أفعل التفضيل
قد يأتيك أحدهم، ويُدّخلك في مماحكات أنت في غنى عنها، عندما يطلب إليك أنْ تُفاضل بين أمرين لا ثالث لهما، وأن تنحاز إلى أحدهما، فلا يُعطيك الحقَّ في أن تلتزم جانب الحياد، ما معناه بلغة الألوان، أن تختار بين اللون الأبيض أو الأسود، فإن أعلمته بأنّ هذين الأمرين على حد سواء من وجهة نظرك، اتهمك بأنك تخلط بين اللونين، عندما تقف في المنطقة الوسطى بينهما، لكأنه يُخيّرك بين الجنة والنار، فليس ثمة منطقة وسطى بينهما، يحدث هذا عندما يُوجّه أحدهم إليك سؤالاً تجد في سياقه لفظ (أفعل التفضيل) وأفعل التفضيل هو كل اسم مشتق من الفعل الماضي الثلاثي، يأتي على وزن (أفعل) مثل (أحسن) و(أفضل) و( أكثر) و(أجمل) وما إلى ذلك من أسماء مشتقه تأتي على هذا الوزن، فمثلاً قد يسألك أحدهم: من تحب أكثر، هل أخوك (س) أم أخوك (ص)؟.. فتجيبه مُبديَاً استغرابك: بأنهما يحوزان على القدر نفسه من المحبة، لكنه يسألك مجدداً ومبدياً إلحاحه: أرجوك قلُ ليّ، من تحب أكثر؟.. ولو أعدت إجابتك الأولى، فسوف يحاول أن يُظهر تفهمه لإجابتك، ثم لا يلبث أنْ يسوق لك سؤالاً آخراً باستحدام لفظٍ ثانٍ لأفعل التفضيل، حينما يسألك وقد نفد صبره: استحلفك بالله، أصدقني القول، من في رأيك هو الأحسن؟.. يسألك هذا السؤال بعد أن أقسم عليك قول الحق، لكأنه أحسَّ بأنّ إجابتك الأولى لم تُشفِ غليله، أو كانت كاذبة، لذا يظنُّ بأنه بذلك سيرغمك على أنْ تُفاضل بينهما، ولا يدري في حقيقة الآمر أنك لو دخلت في غِمار هذه المفاضلة، ستكون قد كذبت عليه، وهذا ما يخشاه، وبين إلحاحه ونفاد صبره، قد تجيبه مُظهِراً انزعاجك ومللك: أحبُّ أخي (س) أكثر من (ص).. فترى عينيه اللتين كانتا ترمقانك بكل لهفة وترقب وقد تطاير منهما شرار غضبه، لحدسه بأنك كنت تتهرب من الإجابة، قد بدا فيهما بريق انتصاره عليك، بعد أن تجيبه بما أراد، ثم يرتاح بالاً ويصمت، أما أنت فيخامرك شعورٌ بأنك قد اقترفت ذنباً، حينما فاضلت بين أخويك أو اللذين لهما القدر ذاته من المحبة في نفسك، ولكنك اخترت أحدهما كفائز وحائز على محبتك، فتغدو حزيناً.
واتساقاً بما ورد في المقدمة، قد يُطرَح هذا السؤال على أحد الأطفال في وجود أمه وأبيه من شخص آخر، فترى الطفل المسكين يُصاب بالحيرة والقلق، عندما تشاهد عينيه وهما تنتقلان بين الاثنين، ولا تجدان إجابة تنطقانها على لسانه، فتختاران النظر إلى الأرض حياءً وخجلاً، يحدث كل هذا له، لو فوضِل بينهما، أي بين أمه وأبيه، فيرد على هذه المفاضلة بالتزام الصمت، ثم يُجيب بصوت يعتريه التعجب: "أحبُّ كليهما" فيفرح الأب وتبتهج الأم بهذه الإجابة العادلة، لكنّ ذلك المتسائل لن يدعه وشأنه، وسيسوق له أسئلة متتابعة إلى أنْ يرضخ له هذا الطفل المسكين، ويختار أحد والديه من حيث الأفضلية، لكنّ الأغرب والأدهى من ذلك، هو أنْ يلومه أحدهما في هذه الحالة، ويُذكّره بأمور كثيرة قد فعلها من أجله، عندما يُفطنه إلى أنه هو الذي كان يعطيه مالاً أكثر من الآخر، فيعدل الطفل عن اختياره الأول، ويرى أنّ عليه إعطاء الأفضلية لمن أجزل له العطاء، أي للثاني، فيغضب الأول ويُذكّره بأنه يُعامله بحنان أكبر من الثاني، فيعود من جديد هذا الطفل، ليرشح الأول، ما من شأنه أنْ يجعل الطفل ينزع إلى الانحياز في محبته لأحد والديه.
وعطفاً على ما جاء أعلاه، لا يستغرب أحدكم، لو جاءه شخص، يطلب منه أنْ يُفاضل بين أمرين، أحلاهما مر، أو بين أمرين آخرين، أمرهما حلو، بل لا يندهش أحدكم، إن أتاه من يسأله: أيهما أهم الماء أم الهواء؟.
بنغازي: 3\5\2005
تعليقات
إرسال تعليق