رواية شرمولة للروائي الليبي محمد الأصفر (6\6)
هبطت مع شارع عبدالمنعم رياض.. أتأمّل سحاب الشتاء وأسوّغ تصرفي السابق على أنه ليس تسولاً.. فالجريدة كتبتُ فيها نصوصاً قصصية وشعرية عظيمة لا تقدر بثمن.. والنقود التي تقاضيتها سابقاً قليلة قياساً بالتي تقاضاها أشباه الكتاب والبوّاقين والقوادين.. وهذه اللفافات التي يخرجها رؤساء التحرير وكافة المسؤولين من جيوبهم لم يرثوها من آبائهم أو أجدادهم.. إنما هي من المال العام.. أي من مال البترول الليبي.. لعنت كل مسؤول جالس على كرسي وتمنيت لهم من كل قلبي خازوق طويل المدى.. حذو مبنى معهد التدريب المهني.. الأستاذ بالمعهد جابر العبيدي سألني عن مصير قصيدته.. هل وضعتها يا محمد في (الشرمولة) أم لا؟ قلت له سأضع هذا المقطع الجميل فقط:
"حين قلتِ أحبكَ أذهلتني البساطة أذهلتني الموسيقى حين تـزنـّر بحرالكلام على شفتيك".
عند القرطاسية المجانبة لمطعم الحرايمي التقيت الصديق الرائع عزالدين.. منحني نصف دينار.. واصلت طريقي والتداعيات تتفاقم في رأسي.. ولا أعرف هل أكتب وأكون مفلساً، أم أتاجر ويكون لدي مال ولا أكتب؟ وهل أكتب مسلسلاً درامياً تافهاً مقابل عدة آلاف من الدولارات.. لكن حرام.. ما أكتبه للتلفاز لست مقتنعاً به.. ليس أدباً.. وهل يعقل أن أبيع الكلمات لعيون المشاهدين؟ قد تقتلني قلوبهم بدقات العتاب.. قد تغضب عليَّ مورينتي التي لا تقبل إلا بتألقي والتي تعتبر حبي للكلمات حباً لها.. قد تهجرني غزالتي وما أعود أشم مسكها عبر نسيم الحياة.. إذاعة صوت أفريقيا قال لي أحد مسؤوليها ابن الغزالي اكتب لنا عن أفريقيا.. الآن السوق أفريقي 100%.. اجمعْ لنا قصص افريقية.. هدرزة أفريقية.. دق طبيل أفريقي.. رقص أفريقي.. أغاني أفريقية..
"وللأفريقي افريقيا للأفريقي أفريقيا..للأفريقي وما نخلي فيها غازي أفريقيا.."
ويام الخيرات يا امّنا.. ما يغلى عليك دمّنا..
يا حضن حنون ضمّنا.. بالحب الدافئ الوفيْ..
وللأفريقي أفريقيا للأفريقي.. ودربك وحجّل يا حمد السمساري.. جيب أي شيء أفريقي.. أي سحـنـتي.. كله ماشي.. القسم المالي في الإذاعة ماعنداش روح مع أفريقيا.. استعن بالشبكة العالمية.. اكتب حتى من الرأس.. السود سيسودون في العالم.. أفريقيا للأفريقين.. كونتا كينتي.. وامشي على هذا المنوال.. أكتبْ البرنامج وسوف أعطيك مقابلاً مالياً مجزياً.. سأعاملك مالياً معاملة الكتاب الكبار.. نافو مازن زوي أوريث خوشيم داهش مرغني بوسيفي عماري بوشناف بوشويشة عباني محجوب بودوارة عراب مزداوي عدل .. هيا سقد روحك.. فيش تراجي .. اكتبْ وهات ما دامت أفريقيا تشتغل وواكلا الجو..
لكن هذا ليس شغلي.. لا أستطيع.. أفضّل تسوّل المال من الأوباش والأصدقاء على خيانة الكلمات وسرقة أفريقيا بسطور تافهة وبويق أجوف.. عندما أريد التغني بأفريقيا سأفعل مجاناً.. أفريقيا لم تبعني.. شمسها مشرقة.. ماؤها وفير.. ودفئها المحب يصلني في صمت.. لن أكتب أيها الغزالي الطيب.. نفسي تشفى عندما أسبب لها الألم أنا.. لكن نفوس الآخرين ماذا أفعل بها؟ قد لا أجد دواء لها إلا بموتي.
حاذيت مبنى الخطوط الجوية الليبية عند ناصية شارع عبد المنعم.. حييت مديره الصديق فرج الفرجاني عبر الزجاج.. أشار لي بما معناه اكتبْ لنا شيئاً عن فريق الأهلي وسوف أمنحك تذكرة سفر إلى طرابلس مجاناً.. ابتسمت له وعبرت على ضوء ابتسامته الطريق.. الأهلي أهلي أكتب عنه دون مقابل.. في مدرس السيارات المقابل لمقهى عين الغزالة التقيت الناقد محمد المالكي.. استبقاني يحكي لي عن بياناته ونظرياته ومعاركه وقضايا الرابطة الأدبية والمؤسسة الثقافية والمدرسة السيميائية.. قلت له أخرجْ ما في جيوبك أرى.. أخرج بعض الدنانير والأنصاف والأرباع المدعوكة.. أخذت منه ديناراً وقلت له نكمل الحديث عن الأدب فيما بعد.. أنا في حالة قِـلة أدب الآن.. عبرت الشارع إلى الضفة الأخرى.. نظرت من باب مقهى عين الغزالة.. لا أحد من الأصدقاء.. والغزالة غير ملتصقة بالجدار.. خارجة في جولتها اليومية إلى بلدة سلوق.. تتبعت مسكها مواصلاً طرز خطواتي في امتداد شارع جمال عبدالناصر.. أتتبع رائحة المسك فسأجد الخير.. مصوّب دراجات الجهاني.. مطعم المد وساطي للمفروم والفاصوليا والفول المدشش.. مصوراتي ليبيا.. مطعم تركي فاخر.. مفرق طرق به رجل مرور يحتسي المكياطة جنب عمود الإشارة.. المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر.. ألج الحديقة التي أمامه.. بعض العشاق جالسون على الكراسي.. الفتيات رؤسهن إلى الأرض والأوشحة صانعة نتوء على هيئة نصف قوس أمام جباههن، والعشاق يثرثرون وعيونهم تتقلب حذرة من المفاجآت .. وقفت أمام العمارة التي بها مجلة الثقافة.. قلت سأصعد إلى مقرها في الدور الخامس.. فمجلة الثقافة رئيس تحريرها ليس ريديكالياً، إنما شيخ يعتقد بوجود جنة ونار وجزاء وثواب.. هذا الشيخ لا يخيّب قاصداً.. ولا يخرج من جيب فرملته الواسع أي عملات مدعوكة.. دائما يعطيني عشرة دنانير أو خمسة عشرة أو خمسة دنانير صغيرة ظريفة من الطبعة الجديدة.. وذات مرّة كان مبسوطاً جداً من رئيس مجلس الإبداع ومن مدير هيئة الأوقاف الدينية فأعطاني خمسين ديناراً.. دائماً يقول لي إذهبْ اكتبْ وإن احتجت إلى أي شيء فاطلبه مني ولا تتردد.. ذات مرّة أعطاني حقيبة.. وأوراقاً.. وأظرفاً.. ومرّة أخرى قلت له لا يوجد لدينا في البيت سلع تموينية فمرَّ بي على الجمعية الاستهلاكية وسحب حصته الشهرية: زيت.. طماطم.. أرز.. دقيق.. سكّر.. شاي.. أخذت منه علبتي زيت وعلبتي طماطم ونصف كيلو شاي أخضر.. قال لي خذ: أرز ودقيق وسكّر.. قلت له عندنا.. شكراً لك.. وجزاك الله خيراً.
