الـنـبأ فـظـيـع

اليوم الاثنين، الموافق 28/06/2010 ميلادياً، دخلت إلى مقهى الإنترنت، ففتحت على أكثر من موقع إلكتروني، واستقرّ بيّ نظري على الصفحة الرئيسية لموقع المنارة. وجدت في قسم (خاص بالمنارة) بعض الموضوعات الجيدة للأستاذ "عبد العزيز الروّاف"، الذي حاول في مقالته إطفاء جذوة الفتنة بين الشعبين العربيين في مصر والجزائر، وحنقه على أحد الصحفيين المصريين الذي ما فتئ يؤججها، ومادة أخرى للكاتب "ناجي أحميدة" تتحدث عن صيد غزلان الودان في الصحراء الليبية، والدكتور "علي الصلابي" الذي ما يزال يكتب حلقاته عن الوسطية في الإسلام، وقرأت موضوعًا آخر للشيخ "محمد الزروق" في قسم (قضايا وآراء) جزاه الله عنّا خيراً.

وبعدما طالعت التعليقات الجميلة للقراء الأفاضل والفضليات على النصوص السردية السابقة ليّ، ووجدت أن بعضهم يظنّ بأنني أزعم التأريخ لمدينة "بنغازي"، مع أنني لا أدّعي ذلك، لا من قريب ولا من بعيد، ولست مؤهلاً لذلك حتى عمرًا، فكل ما أكتبه هو عبارة عن ذكريات ومواقف حدثت معي، ويبقى لكل قارئ رأيه وتصنيفه لما أدوّن.

غضّضت البصر عن شريط نشرة الأخبار في موقع المنارة، لأن قناعتي تقول إنه ليس فيه ما يسرّ، ومع ذلك، وجدت في بريدي رسالة من "محمد لطيوش" الله يسامحه دنيا وآخره، فحواها: "شارك برأيك بخصوص دعوته لبيع الخمور للأجانب بحجة تفعيل السياحة في ليبيا". لن أبدي برأيي بهذا الخصوص، فالدين الإسلامي ليس عُرضة للتصويت، ولكن هل نحن بحقّ في حاجة إلى هذه السياحة كمورد بديل عن النفط المعفط تحت الأرض؟ (واللهي بلادنا سمحة وما ناقصتنا حاجة وما خاصنا شي… إلا العدالة فقط، وشوية فلوس تبلّن ريقنا في هذه الصحرا اللي عايشين فيها).

فقد كان وما يزال رأيي بهذا الخصوص هو توزيع القسم المتبقي من عوائد النفط، بعد استقطاع ما يتبقى من الميزانية العامة، على أفراد المجتمع (وكل واحد حر في أمواله). ثم لماذا نفكر في إسعاد الأجانب، وجعل مفهوم السياحة عندنا يقتصر على الاستقبال وليس الإرسال؟ لماذا لا نفكر في إسعاد ذواتنا؟ لماذا لا نفكر في المواطن الليبي وحقّه في السياحة؟ ألسنا أولى بهذا الأمر وأحقّ به من غيرنا؟

إن فتح هذا الباب سيفتح أبوابًا أخرى على مجتمعنا، لا نستطيع بحال من الأحوال إغلاقها أبدًا، فالخمر من الكبائر ومجلب للكبائر الأخرى، كالزنا والقتل ومرض اجتماعي آخر. ثم ما الذي يؤكد لنا أنّ هذه الخمور لن يتناولها شبابنا؟ وما هو الضابط لهذه المسألة، وكيف سيدار الأمر؟ هذه التفاصيل يجب أن نركّز عليها، ليس من باب الخوض في مشروعية الموضوع من عدمه، بل لتقييم الحجة فقط.

خرجت من مقهى الإنترنت، تعتصرني الحيرة وتقبض على خناقي، قاطعة النفس عليّ من جراء قراءتي لهذه المصيبة. أين سأذهب يا ترى؟ استشرت نفسي: ما رأيك أن أزور "باسط" فأنا منذ مدة لم أره؟ فهذا الشاب وطني وله فلسفة خاصة وموضوعية في كل شأن يهمّ البلاد والعباد.

وصلت محل (أوراس) سابقًا لصاحبه السيد "عمر الكزّة"، الذي كان يبيع أفضل الأحذية الإيطالية، ففي ذلك الوقت من لا يشتري من هذا المحل لا يعد من أهل بنغازي، مثل من لا يقيم فرحه في قاعة الفردوس أو قصر الجزيرة. كنا نشتري أحذية العيد من هذا المحل الراقي بأبخس الأثمان، ونتفاخر بين أقراننا الصغار بأننا اشتريناها من هذا المحل.

بعد قانون (فوضى الزحف) صار المحل يتبع لشركة الأسواق العامة، بعد أن صودِر من صاحبه، الذي أصبح يعمل فيه لقاء راتب زهيد، كما جرى مع آخرين. ويُحكى أنّ واحدًا من هؤلاء، بينما هو جالس متبرّمًا في محله الذي يبيع الأحذية، دخل عليه زبون ليسأله: "عندك بنطلونات يا حاج؟" فأجابه: "لا وحياتك". "عندك كونتيرات يا حاج؟" قال: "لا وراسك أنت". "عندك بيجامات يا حاج؟" رد: "يلعن جد وجهك وخلاص… وإيجك النوم ثانية؟ بعد هكي بععععع… أنت أمغير كيف يجيك النوم في بلاد الحيرة؟ أنا لي أسبوعين حاير، وياما فيا صاير… وما خشّ عيني النوم".

نظرت من ناصية محل (أوراس) إلى مقهى (سي داوود) المقابل، فوجدت جمعًا غفيرًا من المواطنين في داخله وخارجه يشاهدون مباراة (البرازيل–شيلي). حاولت بصعوبة أن أخترق صفوفهم لأصل إلى "باسط"، القاعد خلف البوفيه، حائرًا في مستقبله ومتظاهرًا بعدم اهتمامه بمجريات المباراة، فهو أرجنتيني الهوى. فسألني عن حالي، وإذا كان ينقصني شيء كعادته، فحمدت الله على كل شيء، ثم انتقل بأسئلته عن المستجدات والأخبار السارة، فهو يعرف أنني جئت من جهة مقهى الإنترنت.

"يا باسط، في البلاد هذي ما تسمع ما يسرك… خير إن شاء الله". فتحت على موقع المنارة، ومن عادتي لما أفتح الصفحة الرئيسية، أنحط يدي على جبيني وفوق عيني لألا أرى شريط الأخبار المزعج، الذي لا ينشر إلا في الكواين والخبارات الشينة. لكن "أحميدة لطيوش" أرسل رسالة ضايقتني، وأخبرته عن موضوع الخمرة بالتفصيل.

حينذاك قفز "باسط" وظهر عليه الانفعال، لأن فريق البرازيل كان قد سجل هدفه الثالث، في وسط صراخ محبيه. طلب من الزبائن مغادرة المقهى فورًا: "هيا لو سامحتوا خطونا… فالنبأ فظيع… ومش وقت كورة بكل… يلعن بو البرازيل ورونالدينيو وكل يا تافهين… تو تحلمو بيه كاس العالم… والله ما ياخذه إلا ماردونا".

بعد أن صرفهم، خرج إلى الواقفين في الخارج، وكان من بينهم بعض الأطفال وشرطي المرور، الذي يشاهد بعين المباراة من خلال الواجهة الجانبية للمقهى، وبعين أخرى الطريق: "هيا يا بو بدلة بيضا، حتى أنت زيد فيه… وهاك قهوة ميسة مني… قاعد تتفرج من بره يا أطروح وما تبيش تدخل جوّه… بيش ما تدفعش أفلس؟ اخلص لعملك يا خويا… كم واحد أنا حقّيته من جوه… وهو يخالف القانون… وانت حاك الوذن عليه".

بعد أن فرغ من مهمته، تلفظ: "هذا عقابها… لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وعيونه ترقرق: "صبرنا على رقادة الريح وكل شيء… لكن إلا هذي عاد… راهو رأس مالنا شرفنا وشرف بناتنا وعيالنا… الحكاية مش حكاية صميط… عارف شنو معناها هذي يا خويا… معناها الأجانب اللي خاطرهم يسكروا في بلادنا… يبو بناتنا يقعدن زي بنات المغرب ولبنان وتونس ومصر… ويقعدن اخشومنا في الطين… والله ما نرضى بهالعار… و يلعن بو الفلوس اللي جاؤنا بهذه الطريقة".

خرجت حائرًا من مقهى "باسط" دون أن أجادله، وقلت في نفسي: "يا ليت كتّابنا عندهم هذا النفس الوطني الذي تمتلكه، خصوصًا الذين يشربون الخمر بمكافآت أمانة الثقافة". لكون رأيه مثل رأيي، رجعت من حيث أتيت إلى مقهى الإنترنت، ووضعت لكم هذا النص ارتجاليًا، معاهداً نفسي، لو يصلني خبر كهذا من "محمد لطيوش" أن أشتكيه إلى "على القوبو" بتهمة مضايقتي بالأخبار السيئة. بعد أن تذكرت المسافة بينهما، وحقيقة أن أحدهما في بريطانيا والآخر هنا، حذفت اسمي من قائمة بريد أخبار المنارة، ناقرًا على عبارة: "إذا كانت هذه الأخبار تزعجك… فانقر هنا".

زياد العيساوي
بنغازي – ليبيا
منشور في موقع المنارة بتاريخ: 29/6/2010
Ziad_z_73@yahoo.com


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