ليس تحاملاً على المرسكاوي

رمضان ونيس، باسط القطعاني، فوزي صغيرونة، رمزي شهوب، سعد محمود، حمزة المحجوبي، بن زابيه، والأصوات الأخرى التي تؤدي فن المرسكاوي، طاقات مُهدَّرة وفواقد ثمينة، هي أصوات جبارة، لكنها اختارت الغناء في مساحات ضيقة يُعرف بها الغناء المرسكاوي المُتقيّد بجمل ثابتة ومعدودة، أما الفنان مفتاح امعيلف فهو نهاية حتمية ونموذجية لما ذكرت، فقد أضاع صوته فيما لا يجديه، وأخذ يشيخ بعدما كان خامة متطورة لم تظهر إمكانياتها الحقيقية في كل الفترة التي كرّس صوته فيها لأداء المرسكاوي، والحال تنسحب قبله على حميد الكيلاني الذي أخذ مؤخراً يقدّم أعمال أم كلثوم وفيروز لإدراكه المتأخر بأنّ لدى صوته إمكانيات لم يبرزها المرسكاوي بعد ولن يظهرها، وكذلك عقيلة رضوان وآخرين، قد تناساهم الزمن ولا مندوحة من حصر أسمائهم في هذه اللفتة.
إنّ مِثل ومَثل هذه الأصوات وأخص منها القادمة من الجبل الأخضر، مثل اللاعبين ذوي المهارات العالية الذين نراهم في ملاعب (الستاك) الصغيرة غير المنضبطة لعباً بقوانين التحكيم المعروفة ولا بالخطط التي يعدها المدربون، هذا نهيكاً عن الإعداد البدني والشكل الظاهري المتمثل في الملابس الرياضية غير المتوافقة والأحذية غير الزوجية اللون ولا التصميم.
لقد وصفت هذه الأصوات بالجميلة، وسأحاول الآن توضيح ما جعلني اعتبرها كذلك على الرغم من الصعوبة التي تواجهني دائماً عند الخوض في جماليات أصوات مُقدّمي المرسكاوي وتبيانها، فبعضنا لا يعي بحقيقة أنّ الجمال الصوتي له عدة مواصفات يصعب تمييزها إلا عند تأديتها للغناء العربي بألوانه وصنوفه ومقاماته ومواويله جميعاً، حتى يتم الحكم على مدى جمالها؛ والفن المرسكاوي لا أعده من جهتي معياراً يصلح لذلك، لأنه كلام يُنظّم على أوزان موسيقية معدودة ذات جُمل موسيقية قصيرة جداً ومُعدّة مسبقاً، تغلب عليها المسحة الإيقاعية التي سرعان ما تكتسيها نوبة أو موجة من التصفيق الحار حتى في الأغنيات ذات المضمون الحزين- كالفراق والبعاد وما إليهما- عند الانتقال من كوبليه إلى ثانٍ، والتصفيق غالباً ما يحلّ محل عديد الآلات الموسيقية المفتقدة؛ والحال والوصف كذلك، لا يمكن بل تنعدم أية فرصة لتنغيم الكلمات في مساحات لحنية طويلة تمكّن الخبير في جمال الأصوات من امتحان طول نفس المؤدي وهو عامل تحكيمي آخر  وعلى قدر كبير من الأهمية، لأنها وكما بيّنت تأتي على قوالب وجُمل لحنية غير مفيدة، قصيرة في زمنها، تعطي انطباعاً أولياً ونهائياً عند استماعي إلى ما يُقدَّم على نسجها بأنه أقرب إلى الإلقاء منه إلى الغناءً، واستوحي عند سماعي إلى هذا الضرب من الإلقاء على منوال هذه الجُمل الموصوفة بأنّ الشاعر يستغل جمال صوت المغني لمجرد إشهار كلماته لغياب عامل التلحين، فلا يعنيه من ذلك، اكتمال شيء من أهم جماليات وأسس الغناء، ألا وهي، اللحن، النغمة، المقام والتوزيع الموسيقيين، وهذا بعكس الشائع في الغناء العربي الصحي والصحيح، إذ يتولّى الشاعر كتابة كلمات الأغنية، ثم يترك الملحن ليصنع لها لحناً جديداً نقياً لا توجد به (مازورة) واحدة ولا حتى ربعها قد تكون مكرّرة في عمل آخر سواء لغيره أو له.
إذاً هو توسم مني في هذه الأصوات بوصفي لها بالجميلة من خلال وجود أحد عوامل التحكيم في أدائها، وهو تقديمها لفن المّوال، والموّال هو أصعب فنون الغناء العربي ويجيء في مقدمتها، واستطيع القول بأن كل من يؤديه بصورة جيدة، فهو يمتلك صوتاً جميلاً، يمكّنه من التعريج على الفنون الغنائية الأخرى والعكس غير صحيح، ويصحّ في بعض الحالات، فبعض من سمعتهم من هذه الأصوات لا يؤدي الموال، لكنه يحتكم على نبرات جيدة في غنائه.
ليس من المستهجن ولا المرفوض أداء المرسكاوي عند تلمس الفنانين الجدد لطريق الغناء، لكن من غير الطبيعي ألا يحترفوا فيما بعد أداء الأغنية الشرقية غير أنّ ذلك لا يحدث معهم كما أسلافهم؛ إنّ جمود هذا الغناء لا يجعل منه مدرسة موسيقية تتربى وتنشأ عليها الأصوات الموهوبة،  ومما يعزّز فكرتي، ويظهرها واضحة، أنه حتى عند محاولة بعضهم تطويره بإضفاء الآلات الغربية، فنراه أو بالأحرى نسمعه لا يجد سبيلاً ولا لوناً يتماشى معه إلا موسيقا الريقي الإيقاعية التي عُرٍف بها المغني العالمي (بوب مارلي).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جاء ليزرعها فدحرته وحلفاءه

إني آراها بيضاء

كابوس ليلة 15 فبراير 2011