السبت، 13 أغسطس 2011

معمر يأكل أبناءه

ليس صحيحاً أنْ تأكل الثورة أبناءها، وما سجّله التاريخ زوراً عند الاستشهاد بهذه المقولة، لم يجيء في إطاره الصحيح، فغالباً ما يُساق كمثال لذلك ما يُسمى بالثورة البلشفية، وما نجم عنها من أحداث دموية، بعد اغتيال قائد الحزب الشيوعي (استالين) لرفاقه، لأنه اعتزم خطف هذه الثورة واستئثاره بالحكم الديكتاتوري، بعد نجاح هذه الثورة التي شارك فيها الشعب الروسي، لأجل الفكاك من حكم القياصرة في عام 1917 ميلادية، لتأتي بقيصرٍ آخر، أشد بغياً ممن سبقوه من أباطرة، فالثورة الروسية لم تحقق أهدافها لأنها خـُطِفت باكراً وتوجت ملكاً جديداً على روسيا بمسمى الثورة، لذلك تخلص الحزب الشيوعي من كل مخالفيه ومن ثم تآمر قادته على بعضهم البعض، حتى ساد الحكم في النهاية لـ(استالين).
وكذلك ما حدث في مصر إبان ثورة 23 يوليو في عام 1952 التي أخذت طابعاً آخراً أو هو في حقيقته طابعها الأصلي الذي حاول قادة الانقلاب تسميته بمسمى آخر، غير أنّ ما أعقب ذلك الحدث السياسي أبان عن انقلاب عسكري بامتياز، إذ سرعان ما تخلص "جمال عبد الناصر" من "محمد نجيب" القائد الفعلي لذلك الانقلاب، الذي يعلوه رتبة عسكرية، بعدما قدر على أن يجعل الضباط الذين أقل منه منزلة عسكرية يلتفون حوله، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فكم من ضابط آخر تمت تصفيته أو أُستبعِد من دائرة الحكم في وقت لاحق.
ومحلياً، لم يأتِ "معمر" بشيء جديد عمّا قدّمت، فهو كما أيِّ دكتاتور تقليدي بلبوس ثوري، حيث فعل أفعال (استالين) و"عبد الناصر" بالتمام، فبعد مُضي أشهر قليلة على انـ(ك)ـلابه الأسود، أقصى من هم أعلى منه شأناً عسكرياً فيما كان يُعرف بمجلس قيادة الثورة، وأبعد من خالفوا رؤاه السياسية العمياء، فسبحان الله، على الرغم ممّا قدّمه الملك الصالح "إدريس السنوسي" لجيل الانقلابيين من امتيازات اجتماعية وخدمية وعلمية، إلا أنهم انقلبوا على شرعيته جاحدين معروفه، فمعمر مثلاً قبل الانقلاب بيومين، كان قد بلغ عمره 27 سنة، أي أنه كان شاباً في أوج عمره يمتلك سيارة خاصة به (فلكس فوجن) وبُعِث إلى بريطانيا في دورة عسكرية، وكذلك زملاؤه، ومع ذلك لم يتوانوا عن انقلابهم الذي جعلوا له تسمية ثورة الفاتح، فإذا كان الأمر كذلك، فلا لوم إذاً على شباب ثورة 17 فبراير، إن ينقلبوا في ثورة عارمة وعازمة على إسقاطه وهم معدومين وفاقدي أية مقومات للحياة، عموماً حدث ذلك الانشقاق والشقاق بين انقلابيي سبتمبر 1969 ميلادية، لأن لعنة ذلك الملك الصالح قد أصابتهم، فاقتتلوا فيما بينهم ولم يبقَ منهم سوى خمسة ضباط، فأكل معمر رفاقه.
ومع اندلاع ثورة 17 فبراير، ومنذ أيامها الأولى خرج سيف أبيه يتوعد الليبيين بالويل والثبور ومن المجهول الذي يتهدّد بلادهم لو أنهم لم يتراجعوا ويرجعوا عن ثورتهم، كنت سأستقبل وأتقبل هذا الكلام لو أنه خرج من "معمر" لكنْ من ابنه في ذلك الوقت لم أتوقعه، ليس لمفاجأتي به بعد قناعتي بمشروعه الإصلاحي، لكني ما كنت لأتوقع أنْ يصل بهم العته والغباء السياسي في إدارة الأزمة إلى هذا التخبُّط، لأنّ خطاب الابن قد سبق كلمة أبيه (زنقة زنقة)، فالأب اختفى في بداية الأيام واكتفى بخروجه لثوانٍ قصيرة في عربة الأنفاق (التوكتوك)، وهو يستهزئ بمن صدّق الإشاعة التي سرّبتها وروجتها استخباراته بخصوص فراره إلى (كاراكاس/فنزويلا)، لكنّ أول خطاب تعلّق بهذه الأحداث، هو ما جاء على لسان ابنه الطويل، ثم اتبعه "معمر" بكلمته التي سجلت كأفضل مثال- لا يحتذى به- عن جنون الدكتاتوريين، فقد تجلّى غباء "معمر" في توريط ابنه في تلك الكلمة التي كان بمقدور الأب ألا يضع ابنه في وحل هذا الخطأ السياسي القاتل، بل يوفر جهده لوقت آخر، بحيث يمثل هو الجانب المتشدد ويترك لابنه الذي دفع به إلى الواجهة السياسية منذ أكثر من خمس سنوات، كي يمثل الجانب الليّن لدى تعامله مع الثوّار والشعب الليبي ككل، وهذا ما عزم الابن على القيام به كما صرّح "سليمان دوغة" لكنّ الأب منع الابن من ذلك، وآثر أن يظهره للشعب بأنه غير عاق بأبيه وبأنه في صف الأخير.
ولم يكتفِ "معمر" بذلك فقد عمل منذ عشرين سنة على أن يقحم أبناءه في هذا المنزلق الخطير، إذ سلمهم دفة قيادة الكتائب الأمنية استعداداً لهذا اليوم الذي سيثور فيه الليبيون على حكمه الفاسد، وما أن اندلعت هذه الثورة المجيدة، حتى بدأ أبناؤه "المعتصم بأبيه" و"خميس" واللواء "الساعدي" والأدميرال "هانيبال" في تقتيل الليبيين وارتكاب أبشع الجرائم في حقهم، لقد قلتها في مقالة سابقة وسأعيدها الآن: "القذافي أعتى وأغبى دكتاتور" فغباؤه هو الذي جعله يقتل أبناءه سياسياً وحياتياً وأخلاقياً، والتاريخ السياسي للقذافي يجعلني أخرج بقاعدة سياسية، نصها: "الانقلاب يأكل أبناءه، والدكتاتور يأكل أبناءه بنار طغيانه".
بنغازي: 13/8/2011      

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية