الجمعة، 3 ديسمبر 2010

سوائل بنغازية


1 - دم:
عيادة السكر، بسيدي حسين.. تعجُّ بالمرضى وترتجّ.. ولا ثمة من يحتجّ.. العجُّ القادم من كلِّ فجًّ، يتزاحم هناك، ويتراحم على حياة العمّ نِظام.. اعوجاج الأفجاج في الطوابير، بتدابير طبّية ليبية، يُفاقم من فرط حلاوة الدم الخاثر في عروقهم، من كثرة ما ارتوت به (جذورهم*) ولن تجفّ منه أغصان وبراعم (فروعهم**) حتى صرنا- وبلا فخر- بلد المليون جوال سكر مُتحرك.. العدم ينزف بتقاطر من شبابيك ونوافذ صرّافي بنك الدم (البوخوخية) المظهر.. أرصدة الدم الجامدة والمتجمدة، لا تـُودع في حساباتها، عند منسلخ كل شهر، الدّم القاني الأحمر، لا يُصرف على الأحمر- ولو بنظام فوضى الفائدة، من دون فائدة- ولا يُقتصّ من حواسيب حسابات الدم الجّاري والسّاري المفعول.. هناك يصل المُسعِف لاهثاً، منتظراً الحصول على جائزته المارثونية، فيسقط على عتباته، وفي يده صكٌّ، عليه زُمرة الدم المطلوبة، بتوقيعٍ لا يُوقِع بالطبيب في شرك شرّ أعماله وإهماله، فيصرفونه- بدلاً من أنْ يصرفوا له حاجته المحتاجة- خالي الوفاض: "لا رصيد لدينا لزُمرتك".. فيزمر قصياً عنهم.. غير أنهم، لا يُحيلون الطبيب بأنيابه إلى النيابة، بتهمة صرف صكٍّ يصطك وبلا رصيد.. فلماذا؟ولماذا لم أجد إجابة عن (ماذتي) هذه؟ لماذا؟ لماذا.
2 - دمع:
مصرف الادِّخار، لم يدّخر نفيساً ولا رخيصاً من الأكاذيب، فصار مَصرَفاً مُصرِفاً للقادمين، نحو جهات أخرى، بأمان ٍمرتجاة، ومؤجلة حتى إشعالٍ آخرٍ، لم يُضبط بعد..السّجل المدني، مُسوَّر بسياج معدني، عنيدٍ وعتيد.. الكلُّ هناك، يبحث لبعضه عن هويّة، وهواية من نوع خاص جداً.. الهويّة ليبية مفقودة، والهواية تتمثّل في بيروقراطية مقيتة، يُمارسها المتمرسون من البيروقراطيين الجُّدد.. رأيتهم هناك، يُلصِقون الدمغة، بعد تبليلها وترطيبها، بتمريرها على دمعة، ما تزال تسيل على خدٍّ ضامر، وعامر بشحوب النحوب.. وتسقطتـُهم كذلك، وهم يصرفون المتعاملين بتمريرهم فيما بينهم، بركلات الجّزية الترجيحية (الظنية): "إجراؤك مش عندنا.. انظني في البركة.. انظني في الصابري.. انظني في السلاوي".. فيصيح المواطن: "لا.. انظني في سراكوزة.. وأنتم الكاذبون".
3 - عرق:
على جانبي الطريق، يُخيّم الشُّبان، نصبوا خيامهم في نزهة مدنية لا ريفية، لممارسة تجارة موسمية، باتت معروفة ومألوفة:
- في شهر رمضان، يبيعون أصناف وأنصاف الأطعمة والمُشهيات البيتوتية.
- في عيد الفطر، يُروجون لحلواء العيد، والألعاب والملابس الصينية.
- في مناسبة المولد النبوي الشريف، يخطون و(يُلوحون) الألعاب الجهنمية للصغار، ويبيعون الشموع للأمهات، اللواتي يرينَّ في إيقادها، أعمار أولادهنّ، وهي تتزيّ بالنور والحبور.
اليوم عشية عيد الأضحى، المساكين يبيعون السكاكين، ويحدُّون أنصالها، بمسنّـاتٍ يدوية وكهربائية، نُضِّدت بأحشاء المصابيح الشوارعية، التي لا تـُنير إلا على نفسها.. في مشهدٍ، يُذكّرك بحالة التعبئة، لشعب داخل أسوار حصن روماني، وهو يتهيأ لصدّ جيش عرمرم، يريد بمدينتهم سوءاً.. الفحم حُشيّ في أكياس زرقاء سميكة الملمس، نوعاً ما.. أكياس الفحم أمام الخيام، مثلها مثل الدوشم والمتاريس على الخيام، عند المفارز العسكرية.. (الغنج***) لوّن وجوه أطفال، بأسمال بالية ومُبتلـّة ومُتبلـّة بعرق عروقهم.. أصوات الباعة وهي تنادي على بضاعتها، كأنها آهاتُ ألم.. زبون سوداني، يسأل بائع مراهق عن سعر كيس الفحم، ثم يبتسم ويتندر: الشعب الليبي.. شعب غريب.. داير كل شي عندهم بالعكس.. الفحم اللي لونه أسود.. يسمونه (بياض).. وإبريق الشاي يسمونه (برّاد) وهو (سخّان).. استلّ المراهق، السكين ليؤدب هذا المستهزئ، وهو يأمر من يمنعونه: "تي حوّلو.. تي حوّلو".. فيما شرطي المرور، يمرّ بحذوهم، وهو يُخابر رئيسه بجهازه لا السّلكي: "حوّل حوّل .. حوّل سيّدي".
4 - غاز:
مستوعبات الغاز الفارغة، تتدحرج أمامهم، بقذفها ببطن القدم، كما الخنافس، وهي تـُدحّرِج كرات الروث، أو مثل لاعبي كرة، لا يُحسِنون صُنعاً بكُراتِهم، فتخطئ القنينات ممراتها، وتنعطف يميناً ويساراً، قبل إدراك بُغيتها، مُجبـِراتهم ومُذلاتِهم على الركوع لها، وتعديل حركتها بكلتا اليدين- في كل مرة- في اتجاه حظيرة الغاز.. ثمة من يحمل وزرها على كتفِه، ويمضي خطوتين، ثم يقف ويقذف صديد صدره وعجزه، بقافية (آهٍ) مكتومة لا مكتوبة، وليلتقطاً أنفاسه برائحة الكيروسين في الجهة الأخرى، وينقلها على كتفه الآخر، بعد تعديل اعوجاج قامته.. وقفت الشاحنة، وقـُذِف بالمستوعبات من على ظهرها، فتزاحموا في طوابير.. غير أنّ رنين اصطدامها بالأرض، غطّى وطغى على صدى لسؤالٍ، لم يطرحه ويصرعه أرضاً، أحدٌهم، ولو في قرارة نفسه وسحيق ضميره، بعد أنْ نضُبَ من الغضب: "؟؟؟؟" فما سال هذا السؤال من أفواههم .
5 - بنزين:
من لا يملك سيّارة، ما حصته في البنزين المدعوم، غير ما ينفذ من رائحته إليه، وهو ملقى إلى جانب أحد السائقين، بعد أنْ يُجبَر ويُكرَه على مكروهٍ (إخماد سيجارته) أو أنْ تخلط به زوجته صبغة حنّائها، ليشتعل بسوادٍ في نقش كفـّيها؟.
6 - زيت:
دينامية وديمومة الحركة، تتطلبان عقولاً ذات تروس إدارة، مُشبَعة بزيوت الإرادة على الفعل، وانتفاء الاكتفاء بالنيات الحسنة، لإعطاء محركات الفعل، الأمر بالمبادرة، وطالما بقيت الأوليات عطشى، ستظلُّ رديفاتها مُعطـَـلة على الأخذ بزمام القرارات الحاسمة في الأوقات الصعبة، وما أصعبها من أوقاتٍ، هي أوقاتـُنا، من جراء إستاتيكيتنا، وارتفاع معاملات احتكاك أصابعنا بآذاننا (حك الوذن).
7 - حليب:
(ليبيتـُنا) صارت تلد ولا تربي.. كما الأم التي تترك زوجها وفلذات كبدها، وراء عشيق، يأكلها لحماً، ويرمي بها عظماً في مزابل المواخير، حتى تكره نفسها، ولا تتمنى أنْ يتعرف إليها أولادها.. أرضنا التي لا تـُنبت العشب، أضحت حلمات أثدائها، مستباحة ومُستحلبة في أفواه غيرنا، يلعقون حليبها الأسود، ويبصقون عليها وعلينا، لأنّ لا خيراً فينا.