عند مدخل المصعد قابلني الصديق طارق.. موظف بالمجلة.. كان غاضباً متنرفزاً من إحدى زميلاته.. سألته عن الشيخ فقال لي لم يحضر اليوم.. أعتقد أنه متوعك.. البارحة تأخر في الحضرة العيساوية.. يقال إنه طعن جنبه بالسكين وتمرّغ ضاحكاً على جمر البطّوم.. هكذا حكى لنا الزرزور هذا الصباح نقلاً عن مصدر موثوق حسب زعمه.. سألته وأنت أين ذاهب الآن؟.. أين طريقك؟.. قال لي سأذهب إلى السِّـرتي (قسم المرور) أعرض سيارتي المتسوبيشي هذه على القسم الفني.. قد أبيعها قريباً.. أفكّر في اكمال نصف ديني والزواج ببنت الحلال.. قلت له مبروك.. مبروك.. لا تنس أن تدعونا للعرس.. لكن إن دعوت الزرزور معنا فلن أحضر.. سيقضي لك على كل العصبان.. وضحك كثيراً حتى أنه نسي زميلته التي نرفزته منذ قليل.. قلت له خذني معك إلى حي المحيشي.. هو على نفس الإتجاه الذي تريد إن اتخذت طريق الشرق. تنننت
ركبت بجانبه.. أشعل سيجارة مارلبورو وشغّل موسيقى نوبة مألوف ليبية وصار يحكي لي عن مشكلته مع زميلته.. السبب هو الهاتف.. عندها هاتف نقال.. ولا تترك لنا هاتف المجلة الوحيد.. وعندما عاتبتها بعشم.. غضبت وثارت ثائرتها وصفقت باب المكتب مغادرة.. أنا طارق تصفق أمامي إحدى الفتيات باب المكتب! ومن هي حتى تفعل ذلك؟! لو كانت رجلاً لورّمت له وجهه.. لكن المرأة.. حرام.. عليَّ أن أحـتمل.. وأخرج من المكان.. لا أريد أن أغضب الشيخ رئيس التحرير.. سيضع اللوم عليَّ حتماً.. يقول لي أنت الرجل.. واللوم على كبير العقل.. أنت الذي لازم يتحمّل ويصبر.. النساء دائما لديهن ظروف.. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "استوصوا بالنساء خيراً ".. للنساء مصاعب ومعضلات نحن الرجال لا نعلمها ولا نحسها.. قد تكون اضطرابات الدورة الشهرية.. أو آلام سن اليأس.. أو خيبة أمل عاطفية.. أو مشاكل في البيت.. تحمّل يا طارق.. وغيّر الساعة بساعة أخرى.. وجميل أنني التقيتك عند المصعد, وأضحكتني سريعاً بإمزوحتك عن عصبان الزرزور.. سأدعو الزرزور إلى عرسي.. هو الأول بالطبع.. لكن سأمنع عنه الأرز والعصبان واللحم الكبار حتى يرقص.. فهو يجيد الرقص.. خاصة على وحدة ونصف..
أنزلني أمام البيت.. ضيفته فاعتذر.. وجدت آمال في السرير.. شعرت بدخولي.. ساعدتها على النهوض.. أدخلتها الحمّام.. ساعدتها في الاستحمام والتنشيف.. صلت ركعتين وهي جالسة على كرسي.. نزلتُ إلى الدور الأول.. استلفت من أختي عشرة دنانير.. أختي فقيرة.. لا تعمل وتعول.. لديها أربعة أطفال وزوجها في السجن منذ شهور.. كان يبيع الزهور أمام المستشفى الذي سأنقل إليه زوجتي الآن.
اكتريت سيارة أجرة وركبنا معاً.. معي حقيبتي ومعها حقيبتها التي بها مستلزماتها ومستلزمات الجنين.. قبل أن أحضر سيارة الأجرة مررت على البقال، اشتريت لها حليباً وموزاً وبسكويتاً وزبادي وكيكة صغيرة مستديرة محشوّة بحبيبات زبيب.. حشوت البضاعة هذه في جيوب حقيبتها وقبل أن نخرج من الشقة قالت لي: اعطني حضناً.. فحاضنتها بحرارة وبصدق.. وكنت راض عنها كثيراً بل تماماً.. وسامحتها وسامحتني.. وركبنا سيارة الأجرة حتى مستشفى الجمهورية.. وقفت الأجرة أمام قسم الولادة المشرف على الشارع الرئيس المؤدّي إلى بحر الشابي.. لم تقو على الخروج من السيارة.. أقعيتُ أسفل الباب وحررتُ رجلها من أسفل الكرسي.. أهبطتها ببطء حتى لمست الأرض.. وأخرجتُ رجلها الأخرى برفق وأوقـفـتها.. كانت تئن.. تتألم كثيراً.. لا تستطيع رفع رجلها المتورّمة من الألم إلى الدرجة الوحيدة أمام الباب.. إحدى النساء الواقفات أمام الشباك هرعت إلينا.. وضعتْ يد آمال اليمنى على عنقها وطوّقت بيدها اليسرى خصرها.. وساعدناها معاً.. أنا يسارها والمرأة التي لا أعرفها يمينها.. اتكأت آمال بيديها على عنقينا ورفعت رجلها وباقي جسدها المثقل بثمار الإنسان صاعدة الدرجة الوحيدة.. داخلة إلى القسم.
انتظرتها واقفاً أمام الباب.. عقلي يمور بأحداث كثيرة وآمال مرتجاة.. وحنين إلى مورينا.. وتوقعات بما سيحدث لآمال.. وماذا ستنجب لنا.. وهل ستسلم.. أم تهلك لا قدّر الله.. وكيف أتصرّف.. أحاسيس تتشابك داخلي.. وعقلي وحيد يعيش غربة لا أنس بها.. أحلم مغمض العينين.. بالولد أو البنت.. بآمال.. بمورينا.. برواية شرمولة.. بخروف العقيقة الذي سينجـو من سكيني لعدم وجود المال.. بخروف العيد الذي لن أشتريه كما العام الماضي.. برواية (نواح الريق) في مصر المنتظرة إذن الدخول أو إلغاء الرقابة.. برواية (تقودني نجمة) الممنوعة حسب ما قرأت في مقال بالشبكة الألكترونية.. برواية (سرة الكون) التي عجزت عن حذف أي مقطع منها.. بمراكش وبانكوك.. بدرنة وطرابلس.. بأحلامي التي بنيت بعضها ولم أكملها.. بارتعاشة الذقن.. والبطاطس اللذيذة التي قدمتها لي مريم ذات شتاء في مقهى عين الغزالة.. بالهرب من هذه الحياة.. بالهرب من الموت.. بالسفر إلى مكان لا أعلمه حتى أنا.. بمقابلة الكتاب الكبار أمثال ميلان كونديرا وامبرتو إيكو.. بقراءة كتاب دون أن يقاطعني أحد.. بالسفر دون جواز سفر.. والطيران دون أجنحة.. بالجلوس ومج ألف الكلام (الحشيش) مع محي الدين بن عربي.. بالرقص مع جلال الدين الرومي والثرثرة مع ابن رشد والسكر مع أبي نواس وقيادة عصا أبي العلاء المعري إلى نور أختاره له.. بلعب مباراة كروية مع بيليه وماردونا وسقراط ورولندينهو.. بالنوم في قلعة آلموت مع عشر لاعبات تنس أرضي وخمس لاعبات تنس طاولة ولاعبة جمباز وعارضة أزياء ومطربة ضعيفة هشة صوتها كفيروز أو كماجدة الرومي بشرط أن تكون كل هذه النسوة تشبهن مورينا.. بمورينا وماذا تفعل الآن.. تكتب.. تبكي.. تحلم.. تصارع الأخلاط.. تلعن الحظ.. أو تتوسّل ميزان الحياة أن يضع مثلها في كفته الأخرى.. وفتحت حقيبتي أخرج ورقة أدوّن هذه التداعيات التي تغزوني.. أتكئ على أفريز حجري قديم متصدّع.. خلفه جزء من السور الشرقي القديم لمدينة بنغازي.. شجيرة خروع مهملة نابتة خلفي.. تطل عليها نافذة غرفة الكشف.. انتزعت الورقة من دفتر وهممت بالتدوين.. نظرتُ إلى الشمس مثلما افعل دائماً قبل الكتابة.. الدموع تغزوني.. وآمال تطل من النافذة.. ابتسامة ألم على وجهها.. طلبت مني إرسال ملفها الطبي.. ناولته لممرضة تنتظر عند الباب.. بعد دقائق أحضرت لي نفس الممرضة ورقة صغيرة لأفتح لها ملف إيواء بالمستشفى .
فتحت الملف في قسم الاستقبال.. وغادرت إلى عمارات سبعة آلاف وحدة سكنية لأعْلِمَ أهلها.. ركبت أتوبيس حي الفاتح.. نزلت قرب شقة أبيها.. في الطريق لاقتني أختاها فجرية وخولة.. سلمت عليهما بحرارة وبقبل على الخدين.. كانتا ذاهبتين لشراء الحلوى والبسكويت من البقال السوداني.. سألتهما عن والديهما.. قالتا: موجودان.. طرقت باب الشقة.. فُتِحَ نصف فتحة.. أمي حواء زوجة أب آمال تقول من الطارق؟ قلت محمد.. تصافحنا وأعلمتها بدخول آمال المستشفى.. فرحت، وقلق سريع انزرع على وجهها، وأضفت أنها بخير.. لم تلد بعد وموجودة في قسم الملاحظة. ها هو رقم الهاتف.
في العشية عدتُ إلى المستشفى.. هتفت إلى قسم الولادة.. قالوا مازالت لم تلد.. في الليل عدت ثانية وهتفت فقالوا لي في غرفة العمليات.. الولادة تعسّرت..
بقيت قرب الهاتف.. كل دقيقة تمر تستل من روحي دميعات.. لم أعد أرغب في لاعبات التنس والجمباز وعارضة الأزياء.. أبقيت المطربة الهشة لتغني لي بعض التراتيل الدينية.. تذكرت مريم.. تذكرت غزالة المسك الراكضة إلى شيخ الشهداء في سلوق.. أوصيتها بالدعاء لزوجتي بالسلامة.. تذكرت مورينا فوجدتها تجلس بجانبي تلتصق بي كما في كرسي الحديقة.. تمسّح براحتها على صدري وجبهتي وتصبّرني بمقاطع شعرية نابعة من أعماقها.. تحكي لي عن مهجة.. ابنتنا التي أسطرتْها مشاعرنا المتجاذبة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. من أقصى الزمن إلى أقصى الزمن.. من الكلمات التي قيلت هنا وهناك.. من ذاكرتها المثقلة بي ومن ذاكرتي المثقلة بها.. من الزمن الخطأ والزمن الصحيح.. من برجي وبرجها.. من مدارنا المتوحد علي تروس النزف.. تجلس بجانبي.. تستل دميعاتي.. تنظمها عقداً تسرّبه إلى مهجة عبر سرة ستبتر الآن بمقص حاد.. تكون هذه الدميعات هي دواء الجرح.. عيناك يا حبيبتي قطارة.. مطر في غرفة العمليات.. يرعى مهجة التي لم تخرج من رحمك وإن خرجت من روحك باليقين.. طيفك يحوم هنا وهناك.. يمنح آمال نبضات للبقاء.. ويلقم مهجة حلمة جدوى دافئة.. يقف أمام جامع كرشود.. الأنـثى المعمارية الصغيرة.. جدة المساجد العتيقة في طرابلس.. الدالية المتدلية حتى في الشتاء.. آمال تتألم.. هي تحت المخدر الآن.. لا تشعر بشيء.. مهجة أيضاً تحت المخدر.. لا تشعر بشيء.. لكن عند قطع الحبل السُّـري.. مهجة شعرت بك.. عانقت بصرخاتها مطرك.. مطرك صار زغاريد.. لسان مهجة حلم بلسانك.. التصق بواقعه الطري.. امتزجا في كلمة غضة وسافرا إلى غدران الرضاب.. لحسا ألسنة ضفادعه المزغردة وعادا إلى المستشفى.. آمال تهذي بتأثير المخدر.. تدعو لي.. تقول محمد أحبه.. لم يزعلني أبداً قط.. يغسل لي الملابس والأواني.. يحضر لي عصير العنب والمانجو وقصب السكر.. لا يوبخني.. لا يلعن أهلي مهما غضب.. دائماً يشكر أبي.. أنا أحب أبي.. أنا أحب حبيبي وزوجي محمد.. لا تبتعد عني.. لا تذهب إلى طرابلس.. لمن تتركني إذ تذهب.. ليس لي غيرك.. أحبك.. فكني من طرابلس.. فكني من درنة.. مراكش.. بانكوك.. هنا رباية الذايح.. سميرة.. آمال تهذي ومهجة تصرخ.. صرخاتها ذبذبات شعرية توشوشك.. وأنتِ يا حبيبتي عصب الألم.. تبتسمين وتـنوحين.. وتغـنين بما نفـثت مهجة في رهافة روحي:
لن أذهب بعيداً
وقريباً لن أجيء
كل الأهواء تدخلني وتخرج فلا أحس
حتى الأحلام تحلم في داخلي وتـنـتهي
ذاكرتي نسيان
أنا أين؟!
أنا في الطفولة التي عشتها ولا أذكرها
التي بكيت فيها أحلى بكاء
ونمت فيها نوم العوافي
وصرخت فيها طازجة دافئة
أرضع اللبن
وألوك البسكويت المبلل بالماء
والمهروس جيداً بظهر الملعقة
ذاكرتي نسيان
ذاكرتي نبضت مذ بكارة التاريخ
مذ تمزّق القماط
مذ قيّدوا رجليَّ بحبل المسد
وطلبوا مني المشي
لقد مشيت يا أمي بعد أن أغـووني وغـنّـوا لي:
"دودش حب الرمّان..... دودش خبزة ودهان"
ومذ تلك المشية ما رجـعــت..
آمال تزداد هذياناً ومهجة صرخاتها تـتـنغّم.. تستحيل فراشات ضوئية.. تـنير غبار عقلك بريح عطرة .. الجنون المحزون يخلطك في وحشة لم تصنعيها لكنها صنعتك عنوة واجترّتك إلى جحيم لم تتعوديه وإلى جنة ليست غائمة.. مهجة الآن تغسلها الممرضة الفلبينية وتتخيلينها عاملة النت الفلبينية في مقهى النت وهي تحضر لنا القهوة وتضعها على طاولتنا بهدوء لا يزعجنا.. سأشرب اليوم يا مودي القهوة حلوة.. مورينا تحبك.. تقتلك دفئاً وسكراً.. يانا عليَّ من ابتسامتك.. أنت حليت مرارتي وعسّـلتها أيضا بعسل نحل يغني قبل أن يطير وأغرقـتها في الرُّب والمُربَّى والقشدة وجوز الهند والبندق والفستق والآيس كريم السائح اللا محتمل.
بقيت قرب الهاتف قلقاً ولا شيء في دماغي سوى ليبيا الشادة من أزري في ضيقي الذي أعيشه الآن.. أريد آمال.. أريد مهجة.. أريد مورينا.. أريد مريم.. أريد كل الحب والأحلام.. والأوهام مكتظة الآن في مخيّلتي تعبدُ ملاك الأمل في داخلي وتنتظر فردوسها.
***
أنا الشاعر رامز رمضان النويصري أحب أن أدخل هذه الشرمولة بنفسي وبمحض إرادتي دون أن أدفع فيها أو أهرس أو أختلط بأي فص ثوم متدروش أو قرن فلفل معجون.. أرسل لي الأصفر مسودة من رواية (الشرمولة) لأطلع عليها وقال لي اقفز في أي مكان من النص فوجدتني أزرع هذه الكلمات وهي عبارة عن حوار وجداني أجريته معه:
بمناسبة صدور مجموعـته القصصية الأولى حجر رشيد عن منشورات مجلة المؤتمرالليبية وروايته الأولى (المُداسة) عن مركز الحضارة العربية القاهرة، التقينا القاص محمد الأصفر وكان هذا الحوار:
التقيته أول مرة في مقهى فندق (الصفاء) وقدم لي نفسه (مندلقاً)، تريثت كثيراً قبل أن أستوعب أنه هو ذاته صاحب (قصة حكاية جورب).. فيما بعد عندما فرد حقيبته الجلدية السوداء ـ وهي بلا مقبض ـ وأخرج مجموعة من الأوراق قال إنها تحوي مجموعة من قصصه، استغربت من خطه السريع وانحنائه كي يسمعك جيداً. وتحدث كثيراً.
محمد الأصفر.. أستطيع أن أقول الآن إنه كاتب من طراز خاص، يكتب ويدرك أن الكثير غير راض عما يكتب، ورغم هذا يظل يكتب لأنه يعرف أن الكتابة ليست بالمهنة، إنها روح، ومن يعرفه يدرك أنه استفاد من كل تجاربه، وأن نصه هو صورة طبق الأصل لمسيرته اليومية في الشوارع والبيت.. في هذا اللقاء يقدم لنا "الأصفر" نفسه، يقول بكل صراحة: أنا إنسان مؤذٍ.. أسبب الضرر لكل من يتعامل معي.. وإنني ساحر نفسي أكتب دون أن أفهم ما كتبت..
ـ لماذا كان حجر رشيد.. وهل ثمة حجر رشيد يمكننا الكتابـة عليه؟
ـ يمكننا الكتابة عنه وليس عليه.. حجر رشيد هو حجر الذاكرة المتدفىء بالتراب لسنين طويلة.. وبعد أن وُجد قدّم للإنسانية خدمة معرفية جليلة.. شامبليون ومن كان قبله من علماء الآثار هم مبدعو الحضارة.. كل منا ذاكرة منسية مهمشة تنتظر شامبليون الكشف والاهتمام.. مشاعرنا المكبوتة ندفنها منقوشة على أحجار القهر والقمع. أجسادنا مقموعة.. كما أرواحنا ونفوسنا وكل كياننا.. صرخاتنا ليست بوحاً.. وثوراتنا لن تصنع منا تشي جيفارات جديدة.. نحاول أن ندفن الأنانية عبر لغة لا يفهمها الطين الآتي .. ندفن خيبتنا وجنوننا وتعاستنا المولودة معنا.. لماذا علينا أن نختار؟.. لا أريد نجاحاً يجبرني على دخول الامتحانات.. أريد أن أسقط.. أن أترسب في قاع الحضيض.. لا أحب الفضاء.. أخاف أن تسقط بي طائرة الحظ في مهاوي الفرح المزيف. أريد أن أضحك وأخاف.. لذلك أبكي دون رؤية دافناً بوحي، منقوشاً على أحجار مبهمة لن يفك طلاسمها غيري.. أنا ساحر نفسي.. أكتب دون أن أفهم ما كتبت..
الكتب التي قرأتها خادعـتـنـي..
والتي لم أقرأها لـم تـُدافـع عـنـي
والتي كـتـبـتـها ضـيـعتنـي..
والتي سأكـتـبهـا
واعدتـني بـالـفـنـاء..!
أخشى وشاية الروح.. أخشى الهواء الذى أتنفسه.. لذلك ألهث ما طاب لي.. أريد درجي الذي حرثته بالفرجار في المرحلة الإبتدائية.. أريد رسوماتى وحروفي ونشارة قلم رصاصي الذي بريته بالمبراة ذات المرآة الدائرية.. حجر رشيد مجموعة نصوص عادية كتبت بحبر اللامبالاة ولا شيء غير ذلك.
ـ كيف يمكننا قراءة محمد الأصفر؟ ما الذي تريد قوله للقارىء؟
ـ الأفضل أن لا تقرأوا محمد الأصفر بل أن تلعنوه.. فاللعنة زادي الذيت به أقتات.. أنا إنسان مؤذ.. أسبب الضرر لكل من يتعامل معي.. في أي مجال.. تقرأونني فلا تفهمون شيئاً.. لأنني أنا نفسي لا أفهم لماذا أكتب وماذا أريد؟ أريد أن أشرب القهوة في مقهى صغير.. أريد أن أتأمل دون مقاطعة.. لا أريد تحمل المسؤولية.. لا أريد مخالطة البشر.. زوجتي آمال فقط أحبّ أن أحيا معها فى صخب لا متناهٍ.. لذلك سمعي ضعيف وبصري كليل.. وفهمي بطىء.. مشيتى هي السريعة فقط!.
ـ نلاحظ أنّ شخوصك ليست بعيدة، أنت تتحدث عن القريبين منك، كيف تتعامل مع هذه الشخوص؟
ـ القريب مني بعيد.. من خلاله أرى تناسخات الزمن.. أرى صورته بكل هواجسها متكررة أمامي إلى ما لا نهاية وكأنها جالسة في محلقة مجدّرة بالمرايا.. الشخصية بعيدة.. أجذبها أمامي.. أتحاور معها.. نتشاجر.. نتهاكم.. نقهقه.. نتضاجع.. نقتل بعضنا بؤساً وفرحاً.. بعد ذلك أهرب وأتركها أمامكم تبحث عني.. في نصوصي أكتب دون أن أعرف نقطة النهاية.. العالم مزدحم بالجدران فلماذا أنهي سردي.. نهاية نصي بداية جديدة في أرواح تفـضحني.. أخاف أن يقبض علي.. فدائماً أنزف وألتفت إلى الوراء.. ليس للماضي بالطبع.. لكن للمستقبل الخلفي.
ـ فى قصصك أنت دائم البحث عن شىء ربما لايروق أحداً لكنه يروق لك، إلى أين تؤدي بك لعبة الأختلاف هذه؟
ـ تؤدي بي إلى لا أدري.. إلى لا فهم.. عندما تفهمني يا نويصري ورقتي تحترق.. لذلك أبحث عن المجهول المعرفة في داخلي.. أراه لكنه يتملص.. يداي ملطختان بالقذارة اللزجة ولا أجد ماء نظيفاً صادقاً يغسلني.. بقعة الضوء الطاهرة في داخلي أراها.. هي تتملص مني.. أعرض عليها أن تحرقني مقابل الاستحواذ.. لكنها تشترط نظافة اليدين، وأنت تعرف أيها الصديق كيف ولدنا وكيف عشنا وما لامست أيدينا من قذارة وما رأت أبصارنا من عبث.. وما داست أقدامنا من تراب منافق يدخل عينيك إن استأنس برائحة ريح.. المهم يا نويصري أنا لا أتصنّع الاختلاف.. كتابتي هكذا.. أبتعد عن النجاح والقوالب قدر الإمكان.. أتجاهل الأمسيات والندوات والضوء المزيف الكهربائي.. أكره المسؤولين ولو كانوا أنبياء.. وللعلم أيها الصديق قد أعرف كيفية كتابة النص المحكم الذي يشيد به النقاد والقراء والزمن لكن لا يروق لي المنتهى.. تروق لي البشاعة والقبح والأزهار المليئة بالشوك النافثة عطراً يقيؤني..
لا أعيش أكثر من دموعي..
أبكي لأعيش أكثر..
ليظل عمري خالياً من التـنـاهـيـد..
وقـلبي مـغسولة نـبـضـاته..
فـهذا الإرث لايـحـتـمـل نـبضة قـذرة..
في جـوفــنا طـهـارة..
في جـوفــنا حـقـارة..
في جـوفــنا ســرّ يـسـعـى..
الورد ما عـاد يُـمـثـل أهـمـيـة..
رائحة حـياتي تـغـار مـنـه..
أقـدّم لـحـبـيـبـتي بـاقة مـن عـرق..
وأزرع عـلى النـصـب التذكارية بـاقات الـزفــيـر..
سأقـفـل فـمـي المـقـفـل..
وأفـتـح فـمي المـفــتـوح..
وأبــوح..
سأقـفـل فــمي المفتوح..
وأفتح فمي المقـفـل..
وأنــوح..
سأحاول فعل شيء..
أي شيء..
حتى مــجـرد نـظـرة..
آه لـو أستــطع..
لو أقـدر.
ـ قصة الحال أو الحاضر، والآن.. إلى أي مدى توافق على هذا الاصطلاح؟
بعض هذا الرأي قاله الكاتب العراقي د. محسن الرملي في تقديمه لمجموعتي القصصية (حجر رشيد). كذلك بعض النقاد الليبيين لهم نفس الرأي وبالطبع لا أوافقهم.. فاستخدامي لقضايا الساعة وإنتاج اللحظة لا أقصد به الآنيّة.. فأنا لا أعيش الآن الذي استهلكته منذ زمن.. عندما أتكلم عن ميدان السويحلي أو الفندق البلدي أو مرقص في بانكوك أو ساحة جامع الفنا بمراكش.. لا يعني أننى أتحدث عن هذا الزمن.. الأخوة النقاد فهموني خطأ.. فهموا أمكنتي فقط ولم يسبروا أزمنتي.. وهذا نتيجة الجهل النقدي والقراءة المتسرعة والنقد الانطباعي المجامل.. الناقد إدريس المسماري قرأ ما كتب عنه فقط في روايتي (تقودني نجمة) ليقول لي إن الرواية لم تعجبه وسيئة وبها كثير من هنري ميللر وجان جينيه ومحمد شكري وإنها كتبت بطريقة اللامبالاة.. وعندما حذفت اسمه ووضعت اسمي مكانه كما يفعل جان جنيه شكر الرواية في جريدة العرب وأقول له ولغيره عندما قررت الكتابة لم أنشد إعجاب أحد.. الناقد منصور العجالي يقول إننى أخرب أعمالي بالتهكم والمزح والانتقال من الحالة الرصينة إلى المزاح فجأة.. ولو عـددت كلام الأصدقاء النقاد هنا لدوختكم معي ولصرتم كتاباً كباراً بواسطة ملاحظاتهم القيمة.. في نصوصي كثير من الجمل الفلسفية التى تحيلك الى أزمان وأمكنة لا متناهية.. نصي يتأرجح بين المغرب وتايلند وليبيا والصين وتركيا.. بين الجنة والنار والبرزخ.. بين الصدق والكذب والشك.. نصي ثلاثي أو رباعي أو خماسي أو تائه الرؤى.. هذا العالم الذي نعيشه هو مجرد نص.. نص رصين باهر لا يمكن أن نختـزله في لحظة مهما تكثفت.. التكثف نفسه لحظات وعوالم مكانية وزمنية مضغوطة.. ضغطتها الحذلقة اللغوية التى مات سدنتها منذ زمن.. التكثيف دكتاتورية البليغ.. لا أوافق أي ناقد يحاول أن يقولب نصي المنفـلت من الانفلات نفسه. فأنا لا أقول شيئاً خلال نصوصي.. أنا أصمت.. حروفي متمردة عن النطق.. تستطيع أن تعتبرني أتأوه.. ثم أصرخ في آذان الغارقـين.
ـ في روايتك (المداسة). محاولة لكتابة نسيج روائى.. إلى أي مدى يمكن الحكم على التجربة بالنجاح؟
ـ تجربة فاشلة لكتابة الرواية.. كل الكلام الذى كتبته هراء.. تستطيع أن تسميها رواية قصيدة وقصة بدلاً من رواية (المداسة). في (المداسة) قصيدة تُهزم أمام قصة.. أمٌ تُهزم أمام إبنتها.. حاضر يدفن الماضي.. لكتابة روايتي إستعنت بنصين.. قصيدة للشاعرة العمانية بدرية الوهيبي بعنوان (فلامنجو) وقصة للكاتبة الليبية آمال فرج العيادي بعنوان (بقع ظامئة في حضني). قرأت القصيدة فى مجلة نزوى العمانية والقصة في أخبار الأدب المصرية.. أتفرج على التلفاز وأقتبس منه قليلاً.. أقرأ ديوان وأوظف منه قصيدة لجيلاني طريبشان.. كتبت هذا العمل بطريقة (الكولاج).. أكثر نصوصه غير مترابطة.. أكتب ورقة أو ورقتين.. أبحث لهما عن مكان يقبلهما فى النص.. هناك مقاطع خاصة كتبتها لآمال ومنهن رسائل تخصها.. كانت تبكي من شدة فرحها.. كلما مسحت دموعها تقول: إن كنت حقاً تود كفكفة دموعي الصقْ هذا النص بالرواية لأن المداسة روحى وأعرف أن ّما كُتب من أجلي لن يكون غريباً فى الرواية.. لن يفسدها يا ابن الأصفر.. أي صديق يقول لي ضعني في الرواية أضعه.. بل قلت للنويصري أثناء مراجعته اللغوية لها أي اسم يروق لك أو يدخل مزاجك ضعه.. ليس هناك مشكلة.. أشعر أن كل الكلام الذي يتفوه به أو يكتبه أو يقرأه الناس، هو روايتي.. أعرف أن الإضافة دماء جديدة ستمتن الرواية وستطزجها إلى الأبد.. كذلك في (تقودني نجمة) فعلت نفس الشيء.. ألصقت نصوصاً وأصدقاء وأمكنة ورغبات.. الرواية مملكتي الخاوية من شعوب أحكمها.. أوراقي كنفسي.. كتابة الروايات ليس بها أي مشكلة.. الروائيون مبالغون أو يتوحمون.. يقضون في كتابة الرواية خمس أو عشر سنوات.. يمارسون طقوساً غريبة.. ويكتبون بحبر معين.. وبعطر معين.. وموسيقى تدفع الكلمات إلى المخيلة.. الخ من الطقوس والنظم.. أعتبر ذلك كلاماً فارغاً.. ولا علاقة له بالإبداع.. لماذا التعقيد.. قل ما لديك وأرح نفسك وأرحنا معك.. نصوص كثيرة أحضرتها من منتصف الرواية ووضعتها في البداية وأخرى من البداية وضعتها قرب النهاية.. وبالعكس.. أكتب وكأنني طفل يلعب.. خلطت النص مثل أوراق ( الكوتشينة ) ثم ركبته عشوائياً وعندما شعرت بالضيق من الكتابة والخلط والكذب الصادق أنهيت الرواية ورفضت أن أراجعها أو أصححها لغوياً.. وأنت تعرف يا نويصري أننى أحضرت لك الرواية في قرص وقمت بمراجعتها وإخراجها وآسف تعبتك معايا على حساب شعرك المشاغب المناوش لأعداءك الثمانيين.. والآن أخاف أن أقرأ العمل مجدداً. حاولت ذات ليلة فبكيت.
ـ كيف ترى واقع القصة فى ليبيا؟
ـ القصة في ليبيا عبّرت عن الحياة أكثر من الرواية.. الرواية لم تفلح لأنها ركزت على الذاتية وعلى البيئة الخارجية وعلى إضاءة شريحة واحدة أو بالأحرى قبيلة واحدة من قبائل الشعب الليبي.. فليبيا ليست مدينة فقط أو قرية أو صحراء.. ليبيا عالم من الوجود.. بحر وبر وجو أيضاً.. الرواية الليبية في السنين الخوالي معظمها جبانة.. تمشي من الظل إلى الظل.. لا تمس المسكوت عنه.. وإن فـعلت فبطريقة مواربة منافقة..عندما يقرأ القارىء الليبي الرواية لا يشعر بوجوده.. يشك في نفسه أنه ليبي.. هذا الأدب لا يعبر عنه.. لا ينقل أحاسيسه ولا يحقق آماله حتى في الخيال.. هناك المسرحية عبّرت أكثر من الرواية عن حياة الليبيين.. لكن تظل القصة هي الأقوى بما فيها من تفاصيل صغيرة قصيرة ولحظات وامضة، فعبر قصص المقهور والشريف والفاخري والمسلاتي نرى التصاقاً مهماً بالحي الشعبي أو الزنقة أو الريف القريب من الحاضرة.. ومن خلال أحمد يوسف عقيلة نقرأ الجبل الأخضر بكل خراريفه وأساطيره.. والحقيقة هناك الكثير من الأسماء التى أبدعت فى مجال القصة كبوشويشة والككلي والعبار والويفاتي وعبدالله هارون وسمير الشويهدي.. والصديق بودوارة.. وغيرهم.. كذلك هناك الجيل الجديد الذى يكتب القصة بكل أنواعها.. عبد الله الغزال.. غازي القبلاوي.. محمد العنيزي.. إبراهيم الككلي.. ابراهيم صافار.. عوض الشاعري.. حسين طبيقة.. حسن بوسيف.. فتحي الورشفاني.. عبدالله عبّود.. رحاب شنيب.. وفاء البوعيسي.. آمال العيادي.. نعيمة قويّة.. وغيرهم من أسماء الأصدقاء التي تحضرني الآن ومنطقياً لا يمكن إدراجها كلها في هذا اللقاء القصير.
لكن أحب أن أقول إن القصة القصيرة الحقيقية هي التي تـقتات على نديب النفوس وترتوي من تفاصيل تعاني.
ـ هل تقتنع أنّه ثمة جيل شاب قادر على تقديم شىء فى المشهد الليبى؟ وكيف الأقلام الشابة التى تكتب القصة؟ و كيف تقيّم الوضع الأدبي في ليبيا؟ كتابة.. نقد.. قراءة..
ـ هذا سؤال مفخخ يا نويصري لكن لا بأس من الإجابة عنه.. لو تقرأ روايتي الثانية تقودني نجمة ستجد ضالتك.. الرواية منشورة أكترونياً في مكتبة مجلة أفق www.ofouq.com وورقياً منشورة في مصر عند صاحب مجلة الكتابة الجديدة هشام قشطة.. لكن لا بأس فسأجيبك الآن.. الجيل الحالي هو جيل البؤس وتشتت الرؤية.. جيل أستطيع تسميته بـ (حصانك مش جراي) أي جاء متأخراً.. لكن ربك في الوجود.. هذا الجيل تميز بمعايشة العولمة وتصادم الحضارات والإرهاب الدولي والديني وزيف الأنظمة السياسية في كل أنحاء العالم، وكذلك انتشار شبكة المعلومات (الأنترنيت) والتي اختصرت له الكثير من التجارب وقدمت له المعلومة في زمن قياسي.. سافر في مكانه.. وسكر وضاجع في مكانه.. وحاور القمم في مكانه أيضاً.. فنراه يكتب قصته بكل عنفوان.. قصة معبرة تنأى عن التجارب السابقة ما استطاعت.. قصة هذا الجيل لن يعترف بها إلا بعد مرور نصف قرن على الأقل على رأي هنري ميللر.. الأفق الآن مقولب.. هناك مسلمات وتكلسات ونظريات ثقيلة الدم ترفض منح إبداع هذا الجيل تميزه.. تستطيع القول إن قصة هذا الجيل بذرة ترفض الارتواء من المياه القذرة وتفضل ندى الفجر بكارة البلل.. لذلك تشع ببطء كالنجمة البعيدة العاشقة للأرض الرافضة المتمردة.. لكن حتماً ستضيئها يوماً بل تفجرها.. الأجيال الماضية من الأدباء ـ وأقصد كل الوطن العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ـ نفعها أنّ البلاد أميّة.. كذلك الثورات والانقلابات كثيرة.. وكل نظام يحتاج الى سدنة ومساند ومشاجب وعكاكيز ومظلات.. حتى الكاتب العمومي الجالس أمام المحكمة أو أمام سفارة يجد الاحترام والتبجيل من العامة.. الأجيال الماضية جاءت إلى بلاد بكر فى طور تكوين إطاراتها وأركانها وكوادرها.. السفر متاح.. الدورات الخارجية متاحة.. الملتقيات الشعرية.. طباعة الكتب والدواوين.. السجن أيضاً متاح لتكتسب تجارب أكثر.. أنا أستغرب كيف يسجن كاتب سنوات وعندما يخرج لا يصبح مثل ديوستوفسكي.. التفسير الوحيد هو عدم وجود الموهبة الأدبية.. أو من سجن مع أديب استأدب.. الحقيقة أن الأجيال الماضية كانت فرصتها باذخة.. جيلنا لم يصل إلى شيء.. (كلاه المالح والمــر والحار والحامض).. عليه أن يسمسر في تجارة الشنطة ليتمكن من طبع ديوانه أو مجموعته أو روايته.. عـليه أنْ يكابد من أجل نشر بداياته.. قصيدة بلاد تحبها وتزدريك للشاعر عمر الكدي لخّصت الكثير.. لم نُدعم من أحد.. اعتمدنا على أنفسنا لذلك نكتب ما نريد لأن أقلامنا ليست للبيع إنما للإبداع للحب.. صحيح نحن ضعفاء فى اللغة العربية ونكسّر في النحو والصرف وخطنا ليس ولا بد.. لكن نكتب بصدق ونسطر حياتنا ونحب وطننا وعالمنا.. لم تؤثر فينا الإيدلوجيات.. جيلنا كالعاهرة التى تمنح نفسها برضاها وليس عنوة.. وتقييمي للوضع الأدبي في ليبيا.. كتابة ونقد وقراءة كالآتي:
الكتابة جيدة.. هناك مشاريع نضجت مثل النيهوم والكوني والتليسي.. هناك مشاريع أجهضت أو أجهضت نفسها.. هناك مشاريع بدأت تحبو وتترعرع.. وما أحب قوله بالعربي الفصيح والصريح أن مستوى أدباء ليبيا عادي جداً باستثناء صادق النيهوم وإبراهيم الكوني ومنهم من كلمة عادي كثيرة فيه.. بالنسبة للنقد نفس الشيء.. لا يوجد لدينا نقاد لهم وزن.. أكثرهم يدولب في هواء الفقاعات.. أكثر ما قرأته من مقاربات عبارة عن جمل مسروقة ونظريات مستعارة وكتابة بطريقة (لحس العجول).. لحّسني وألحّسك.. أي اكتبْ عني وعن جماعتي وأنا أفعل كذلك.. لواط متبادل ليس أكثر.. لم يؤسسوا حتى الآن مدرسة ليبية للنقد.. دائماً يبحثون عن الأعمال المشهورة والأسماء المكرسة ليقاربوها.. حتى يضمنوا فرصة النشر والقوقحة.. النقد فى ليبيا بائس جداً.. أين هو الكاتب الذى استفاد من النقاد؟ هناك من دمرهم النقاد وهناك من جعلوهم ينسون مشيتهم ومشية الحمامة أيضاً.. أفضل شيء للمبدع أن يتعامل معهم بالمثل الشعبي الذي يقول (شاوره وما تعدلش عليه).. أي خليه ينظّر ويدقـل نين يطفي بروحه.. وتريد الصدق أيها الطفل المشاكس أنا لا أرتاح للنقاد كثيراً ولا أعرف ما السبب ولا أستريح إلا عندما أهاجمهم.. أشعر أنهم كتبة فاشلون واشون للبوليس الثقافي.. أحدهم في بدايتي عام 1999 م كتب فى زاويته الاسبوعية في صحيفة الجماهيرية كيف ضرب إنسان سعر صرف الدولار إنساناً فترك التجارة وتوجه للكتابة.. وأعتقد أن هذا الكلام خال من المنطق فالكتابة ليس لها أي دخل بالمهنة.. مع العلم أن الدولار عمره ما ضربني.. أنا الذي أضرب به من أريد.. ولكن ماذا أفعل له؟ تجاوزته وتفرغت لكتابتى لأكون أو لا أكون.. وبالمناسبة أحيي الأديب تزفيتان تيدروف الذى ترك النقد ليتفرغ لكتابته الإبداعية فانتـفـض وصرخ فجأة: أريد معنى لحياتى.. لابد أن أوقف هذه المهزلة.. ففاجأ العالم بكتابيه (غزو امريكا) و(نحن والآخرون). ترك النقد وصار يكتب إبداعاً قائلاً لصديق لائم:"دعني أبني بيتاً.. أنا كنت مثل النجار الذى ظل طوال عمره لا يصنع إلا أدوات النجارة.. مسطرة.. مطرقة.. دعنى أبني بيتاً".
المشكلة الوحيدة في ليبيا بل في العالم هى مشكلة أو أزمة القراءة.. علينا أن نبدع القاريء.. القاريء وليس المتلقي.. نحتقر القارىء عندما نعتبره متلقياً نريد أن نؤدلجه أو نعلمه أو نبول عليه بـيراعـنا.. القارىء ليس مكباً نرمي به رؤانا النرجسية والمغرورة وحتى المتواضعة.. علينا أن نخلقه بحب.. نستكتبه ليكتب معنا بتفاعله.. نخلقه مثلما تخلق أم كلثوم وفيروز وماجدة الرومي وشاكيرا و ماردونا ورونالدو ورولندينهو و زيدان والعيساوي وونيس خير والتائب معجبون ومشجعون يصفقون لهم ويحبونهم.. كيف يحدث ذلك.. بالموت فى الإبداع والفناء في الاحتراق.. لا شيء غير ذلك.. فأزمة القراءة المبدعون سببها الرئيسي بل المباشر.
ـ كلمة فى الختام..
ـ طز في أمريكا واللي عنده ديك....!!
تعليقات
إرسال تعليق