الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

دور المثقف

في المنطقة الوسطى، بين قطبين أزليين وأبديين، يتموضع المثقف محايداً، وثابتاً على مبادئه وقناعاته، فيتجاذبه الطرفان، محاولاً كل منهما، أنْ يستميله إليه، فمن إحدى يديه، تجتذبه يد السلطة، بمغرياتها نحوها، أو تشدّه إليها عنوةً، وبأصابع يده الثانية، تتمسك أيدي الناس، لتكسبه في ناحيتها، وهي تستنجد به، كما الغريق بمغيثه، من دون ترغيب ولا ترهيب، اللهم إلا من عواطفه وأوردة وشرايين ضميره الدافق بإنسانيته ووطنيته، ليكون عوناً وسنداً لها، في صراعها التاريخي والتقليدي، ضد بطش و(اتيار) أدوات السلطة المتعدِّدة، والتي تتعدّد يوماً عن يوم، من جيش وقوات خاصة ووسائل إعلام خاضعة لها، بما في ذلك التلفزيون، الذي يُعد هو أيضاً من أدوات الحكم الناعمة في أنظمة الدول العربية، فهو قبل كل شيءٍ، منها وعليها وينتسب إليها، وإلا ما أحسّ هو الآخر بحجم معاناتها، فأيُّ قرح يلم بها، يستشعره في نفسه أوفي أسرته، فيتميّكن سكونه، إذ يتمغنط وينجرّ بإحدى قدميه جِهة الجِّهة، ذات معامل الشّد الأشد، حتى يتزحلق، غير أنه سرعان ما يستعيد توازنه، بقطعه لتلك الأصفاد التي تجتذبه إليها (أوصال الناس وقيود السلطة) الملتوية حول معصميه، في مشهدية مقاربة جدا،ً لمرأى الأفريقي (كونتاكونتي) في فيلم (الجذور) وهو يصارع الأغلال، فيعود إلى تموقعه الأول، أي إلى منتصف المسافة، مزاوجاً فيما بينهما، مثل زوج المرأتين، الذي لا يحقّ له، تحت أي اعتبار ومسمى، أنْ يميل بقلبه ولا بعقله ولا بجيبه إلى إحداهما على حساب الثانية، لئِلا يؤثم، وإنْ كانت الأجمل والألذ، في عينيه ولسانه.
فالمثقفُ إذاً، هو العامل الموصل، بين قطبي الشعب والسلطة، ولا يجوز له، إلا أنْ يتزحزح عن موضعه إلا في صوب واحد دائماً، هو الشعب، فاتحاً قلبه لأمانيه، من دون أنْ يقترب من الجهة الأخرى، ويتمسح- على- وبعتباتها المتسخة في الأساس، بزيوت وشحوم نفطنا، التي بها، تأمن انتفاء جلوس المواطنين، المُطالبين والمحتاجين إليها-عليها- كيفما يفعل صاحب أي بيت شريف، مع أوغاد النواصي في الأحياء السكنية، منعاً لسماع سبابهم، واشتمام روائح الحشيش، بل بقلمه فقط، لينقل- على وفوق- خطوط مستقيمة (سطوره) شحنات ومشاحنات، من النقطة الأكثر جهداً (نقطة الشعب) إلى الأقل (نقطة السلطة) ليفرّغ بجهده المكتوب في كيس السلطة، حمولته الشعبية، موازناً بذلك بين فرقي الجهد بين هاتين النقطتين، وهو غير مُكلَّف بأنْ يعود بمرجوعها، الذي يتوجب عليها، أنْ تعود به بنفسها، في نظام يفترض به، أنْ يكون ذا آلية ديمقراطية، تعرف فيه كل مؤسسة من مؤسساته، ما ينبغي عليها، وما يُبتغى منها، فنراه يعيد انزياحه مجدداً جهة الشعب، حال انتفاء قيام السلطة بأدواتها، بإعادة ما وصلها من شحنات ومشاحنات واحتقانات على نحو حلول ناجعة، من شأنها أنْ تنهض بالمجتمع من كبوته، مطالباً بمطالبه.
***
نعود مجدداً، بعد هذه التوطئة، التي ستساوي في مجملها، ثلاثة أرباع سطور هذه المقالة، لتناول هذا الأمر، الذي يتعلق بأبجديات الكتابة، وضروراتها ودواعيها، والذي خيض في شأنه كثيراً، من قبل المستشرقين والمستغربين والمندهشين؛ فالمثقف كما ذكرت، هو حلقة الوصل بين السلطة الحاكمة والشعب، الذي تحكمه، وهو المُترجِّم بحروفه لمعاناته ومطالبه، والمُذكِّر للسلطة باستحقاقاتها تِجاهه.
