متى يكون القاص أديباً؟ وهل في القصة أدب؟

في واقع الحال، إنّ هذين السؤالين، ما هما في الأصل إلا سؤال واحد مُركَّب، وقد وردا وتمظهرا في السياق المُعنوَّن به مقالتي هذه، لغاية واحدة، فمتىٰ تمّت الأجابة عن أحدهما بالسلب أو الإيجاب، تحققت الإجابة عن الآخر طوعاً وبالمثل.

ماذا لو أننا جعلنا رمية البداية تكون من السؤال الثاني؟ لنرى كيف ستتحقق هذه المعادلة.

في أحيان كثيرة، قد يوسم القاص لدى التعريف به بأنه أديب، وفي أحايين أخرىٰ، قد تسبق الصفة الموصوف كما في اللغة الإنجليزية، وعلى غير العادة، فيقولون لك: هذا الأديب القاص (فلان).. فهل هو بحقِّ على هذا الوصف، أم أنه محض وصف متداول عند التعريف بأي قاص؟ أسأل هذا السؤال، لكوني لا أظنّ مجرد الظنّ، بأنّ قيل ليّ يوماً: إنّ هذا الأديب الشاعر (س) أو على الأقل، إنّ هذا الكاتب الأديب (ص) حين التعريف بهما. 

إننا إذا بحثنا عن لفظ (أديب) نحوياً سنجده صيغة مبالغة على وزن (فعيل) على غرار (كريم) والأخير من أسماء الله الحسنى لسعة كرمه سبحانه وتعالى، وثمة اشتقاق لغوي لأي فعل يسبق صيغة المبالغة، فهذه الأخيرة، أجدها تُشتَق من الفاعل قبل الفعل نفسه، لأنّ أي فعيل قبل أن يكون كذلك، هو فاعل تمرَّس  على القيام بالـ(فعل)، أي بصريح العبارة، أن الأديب لا يكون أديباً ما لم نعرفه مُؤدِباً، وهذا التفصيل يفتح مصرعي الباب على خطأ رائج بتقديري على اشتقاق لفظة (أديب) التي أجدها مستحدثة ولا أساس لها في التراث اللغوي، نثراً وشعراً، بيد أن أي صيغة مبالغة على وزن فعيل لا تأتي ولن تتأتىٰ إلا من فعل ثلاثي مجرد، وطالما أن اسم الفاعل منه هو مؤدب، يعني بأنه مشتق من فعل مزيد (رباعي) هو (أدَّب) واسم الفاعل هذا أصيل حتى في تاريخ الدول إذ أنّ الملوك والخلفاء كانوا يختارون مؤدبين لأبنائهم الأمراء، فيعلّمونهم اللغة والشعر والحكمة وفنوناً كثيرة، وأدب التعامل مع نظرائهم كملوك في المستقبل، من هنا استطيع بلا تردد ولا نقاش، أن اشطب على هذه الكلمة ألا وهي الأديب واستبدلها بالمؤدب الفاعل، وهو المُعلِّم لأكثر من فن على رأسها الحكمة.

وجرياً على هذا التأصيل، فإن الأديب هو كل من يتحرّى الأدب في كتاباته ويتقصاه، ولكن علينا أولاً، أن نعتمد تعريفاً لمفهوم الأدب المقصود في السرد القصصي، فبمعرفته سنكون قد وجدنا قاعدة صلبة نقف على أرضيتها، لنصل إلى إجابة عن السؤال الذي قدمنا لمقالنا به، فثمة من يرى أنه السير على خصوصيات القصة القصيرة مثل، الصور البلاغية والأخيلة الجمالية والاحتفاظ باللحظة أو اللقطة، فتصبح أثناء قراءة قصة ما، كأنك أمام لوحات تصويرية للحدث بكل تفاصيله المملة، لدرجة أنك تلاحظ أن القاص يفصّل لك حركات وانفعالات الشخصية المحورية، من البداية إلى النهاية، كأن تقرأ مثل هذه الكلمات (أشعل) و(سحب) و(أطفأ) و(داس) وهي كلها أفعال لمفعول به واحد، هو (لفافة تبغ) بالكاد يخلو عمل قصصي منها، فما إن تفتح كتاباً حاوياً بين ضلفتيه مجموعة قصصية، حتى تصّاعد منه رائحة كريهة تزكم أنفك بفعل هذه اللفافة. 

لكننى أرىٰ فيما أرىٰ، قبل هذه الأمور الفنية، ضرورة أن يكون لها مضمون يحمل عبرة، فكثيراً من هذه الأشياء الفنية، هي على درجة فائقة من البناء والحبك، لكنها تخلو في أغلبها من موعظة، حتى أن الواحد منا يساوره بليغ الندم حين قراءته لقصة ما، فبعد أن يأتي على قراءة هذه الجماليات ويؤخذ بها، ويصل إلى ما يُسمىٰ بلحظة التنوير الحاسمة، لا يجد ثمة بصيصاً منه مُلقَى على العمل، على خلاف من يقرأ مجموعة من قصص الأطفال، فعلى الرغم من أنها لا تتماشى مع خصوصيات القصة القصيرة من حيث حياكة نسيجها، فتصوير الحدث لا يتم عبر تجسيده بالكتابة الفنية، بل برسم المواقف والأحداث في صور مرفقة وموضحة، لكون القاص هنا لا يشتغل على هكذا تفاصيل، بل يكلف فناناً بإظهارها، أما هو، فيتفرغ لإيصال فكرة العمل إلى الطفل، فعلى الرغم من هذا كله، تجد الغاية في خاتمة كل قصة، أما الوسيلة، فهي تلك الرسومات، لذا أُعتمِدت هذه الأعمال في المناهج التعليمية، وبخاصة في كتب المطالعة لمرحلة التعليم الأساسي، فيكتسب التلميذ من كل قصة درساً ينفعه في مقتبل عمره، ثم يعلمه بدوره لأطفاله حالما يكبر. 

فالأدب لست أراه كما يراه البعض، من حيث إنه الالتفاف على النص وشحنه وتكثيفه بالجماليات، لا بل هو أكثر من ذلك، فهو فكر يتموضع في نسق قصصي، يُراد به إيصال فكرة ما إلى القارئ، وإن كان تصحيحاً لمفهوم خاطئ، فكل من ينتهج هذا المسلك يكون قاصاً وما عداه يكون فناناً، يعرف كيف يُصوّر الوقائع المشهدية بكلماته.

بقلم: زياد العيساوي

بنغازي: 1\2\2007

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المعادلات الصعبة

نصيحتي للثوّار : لا تتجاوزوا رأس لانوف

جاء ليزرعها فدحرته وحلفاءه