من مذكرات رئيس أمريكي سيغادر البيت الأبيض
قُبيل نهاية ولايتي الثانية من الرئاسة، أعلنتُ مخاطبًا الأمة، أمام مرأى ومسمع من العالم بأسره، أنّ على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحاول ما وسعها الجهد والعمل لتحسين وجهها الدميم، الذي يراها عليه كل العرب، من حيث كونها تقف حجر عثرة وصخرة تسدّ السبيل أمام سيل طموحات الشعب العربي وتطلعاته في التحرير والتقدّم العلمي والتقني. فقد فاحت رائحة مؤامرات جهاز استخباراتها المركزية النتنة على الشعب العربي منذ أكثر من خمسين عامًا، بعد أن رُفع غطاء السّرية عنها، وما قامت به من دسائس وحيك للمؤامرات في داخل العالم العربي.
ولا ننسى أنّنا، كلما ناصر مجلس الأمن الدولي القضايا العربية، استعملنا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أيّ قرار، وإن كان يدين (إسرائيل) وكفى. فقد كنّا على الدوام نكيل بميزانين، كي نفتّ في عضد المقاومين من العرب والرافضين لسياسة التبعية. وكم من مرة دعونا فيها إلى إقامة الدولة الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الدولة العبرية التي أوجدناها وأقمناها على الباطل في منطقة العرب، ولكن دونما جدّية، ولمجرّد ذرّ الرماد في العيون فقط.
- في بداية صعودي كرسي الرئاسة الأمريكية، وعند أول خطاب لي، صرّحت بأنّ السياسة التي سأتبعها في منطقة الشرق الأوسط ستراعي في المقام الأول مصالح (إسرائيل) وأمنها، مع أنني كنت على يقين تام بأنّها هي المعتدية والمهدِّدة للأمن والسلم في المنطقة، في كل حرب شنتها على العرب قبل حكمي. ومع ذلك زوّدتُ (إسرائيل) – التي نعدّها الحليف الاستراتيجي لنا – بمرسوم رئاسي بأفتك أنواع الأسلحة المتطورة، كي تبسط سيطرتها على الأراضي المحتلة، ولتكون هذه الأسلحة اليد الطولى لها، التي تمكّنها من الوصول إلى أيّ قطر عربي تهديدًا لأمن العرب ولأمن المنطقة والعالم بأسره.
كما أنني اعترفتُ بـ(القدس) عاصمةً لإسرائيل من دون أن يغمض لي جفن واحد، متحديًا بذلك مشاعر العرب، وضاربًا بالقانون الدولي عرض الجدار، الذي يعتبر هذه المدينة أرضًا احتلتها (إسرائيل) من العرب في حرب 1967م، بل ويطالب الاحتلال بالجلاء الفوري عنها. وما جعلني أفعل ذلك، حتى وأنا في طريقي إلى الدخول إلى العمل السياسي إبان الانتخابات الرئاسية التي خضتها مع خصمي في الحزب الديمقراطي، هو طمعي في كسب تأييد اللوبي الصهيوني، ذلك الأخطبوط الذي تمتدّ زعانفه إلى مراكز القوة المؤثرة في السياسة والاقتصاد الأمريكيين، وقد كان لي ما أردت.
وأذكر أثناء ولايتي الأولى أنني كنت أقلّد من سبقوني من الرؤساء الأمريكيين – البالغ عددهم اثنين وأربعين رئيسًا – تقليدًا أعمى، بل أعور، لا يرى إلا بعين واحدة: هي العين على مصلحة ونصرة (إسرائيل) الظالمة وغير المظلومة. حتى أنني أمعنت في نصرتها إلى الدرجة التي كنت فيها لا آخذ بقول كل من يمثلون إرادة الشعب الفلسطيني من قادته، وأصعّر خدّي لهم استعلاءً على الحق والقانون الدوليين، وألقي باللائمة عليهم دائمًا كلما اقترفت (إسرائيل) المجازر الدامية ضد الشعب الفلسطيني.
هكذا، من دون حتى أن أهمس لهم بأنهم على حق، وأنها هي المُدانة، وهم الذين جاؤوا إليّ باعتباري رئيس أكبر دولة عظمى في العالم، يُفترض أن تكون شريكًا نزيهًا لا منحازًا باتجاه (إسرائيل) في عملية السلام المجراة بين الطرفين العربي والإسرائيلي، التي طال أمدها، ما جعل العرب يتململون ويتبرمون منها ومن سياسة بلادي في عهدي. فلجأتُ بعد ذلك إلى سياسة التسويف والمماطلة مع العرب، وإمنائهم بما لا أستطيع حتى أن أفاتح فيه الإسرائيليين، من مطالب واستحقاقات دولية، قبل أن تكون عربية أو فلسطينية.
كنت أعرف تمام المعرفة أنّ القيامة ستقوم فوق رأسي، وسيقوم من رفعني إلى سدّة الحكم بإسقاطي من عليائها لو فعلت هذا.
- ولما دفع بي حزبي الجمهوري لخوض سباق الانتخابات للولاية الثانية، ظنّ الواهمون من العرب أنّ الحال ستختلف عمّا كانت عليه في الولاية الأولى، إن فزت بهذه الدورة الانتخابية. اعتقدوا أنني سأكون متحرّرًا من الضغوط الصهيونية، وسيكون لي الأفق السياسي الحكيم المتحرّر من كل مؤثّر خارجي. فهلّل بعض العرب لذلك، وكسبت ثقة المسلمين والأمريكيين من الأصول العربية والشرق أوسطية.
ولكن، منذ نجاحي وتقلّدي لمنصب الرئاسة في الإدارة الأمريكية، وحتى قبيل نهايتها بقليل، مضيت على النهج الموازي لنهج (إسرائيل) في المنطقة، الرافضة لأية تسوية مع العرب، ولأيّ تطبيق لقرارات الشرعية الدولية. واستمررت في اتباع سياسة التسويف والمماطلة، بتوزيعي للوعود الزائفة على العرب بشأن رغبة بلادي في حلّ النزاع القائم منذ ما يربو على ستين عامًا بينهم وبين (إسرائيل). وكان المساكين يثقون بسياستي العبثية كما وثقوا بمن سبقني، وسيثقون بمن سيأتون من بعدي إلى البيت الأبيض.
بل مارستُ الخطة ذاتها التي استعملها أبي أثناء رئاسته، حين وعد العرب قبيل أن يهاجم العراق في (عاصفة الصحراء) عام 1991م، بأنه سينهي مشكلة الشرق الأوسط ويُرجع الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، بمجرد أن يباركوا هذه الحرب ويشاركوا بجيوشهم تحت لواء العلم الأمريكي في تحرير (الكويت). لكن كل ما قام به بعد أن تحقّق مسعاه هو أنه فجّر بالون ما يُسمى بعملية السلام، الذي ما يزال يُسمع دويه بين الحين والآخر، من دون طائل. فازداد قتل الصهاينة للعرب أكثر مما كان عليه من قبل.
وهكذا، فعلتُ ما فعله أبي. إذ أطلقتُ خطة (خارطة الطريق) بعد حرب العراق 2003م، ثم سوّفت العرب بمؤتمر (أنابوليس) الذي حضره المخدوعون والواثقون بيّ، وبعض المجاملين الواثقين من فشله الذريع.
-
آه.. كدت أن أنسى. قبل غزوي للعراق، أشعلتها حربًا ضروسًا على (أفغانستان) تحت ذريعة محاربة الإرهاب. لأنّ الإرهاب في عُرف بلادي ليس بمعناه الحقيقي: فكل من يرفض سياستنا إرهابي من الطراز الأول، وأكثر إرهابًا منه من يرفع شعار المقاومة بقوة السلاح لطرد المحتل، أو من ينادي بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي نمانع كثيرًا في تنفيذها إذا تعارضت مع مصالحنا أو مع مصلحة (إسرائيل).
-
وما المساعي السياسية والخيرية التي يقوم بها كل رئيس سابق للولايات المتحدة، بعد أن يغادر البيت الأبيض إلى منطقة الشرق الأوسط، إلا مؤشر واضح على أنه أثناء تقلده للمنصب السياسي كان مُسيَّسًا ومنقادًا لأجندة محددة تنتهجها الحكومات الأمريكية المتعاقبة، سواء أكان الرئيس جمهوريًا أو ديمقراطيًا.
(يتواصل السرد بنفس الأسلوب حتى الخاتمة…)
على أية حال، ها هي الأيام تمضي حثيثًا نحو شهر نوفمبر من العام الجاري، الذي ستنتهي بحلوله فترة رئاستي الثانية والأخيرة، من دون أن أحقّق فيها شيئًا واحدًا يُحسب لي، ويُسطّره الشعب العربي في آخر مذكّراتي، التي خططتها – في الحقيقة – بدماء العرب والمسلمين، قبل أن أرحل عن البيت الأبيض وأعود إلى بيت العائلة في مزرعة (تكساس).
14 أغسطس 2008
تعليقات
إرسال تعليق