المثقف صمّام أمان للمجتمع من أية تمردات وانتفاضات وثورات شعبية، لِما يمتلكه من معرفة وحرص على سلامة ومصلحة البلاد والعباد، وكذلك النظام بمفهومه العادي، لا البنيوي السياسي، الذي أستغرب أيما استغراب، لما تـُعرَف به الأنظمة الفوضوية، فيقف إذّاك في منطقة وسطى بين السلطة والشعب، غير ممالئٍ لأي طرف منهما، سوى لصاحب الحقّ والمُتضرِّر من سطوة الآخر عليه، الذي غالباً ما يكون الطرف الثاني، وهو في موقعه هذا، مثلما فاض النزاعات في المجتمعات القبلية، بكتاباته التي هي أكثر الأساليب الحضارية، نجاعة، لإدراك الهدف المنشود على حناجر الشعب في أغنية رائعة الإيقاع عنوانها الديمقراطية، وحفظاً للدم والأمن وحفاظاً على المكتسبات.
لم يسجل تاريخ الكتابة، أنْ اصطف المثقف الحقيقي، ناحية السلطة في مرة، إلا وقد عُرِف بزمار وعازف ساكسفون لها، بل بطبّال لراقصة فاجرة في حفلة ماجنة، ولم يحظَ في يوم باحترام الشعب، بل إنّ حتى أكبر المثقفين، الذين حازوا على احترام الناس، وصاروا فيما بعد عازفين- موسيقياً وفعلياً- إذا انحازوا في وقت لاحق إلى الحكومات، نتيجة المُغريات التي تقدمها لهم، أو نتيجة لضعفهم وخوارهم وانتفاء إيمانهم بمبادِئهم، وانتفاء جديتهم أصلاً، قد فقدوا هذا الإجلال، الذي قابلهم به الناس في وقت سابق، وأضاعوا مصداقيتهم وشرعية ثقافتهم، فهؤلاء هم من قاموا بنقل متطلبات السلطة إلى الشعب، وذلك إما بتزييف الواقع، وإمهال السلطة الوقت الذي لا تستحقه لإهداره، فيقف- حينذاك وحيّزاك- كمدافع بالمدافع عمّن يمارس القهر تجاه الآخر، حينما يوالي السلطة، أو يستمرئ تموقعه في تلك المنطقة العازلة بينها والشعب، فيصبح زمّاراً، يلعنه الله والملائكة والبشر، من حيث لا يحتسب، حينما يستغل ثقة القارئ به، ويصبح ينشر ما هو أشبه بالمخدرات المكتوبة، ويوهمه بأنه العجلة تسير بشكل منتظم، وأنه يقوم بواجبه المنوط به، على أحسن وجه، وهو كذلك، من دون أي تكليف، سوى تكليف القاعدة الجماهيرية التي يكتسبها، نتيجة أكثر من موقف بطولي وشجاع، فيصبح دوره غير الدور الأصلي، فتجعل منه السلطة، بخبثها ومكرها، مثلما الحاجب على باب الحاكم، بل أكثر من ذلك، حيث إنه بإصراره على تمركزه في تلك المنطقة الوسطى، يتصيّر إلى صمّام إنذار مُبكِّر للسلطة، من غضبة الشعب على قصورها في القيام بما يتوجب عليها، كما (الحزّاز والعقّال) الذي يستجير به، شخص سفيه لا يردعه إلا (التكفيخ) على (فصخته) فيسّهم- من ثم- في إضاعة الوقت والجهد من دون طائل، مع سلطة لا تؤمن أساساً بدور هذا المثقف، الذي كلّف نفسه بأنْ يكونه، فما بالكم بمثقف يرتضي بأن يثني الناس عن الأخذ بحقوقها، بعد أنْ تتفاقم أوضاعها مع سلطة متكابرة عليها، تفعل كل ما بمكنتها، لتستبد بالرأي والحكم، فمثل هذه السلطة لا ينفع معها الإصلاح، بل التغيير الجذري، بصبّ المواد النفطية على جذورها الشيطانية، التي لا تنبت في السماء، إلا طلعاً خبيثاً، يضل و لا يستظل الشعب- من- وبظلمه، هذا ما يتعيّن على المثقف الحقيقي والجاد، أنْ يُعلم الشعب به، بعد أكثر من محاولة فاشلة له مع الحكومات التي تترفع على شعوبها، لتأخذ الأخيرة حقوقها بيدها، بعد أنْ تنفض يدها من يد المثقف، الذي لطالما تعلقت به كثيراً، لينقذها وينتشلها من مأزقها، لكنه لم يأتِ بنتيجة، إما لخلل في بنية الأنظمة الحاكمة، أو لفساد في أخلاق هذا المثقف في الأصل.
هكذا ينبغي أنْ يثبت المثقف على مواقفه، ولا يتوقف عن هذه المَهَمة المُهـِمة، التي لم يوعز إليه بها أحدُ، سوى ضمير قلمه، فهو من اختار بعينه، أنْ يضع ثقافته في هذه الورطة والحيادية، وهكذا يجب عليه أنْ ينحاز، إذا لزم الانحياز، فلا يكون إلا انحيازاً لصالح الشعب، ولا يتهاون على أنْ يعلنها مُدوية (خطرها ع العيد والقديد: المشلوحة ما اتعفن) بأنّ هذه السلطة لا تنفع معها الأساليب الحضارية كلها، لتنقض الشعوب على مستعبديها وحارميها وقامعيها.



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية