شؤون كتابية
(1) الكتابة عن الكتابة
بمسقط هندسي (أمامي) وبنظرة من عينيك إلي أيما نصٍّ أدبي، ستجد أنّ الكتابة كلمات تجري فوق السطور، ولم تكُن البتَّة تحتها، هذا ما أدركه تمام الإدراك، و لكنْ منَّا منْ يُطالع النصوص، ثم يضع (خطوطاً) تحت الكلمات، مُشكِّلاً لنفسه بعد ذلك من هذه الخطوط (سطوراً وهمَّية) تشغل حيزاً من الخواء الذي هو أصلاً موجود بين السطور الأصلية للنصِّ المكتوب، ليكتب عليها فيما بعد، عن موضوع النصِّ الذي قرأه، لأنه وكما يدَّعي قارئ حاذق، وليس كمثله قارئ، لكونه يعرف جيداً كيف يُطالع ما بين السطور، حتى ليجعل فرائسك ترتعد، إثر استماعك إلى عبارته هذه التي لا تخلو من حدس (بوليسي) فتتصور بأنّ ثمة من يكتب بالحبر السّري، ثم يأتي من بعده، من هو على شاكلة الأول بعدسة مجهرية، لينقب ويكتشف بها بواطن النصوص، وما إدعاؤه الذي صاغه في الحقيقة إلا مسوّغ منه، كي يجد لذاته موطأ قلم، وليقحم أنفه في الصُّحف والمجلات، والثانية هي من تُشكّل الأغلبية في نشر مثل هذه الكتابات التي يُسميها بنفسه (قراءات) ولا يجرؤ أبداً على أن يُسميها (نقديات) فهو أعرفُ بقدراته من الآخرين، الأمر الذي يحدُّ من بروز أسماء جديدة لديها ما تقول (تكتب) بمعنى هذا الفعل الحقيقي غير المزوَّر، فمن المُلاحظ، أنّ أبواب المجلات تُشرع صفحات كثيرة لمثل هذا النوع من الكتابة، الذي لا أراه يحمل أية صفة إبداعية على الإطلاق، لأنّ الإبداع فيما أرى، هو الخلق والإنشاء، لا أنْ يقتات الكاتب مُتطفِلاً على نصوص غيره من الكُتَّاب المبعدين والمبدعين حقاً، فهو بذلك لا يؤلِّف شيئاً جديداً يُحسب لرصيده بخاصة، ولا للمنجز الثقافي بعامة، مثله في ذلك، مثل المطرب الذي يؤدي أغنيات لغيره من الفنانين، ومع هذا، نجد أنّ مثل هذه الأغنيات تُقدَّم بأصوات المقلدين لا الأصليين، وهذا ما أُعيبه على وسائل النشر المسموعة منها والمرئية، فما الذي تبتغيه من هذه السياسة المُتبعة يا ترى؟ لاسيما وأنّ مثل هؤلاء الُمقلِّدين معروفون على الساحة الفنية، ولديهم أرصدة من الأعمال لا بأس بها من حيث الكمّ لا الكيف؛ مثلما تغنت الفنانة المغربية "ليلى غفران" بعدة أغنيات للراحل "عبد الحليم حافظ" وصارت تُذاع بصوتها عبر هذه القنوات الإعلامية، أكثر من أنْ نسمعها بصوته، وهذا لعمري أمرٌغريب، بعد أنْ بات لها اسمٌ معروف، لكني أستثني من ذلك الأصوات الواعدة التي ما تزال تشقُّ طريقها في هذا المجال، وينتظرها مستقبلٌ زاهرٌ، فلا ضير في أنْ تشدو بأغاني كبار الفنانين إلى حين أن تُصقَل أصواتها وتكوّن لذواتها شخصيات مستقلة، بعد أنْ تتعلم أصول الغناء العربي الصحيح والصحي من هذه المدارس، وتتتلمذ على طريقة أدائها، لئِلا يحدث معها مثلما حدث مع فنانين آخرين، هُم على قدرٍ عالٍ من الكفاءة والأداء ومشهودٌ لهم بذلك، لكنهم لم يستطيعوا الإفلات من الأُطر التي قولبوا أصواتهم بداخلها، لكونهم منذ أنْ بدأوا مسيرتهم الفنية، دأبوا على تقليد مدارس غنائية لم يتخرجوا منها أبداً، مثل الفنان السوري وعازف العود المشهور "صفوان بهلوان" الذي أفنى عمره الفنّي في أداء أعمال موسيقار الأجيال "محمد عبدالوهاب" وكذلك المطرب اللبناني "نهاد طربية" في حرصه الشديد على أنْ يُغني أغنيات الموسيقار "فريدالأطرش" والسبب قد يعود إلى التشابه الواضح بين صوتيهما من حيث الطبقات مع صوتي الراحلين، ويبدو ذلك واضحاً، لما غنى الأول قصيدة (النهر الخالد) التي هي للثاني، وبعدما تغنى الثالث بأغنية الرابع (حكاية غرامي).
نعم هذا هو ديدن هؤلاء الكتبة الذين أقصدهم من خلال هذه المقارنة بينهم وبين المغنين الُمقلِّدين الذين ذكرت لكم من بينهم اثنين فقط، اللذين أظنُّ لو سألهما أحدٌ: لِمَ فعلتما ذلك؟ فسيكون ردهما: "لأننا نتمتع بذائقة سمعية جيدة، تمكننا من إعادة تقديم الأغنيات، التي هي لغيرنا بإحساس آخر و على نحو جديد" أي مثلما يتحجج الأولون؛ ولكنْ أين هما الآن؟ وما الذي أضافاه إلى الأغنية العربية؟.
أعود الآن بكم ومعكم إلى (الكتابة عن الكتابة) فإنْ كان نشر هكذا كتابات في هذه المجلات، ضربةُ لازب أو أنها تُضيف إلى المشهد والمنتج الثقافيين زخماً، فلتنشر على أساس أنها ردودٌ من القُرَّاء ليتواصلوا بها مع هذه المطبوعات، لأنّ الأصول تقول بأنْ من يحقُّ له التعليق على النصوص المنشورة هم القُرَّاء لا الكُتَّاب، طالما أنّ الأخيرين بأنفسهم يسمون ما يكتبونه بأنه قراءات.
وما يجعل مقامنا يطول عند هذا النمط من الكتابة (القراءات) هو أنّ كاتبيها يُذكّرونك بالكتبة العموميين، الذين يحرِّرون لك أية شهادة أو طلب كتابي في أي شأن، بمقابل مالي أوجبه لهم القانون، لكونهم مُتحصلين على شهادات وإجازات عمل في هذا الاختصاص، فهم على النقيض من كتبة القراءات الذين يقرؤون (اقصد يكتبون، وهذا ليس بخطأ في التعبير منّي، لأنّ المجلات نفسها، هي من تُعنوّن كتاباتهم بالقراءات، في الوقت الذي هي فيه كتابات، فهنالك لغط لا بُدّ أنْ تتفطن إليه هذه المجلات التي تتبنى هكذا كتابات) أُكملُ لكم الآن عبارتي التي انقطعت قبل ما ورد بداخل الضفرين، يقرؤون عن الشعر الفصيح باختلاف مشاربه، والشعبي والمحكي أيضاً، وكذلك عن القصة والرواية والمسرح، على الرغم من كونهم، لم يتخصصوا في واحد من هذه المجالات المنشورة في المجلات.
لعلّ من اللافت للانتباه، أنّْ هناك قاعدة معروفة، أو لنقُل بأنها لائحة تنظيمية، هي من أبجديات النشر في المطبوعات، تنصُّ على عدم إعادة نشر النص لأكثر من مرة، لكنّ هذه القراءات هي من تكسر وتخترق هذه القاعدة تحايلاًً، حال نشر النصِّ بقلم كاتبه الأصلي، ثم يأتي من يتولى مهمة (القراءة) مُكرِّراً العنوان عينه، ومسبوقاً بعبارة (قراءة في) كي يُغيّر (يُزوّر) عنوانه الحقيقي ولا يقع في المحظور؛ و هنا يتبادر إلى الذهن سؤال انكاري: أوليس من الأفضل للمشهد الثقافي في بلادنا، أنْ نزيد من عدد النصوص المنشورة، عِوضاً عن تكرار النص الواحد بمسميات جديدة، ألا وهي (القراءات)؟ التي أضحى البعض يتخذها صنعةً له، وهذا دليل عجز عليه، وعلى المنجز الثقافي.
(2) من فنَّن الكتابة؟
لن أُجيبَ عن هذا السؤال، لكوني لست مُخوَّلاً بذلك، لكني اتخذ السؤال دائماً، كأفضل وسيلة لطرح موضوع ما ومناقشته، لما ينطوي عليه السؤال من إدهاش وإثارة، يجعلان متلقيه يلتفت إليه ثم يلتفّ من حوله، وقبل أنْ استرسل في الحديث عن هذا الأمر، أودُّ في هذه التوطئة، أنْ أعترف لكم بأنني لا اتمتع بخيال خصب يجعلني أقف على قدم المساواة في مصاف المبدعين، بل بفكر لا اعرف له مدى، وأحاول على الدوام، أنْ أوظفه في التنقيب عن أفكار جديدة ليست مستهلكة، ولم يتطرق إليها كاتب قبلي، وأحياناً أجدني من حيث لا أتوقع، يأخذني تفكيري إلى مناطق قصيَّة ما كنت افكر في الذهاب إليها، فأجتهد حينئذٍ لاستغلال هذه المناطق الساكنة في أعماق عقلي الباطن والظاهر لمقاربة عين الحقيقة بشأن ما قد يشغل الناس، أي أنني انتهج لنفسي مبدأ الموضوعية في كتاباتي ولست معنياً بغير هذا الخطّ الذي امضي عليه، بل ربما اتناول موضوعاً قد لا يهمّ الناس في آنه، لكنّ ثمة هاجساً وهاتفاً في خاطري هما من يُمليان عليّ التعبير بصدده، شعوراً مني بأنه سيأتي يومٌ عاجلاً أو آجلاً، ويلتفتون إليه، ولمن يُعيب علىّ قصوري الخيالي، سأفرد له المحور الآتي.
صحيح أنّ الوسط الثقافي في بلادنا وغيرها من بلاد العرب والعجم، يحتفي على نحو متواصل، بكُتَّاب الشعر والقصة والرواية، لأنّ أساطين الثقافة فيها، يعتبرون هذه الأجناس الثلاثة هي رموز الإبداع، وأية كتابة تخرج عن نسقها، لا تُعدُّ من الإبداع في شيء، لأنّ من يكتبون هذه الأجناس يتمتعون بحسب أراء هؤلاء الأساطين بخصوبة في الخيال الجامح، تجعلهم في نظرهم مبدعين، والإبداع عندهم هو الخلق، وكل واحد من كُتَّاب هذه الأجناس المذكورة، يخلق من العدم كيان النص المنسوب إلى الجنس الأدب الذي ينتمي إليه، بعكس كاتب المقالة الذي يستند إلى حقيقة ما يبني عليها نصَّه، وعلى الرغم من أنْ كاتب المقالة هو الأكثر قرباً من القارئ وتواصلاً معه، حيث إنّ لديه القدرة على كتابة مقالة بصفة يومية في الصُّحف، لذا فهو الأكثر التصاقاً بالقُرَّاء من غيره، وأنا أُراهن على أنه إذا ما أُُجري استفتاءٌ على ذلك، سيقولون: (نعم لكاتب المقالة) أي أنه، هو الذي سيفوز بنتيجة الاستفتاء لا محالة، فعلى الرغم من ذلك، فإنّ المراكز الثقافية وقتما تشاء القيام بأمسيات أو أصبوحات أو مسابقات أدبية، تجعلها تقتصرعلى الشعر والقصة والرواية ولا تُشرك المقالة بينها، وأنا لست الوم من يقومون على مثل هذه المسابقات والمحافل التي لا تحتفل بالمقالة، فالأمر لا يرجع إليهم بل هو مُتجذِّر في النظرة الثقافية على مستوى العالم قاطبة، حتى أنْ جائزة صانع البارود (نوبل) لا تُمنِح في الغالب الأعم إلا للروائيين، وكُل من يسير في ركبهم، ومنشأ هذه النظرة المتعامية، هو عدم وجود تفريق بين الأداب والفنون، التي تندرج جميعها تحت مُسمى الإبداع، بل إنها تعتبر الفنون من أقسام الأدب، والفنون بحسب تعريفي لها: (هي التعبير عمَّا يمتشج في النفس البشرية من مشاعر وأحاسيس، لذا سُمي الشعر شعراً، لأنه تعبير الشاعرعن مشاعره الخاصة، وربما تصل به حالة الوجد إلى محاولة التعبيرعن لواعج الغير حسبما يراها، أو أنْ يكون هذا التعبيرعلى هيأة رسوم تشكيلية مُبهمة، تدفع بالبعض من زوَّار أي معرض للفنِّ التشكيلي إلى الاستعلام عمَّا يلفها من غموض من خلال مُبدِعها، الذي يكون دائماً مُلازِماً للوحاته ولا يفارقها، ومتحفزاً لأيِّ سؤال طارئ، قد يوجهه أحدهم إليه، هذا فيما يخصُّ الشعر والفنَّ التشكيلي، أما فيما يتعلَّق بالقصة، فقد سبق ليّ أن تناولتها في مقالة كانت بعنوان (متى يكون القاص أديباً؟ وهل في القصة أدب؟) وكانت تتخلص في نقطة واحدة بخصوص تعريفي للأدب، على أنه فكر يتموضع في نسق سردي، يُراد به منفعة القارئ، ولو كان تصحيحاً لمفهوم خاطئ، وعن الرواية ليس عندي ما أضيف، سوى أنني أعدُّها قصة طويلة على غرار القصة القصيرة، لذا ينطبق عليها ما ذكرته بشأن القصة، مع مراعاة الفرق في الزمن والطول وتعدد الشخوص.
هل تصدقون بأنه لم يسبق ليّ أنْ كتبت عن المقالة، مع أنني اميل إلي كتابتها؟ لذا سأخصص لها السطور اللاحقة، إنْ بحثنا عن لفظ (مقالة) سنجدها آتية من الفعل (قال) ومصدره (القول) وهذا يعني بأنّ هناك من يقول (يتكلم) ولكي يُنصَت إليه، يتعَّين عليه أنْ يكون مُحِقاً ويتحرى الصدق فيما يقول، وإلا فسوف يُرمىٰ بكلامه عرض الجدار، وهذا ما يُعطي لون (المقالة) مصداقية بين القُرَّاء، لأنّ مريدها لا يؤسس حديثه (نصّه) على افتراء ولا على افتراض خاطئ، لا بل على حقائق مؤكدة ومُسلَّم بها ولا تقبل جدالاً، فهو لا يستغفل القارئ ولا يستخفُّ به، بل على العكس تماماً، إذ يحترم ثقافة المتلقي، ما يجعله وقت الكتابة على درجة فائقة من الفطنة، لكي لا يتيح فرصةًً لمن يضعون الخطوط أسفل الكلمات، ممّن جئت على ذكرهم في المحور الأول، بدليل أنك لا تجد من ضمن قراءاتهم، قراءةً واحدةً عن أية مقالة سبق نشرها، لأنّ المقالة كجنس أدبي، تتميز عن غيرها من الأجناس بميسم المباشرة في الطرح، وتسدُّ الأبواب في وجه التأويل الذي يأخذ أبعاداً شتى في الأجناس الأخرى، قد تغالط النص الأصلي في أحيانٍ كثيرة، ويبدو ليّ أنْ من لا يعترفون بأنّ المقالة لونٌ إبداعي، قد غاب عنهم، أنها قد تأتي في شكل خاطرة لم تخطر إلا بخاطر كاتبها، وهنا يكمُن الإبداع الحقيقي، كما أنّ كاتب المقالة بميسوره أنْ يُحيل مضمون أي نصٍّ أدبي مهما اختلف جنسه، إلى مقالة صريحة ينأى بها بعيداً عن المواربة، ويُضاف إلي ذلك، أنّ مسألة النقد بخصوصها قائمة على ركائز ثابتة، هي الجدية والوضوح والخلاصة، فهي على النقيض من الشعر والقصة والرواية، التي لم يُتفَق بعد على سنِّ قوانين نقدية لها، ويُعمل بها لأجل كشف الجيد من الرديء منها، وبوسع كل من يشتغل عليها، أنْ يكون في حِلٍّ من أي نقد لاذع يُوّجَه إليه، استناداً إلى عدم وجود هذه الاعتبارات، ما يجعله خارجاً عن القانون، أو من دون مواراة (مُنحِرفاً ثقافياً) يبدو أنني قد تأثرت أثناء كتابتي لهذا الوصف، بتلك العبارة (البوليسية) التي نسمعها دائماً من كتبة (القراءات) الذين يضعون الخطوط تحت الكلمات، ويقرؤون ما بين السطور كما يزعمون، لكني قصدت من هذا الوصف، أنّ الشاعر والقاص والروائي، لا يوجد ضابط يضبطهم ولا رابط يربطهم، فهم يزوغون من النقد، كما تنسل الماء من بين يديك.
والحقُّ يُقال: إنّ في عالمنا العربي، لم تنجح مدارس النقد إلا في اتجاهٍ واحد فقط، هو النقد الغنائي، لسهولة إخضاع الأغنية لثلاثة اشتراطات، هي جودة الكلمة واللحن والأداء، حيث يُشترَط في الكلمات أنْ تكون مُعبِّرة وسلسة وذات مضمون وبعيدة عن الإسفاف، والشاعر الغنائي الُمتمكَن، هو الذي يعرف كيف يجعل لكلماته بُعداً (درامياً) ويعرف أيضاً كيف يضع لها التفعيلات المناسبة، وأنْ لا ينساق إلى تشطيرات ثابتة لها، مثل الشاعر الكبير "حسين السيد" و"مُرسي جميل عزيز" لا كما يفعل شعراؤنا المحليين الذين ينظمون كلماتهم على تشطيرات الشعر الشعبي القديم التي لا تتجاوز الستة عشر وزناً، ما يجعل كل أشعارهم التي يتمُّ تلحينها تجيء على الرقم نفسه من الألحان الشعبية، فمثل هذين الشاعرين اللذين ضربت بهما مثلاً، لا أعدُّهما شاعرين فحسب، بل مؤلِّفين غنائيين، أسهما بقدر كبير في وضع اللحن كذلك، وهذا على صعيد الكلمة، أما على الصعيد اللحني، فقد وضع نقاد الأغنية شرطاً أساسياً، كي تُعدُّ الأغنية ناجحة، هو أنْ تنسج على المقامات العربية اللحنية الأصيلة والأصلية، التي لم تشُبها شائبة، ولم تتأثر بالألحان الدخيلة على الموسيقا العربية؛ تبقت لدينا بهذا الصدد نقطة واحدة، تتعلَّق بالأداء الذي من الضروري أنْ يكون صادراً من صوت يتمتع بعدة ميزات، منها مساحته الواسعة وتمكنه من الغناء على الطبقة الصوتية العالية والمنخفضة (القرار والجواب) ولا ننسى الطبقة الوسطى كذلك، وأنْ يتوافر على بعض من المحُليات أو المحسنات الصوتية، كالنبرات الصريحة والواضحة المعالم، بالإضافة إلى قوة الأسر، وكلما زادت هذه المحسنات الصوتية، كلمات مكَّنت لصاحب الصوت فرص النجاح بشكل أكبر، وتُبقيه نجماً يتوهج إشعاعاً في سماء الأغنية، ولا يأفل بريقه.
أما فيما يعنينا في هذا المقال بخصوص الكتابة، أرى إنْ كان ثمة نقدُ ُناجح إلى حدٍّ ما فهو في المقالة، لسهولة إخضاعها لمعيار نقدي ثابت، فالمباشرة في طرحها والعرض لفكرتها، هما من لا يجعلانها تستطيع الفكاك من هذا المعيار، فإنْ كانت الفكرة غير صحيحة وغير منطقية، تفقد مضمونها.
ونظراً لهذا التجاهل السافر الذي تتعرض له المقالة من قبل أساطين الثقافة، بات معظم الأقلام الجديدة، يعرض عنها، ويتجه إلى الكتابة في الأجناس الثلاثة الأخرىٰ، بعد أنْ تمّ حكر الإبداع عليها فقط، وهي نظرة قاصرة من دون مراء، بل إنّ حتى من عُرِفوا فيما سبق من الكتّاب بامتهان كتابة المقالة، أقلعوا عنها وصار همهم الوحيد في الآونة الأخيرة، مُحاكاة الآخرين، بأنْ يلجأوا إلي الكتابة في الشعر أو القصة أو الرواية، لكي يكونوا في نظر هؤلاء الأساطين مُبدعين على المقاس الذي وضعه الأخيرون، وكي يُشار إليهم بالبنان، ومن المَرضي عنهم من قِبل هؤلاء كذلك، وهذا نفاق ثقافي ما بعده نفاق، أو بالأحرىٰ، ما قبله نفاق، لأنّ الذي ليس بعده أحدٌ، هو من يأتي في المرتبة الأخيرة، أما الذي ليس قبله مخلوق، فهو الذي يجيء في قمة الصدارة، وهذا ما أردت الإشارة إليه والتعبير عنه؛ فصاروا بتبديلهم للون الذي نجحوا فيه من البداية (المقالة) كمن بدَّل مشيته، فلا عرف يمشي غيرها، ولا كيف يعود إلى حركته الأولى، بعد أنْ تعثرت خُطاه في حركته المُصطنعة، وتاه في دروب الأدب.
( 3) الكتابة بين التنوير والتزوير
بين حرف (النون) في كلمة (التنوير) وحرف (الزاي) في كلمة (التزوير) ثمة بون شاسع، يُقاس بالمسافة بين هذين الحرفين في تسلسل الحروف الأبجدية العربية، والمُقدَّرة بنحو أربعة عشرحرفاً، ينطُّ ويُهرج فيها أشباه الكُتُّاب غير المعنيين بمصلحة القارئ وما يشغله من قضايا الساعة، فيجلبونه إلى هذه المنطقة لتمضية الوقت في سفاسف الأمور، بتغييبه عن قضاياه الحسّاسة، فما يكتبونه لا يؤدب المتلقي بمعنى الأدب المروم، فتصبح هذه المنطقة التي هي بين الحرفين المذكورين في كلمتي التنوير والتزوير، حقلاً للتخدير.
( 4) مآل الكتابة إلى أين؟
نظراً لأنني أؤمن بنظرية المؤامرة، فأنا اشعر بأنّ هناك مؤامرةً تُحاك في الخفاء ضد الكتابة، وبأنها في خطر داهم، لأنّ البعض يريد أنْ يجعلها من الأفانين لا الأداب، والكتابة منذ أنْ عرفها الإنسان، ومنذ فجر التاريخ، ما كانت إلا لإرشاده وتنوير بصره وبصيرته، لا لتخديره بالخيال الجامح وما إليه من المقتضيات التي يشترط هذا البعض توافرها في الأجناس المذكورة أنفاً، التي قد لا توظف بصورة مرجوة منها، هذه الأجناس التي تنتمي إلى الذاتية من حيث النسيج والصياغة، البعيدة كل البعد عن التقريرية، التي هي سمة أوليَّة في كتابة المقالة، حتى إنْ أمعنت النظر إلى النصِّ القرآني الكريم، وتمعنت بتدبُّر في آياته المُحكمة والمفصَلة، سيتراءى لك أنها تقريرية، لذا فهو نورٌ للناس أجمعين.
إنّ معاملة الكتابة على أنها ضرب ٌمن الفنون، سيجعلها تتعرض لما تعرضت إليه صنوف الفنِّ الأخرى من اختراق وإفساد وتخريب ،كما حدث مع فنِّ الغناء العربي في الفترة الأخيرة، نتيجةً للسياسات الحمقاء والرعناء، التي اتبعتها وسائل الإعلام؛ ولأنه أقرب الفنون إلى الإنسان، اتخذه البعض وسيلة لإفساده ذوقياً وأخلاقياً، وهذا ما أخشاه على الكتابة، حينما تتوسل للتعبير والامتاع فقط، ولا يُنظر إلي أنها مُقوِّمة لكل مُعتَلٍ ومُعوَّج من دون مواراة في حياكة نسيجها.
بنغازي 2007
تعليقات
إرسال تعليق