تحدي الرياح

ذات شتاء، أمام شباك المقهى، حيّيت الحاج علي بتحية الصباح، فرحّب بيّ:

"امريحبا بوجه الخير.. وين ديارك، لك فترة مش باين؟ راني نتونس بيك.. أنت عرقوبك جلاب يا باتي."

أدخلت يدي في جيبي الخلفي، حتى عمق براجم الإصبعين، وأخرجت دينارًا لأسدّد ثمن قهوة عربية ما عدت أشربها حتى في البيت، منذ رحيل الحاج علي الشومالي – رحمه الله – صاحب مقهى بنغازي، ذاك المبنى المقام على أعمدة الألومنيوم والزجاج بكورنيش بنغازي القديم.

لكن ليد الرياح قول آخر، إذ هبّت ريح شمالية عاتية، فطوّحت بالدينار على الأرض. انحنيت لالتقاطه، فابتعد قدر دينار. غافلته ووطأت بقدمي عليه، لكنه انزاح. شعرت برغبة في التحدي، كالصاري الصارم. خطوت نحوه، والحاج علي يناديني:
"تعال يا وليدي ياخذ سوك."

لكنني أصررت، متقفيًا أثره في الهواء. ركضت، هرولت، وجدته بين قدمي، هممت بالانقضاض عليه، غير أن قدم الرياح راوغتني و"دحتني". انطلق الدينار بين قدميّ بالاتجاه المعاكس للريح. عبرت الطريق نحوه، ومنبهات السيارات تشتعل: "بييييب.. بييييب".

وكأني بالحاج علي أمام هذا الموقف يصرخ:
"رد بالك من السيارات يا وليد.. تعال خلاص ياخذ سوك."

شعرت بحرج شديد: لو ضاع مني ذلك الدينار سأكون في أعين المتفرجين مهزومًا. مسحت طبقة الخجل عن وجهي، وغطيته بطبقة سميكة من البلادة. صار وجهي مثل أيقونة ماسنجر صفراء: أسنانها للخارج وشدقاها للداخل. أحسست أن الرياح ككائن حي يريد استفزازي والاستهزاء بي.

تبعت ديناري بطريقة توحي للرياح بأنني غير مهتم. صرت أمشي على أمشاط قدميّ، ألتفت إلى الخلف مبتسمًا بخجل ووجل، وألوّح للحاج علي الذي خرج من مقهاه، وترك الزبائن المتزاحمين – عرقوبي جلاب – على الشباك، ليتكيفوا بقهوته العربية المنكهة بالكُسبر.

لكن المسافة صارت تبتعد شيئًا فشيئًا، لأن الرياح باتت تأخذ الدينار لمسافة أبعد. هنا قررت الركض صوبه، محفزًا حواسي كلها. بجواري، تأتي أصوات المارة:
"يا ساتر.. وسّع بالك يا شاب!"

في لحظة ما، ثبت الهدف في مكانه غير مزحزَح. أدركته، وباغتت الرياح وقفزت عليه ككرة منفذة من ركلة جزاء أصابت الشباك. نهض الدينار نصف متر في الهواء، ثم دفعته ريح أخرى وأدخلته وراء سياج منارة سيدي خريبيش، بينما أنا مرمي على بطني.

لم أتردد: قفزت فوق السياج القصير. وما إن لامست قدماي الأرض حتى خطر ببال الرياح أن تخرج ضالتي إلى الطريق مرة أخرى. خطوة مني، تقابلها خطوة منه، حتى وجدتني عند مقر الفندق الجديد الذي لم يبدأ العمل به بعد. فكرت في الرجوع، لكنني قلت: لن أخسر شيئًا، فقد ضحك عليّ الجميع.

بعد برهة، رجع الدينار إلى حالة السكون. أخذت أُبسْبِس له: "بس بس بس" كدابة أليفة، موحيًا له بصغر قيمته عندي. لكن قبل أن أصل إليه، أخذته عاصفة إلى أعلى، وأطاحت به في عرض البحر.

رجعت القهقرى إلى المقهى. مدّ لي الحاج علي كوب ماء منكه بالزهر، وباليد الأخرى ناولني قطعة قماش مبتلة لأمسح بها لطخات الاتساخ عن هندامي، وهو يبتسم. ثم أعطاني فنجان قهوتي الذي تيبس من البرد.

وصار هذا الموقف تذكرة لي كلما جئنا على سيرة النصيب:
"زي هذك الجنيه اللي بهدلك."

سبتمبر 08, 2014


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اخريستو

من بنغازي إلى طرابلس

المعادلات الصعبة