الثلاثاء، 24 مايو 2011

لن نقبل بغير الأفضل بديلاً

"سأستمر في عادتي اليومية، لن أقف وسأمضي غير عابئٍ بالمعتصمين، بل بالعصاميين من الثوّار، فأرقب ما يجري على مسرح الحرية.. أمضي من البركة حتى الكورنيش، فأنا معتصمٌ هناك من الثمانينيات منتظراً رياح التغيير، ألتقط ما أحبُّ بعينيّ وأدوس على قاهري، وأنشد لحن الحرية الذي أنشد".. (أنا).

*******
وكالة عامة للتظاهرات
غير غيره ممّن أعرفهم- الذين انهمكوا في استحداث الصحف، واستجداد الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، الذين دوماً أخبراهم بأنني لا أحبُّ أن أكون مثقفاً إدارياً، كي لا أنشغل عن الكتابة، ولا أفكر أبداً في إنشاء جريدة جديدة، لأني أعلم بأنّ هذه المهنة صعبة وتحتاج إلى جدية، ثم أنصحهم بألا يغتروا بعدد الصحف الجديدة، فإنها ستتقلص بعد فترة، ولن تبقى منها إلا من تعمل بمهنية عالية، فالاستمرارية في هذا المجال تحتاج إلى صحفي ذي نفس طويل، رئتاه مليئتان بالأكسجين، مثل العدّاء المغربي "سعيد عويطة" لا إلى عدّاء سريع كالأمريكي (كارل لويس)، حتى يستطيع أن يركض خلف الخبر في مضمار العمل الميداني، ولا رغبة لي في أن أمثل الإعلام حتى في منطقتي كعضو من أعضاء المجلس الشعبي، ولو اقترحت عليّ أية صحيفة مشهورة أن أكون من ضمن كادرها، لقابلت مقترحها بالرفض المشكور، ولا سعادة أستشعرها وقت حضوري أو اعتلائي لمنصات الأمسيات والندوات الفكرية (الصامطة)، لأنّ صورة "معمر" وهو ينظر علينا، فيما الحضور يهتفون له: "علّم يا قائد علمنا.. كيف انحقق مستقبلنا" قد انطبعت في مخيلتي، ولكوني كاتباً لا قائلاً، وصوتي يُقرأ ولا يُسمَع له هسيس- ثمة صديق، اقترح عليّ أن أنظم إليه وأسانده، لأنه بصدد فتح وكالة للتظاهرات، تساند وتساعد كل صاحب حق وقضية بالجمهرة والتعبئة لتأييده عبر المظاهرات، ولكنْ من دون أجرة لوكالته ولا ليّ، فوافقته من دون تردُّد، وما أن مدّدت خطوتي الأولى حتى أكد: "وراس العزوز ما اتخليها وصية.. لو ما عندكش رغبة تنضم معايا.. يا ريت لو قابلك حد راقيتله من أي حاجة في أي تركينة.. تكلمني أو اتدزه ليا.. وقوله يدلل.. تو انصبو معاه في مظاهرة سلمية من غير وجيج في شوارع بنغازي.. وبلهجة رقيقة زي السوريين انقولو: سلميي سلميي.. حُريي حُريي".
***
الآن صار بمقدوري، أن أتفرّغ للكتابة عن الوضع القائم والقادم في البلاد بعد حكم القذافي، الذي غدا في حكم المنتهي- وصار مثل مفترس جريح وهرم، ينتظر ساعته، فلا يغرنَّكم زئيره ولا زمجرته، فهي انزعاجه من طنين الذباب والطفيليات التي تحوم حوله- فقد تعديت مرحلة تعداد مساوئ هذا النظام، والكتابة التي تبحث عن المبررات الدافعة في اتجاه إسقاطه، ولم أعد قادراً على أنْ أهذي وأغثي بذلك، أكثر مما قدّمت في مقالاتي السابقة.
يغلب على الواقع، وجود حقيقة قد تساعد أي سياسي ليبي، سيعتلي منصب الحكم في البلاد في المرحلة الراهنة في ممارسة مهامه بكل أرياحية وكفاءة، وهي أنّ الآتي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سيكون بلا شك أفضل من السابق، مهما كان للقادم من مثالب وأخطاء وعِلات، أي عند عقد المقارنة بين السيئ والأسوأ في ليبيا، وهذه الحقيقة، ستساعد أيما مساعدة، على تمهيد الطريق أمام الحياة السياسية الصحية المنشودة، التي ستنظم العمل في المجالين الآخرين، ألا وهما الاقتصادي والاجتماعي، اللذان يتأثران بالأول سلباً وإيجاباً، فالأسوأ في الحالة السياسية الليبية، يمثله النظام السابق، والأقل سوءاً منه هو المُرتقب، وهذا مُعطى جيد، سيسهم بدوره في تفهُّم الشعب الليبي لهذه المحنة، ويجعله يصبر على ابتلائه، حتى تجاوز المرحلة الانتقالية، لكنه لن يطيل الصبر في انتظار الفصل الأخير المؤدي إلى ربيع ليبيا، إلا إذا لمس التدرج المُطـّرد في لون الربيع الأخضر حتى يصل إلى درجته العليا على مدارج الجبل الليبي الذي سوف لن يتمخض إلا عن ازدهار واخضرار، يمتد ويزحف على الصحراء الليبية، بعيداً عن مفهوم الزحف الأخضر للقذافي، الذي أصاب ركبتي البلاد بشلل أسود أنود، لذا أنصح القادم بألا يركن إلى هذه الحقيقة.
إن ما أسقط النظام من أعين الليبيين، إنما هو مقارنتهم له بالنظام الأسبق، مع الأخذ في الحُسبان ما توافر لكليهما من سُبل وإمكانات وطول في العمر السياسي، الذي دام للثاني مدة 42 سنة، و17 سنة للأول، فوُجـِد بالنتائج الملموسة، أنّ المشهد الليبي على الأصعدة الثلاثة، في العهد الأسبق هو الأفضل نسبياً ممّا صارا عليه في عهد "معمر".
لقد كمنت مشكلتنا مع النظام السابق- أراني قد عدت للتذكير بمساوئه- في انتفاء وطنيته وجديته وتعكّر نيته، التي لم تصفُ أبداً لأجل خدمة البلاد، فالنهوض بالدولة الليبية أمر هيّن، لا يستوجب ما أوصلنا إليه من كوارث، لتوافر الخبرات والأموال المحركة لأية خطة تنموية من شأنها رفعة البلاد، لذا سوف لن يجد الهيكل السياسي القادم، الذي لم يُتفَق على إطاره البنيوي والشكلي بعد، أية صعوبة في إعادة وصياغة مشهد الحكم في بلادنا على المنهج الديمقراطي الدولي المُتفق عليه، وفي بناء الحياة الاقتصادية الجديدة وفقاً للسياسات المالية المنهجية والحرة، التي تخضع لمكانيزم الرقابة القانونية المنظّمة للأفراد والمجموعات والمؤسسات في إطار خطة مُستدامة، لكنها لا تحد من إتاحة الفرصة أمامهم للإبداع وممارسة العمل الخلاق.
لن نلوي أعناقنا إلى الخلف أبداً، ولن نخشى من همّروجة وفزاعة العودة إلى حالة مشابهة لما كانت تغرق فيه بلادنا من وحل (الوحلة)، بعد أن وعينا الدرس جيداً، وازدّدنا ثقة بنفوسنا، وعلمنا بأنّ بمكنتنا أنْ نقول (لا) ونصدح بها عالياً إلى عنان السماء في وجه وأذن كل محتكر، ونطلقها حارقة خارقة كرصاصة مميتة في مقتل كل مستبد بالسلطة والرأي، فالديموقراطية هي السبيل المُوصِل إلى إقامة دولة الحريات، وهي الأساس الأول لإنهاء المشكلة القائمة بين الحاكم والمحكوم وفق الدساتير المنظمة لهذه العلاقة الشرعية، هذا ما يجب توضيحه ومعرفته جيداً، فما أخـّر نشأة الدولة الديموقراطية في العديد من الدكتاتوريات العربية، هو اللبس الذي وقع بين من يأتي أولاً، هل الديموقراطية أم الحرية؟- وهي ليست بأحجية أو معضلة، ولا تتشابه مع حكاية الدجاجة والبيضة في أي خاصية، فبرأيي من الممكن الفصل في هذه المسألة- ومن ذلك الحرية في الكتابة المعروفة بالصحافة الحرّة، فهذه الصحافة لا يمكن أن تأتي بالديموقراطية ولو بطريقة ليّ ذراع، أي بقصد افتكاكها عنوة من يد السلطة المغلولة، وهذا ما أوقع فيه المثقفين الليبيين، وريثُ "القذافي" الذي لم يهنأ بالعيش على العرش من بعد أبيه- على الرغم من محاولته تجميل و(مكيجة) صلعته بـ(باروكة) الإصلاح، وواجهته بدهان واجهات المباني المتهالكة في بنغازي، وما صاحب تلك العملية الجراحية من خروقات وفضائح مالية- لما انشأ صحيفتي (قورينا وأويا) بدعوى محاربتهما للفساد، تحت شعار زائف وضال ولا أصل له: "نحن الآن في زمن الحرية ولك أن تقول ما تشاء" في واقع صحفي، يفتقر لأي قانون منظم وشرعي، يكفل حرية القول بمعناه الحقيقي، ويستظل تحته الكاتب والمثقف من أحماض أمطار جام غضب السلطة عليه، حينما يقبل بأنصاف الحلول، بل إنّ هذه المحاولة الخبيثة لحل مشكلة الديموقراطية، لا ترتقي حتى إلى عشر معشار الحلول، بدليل أن من صدّق هذه الفريّة، وأصرف في انتقاده لمؤسسات ورموز وشخصيات السلطة، طاله الأذى والقذى، بعدما رشحت وريقات هاتين الصحيفتين عداوته لنظام الحكم القائم، ككاشفتي نيات ومجسّي نبض حراريين في مختبر السلطة التجسسي والتحسسي لأيِّ قلم حُرٍّ، وهذا ما أعلن عنه "محمود البوسيفي" الذي ظنّ بأن مشروع سيده قد نجح، فخرج في أول مقابلة صحفية له على العلن- ومن دون حياء- ليقول: "ما كان الغرض من إنشاء هاتين الصحفيتين، إلا احتواء المثقفين في الداخل" مستنداً إلى مقولة نقيب الطغاة في العالم القعيد (كاسترو) قبل تقاعده، وتسليمه لوسام البغي للعقيد القذافي، إذا قال: "أخشى ما أخشاه على حكمي، كل صرير قلم لمثقف حُرٍّ"، لذلك أليت على نفسي ألا أكتب في صحف العهد المخلوع عن أي أمور تتعلق بالهم الوطني، وإن نشرت شيئاً من ذلك على صفحات (الإنترنيت)، لعلمي بأنّ الخوض في هذا الشأن الصحفي في كيان لا ينظم عملية الديموقراطية والحريات، ما هو إلا نوعٌ من العبث وإحراق للموهبة، وتفرّغت للكتابة الاجتماعية والأدبية والفنية، ما دامت الحلقة بين السلطتين الحاكمة والرابعة، مفقودة.
ذلك إنّ الصحافة الحرة في أصلها، لا يمكن لها أنْ تتقدم على مسمى الديموقراطية إطلاقاً، ولا أنْ تكون أماً لها، فالديموقراطية هي من تحتضن حرية الصحافة والحريات كلها، وهي أم كل القوانين والتشريعات والتنفيذات، فبقدر ما تعطي الحرية بقدر ما هي تـُحجِّم من تغوّل شرّ وشره الطامعين والقافزين على الدستور، وهي كذلك، صمّام الأمان المُسيّر للمجتمعات الحديثة، لذا فإنني أهُدئ من روع وفزع كل من ينتقد الفوضى، التي تشهدها البلاد في بعض النواحي، بأنها آنية وما تزال في فترة الإحماء، التي تسبق أية مباراة ولا تنذر بالخطر، وستستمر حتى ترسم إطار الرؤية السياسية والتنظيمية المستقبلية للبلاد، ويسفر عن وجهه وبقية أعضائه، أي مع ولادة العهد الجديد، الذي لن يكون أسوأ من عهد من لا عهد له "القذافي"، لكننا سوف لن نقبل إلا بالأمثل والأفضل بديلاً.
للديموقراطية قوالب معروفة في المجتمع الملكي الدستوري والجمهوري النيابي أو البرلماني، توصلت إليها التجارب الإنسانية، حتى أعتمِدت بعدما خضعت لمحك التجريب وأثبتت نجاعتها، وكل منظر سياسي يحاول أنْ يفرض على شعبه غير هذين البديلين، هو مُهرطق ويهرف بما لا يعرف، أو في نفسه مفسدة، ولكنْ على المجتمعات المتطلعة لخلق الجو الديموقراطي، أنْ تطبق هاتين التجربتين على نحو صحيح وكامل، ولا تأخذ منهما ما يروق لها ويتماشى مع طبيعتها الاستبدادية، إذ تكتفي منهما بإطلاق الاسم الرسمي على الدولة بعنوان عريض بلا معنى ولا تطبيق كما كان وما يزال يحدث في بعض الأقطار العربية، من مثل (الجمهورية العربية كذا) وما أكثر هذان العنوانان العريضان والغليظان في بلداننا العربية، من دون مسٍّ للجوهر الجمهوري ولا الملكي الدستوري، ما أسفر عن كراهية وكفر الشعوب العربية بهذين الكيانين السياسيين كلياً، نظراً لأنهما لم يتمثلا على الواقع السياسي العربي بعد حروب التحرير ضد المستعمر الأوربي ونيل الاستقلال منه، ولتكفير الأخذ بهاتين التجربتين السياسيتين بدعوى أنهما مستوردتان من لدن المستمعر، أو بالإدعاء المغرض بكونهما تتعرضان مع الحكم الإسلامي، وبالعزف على دندنة هذا الديدن، تمكن المستبد الداخلي أو المحلي مما أراد، وحُرِم العرب من ممارسة حقهم بالمشاركة في الحكم، و تمّ إقصاؤهم خارج دوائر اللعبة السياسية من قِبل "القذافي" الأنموذج الأول للمستبد العربي في العصر الحديث، وهنالك من أعاد وحوّر في هاتين التجربتين، بما يتواءم ويتلاءم مع غريزته الاستبدادية، ويوظف الخطوط الطويلة لهذا النظام السياسي بالانتخابات المزوّرة، إلى أن دفع الشعوب العربية إلى الوراء والنكوص على أعقابها، لتُخرِج من جعبتها الصدئة الحكم القبلي والاصطفاف وراء العشيرة والفرد الملهم، ومما فاقم في مأساتنا، هو استبعاد هذا الحاكم لنا والحجر على بنات أفكارنا بإقصاء أمهاتها وإخصاء آباءها.
زياد العيساوي
بنغازي:23/5/2011







0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية