زهرة النرد

رأيت ذات مرةٍ، أربعة فتية في ريعان الشباب يحملقون إلى أعلى نحو شيءٍ معين، ثُم يتهافتون إليه راكضين، أي، حيثُ المكان الذي سقط فيه على الأرض، ثم يلتفون من حوله، الغريب في الأمر، أنهم كانوا يذكرون أرقاماً عشوائيةً قبل أن يسقط ذلك الشيء، وبعد ذلك، كان كل واحد منهم يندبُ حظه ويقول: "يا لحظي السيئ".

شدّني هذا الأمر الغريب وأثار فضولي وجعلني أدنو منهم شيئاً فشيئاً من باب إرضاء الفضول، وعندما اقتربت منهم، ألفيتهم يعدون العُدة لتكرار التجربة، وكانت في راحة يد أحدهم، قطعةٌ صغيرة جداً مصنوعة من مادة اللدائن لها ستة أوجه، وفي كل وجه منها عددٌ من النقاط تبدأ من الرقم واحد حتى الرقم ستة، أي أنَّ عدد هذه النقاط كان بعدد الأوجه، ولعلَّ القارئ قد عرف ماهية هذه القطعة التي أقرب ما تكون في شكلها الهندسي إلى المكعب، وهوَّ شكلٌ فراغي ذو ثلاثة أبعاد- طول وعرض وارتفاع- وتُعرَف هذه القطعة بزهرة النرد، على أية حال، قام من كان يحمل تلك القطعة في راحة يده بإطلاقها إلى أعلى، وأخذ كلٌ منهم يذكر الرقم الذي أختاره كتعويذةٍ لجلب الحظ الجيد أو شيءٍ من هذا القبيل، وبعد بُرهة سقطت سقوطاً حراً على الأرض، ثُم ارتفعت قليلاً إلى أعلى، فعادت بعد ذلك لتسقطَ على الأرض ولتستقرَ بها الحال على أحد وجوهها الستة، فانطلق الفتية نحوها وكنت معهم،  المدهش في الأمر، أن الوجه الذي استقرت عليه زهرة النرد، لم يكُن من بين الأوجه الأربعة التي أختارها هؤلاء الفتية، بل حمل رقماً آخراً، فقال أحدهم نادماً: "كنت على وشك اختيار هذا الرقم، لكني للأسف عدلت عن اختياري في أخر لحظة" أما الآخرون فتذمروا، وأصبحوا كعادتهم يندبون حظهم السيئ، برفس الأقدام وعضّ الأصابع، وتطيّر ثلاثة منهم من الرابع الذي كان يقذف زهرة النرد إلى أعلى، وقالوا معاً: "إنَّ سوءَ الحظ الذي يُلاحقنا يرجع إليك"، لا غروَّ إن ما قاله الثلاثة للرابع في سياق العبارة السابقة هو تشاؤم، وهوَّ من الشرك الأصغر، وبعد ذلك، قاموا باستبداله بواحدٍ منهم ليقومَ بقذف القطعة إلى أعلى، وطلبتُ إليهم أن أكونَ خامسهم، أي أن أشاركهم هذه اللعبة، فلم يُمانعوا، واختار أربعتهم الأرقام الخاصة بهم، ولم يبقَ لي إلا أحد الرقمين الآخرين، فاخترتُ أحدهما، وبينما هي تصعد إلى أعلى، أصبح الجميع يتمنى أن تسقط على أي وجه من الوجوه الخمسة التي اخترناها، ولكن من دون جدوىٰ، فقد استقرت زهرة النرد على الوجه الوحيد المتبقي، وحسبما يقولون، يبدو أنَّ سوء الحظ قد طالني أيضاً، لكني لم أفعل فعلهم ولم أندب حظي مثلهم، لكوني أدركت السبب الذي يجعل النتيجة تأتي مخيبةً للأمل، ذلك أنّ عدد الاحتمالات الواردة  يفوق عدد الاختيارات المحتملة، ما معناه أن عدد الاحتمالات الكلية مساوٍ لعدد أوجه زهرة النرد الستة، ونحن خمسة متسابقين، أي بمعنى، أن إجمالي عدد اختياراتنا هو خمسة اختيارات، لذا يتوجب علينا أن نكمل النقص في العدد بمشاركة شخصٍ آخر، ليتساوى عدد الاحتمالات المختارة مع عدد الاحتمالات الكلية، وهذا ما حدث، حيثُ إننا أشركنا متسابقاً سادساً معنا جلبته الصدفة مثلي، وبطبيعة الحال لم يكُن هناك مناصٌ من أن تستقر زهرة النرد على أحد الوجوه المختار رقمه، لأننا قد وضعنا الاحتمالات كافةً، وجعلنا عدد الاحتمالات المختارة يتساوىٰ مع عدد الاحتمالات الكلية. 

من هذه اللعبة، نستنتج أنه علينا أن نضع كل الاحتمالات المتوقعة بخصوص أيِّ أمرٍ، فلا نُفرط في التفاؤل ولا التشاؤم كذلك، بل لزامٌ علينا ألا نغلب أحدها على الآخر، كي نستعد لتلقي نتيجةَ أيِّ أمرٍ بشجاعةٍ وصبر.

بنغازي: 28\8\2005

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المعادلات الصعبة

نصيحتي للثوّار : لا تتجاوزوا رأس لانوف

جاء ليزرعها فدحرته وحلفاءه