8 - عِطر:
المطر عطر السماء المنثور على صفحة أرضنا وجيدنا.. لا مطر في هذا العيد، ولا الناموس الصغير، بقيّ يرفرف ويقتحم مسارب أنوفنا، كما في سوابق عيدنا، غير ناموس وقانون الزّحمة.. فلنسّتمطر ونسّتقطر شآبيب الرّحمة على الرّحمة.. على شيءٍ اسمه مطر، نسيناه، أم هو من نسيّنا؟.
9 - ماء:
في قلبي خواء.. في عقلي خواء.. في بطني خواءٌ، لا احتواء له.. يملؤني الخواء، حدّ وحتى الارتواء.. الخواء فقر مادي ملموس.. الخواء شعور معنوي محسوس.. خوائي بحتٌ وصرفٌ.. الخواء يتآخى والعدم.. العدم شيءٌ آخر، لا يُعبأ بعبءٍ ماضوي ولا مستقبلي.. العدم نقطة الأصل الأصلية، غير نقطة الأصل المرسومة والموسومة والموشومة على خطّ الأعداد.. العدم لا سوالب ولا مواجب له.. العدم لا قبل قبله، ولا بعد بعده.. العدم ردم وهدم لكل الأشياء.. عدت وحاءٌ تحرق جوفي، لا تـُطفِئُها ماء، ولا قولة (لا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): آباؤهم.
(**): أولادهم.
(***): مسحوق الفحم.






2 تعليقات:

في 7 أكتوبر 2011 في 1:27 م , Anonymous غير معرف يقول...

سلمت ايادي ما كتبت

 
في 19 ديسمبر 2012 في 4:45 م , Anonymous غير معرف يقول...

استمتعت كثيرا بقراءه هده الكلمات المعبره
((نور الهدى))

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية