الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

معركة شارع إيطاليا


إنها رصاصة حيَّة ميتة، كحيّة رقطاء قضت في وسط حوشنا العربي وهي مُلتفـَّة حول عنقها.. الرصاص ذخيرة القلم، والبارود حشوة الرصاصة، الذي فيها روحٌ منه حتى تـُميت من تصيبه، ولا تموت إلا إذا لم تـُصِب هدفها بدقة، لتسقط على الأرض مخزيّة، فتفقد قيمتها ولا يهابها حتى الأطفال، كمثل هذه الرصاصة الصفراء التي ما تزال ساخنة في كفـّي اليمنى، وفي كفـّي الأخرى حفنة أسمنت مخلوط بالرمل، لم أعرف مصدر ولا مكان إطلاقها، سأصل إليهما حتماً حينما أعثر على ظرفها الفارغ من أية رسالة سوى هذا الكلمة (القتل)، وليس عليه سوى طابع بريد الموت.. في أعلى العمارة التي تجاورنا ينفث الغبار الذي طرح مسحوقه على بلاط باحة بيتنا من الجدار المتشقق، الذي صار كخرقة بنية مثقوبة إثر اصطدام أكثر من رصاصة به، لم أجد صعوبة في تحديد جهة الإطلاق فهي الشمالية، فسرعان ما أعلن المُرسِل عن موقعه بدويّ (صليات) بندقيته، التي لم يصل منها أية رصاصة أخرى، ما يعني أنها اخترقت الأجساد وسكنتها.. صفير احتكاك دواليب السيارات بالأرض يثير جلبة في شارعنا، ما أثار فزعي وجعلني انطلق لتبيان الأمر، وبمجرد فتحي لباب بيتنا وصلني هذا التهديد من عسكري ملثم يرتدي بذلة مموهة: "خش يا شبوب خيرلك راهو انكسكسك" وهو يضع أصبعه في حلقة الزناد.. تظاهرت بانصياعي لأمره غير النافذ، وما أنْ توارى بسيارته الصحراوية حتى خرجت مجدداً، في اتجاه مصدر الصوت وإنارة الرصاص، وكان أمامي مجموعة من فتية الشارع منطلقة إلى هناك، صعدنا معاً جسر المدينة الرياضية ليطل علينا المبنى الفاغرة أبوابه عن خواء (السيلس) العتيق، كسنبلة بيضاء أذبلتها عواصف القحط، إذاً فمصدر إطلاق النار هو حي سيدي حسين، بالقرب من هذا المبنى الإيطالي الذي تـُحفظ فيه الحبوب بعد مواسم الحصاد.. (سارينات) صوتية وضوئية تزيد من زخم الفوضى هناك، وإطلاق للنار عشوائي، أريد به تشتيت المتجمعين إلى أبعد مكان ممكن سيطر على الموقف، فكان الجسر هو أقرب مكان استطعنا واستطلعنا من خلاله متابعة هذه المداهمة التي يقوم بها عناصر النظام للجماعة المقاتلة المؤلفة من بضعة أشخاص مدربين جيداً، إلى الحد الذي زرع الرعب في أنفس محاصريهم المدجّجين بمختلف أنواع الأسلحة الآلية (الأتوماتيكية) والمدعومين بطوّافة تابعة للشرطة- على ما أظن أو كما بدت ليّ- التي بمجرد أن وصلت إلى عين المكان، ازداد الحماس في أنفس الجنود المتواجدين بالأسفل وعلا صوتهم بحياة قائدهم إلى حتفهم، فقامت في غير مرة- حتى نفد وقودها- بمحاولة إنزال المقاتلين من على متنها باستعمال الحبال الليفية، غير أنّ عملياتها أُجهِضت بفعل اقتناص الجماعة المقاتلة لمظلييها، الذين تسّاقطوا كثمار فاسدة من نبتة شيطانية على ناصية شارع إيطاليا الذي توقفت في ناصيته دبابة تابعة لنظام القمع، لأنها وعلى الرغم من صغر حجمها، لم يتمكن طاقمها من اقتحام هذا الشارع الضيق المقابل لمبنى الضمان الاجتماعي والواقع خلف عمارة المطماطي، في حين انصرف بعض السكان إلى إجلاء عوائلهم من هذه العمارة ومن الشارع نفسه، بل حتى من الشوارع القريبة منه.. صرنا نهتف بسقوط الطاغية ونشمت في كل ضحية من عناصره بمجرد أن تمرّ سيارة الإسعاف التي تقلها من خلال الفرجة التي تحت الجسر والمجاورة لسانية السوسي العريقة، فما يكون من قوات القذافي التي يربو تعدادها على الألف جندي، إلا إطلاق الرصاص ناحيتنا قصد منعنا من الالتحام بالمحاصرين لخشيتها من أن نكون نواة لثورة ستعصف بالنظام وأركانه، ولإشعار هذه المجموعة المقاتلة بأنّ لا أحد معها من عوام الشعب فلا يزيد ذلك من إصرارهم وتحديهم، وكذلك للقضاء على مصدر الضوضاء والإرباك الذي يأتيهم من أصواتنا المُكبِّرة، فنقابل زخات مطر نيرانهم بمزيد من التكبير والاستهزاء بهم، فيقتربون منا بسياراتهم لتفريقنا لكننا سرعان ما نعود إلى أعلى الجسر ونعاود صنيعنا الأول حتى ملّ هؤلاء منا، وانصرفوا لأجل غرضهم الأول وهو القضاء على هؤلاء الشبان الشجعان الذين قضّوا مضاجعهم، وكانوا يحتشدون في إحدى الشقق لينطلقوا معاً لأداء بعض المهام التي اتفقوا عليها، وفي مقدمتها تصفية العناصر الفاسدة في نظام القذافي، التي صعدت على سطح البلاد بعد تدهور الأمور إثر الحصار (الحظر الجوي) الذي فُرض على البلاد سنة 1992 ميلادية، نتيجة للسياسة الرعناء التي عُرف بها "معمر" منذ اعتلائه السلطة وختمها بتفجير طائرة البانام التي عُرفت لاحقاً بحادثة لوكربي، ففي تلك الأيام عانى الشعب الليبي من الحالة الاقتصادية المزرية واستغلال الشخصيات النافذة لمحنته، هذا الشعب المنكوب الذي لم يكُن له أية علاقة بحادثة التفجير، فغنم هؤلاء السماسرة تلك الظروف والأوضاع المربكة وحصدوا أموالاً جمة نتيجة أكل السحت.
استمرت المعركة منذ صباح ذلك اليوم إلى ساعة متأخرة منه، ثم توقف دوي إطلاق النار لكن المعركة لم تنتهِ بعد، وقام النظام بتحشيد عدد أكبر من الجنود لمحاصرة المنطقة كما قام بقطع التيار الكهربائي على المنطقة المحيطة بشارع إيطاليا حتى البركة لزرع الخوف وإعلان حظر التجوال بطريقة مبطنة و(معطنة) فاح مخططها، ونتيجة لفشل قواته في القضاء على هؤلاء الفتيان، قام النظام في طرابلس بعملية إجرامية في اليوم نفسه للمعركة- 29/6/1996ميلادية- التي اندلعت في شارع إيطاليا، حيث إنه أمر زمرته من أتباعه وضباعه بارتكاب مجزرة بوسليم عملاً بمبدأ (اضرب المربوط يخاف المطلوق)، أو ربما لإحساسه بالرعب من خلال تلك المعركة التي استغرقت أربعة أيام متتالية، وأثبتت ضراوة هذه الجماعة وبأسها في القتال، إذ خشيّ القذافي من هروب من هم في قبضته والتحامهم بمن يقودون المعركة في بنغازي يومذاك، فقد يتولد عن ذلك ثورة كبرى لن يستطيع إخماد نيرانها.. انتهت المعركة في نهاية اليوم الرابع وأسفرت عن استشهاد الجماعة المقاتلة المحاصرة داخل شقة بعمارة بعد استهدافها بالمتفجرات اليدوية الرمانات في الوقت الذي نسى فيه الليبيون طعم عصير الرمان الطبيعي في تلك الأيام واكتفوا برائحته من خلال عصير الدنيني المُعلَّب في جالونات بلاستيكية، كما نتج عنها مقتل عدد كبير من عصابات القذافي المرتدية العُصابات الخضراء، وكانت العلامة المسجلة هي رصاصة عار في جبين كل واحد منهم، وفي اليوم الخامس قامت أجهزة النظام على غير عادتها (الهدم والإزالة) بالشروع في أعمال الصيانة لتلك العمارة وبطلاء الجدران بالـ(جرافيت) لطمس وإخفاء الجريمة، لكن لون الطلاء الأخضر الذي تركوه وراءهم كان هو بصمة الإبهام على أنّ القذافي كان هناك، والجريمة كانت تحت إشرافه الشخصي.
بنغازي: 9/8/2011        

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية