاخبة تبهرنا أضواء النهار أو أضواء المصابيح عالية الواط فنفرك عيوننا ونغادر.
نختم يومنا بالدخول إلى سينما تعرض فيلماً من أفلام تلك الأيام.. طرزان.. سوبرمان.. عنترة.. هرقل.. رينقو.. سارتانا.. أو أي فيلم يكون بطله فريد شوقي، لأنه دائماً ينتصر على رئيس العصابة خاصة إذا حلف قائلاً وشرف أمي..!
لا تسألوني عن البحر.. دائماً نعوم فيه صحبة أصدقائي.. بحور الكبترانية.. جليانة.. الشابي حيث بئر الكلبة.. المنقار.. وأحياناً نبتعد حتى شاطئ قاريونس.. وإن تحصلنا على سيارة احد الأصدقاء فنشدّ الرحال لأيام إلى شاطئ قمينس أو خشم الكبش.. معنا لوازمنا.. درابيكنا.. كورنا.. عدّة صيدنا وغطسنا.. خمرنا.. آلاتنا الموسيقية.. ندماؤنا أو نديماتنا...إلخ.
غني.. غني أيتها الذاكرة المتوقدة الآن.. الذاكرة التي أشعلتها قطرات الأمطار جنب شجرة الدفلى.. الماء لا يطفئ النار.. النار في قلبي الفائر الآن.. هل تعرفين يا مريم أن كل من في السيارات المارة أمامي الآن يعرفونني تمام المعرفة.. كلهم تغنوا بأغان غنيتها.. كلهم غنيت في أعراس آبائهم وأمهاتهم ورسمت لوحات الفرح في ليالي دخولهم إلى الأرحام..
هكذا هي الحياة.. متجاهلة ووفية.. أنا لست حزيناً ولست متألماً.. فهناك من أعيش فيه لحناً خالداً وترنيمة أبدية.. غنى يا مريم.. غني بلسان الذكرى بعض ترانيمي.. لا أشعر أنني سأرحل.. أشعر أنني خالدٌ.. باقٍ هنا..
وتناولت مريم يده.. رفعتها بحنان إلى صدرها البنين.. ألصقتها عليه فاستشعرت نبضات أصابعه وحركاته الموسيقية.. النهد يلين العظم.. واللبن يرجرج الشلل.. وبدأت الأغنية الإنسانية والأصابع تعزف على أوتار الخفق تراتيل الروح.. نبض عبد الجليل في نبض مريم في نبض الحياة في نبض حبي لهما.. في نبض الفن الأصيل والإشراق الجليل في عيني الغزالة..
النار لهب واحد.. النبض لهب واحد..
النور كالشمس يضيء ويغني ويغني أغنيات شجية صبورة واثقة ممتلئة بالأمل والحنين والتسامح:
سامح حبيبك يا جميل الصِّيفة.. لو تفارقه ما عاد تلقى كيفه
***
المنتدى الإذاعي مليء بالطاولات.. كل طاولة لشلة.. ممثلون كومبارس.. مخرجون.. ملحنون.. رسامون.. مصورون.. عاملون في الإذاعة مغادرون لوردية المساء والسهرة.. نحن نرى من خلال الزجاج ونتفاعل ونضحك ونبتسم ونبكي ونمسح بأكمامنا ونقفز فرحاً وننتفض حزناً وألماً ولذة.. وفي نهاية كل مشهد يغلبني الابتسام الحزين.
وتواصل مريم تخليلها لأصابعي وأتمنى أن تكون لي يد ثالثة أخلل بها خصلات شعرها.. وأخللها الآن بأصابع نظراتي.. خمس أشعة نورانية تضيئ شعرها.. كل نور يعوض إصبعاً.. تبتهج مريم لموسيقى النور.. موسيقى النور تطهر شعرها من كل القمل والبعوض والرتيل والخنافس والبوشبوات.. فقط تترك الفراشات والعصافير المواسية.
مريم ترتاح.. تشعر أنها خفيفة وشعرها منساب كحرية.. نشوان بالموسيقى المعزوفة بالأصابع.. يمنح الأصابع خصلات غارقة في موسيقى الحياة.. تجثو مريم على ركبتيها وتنوخ بشعرها الليلي الطويل.. جذعها رشيق.. صدرها صغير متناغم مع حضورها.. تنوخ ذات اليمين وذات الشمال وشعرها يقفز ضاحكاً في أمشاط الجنون.. تتصاعد الموسيقى الأخرى التي تصنعها جوانيتها فتنوخ لها مريم بشدّة.. تنفض ما علق في روحها من شوائب.. تدخل جنة الفن بقلب صافٍ.. ترتقي إلى قلب الشمس.. تقبض من قلبها دقات تخصّها كانت قد فقدتها مذ زمن.. تعود إلى نار الجنة وجحيم الربيع.. تتناول ثمار الصمت الحلوة الذهبية.. وتتذكرني أنا الذي دائماً معها في نيران تفاحتها فتشعل من ابتسامتي قنديلها وترى ألمي.. وترى ظفري الميت الذي تمسح عليه بحرص وتمسّده بنعومة المواساة وتحاول أن تجذبه ببطء تخلصني منه.. وتتراجع.. ترهف السمع.. ظفرها المنبثق تحته يقول: اتركي الأمر لي يا مريم.. العجلة من الشيطان.. النزع قبل النضج قبيح.. أنا كفيل به.. أنا ظفرك الجديد في جسد الأصفر.. في جسد العالم.. سأطهو الموت في طناجر المهل.. نحن أظافر نفهم بعضنا جيداً.. مثلما النساء بالضبط.. أنت تطعمين الأصفر البطاطس المقلية بأصابعك.. والنشوالات (البصاصات) يخطفن بكل وقاحة ما بذرتِ.. يخطفنه هكذا بالبارد ولم يطعمنه حتى حبيبة جلجلان صادقة.
عندما انغلق الباب على إصبع محمد في طرابلس كنتِ في الحمام تستحمين، وفجأة صرختِ وقفزتِ خارج حوض الاستحمام.. فالماء البارد توقف انهماره فجأة تاركاً سعيره الفائر يشوي جسدك الغض.. هناك توارد مشاعر.. هناك توارد حلمات وأظافر وجلود.. هناك توارد أظافر.. ونبتُّ أنا.. لم أترك إصبع محمد عارياً دون غمد من عاج وحيد القرن.. لم أتركه عارياً يلوثه الهواء.. نبتُّ سريعاً وصرت أدفع عنه الموت إلى الخارج.. أدفعه إلى قمامة تحترق.. ظفري مقشة صنعتها جمعية الكفيف.. المكانس العمياء أجود لكنس الرجيف.. تلملم قمامة ارتجافه وتكشطه من الجذور.. ترمي به في نسيان يبكي.. مكانس المكفوفين ديسها من سبخة العجيلات، حيث البلدة المباركة وماء الفوّار الصحي الطاهر النقي المحاط بأشجار الزيتون والنخيل والرمان واللوز والتين الحلو الناعم و الشوكي والمحفوظ بكرامات جدّي سيدي بوعجيلة قاطع التبيعة والنحس.. لا أدري يا أصفر من تركك تذهب إلى طرابلس.. أكيد شيطان ابن شيطان.. اللعنة على طرابلس وضواحيها وهضابها الطولية والعرضية.. لماذا تذهب إلى طرابلس؟.. أنا لم أُزعلك.. وصعدت ذات يوم أنبش الفضاء لأقرأ طالعك فسقطت مغشية علي.. أنا لعنتُ طرابلس.. طرابلس البصاصين والحاقدين فقط.. أما الطيبون المحبون البحبوحون فمرحى لهم جميعاً.. عندما نزور طرابلس ثانية سندعوهم جميعاً للغداء على حسابنا.. سنولم لهم في مطعم برعي أو مطعم فندق زميت أو حتى مطعم فندق المهاري.. لكن دون أن نشاركهم الطعام.. فنحن شرموليان.. لو كنت أعلم أنك ستشدّ الرحال إلى طرابلس ذلك اليوم لتربصت لك في محطة الحافلات واعدتك بعضة ليبية في كتفك إلى مدينتنا الدايخة.. وإن لم تنفع معك عضتي أحلف لك بنادي الأهلي وبلاعبه الطيب المرحوم كريم خير.. متأكدة أنني سأعيدك لو التقيتك ذاك اليوم.. وفي الطريق أخاصرك وأهمس في روحك: محمد.. أصفري.. حبك هنا.. في هذه السبخة الطاهرة وليس في حارة يهود هذا الزمن..
أعرف أنك أممي النزعة.. تحب اليهود والعرب وكافة الأجناس وحتى المخلوقات اللا آدمية.. وأقنعني كلامك جداً عن مبدأ الأخوّة، حتى عندما قلت لك إنّ هذا الوبش ثقيل الدم وسمج قلت لي: اعذريه.. هذه هي النفس البشرية.. علينا أن نقبلها ونصلحها نحن المجانين.. ربما تكون السماجة ليست منه لكن من الأوباش الذين يخالطهم مخدوعاً فيهم.. قلت لي حتى كرهك له مرض فيك.. مرض دون أن تشعري به.. وفعلاً اقتنعت أنا العنيدة النرجسية الآراء.. سامحته عن اقتناع.
.. صرت أعامل هذه الأصناف كمرضى.. وعلى فكرة يا محمد أنا أعامل هذا المجتمع بغربه وشرقه وجنوبه على أنه مريض.. حتى أبي أعامله كمريض.. حتى أنت يا حبيبي أعاملك كمريض من حبي.. لكن يا أصفري حتى أنا مريضة.. أحتاج إلى علاج جذري.. موت زعفراني.. جنة تنسيني أنني أنا.. وأنني قد ولدت.. حاولت أن أهرب.. جرّبت كل شيء.. صليت.. صمت.. قرأت القرآن.. اطلعت على الإنجيل وعلى التوراة.. تـقّـزت.. زرت المشعوذين والمشعوذات.. تناولت مهلوسات.. غرقت في الخمر والحشيش والجنس.. شممت هيروين.. بل هربت من البيت مرات ومرات.. لكن لا فائدة.. عدت وتبت.. تحجبت واختمرت وصليت من جديد.. حججت.. لكن أيضاً دون جدوى.. ما زلت لم أجدني.. ما زلت مكبلة من هذا العالم الفاسد.. ما زلت مربوطة إلى عمود أحمق.. أجهل اسمه ومكانه.. في داخلي مأزق وجودي عميق.. يحيرني.. يمزقني.. أتأمل وأبكي.. أريد أن أرقص دون هزهزة وسط.. أرقص كفراشة دون يدين أو رجلين أو حتى رأس.. أغني غناءً لا تتحكم فيه الحبال الصوتية.. غناء حبال أو مقاود تنعطف باللحن إلى صحارى مؤدلجة بالتفاهات.. صحارى لم يخترها الإلهام إلا كي يتبرز.. أريد أن أمزج زغرودة في صرخة في آهة في بكاء طويل.. أريد أن أبتسم فيك وأطير إليك وأرحل بك إلى عوالم غارقة في أمواه غسلت نفسها في فوّار جَدِّي بالعجيلات.. أحب الفقاعات لأنها تتركني أفرقعها.. أحب الاستسلام للنصر البرىء وأكره المقاومة للضعف الذي يحبني.. أحب العجيلات.. عجيلات العجيلات الذين في حالهم وليس عجيلاتنا المنتهكين خصوصياتي.. أحب أن أفرقع كل شيء.. عرف.. دين.. قبيلة.. عالم.. كون.. أحب أن أفرقعك أنت أيضاً.. افضض بكارة خجلك وأصنع من حقول جرأتك سنابل من صريح.. أحب أن أخرج من جلدي هذا.. وجلدي ذاك.. ومن كل جلودي وجدودي المشواشيين والفراعنة.. لكن أين المطية.. أنت لا تستحق أن أركب ظهرك.. أنا بنتك الآن.. أتسلق صدرك النقي.. وأربت على قلبك المتعوّد على الحروق.. أطفئ ما أستطيع بنظرات جناني وبقهوتي التي أقدمها لك كل صباح.. أعدّل مزاجك.. وبالحذاء الذي اشتريته لك ومسحته بلمعان دمعي أقيك الشوك.. أحب أن أتسلقك.. صدرك.. رقبتك.. أتمركز في ابتسامة مخيخك.. تنفرج شفتاك.. أظل بين أسنانك.. لا أشعر أنك تعضني.. أشعر أنك ترى الق السر فيّ.. فأقتنع بأنك لي، ولك ولكل العالم أغني:
أيتها الابتسامة
لا تشفي أكثر
فأنا لا أحتملك
أتعجب لصدقك
وكيف تبزغين من أعماق الورود؟
وهل الأسنان ضرورية لجمالك؟
سأسأل كتكوتاً
أو طفلاً رضيعاً عن ذلك..
أيتها الإبتسامة
كم أنا أحبك
لأنك دون صوت
وصدى صوتك في القلوب يرفرف كحمامة
في المنام التقيت مخلوقاً من جنون
منذ قبل الولادة
فقد بصر العيون
قلت له:
كيف ترى ألق الابتسامة؟
اقترب مني..
تحسس ربيع وواحات وصحارى وجهي
بالسبابة رفع شفتي العليا
بالإبهام خفّض شفتي السفلى
ثم قال لي:
أطبقْ أسنانك على لا شيء..
تعليقات
إرسال تعليق