الاثنين، 22 سبتمبر 2014

قراءة في نصّ من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي

قراءة في نصّ (من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي)
بقلم الأستاذ: عبد الله أحمد عبد الله 
***
من طرابلس إلى بنغازي .. كل من يشرع في قراءة قصة هذه الرحلة يعرف أن العيساوي له موضوع إداري يريد أن ينهيه في عاصمــة الروتيــن والمركزيــة المقيتة طرابلس . وإلا فما الهدف من هذه الرحلة . سنرى ..!!
(في البدء كان الكلمة) كما جاء في الإنجيل . وكما جاء في فن الإلقاء (براعة الاستهلال) , وكما خلق الإنسان عجولا فقد صرح العيساوي انه يريد أن يعرف آخر هذه الحكاية الدنيوية , مدام لكل شيء بداية ونهاية , فهو لا يحب الانتظار , وكان هو آخر الصاعدين إلى الحافلة وقد طال انتظار الركاب لآخر الصاعدين . 
هكذا انطلق زياد العيساوي عبر رحلة برية إلى مدينة طرابلس , ومنذ البداية تعجبك أشياء يستعملها قلم زياد ..فمثلا استعمال لفظة ( واللهي ) بالياء بدلا من الكسرة (والله) حتى لا يضع لفظ الجلالة في غير محله الصحيح , وقد أعجبتني الفكرة وإنا إذا فعلتها بعد الآن فستكون بتدبير من الأديب زياد العيساوي , ولكنه يعود فيستعمل السكون بدل الفتح في لفظة (لله) وهي لفظة عربية كريمة لها أصول أمازيغية مستعملة حتى الآن , إذا لنقرر أن اللغة الأمازيغية ما هي إلا لهجة من اللهجات العربية القديمة التي ألغاها الإسلام عندما اختار عليها لغة قريش . وحتى الآن يستعملون لفظة ( لله أو للا ) في مناطق من المغرب العربي . بمعني السيدة , وعلى لغة زياد الموسيقية نذكر بأغنية ( للا فاطمة ) , أعود فأقول استعمل زيادة السكون (لله) بدل الفتحة (للا) لأن لفظ الجلالة يناسب هذا المقام .
زياد العيساوي ..أديب بطبيعته , وهو أديب درامي بامتياز . فهو قادر على صياغة الحوار , ولابد أن تستفيد منه الكتابة الدرامية يوما ما . وهو قدير أيضا في صياغة السيناريو المناسب للكتابة التلفزيونية والسينمائية . وبالتأكيد منهما معا تتكون الكتابة القصصية أصلا ولكن تبرز عند العيساوي بشكل ملفت فتجد نفسك أمام مشاهد درامية متكاملة .
يؤكد زياد في أكثر من موقع لرحلته بأنه يميل إلى الوطن الواحد , ويكره كل ما يمت إلى الجهوية بصلة , حتى تمنياته بالزواج من بنات الغرب الليبي متمثلا بالقول الشعبي بنات الغرب للشرق وبنات الشرق للغرب .
وأسلوب زياد سواء العامي أو ما هو بالفصيح يتداخل أحيانا , فأنت تراه يستعمل مثلا عبارة مثل ( ليس هناك لا غبار ولاشيء من ذلك ) وهو تعبير عامي . لأن اللغة العربية لا تستعمل التوكيد في النفي , وهو ما يبدو في الجملة لأن العامية تقبل مثل هذا وإلا لقال ( ليس هناك من غبار... ) مثلا , بدل تكرار كلمتي النفي (ليس ولا) في جملة واحدة .
أما المخزون الموسيقي والغنائي لدى زياد فحدث ولا حرج . فمعرفة الزميل زياد بأصول الغناء والإبداع فيه , وثقافته الفنية وحسن اطلاعه على المخزون الفني الليبي والعربي يبرز واضحا في ما يكتب وقد حفلت رحلته (من طرابلس إلى بنغازي) بحديث الطرب والغناء في أكثر من مكان وبتوظيف يدل على ذكاء , فكل أغنية جاءت في مكانها الصحيح . 
بدأ حديثه الغنائي منذ الوهلة الأولى عندما كان يعبر عن حبه للنهايات معتبرا البدايات لا أهمية لها وكذلك الوسط . ليصل إلى النتيجة مباشرة فقال : لواني اعلم خاتمتي ما كنت بدأت , وما إن انطلقت الرحلة الطويلة حتى أبدى تبرمه مستندا على قول المزداوي غناءً : مشينا مشينا والطريق اطوالت .وعندما اسرع السائق بناء علي غضب الراكبة اتكأ ثانية علي شادية وهي تردد سوق على مهلك سوق .
نشتم رائحة الوطن الواحد وكراهية الكاتب للجهوية , التي عبر عنها في أكثر من موقع من رحلته , وما إن عرج على مخزونة الغنائي حتى كان عادل عبدالمجيد حاضرا , ليحول أغنيته : لا تقوللي شرقي ولا غربي أنا عربي , فقال زياد ( أنا ليبي) .
سخر من أغنية تونسية ذات كلمات دموية عن مطربة تبحث (عمن يطول وريدها) , ومنها تحدث عن تصرفات أم كلثوم العبثية المشهورة دائما بمحاولة التحكم بطريقة عبيطة في المؤلف فتعدل له الكلمات وكذلك الملحن الأمر الذي حرمها من أعمال كبيرة كالربيع عندما امتنع مأمون الشناوي عن تعديلها وحملها للموسيقار العالمي فريد الأطرش , وتصرفها هذا كان حائلا بينها وبين التعامل مع الموسيقار الكبير مع أسباب أخرى , وأشار كيف أن المؤلف السابق حول أغنيته الدموية إلى رثاء لصدام حسين .
للكاتب زياد العيساوي القدرة علي التوليد والابتكار من الفكرة الصغيرة . يبتكر من الحركة ومن الجملة , ورأينا ذلك أكثر من مرة عبر النص , ففي الجملة الحركية (طق طق) تتداعى الأفكار عنده فيقدم الجملة بأكثر من ثوب , وكالعادة لابد وأن يمر بذاكرته الغنائية القوية فيروي شيئا عن أغنية (يطق القلب) وعن مطربها وشاعرها وملحنها .
في مخزون معرفته بأنواع الغناء والألحان الشعبية يستغرب ما سمعه من تسمية (أغنية طرابلسية) وتساءل هل حقا توجد أغنية طرابلسية , لم تسعفه الذاكرة بشيء من هذا وإنما يعرف أن هناك غناء مرسكاويا من مرزق , أما طرابلسيا فلا يذكر , لذا أشار بصراحة انه لا توجد أية إشارة إلى تفرد الأغنية الطرابلسية بأية صفة تميزها كما في المرسكاوية مثلا , وتقوده خطواته إلى محل الفنان سلام قدري .
لم يشأ أن يسأل الفنان سلام قدري عن قصة الغناء الطرابلسي , ولكنه لم يسأل سلام قدري نتيجة لصحته المتدهورة , وأحسن أنه لم يفعل , لأن سلام قدري فنان متميز تلحينا وغناء , إلا أن ثقافته لا تؤهله للرد على مثل هذا السؤال المهم , وإذا أحال زياد سؤاله إلى الفنان الموسيقار إبراهيم أشرف فسيجيبه على الفور بقوله : إن عقلية سلام قدري لا تغادر حانوته !! وسيضيف : لا توجد أغنية طرابلسية , هم بتصرف عنصري يريدون أن يقولوا ذلك , الذي كان له دور مهم في نشر الأغنية في تونس وطرابلس هو (بشير فهمي فحيمة) , وهو فنان فزاني من الجنوب , وهذا سبب تجاهل هذا الرجل عندهم في طرابلس , لماذا ؟ لأنه ليس اطرابلسيا , للفنان بشير فهمي بعض الأغاني في طرابلس منها لحنه لأغنية (ريدي اليوم باعثلي سلامه) , وأغنية أخرى لنوري كما ل .
ويستمر زخم الغناء في رحلة زياد , فهاهي الفنانة عبير يسمعها في الصباح وهو يغادر الفندق إلى (مطعم خيري) تقول عبير (يا صبح لافي لفيت بخيرك) , وقد ذكرته بأغنية المساء التي سمعها عندما جاء مساء إلى الفندق , وهي لحن فؤاد حافظ , وبالمناسبة هو ملحن فلسطيني وزوج لعبير تقول الأغنية : الليل مهما يطول والشوق مهما يزيد .
وقبل أن يغادر زياد طرابلس وفي عودته للفندق يجد المدير يستمع إلي عبير تغني (حكايتنا يا قلب غريبة) , وأصر زياد أنه ليس بغريب عن عاصمة بلاده .
بسبب المركزية اللعينة كان لابد للسائق أن يستغل الرحلة فيحمل حاجيات متبادلة بين سكان بنغازي وسكان العاصمة , وعند الحديث عن الحاجيات التي يحملها السائق وتكرارها وكثرتها يستطيع الكاتب أن يعطي لمحة عن مشاكل المركزية .
لاشك أن الحوار مع فتاة الحجز مكتوب بدقة متناهية , وقد عاد للحديث عن الفكرة عندما أشار إلى أنه رمي الكارت الذي أعطته له الفتاة وفيها رقمها بخط اليد من شباك السيارة وهو في طريقه إلى المطار , ليشير بذلك إلى الموضوع ولكن بحجم المسؤولية الوطنية 
لزياد رأي متعسف عن التاريخ والآثار عندما رفض مشاهدة متحف السراي , يبرر رأيه بأن الغربيين قد زوروا الكتب المقدسة , فكيف لا يزورون التاريخ , صدق زياد , فالقرآن الكريم سجل لهم هذه الحقيقة بقوله : (يحرفون الكلم ..) وأيضا (إن التاريخ الموجود أغلبه لا يمثلني , بل هو تاريخهم في بلادي , فأنا لا أريد أن أهتم به) وصاغ زياد الفكرة بشكل حديث عندما طلب منه الطلياني أن يصوره وخلفه أثر من آثارهم , فأعاد له الكاميرا معتذرا , فتولى ذلك أحد التبّع الذي زاد من إكرامه للطلياني فقدم إليه قطعة من الشيكولاته .
ويوم الجمعة انطلق زياد لأداء صلاة الجمعة فاختار مسجدا قديما , والكل يتوقع أنه سيقول إنه جاء ليشتم عبق التاريخ الإسلامي , ويشاهد أثرا من الآثار الإسلامية القديمة التي تركها أجدادنا نحن , أو ليشاهد العمارة الإسلامية القديمة أو ما شابه ذلك , ولكنه فاجأنا بشيء آخر جميل وراق , مناسب للحدث وهو الصلاة الجامعة , فقال : إنه يحب الصلاة في المساجد القديمة , ويفضلها عن سواها , لأنها ذكر فيها اسم الله أكثر من المساجد الحديثة , وهذه لعمري لفتة رائعة .
وفي إشارة عابرة لمساوئ الحضارة التي تطبع الأفراد بطابعها حتى يصبحون هكذا , فيلهثون وراء المصالح المادية , وتصبح العلاقات الإنسانية مرتبطة بالمصلحة فقط , ولن يتحدث معك من يعرفك إلا لمصلحة , وسيكون اللقاء سريعا حسب المصلحة فقط ..وصف لقاءه بأديب طرابلسي دعاه إلى الشاي في مقهى , ولكنه هو الذي دفع الحساب , السبب حضاري بلا شك , فهو يعيش في مدينة بنغازي التي مازالت فيها تقاليد البادية , وتتميز بالكرم الذي يختفي عادة مع تطور المدينة وانتشار المظاهر الحضارية , حيث يصبح الفرد يهتم بالأشياء العملية , ولا يهتم بالعلاقات الشخصية . 
ذكرني هذا بعديل ابن عمي عندما قابلني في زليتن في عزاء عمي , وعندما عرف أنني أكتب السيناريو تمسك بي , وأصر أن يعمل معي مشروعا فنيا لأن لديه المال , فهو من عسكري في (قسورة) , ولديه المال , ويريد أن ينتج عملا فنيا , وأخذ تليفوني من ابن عمي , وهو يقول : أنا أسكن في زاوية الدهماني , فقلت له أنا عندما أحضر لطرابلس أسكن في زاوية الدهماني فبيت خالتي هناك , فقال على الفور إذن سنلتقي هناك في مقهى , وأضاف ..ففي زاوية الدهماني الكثير من المقاهي , وسنناقش الاتفاق على راحتنا , فابتسمت وقلت له : لماذا (القهاوي) يمكنك أن تحضر إلى في بيت خالتي فنجلس هناك , وافق ولم يعلق , ذكرني أن يكون ضيفا على الضيف بالشعر الذي يقول : 
يــا أيها الخــارج مـن بيتــــــــــه وهـــــارب مـــن شـــدة الخـوف
ضيفـــك قــــد جـــاء بــزاد لــــه فارجع وكن ضيفا على الضيـف
ويصل زياد إلى الهدف من الرحلة والذي لم يكن كما توقعنا , فكل من يشرع في قراءة قصة هذه الرحلة , يعرف أن العيساوي له موضوع إداري يريد أن ينهيه في طرابلس مدينة المركزية المقيتة , ويريد أن يرينا مدى المعاناة منذ البداية , فاختار الرحلة البرية , لقد اختار الأصعب بالتأكيد , ولكنه يفاجؤك بنبل الهدف الذي حدا به أن يتكبد المشاق , ويسافر إلى طرابلس عاصمة الروتين والمركزية , فكانت الرحلة لزيارة قبر جده الأكبر , وقصر ومسجد وزاوية جده الأوسط , ليقرأ الفاتحة على روحيهما .
العودة إلى بنغازي , كانت عبر الرحلة الجوية السريعة , لذلك اكتفي زياد العيساوي بوصف سريع لها (فن – طب) !! .. جملة شعبية بليغة , عبرت عن سرعة الرحلة , (فن – طب) , بلا أي تعقيد ولا تشكيل , وهنا قمة البلاغة , فالبلاغة هي مناسبة القول لمقتضى الحال .
وجه الكاتب خطابا في نهاية الرحلة للقراء , أشار فيه إلى أنه يصف الشيء كما هو .. فإذا كان بلا (ألوانِ) بالجر .. فليكن ذلك كذلك , ويختصر أيضا بأنه يركز على المساوئ لأنه لا غرابة في وجود المحاسن أصلا .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية