المشاركات

ولد شارعنا

يمتلئ الكيس بالعملة السهلة يفرغها (اطوالة) في جيبي جاكته الجينز ذات الأزرار الصدئة، ويسقط المعدنية منها في جيبي مؤخرة سرواله المتمزق الأنسجة نتيجة احتكاكه بالمصطبات الجيرية والإسمنتيه، والمبقع بقطرات الشحم والزيت المحروق في محاولات من ساكبيها غير الراغبين في وجوده عندها لطرده من دون أن يعرفهم، مغبة جبروته.. يثب كغزال مرتفعا على كتفي أحد المزدحمين أمام الشباك ثم يتكئ كسندباد مفترشا بساط ريح الهواء وقدماه على الجدار وجبينه يلتصق بقفا أحدهم.. بالكاد تنفذ يده داخل الفتحة البوخوخية، نتيجة تدافع وتماوج الزبائن وما هي إلا لحظات حتى تخرج مكمضة وبداخلها التذاكر المتكرمشة.. يحتفي به أبناء شارعه وسرعان ما يمضي نحو البائع ليشتري لنفسه قرطاس رياضي وشكولاطة حليب امقزرة وحلواء حارة أح أح أح وزريعة أكثر من ثلثي محتواها ملح مر، ومستكة المجارة وشاهي كيس في كوب لكأنه صنع من منديل ناعم لا يصل به إلى الباب إلا وقد انسكب على قميصه.. يصمت أبناء شارعه ولا يعارضون، فإن هو أرجع لكل واحد ما تبقى من ماله شكروه- وندر حدوث ذلك- وإلا اعتبروه مكافأة يستحقها عن جدارة، فأغلب من اصطفوا في أول الطابور هم الآن في مؤخرته...

ذات عشية في سوق العشية

طيور على أشكالها تقع، حمام على أشكاله يطير، حيوانات على أشكالها تصدم، باعة صحون باعة صابون وأحذية وملابس باعة قطع غيار وغيار أطفال، شامبو صانسيلك وبانتين وشامبو تركي علبته كبيرة ورائحته مثل رائحة بول أردوغان، حبوب للعصافير والديوك البشرية التي ترفع اﻵذان ولا تصلي، قطط مستوردة لا تتمتع بحاسة المواء، أمواس حلاقة أمواس بقر سكاكين مطبخ ملاعق معالق ألبسة، أقفاص ومعدات كهربائية ومستلزمات بناء. (يفتحلك الله) هناك لا تسمعها، ففي سوق اجنيهين الكل يبيع ويبتاع، سيارة نصف نقل تصل لتوها محملة بأكياس القمامة، وما أن تفرغ شحنتها حتى يأتي الحارق ليشب فيها النار، في لهفة من مفتشي الروبابكيا، شعلة نار قدحت في طرف سرير خشبي، أب وأبناه يسحبانه من الجهة اﻷخرى فوق ربوة من النفايات لا كمامات على أفواههم يتنشقون الرداءة، بين السديم يلوح خيال شخص حاملاً في يده دجاجة توقوق بينما طفلته تطلق فرحة رنانة "الدجاجة دحت يا بابا".. ومن هناك يبدو شبح بني أدم غائصاً وغائراً بين بقايا ثلاجات وإلى قربه مسن أسمر يتحسس باباً حديدياً مُقتلع من جدار بدهان أخضر، يفصح عن أنه كان لمؤسسة حكومية لطالما أُغلق في وجوه ...

المجاملات مشاينات على حساب الوطن

ثمة مثقف أخبر صديق مشترك بيننا بأن "زياد العيساوي" متطرف فيدرالي، وهو من أصل للفكر الفيدرالي وحقوق برقة، وهو من يتحمل تبعات هذا السلوك الذي وقع فيه نشطاء كثيرون. بصفتي من منظري الثورة قبل اندلاعها، وهذا ما لا تستطيع أنت ولا غيرك جحوده، فأنا أدرك بأنها عملية إزالة وإزاحة لأجل البناء، ولما كانت منظومة القذافي خربة ومنخورة بالسوس، وجب هدمها، بعد مشاركتك يا أيها القوّال في عمليات اﻹصلاح والترميم، التي سبقت الثورة وفشلت بعد خطاب سيف القذافي، الذي اعتبر فيه والده خطاً أحمر، وهو من يشكّل ما نسبته 99% من الحلّ في ليبيا، مع أنه بنظري أصل المشكلة والانهيار الذي عصف بليبيا منذ اقتلاعه لدستور الاستقلال. وما استبعاده لنسبة 1% إلا لحفظ خزانات أمواه وجوهكم، لأنه يعرف بأنكم ستحمدونه على هذه النسبة الضئيلة التي منحها لكم. ولكوني دارساً للبعد الاجتماعي والتاريخي ولطبيعة الشخصية الليبية، أدركت بأنّ الفيدرالية التي كانت ميثاق تأسيس الدولة الليبية والعقد الشرعي لها وبإلغائها ينفرط عقد تأسيس هذا الكيان المُسمى بليبيا، لذا كنت من أوائل من التفتوا إلى هذا الطرح والتفوا عليه، فنحن لسنا حديثي العهد ب...

حركات

-تسمّر إزاء لوحة تجريدية، فانكسرت الألوان على وجهه، حتى أدّمى. -جاور مُجسَّمها في الميدان، لم تقلع الطائرة، فانبطح ورأسه إلى أعلى. -راقب النفاثة حتى ابتلعت الغيمة عينيه فمطرتا ملحاً. -شرع يفتح مصرع الباب، فانغلق من الجهة المقابلة. -وقف تحت صورة الزعيم وهو يقبض كفّيه، تسلق الماسورة علّه ينتزع منه ذاك الشيء المسلوب. -صهلت الخيول وكسرت السياج فارة من حاستها السادسة، فيما ظلّ صاحب المزرعة يجهز الأسرجة. -سمع انطلاقة الصاروخ ولم يبلغه صداه، خرج يصرخ بتقطع:" بووووووووووووووووم بوووووم بوم "ويداه تضمان أذنه، والأخرى بها سماعة موبايل. -تذكر بأنه (راقد ريح) وضع يديه في جيبي بنطاله (شحّط) وجنّح قماشتيهما وطار تحت الريح. -نعس ولم تغمض عيناه، وضع مرفقه عليهما واختبأ في ماسورة الخيال، وصاح مردداً وهو يعد (1 -2 -3) النوم خلف الجدار ليجرفه السبات. -صبّ الشاي في الكوب الآخر، انحنى مع الخط الذي رسمه الشاي المصبوب في الهواء حريصاً على عدم تساقط قطره منه على الأرض، أعاد النقلة العكسية فأضاع مقدار ما التصق منه بالجدار الداخلي للكوب الثاني. فبردت شاهيته للشاي.

قراءة في نصّ من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي

صورة
قراءة في نصّ (من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي) بقلم الأستاذ: عبد الله أحمد عبد الله  *** من طرابلس إلى بنغازي .. كل من يشرع في قراءة قصة هذه الرحلة يعرف أن العيساوي له موضوع إداري يريد أن ينهيه في عاصمــة الروتيــن والمركزيــة ال مقيتة طرابلس . وإلا فما الهدف من هذه الرحلة . سنرى ..!! (في البدء كان الكلمة) كما جاء في الإنجيل . وكما جاء في فن الإلقاء (براعة الاستهلال) , وكما خلق الإنسان عجولا فقد صرح العيساوي انه يريد أن يعرف آخر هذه الحكاية الدنيوية , مدام لكل شيء بداية ونهاية , فهو لا يحب الانتظار , وكان هو آخر الصاعدين إلى الحافلة وقد طال انتظار الركاب لآخر الصاعدين .  هكذا انطلق زياد العيساوي عبر رحلة برية إلى مدينة طرابلس , ومنذ البداية تعجبك أشياء يستعملها قلم زياد ..فمثلا استعمال لفظة ( واللهي ) بالياء بدلا من الكسرة (والله) حتى لا يضع لفظ الجلالة في غير محله الصحيح , وقد أعجبتني الفكرة وإنا إذا فعلتها بعد الآن فستكون بتدبير من الأديب زياد العيساوي , ولكنه يعود فيستعمل السكون بدل الفتح في لفظة (لله) وهي لفظة عربية كريمة لها أصول أمازيغية مستعملة ...

تحدي الرياح

ذات شتاء، أمام شباك المقهى، حيّيت الحاج علي بتحية الصباح، فرحّب بيّ: "امريحبا بوجه الخير.. وين ديارك، لك فترة مش باين؟ راني نتونس بيك.. أنت عرقوبك جلاب يا باتي." أدخلت يدي في جيبي الخلفي، حتى عمق براجم الإصبعين، وأخرجت دينارًا لأسدّد ثمن قهوة عربية ما عدت أشربها حتى في البيت، منذ رحيل الحاج علي الشومالي – رحمه الله – صاحب مقهى بنغازي، ذاك المبنى المقام على أعمدة الألومنيوم والزجاج بكورنيش بنغازي القديم. لكن ليد الرياح قول آخر، إذ هبّت ريح شمالية عاتية، فطوّحت بالدينار على الأرض. انحنيت لالتقاطه، فابتعد قدر دينار. غافلته ووطأت بقدمي عليه، لكنه انزاح. شعرت برغبة في التحدي، كالصاري الصارم. خطوت نحوه، والحاج علي يناديني: "تعال يا وليدي ياخذ سوك." لكنني أصررت، متقفيًا أثره في الهواء. ركضت، هرولت، وجدته بين قدمي، هممت بالانقضاض عليه، غير أن قدم الرياح راوغتني و"دحتني". انطلق الدينار بين قدميّ بالاتجاه المعاكس للريح. عبرت الطريق نحوه، ومنبهات السيارات تشتعل: "بييييب.. بييييب" . وكأني بالحاج علي أمام هذا الموقف يصرخ: "رد بالك من السيارات يا و...

وجه المكان

وجه المكان يغمره رذاذ البحر، ويتظلل بعيداً عن الشمس بنظرات بنية قاتمة، علق بخار الملح بعدستيها اللتين تتخفى خلفهما عينان اكتساهما احمرار اﻷرق المغلف بالتجاعيد، يرى بها الناس مُصفريّ المُحيا، يستنشق نفساً عميقا بقدر عمق رمية لط فل يقفز من أبعد وأعلى حجر يشبه في شكله عظمة يتسوّر بها ميناء بنغازي البحري، ويتزفر بزفرة البحر. اعتاد المكان أنْ يرى أغلب هذه الوجوه، إلا أنّ بعضها غاب عن دائرة المشهد، يرفع المكان عن عينيه النظارة ليتفحص قسمات هذا البعض مليّاً ثم بنقرة على جانبيها يسقطها متزحلقة حتى يكبحها أنفه الذي لم ينكسر لتقلبات العصور، ثم يحكم تعديلها، يتكئ بظهره على مسند من سعف النخيل واضعاً رجله على اﻷخرى، يشعل لفافة من فوهة بخار باخرة صينية حُمِل عليها الطوب تستعد لتمخر عباب البحر عائدة إلى ذويها، ثم يشبك أصابعه ويلصقها ببطنه التي تصنع مع سحابة عالية زاوية مقدارها ثمانون درجة، يغمض عينيه ويتوه في سديم تموجات الظلام ونبضاته التي يراها بعقله تفقع وتقتم اﻷرجاء. المكان حيّز من فراغ وأرض، يحجز ما مضى من وقت ويفرغه في سجلات مهترئة يطّلع عليها بين الفينة والثانية، هنا كان في ذاكرته مبانٍ ونش...