الأربعاء، 12 يوليو 2023

انتظار.. نجمة أغنيات أحمد فكرون

ذات لقاء إذاعي مسموع، خاطبني الدكتور محمد اوريث، من خلال برنامج مسموع، فقال: "لقد بلغتَ الثلاثين من سنيَّك، وصار لِزاماً عليّ أن اقرأك، فعند هذه المحطة العمرية ينضج المرء وتتشكل أفكاره، ويصبح مسؤولاً عن إبداعه، ويؤخذ منه ما لم يؤلَف".

في العام الميلادي التسعين وتسعمئة وألف، احتفيتُ بصدور أغنية ضمن ألبوم من ثماني أغانٍ، حمل اسمها، فكانت "انتظار" وفي مدلول العنوان يبرز العامل الزماني كما يكتنف أُختيها (تمر سنين) وكذلك (إسكندرية) وإن لم يبدُ في الأخيرة للبعض لفظاً، حيث يخبرنا مطلعها عن الفترة الزمنية ما بين نضوج البلح عند اصفراره واخضراره- ولعلّ المقصود هو بلح زغلول- وثلاثتها من صُنع الشاعر المصري الفذّ "مجدي نجيب" وحتى الغني عن التعريف في أيامنا هذه، يحتاج إلى تعريف عند التباس الوجوه واختلاط الأفكار وقلب الموازين وعصف النسيان، فهو شاعرٌ من طينةٍ خصبةٍ وجذورٍ ضاربةٍ في نسيج النصوص الغنائية، وممّن أسَّسوا للأغنية العربية الجديدة في أوائل خمسينيات القرن المنفرط مع مجايليه من أصوات وملحنين، منها ذكراً لا حصراً، كامل الأوصاف وصافيني مرة للموجي وعبد الحليم، وغاب القمر لشادية وبليغ حمدي.  

انتظار انتظار 

يجي الليل يودع النهار 

واشوف كلام مالهوش دار

وتمر لحظة الانتظار..

ينساب مطلع الأغنية انسياباً رقراقاً بلا عوائق، لا ادري وربما ليست ثمة أية صلة بما خالجني أو توصلت إليه، من حيث إنّ مطلع الأغنية يذكرني بأغنية (أهواك واتمنى لو انساك).

لكن اذكر ذلك من نافذة البوح بالمكنون الممكن، فمسألة طرح المكنون بالنسبة ليّ هي محاولة للتخلُّص من فكرة حبيسة مؤرقة لتحلّ محلها فكرة أخرى، وهكذا دواليك- أجدني الآن، وبعد ما أسرّرت لكم به قد ارتحت من فكرة تؤرقني أو بالأحرى يؤرقني الاحتفاظ بها في تلابيبي- وعند هذا الحدّ فقط تشبهها، اقصد مطلعها، لكن ما يجيء بعده يُخالفها أو بالأحرى يختلف عنها، لكنه يظلّ مرتبطاً به، ووشيجة هذا الارتباط برأيي، هي أنّ أغنية (انتظار) تتمة لما كان يجب أن يكون عليه تطوُّر أغنية (أهواك) لعبد الحليم، أي أنها نِتاج ما كان يتعيّن أن يظهر بعدها من أغانٍ وِفقاً للصيرورة الطبيعية والتاريخية لأي تقدُّم وفي أي مجال علمياً أو أدبياً أو فنياً، نعم فهذا هو التتابع أو التسلسل المُنتظَر المنطقي لتطور الغناء المُتقَن بجنسياته وأجناسه كافةً.

جوّه دارنا برّه دارنا حتى جيرانا في انتظار

القمر شارد والقلب متعب

والحزن قاعد في انتظار

أنا وأنتي وأنتي عرفتي 

وكل عيلتي في انتظار..

وفي انتظار في انتظار ..

العمر والسنين

والذكريات اللي عدت 

واللهفة ع الحنين في انتظار

أنا والأنين

أنا واللي كانوا أنا

والغريب في انتظار..

إن تناولَ هذا المضمون سنتئذٍ، إنما يُعدُّ جُرأةً على الغناء ومجازفةً محفوفة بالاستغراب، تمثَّلت في الخروج عن الأُطر النصيّة الغنائية المستهلكة والسائدة،   وباعثُ هذا الانفكاك من قيد المألوف النصي، هو ثقةٌ كبيرةٌ في النفس، لا يُقدم عليها إلا من آمن بموهبته وملكاته، وأراد أن يُبدع، فيصنع الجديد، وأن يخرج من دائرة التكرار وربقة النسخ لمضامين سئمتها الذائقة.

عند البحث عن مضمون لنصّ غنائي أو شعري جديد، فإنّ أول ما يقدح في البال قول عنترة بن شداد في معلقته المشهورة:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ

أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ؟..

أي أنّ المعاني جميعها خيض فيها شعراً وتمّ نسخها، وكل شاعر تناولها بحسب رؤيته الشعرية، فما بالكم إن بحث المطرب الملحن عن قصدٍ غير متداول ليؤديه،  

كنص انتظار، الذي يلتصق بالملل والشوق والحنين واللهفة والأنين ويلامس الشعور الإنساني، وكلها معانٍ وردت في نصّ هذا العمل الغنائي المتميّز.

ولإنسانية النص في مقاصده، وجب على المطرب الملحن أنْ ينقش له لحناً في مستوى تطرقاته العاطفية وتعريجاته الفلسفية ويسبك لفواصله ومذاهبه الموسيقية أحرفاً ذهبية تعيش وتتجاوز الزمن، فجاء لحن أغنية انتظار مفاجِئاً ومستغرَباً ولائقاً وحديثاً، يستهله مُلحِّنه بدخله ناعمة رومانسية مكَّنت المتلقي من تصوّر حالة الانتظار التي لطالما عاناها، ويعنيها المطرب، لحظة الانتظار للقاء حبيب، لقدوم الفرح، لبلوغ المقصود، فالجوارح هي ما تنتظر، والجسد هو مستوعبة ووعاء هذا الاختلاط الوجداني، فيطرب له ويلامس فيه شيئاً وأشياء، لما يتمكن التعبير من جوارحه وأحاسيسه.

للغناء وجهتان، فإما أن تكون طربية أو تعبيرية، والوجهة الأولى تسود الغناء العربي، لكنه لا يتوافر على الثانية إلا لِماماً، ولو أخضعنا أغنيتنا هذه لهذين المعيارين، سنلفيها تسير على الوجهة الثانية التعبيرية، وهذا الضرب الغنائي فيه من الصعوبة بمكان، بيد أنه يحتاج إلى سعة في البلاغة النصية وقدرة على رسم وتصوير معانيه من الناحية اللحنية والأدائية والإمكانيات الصوتية. وقتما أنصت إلى هذه الرائعة الغنائية اتخيلني في حالة انتظار في محطة سفر، مع إني لست في حالة سفر، وفي حالة ترقب لسوق فرحة تغمرُني، تأتيني من حيث لا احتسب، وحالات انتظار أخرى، لكن في الوقت نفسه، أجد قدمي تنفلت مني وهي تتراقص على استحياء بقدر الإيقاع الهامس المنساب من موسيقاها، وقلبي ينبض بفرح عارم ما يدلل على أني طربت لها وعبّرت عني، إذاً فإنّ هذا العمل يتشكل فيه التعبير والطرب معاً. لا لا (لالا)

لا لا (لالا)

لا لا (لا- لا)

لاحظوا أن أخر (لا) ملتصقة بسابقتها، ثم تبتعد عنها كما هو ظاهر بين القوسين، إنها ولا شك فكرة مجنونة أقدمت عليها وأنا أحاول كتابة موسيقا هذا العمل، لكن ماذا بوسعي أن افعل، سوى أن أخذكم معي في أرجوحة سقفها السماء، فأنا على كرسي أرجوحة كلما استمعت إلى هذه الأغنية وتدفعني إلى الأمام فالأعلى قدماي المتراقصتان.

هذه الأرجوحة وسلسالاها هما المقامان الكبير والصغير في الموسيقا الغربية التي يسبح فيها لحن أغنية انتظار وعلى قاربها يظهر صوت المطرب في فترة قمة النضج الصوتي الذي ارتسم بعد عقدين من بدايته الفنية، فبه استطاع أن يُعبّر فيطرب عن حالة المُنتظِر،  بالغناء التعبيري عمّا يعصف بالنفس من أمور وعواكس لها على المشاعر. لقد امتزج صوت المطرب الملحن مع أنغام الأغنية حتى أنه انصهر معها وصار كما آلة موسيقية فأحسن حتى استشهاق الأنفاس في فواصل غنائية قصيرة جداً. 

القمر والسفينة واللي ماشي بيغني

سكان مدينة في انتظار

نمشي كم مشوار ونقطع المشوار

وندخل جوه دار

ونخرج بره دار

انسهر الأوتار

جوانا شي محتار

وفي انتظار وفي انتظار..

أعدُ أغنية (انتظار) نجمة أغاني الملحن المطرب "أحمد فكرون"، وقد كسب المغامرة بها لما خرج عن السائد الغنائي في منتصف الثلاثينات من عمره، وما برحت في حالة انتظار عند ناصية الغناء العربي لأرى ما سيعقبها من تطوّر.

بقلم: زياد العيساوي

بنغازي: 11\6\2023


الاثنين، 20 مارس 2023

الإرث المعماري في ليبيا

نفخرُّ ونعتزُّ دائماً، بالأوابد والآثار المعمارية التاريخية القائمة في بلادنا، وهي في الأصل، لغيرنا من الأقوام، التي حلَّت بأرضِنا، عبر محطاتٍ وفتراتٍ متفرِّقةٍ من التاريخ الغابر والمُعاصِر كذلك، فقد حطَّ على أرضِنا الليبية، وكما تعرفون، عديدُ الأقوامِ الغريبةِ عنـَّها، الذين استوطنوا أخصبَ وأهمَّ الأراضي فيها، وبنوا حضاراتِهم على أديمها، ونهلوا ونهبوا من خيراتِها، واستعبدوا أجدادَنا بالسخرةِ، لتشييد المُدنِ والقِلاع التـَّاريخية، التي بقيت كتركة ٍ ثقيلةٍ على كاهلِها، فالحجارةُ التي أُنشِئت بها المُدنُ الأغريقيةُ والرومانيةُ، هي لنا، والأيادي التي شيدتها، هي أيادي أجدادِنا، وعلى أرضنِا، أما طابعُها المعماري، الذي ظهرت به، من مقابر ومعابد ومسارح وأنصابٍ تـُجسِّد ألهتهم، وتماثيل تـُمثـَّلُ قادتهم، فقد كانت جميعها، تـُعبَّر عن حضارات هذه الأقوام الوافدة على هذه الأرض، التي نحيا عليها، فلا تمُت لنا كشعبٍ عربيٍّ أصيلٍ، ومتأصلٍ فيه الإسلام إلى النخاع بأيةِ وشيجةٍ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ البتَّة. أما عن الحفريات، التي تـُجريها الأطقم المختصة في علم الآثار، على هذه المعالم، هي في أصلها ونسبها، تعودُ إلى تلك الأقوام المُتحدَث عنها بعاليه، ليس هذا وكفى، إذ أنَّ غالبية أفراد هذه البعثات، التي تنبش في جوف أرضنا، للكشف عن أية بينات، لتمجد وتحفظ بها هذه الحضارات، يرجع نسبها إلى بُناة هذه المواقع التي صارت مواقع سياحية. ووقتما غزا الطليان الفاشست بلادنا في عام 1911 كانوا يردِّدون دائماً عبارتِهم الشَّهيرة: "إنّ ليبيا تـُمثـَّل الشاطئ الرابع لإيطاليا" وأظنُّ بأنّ مقولتهم هذه، مؤسسة ٌ على ما خلّفه أسلافهم الرومان من مدن أثرية على امتداد الشاطئ، وعلى عدة مواقع أخرى على الساحل الليبي - أي بدعوى - أنَّ لهم إرثاً حضارياً تاريخياً، تركه لهم الأولون، وأنَّ هذه البلاد ، لم تعرف أية حضارة عدا حضارتهم، ما يوحي بأنهم أول من استوطن هذه الأماكن، وأنّ قبل مجيئهم إليها، لم يحدث أن وطأها أي جنس بشري، مستدلين بذلك، على أنَّ أغلب ما هو قائمٌ من أبنية قديمة يعود إلى الحضارة الرومانية وبُناتها، وهذه المرجعية نفسها، هي التي يحاول الصهاينة اعتمادها، بل أنهم اتخذوها كمنهجية لتهويد الوجه الحضاري لمدينة القدس العربية، بعد أنْ عجزوا عن إثبات أية حقيقة تاريخية، تـُبيَّن أنَّ لهم وجوداً قديماً بها، وذلك بتنقيبهم المستمر عن هيكل "سليمان" المزعوم، عليه وعلى رسولنا الكريم الصلاة والسلام، وذلك منذ أنْ احتلوا مدينة (القدس) في عام 1967 - فهم بذلك يبتغون من هذا الصنيع، أنْ يُظّهروا، أنَّ لديهم جذوراً قديمة في التارخ، وضاربة في عمق هذه الأرض المُتنازَع عليها مع العرب ، وأنَّ ما فوقها هو لهم أيضاً، حال إثباتهم لتلك الحقيقة التي يبحثون عنها، أمام كل المحافل الدولية، ليقرَّ لهم العالم بأحقيّة هذه الأرض، التي اغتصبوها قهراً من العرب، لكن هيهات لهم، فسوف لن يجدوها. وفي العصر الحديث، قام الاحتلال الأستيطاني الفاشستي الإيطالي، ببناء البيوتات والميادين في أكبر مدينتين ليبيتين، هما (طرابلس وبنغازي) ولكم أستاء كلما مشيت في طراقات وشوارع مدينتي (بنغازي) خصوصاً في مركزها، عند ما يُعرف بمنطقة (ميدان البلدية سابقاً) و(البلاد) حيث تنتشر وتنتصب الترِكة، التي خلفها وراءه هذه المستعمر البغيض، من أبنية إيطالية شكلاً وعمارةً، فقد عمد المستوطنون الطليان على صبغ هذه المباني بهويتهم الأوربية الطابع، و بهيأة واضحة ومتعمدة؛ صحيحٌ أنّ على الجهة الشرقية من هذه المنطقة، حيث منطقة (الصابري واللثامة) توجد عديد المباني العامة وأخرى تعود ملكيتها للمواطنين الليبيين، والأمر عينه، بالنسبة للمناطق الواقعة غربي هذه المباني الإيطالية مثل منطقة (جليانة) وما يأتي في غربها من مناطق وأحياءٍ أخرى، إلا أنّ فضل الأسبقية، يعود لهذه المباني المُقامة في عهد الاحتلال الايطالي، كما أنها تكتسب خاصية أخرى تجعلها أكثر بروزاً، حيث إنَّها الأقرب من الميناء البحري للمدينة، لأنه من المعلوم لدى الجميع ، بأنَّ المُدنَ تـُقام بالقرب من المرافئ البحرية، قبل أنْ تمتد رقعتها الجغرافية إلى الداخل. وإذا اتجهت غرب مدينة (بنغازي) ووصلت تحديداً إلى مدينة (طرابلس) حاضرة ( ليبيا) سيتراءى لك، أنَّ الأمر أكثر استفحالاً ممَّا هو عليه في مدينة ( بنغازي) وبالذات في مركزها التجاري، حيث إنَّ الشَّوارع الرئيسة، التي تصبُّ في (الساحة الخضراء) والمُفضيِّة إليها، وهي شارع (عمر المختار) و(أول سبتمبر) و(المقريف) تتّطبَّع جميعها بالمعمار الإيطالي في التصميم والصميم، مع أنَّ قاطني البيوت، التي تطلُّ على هذه الشوارع، مواطنون ليبيون، وأذكر أول ما أذكر، في إحدى زياراتي إلى مدينة (طرابلس) إنني خرجت ذات صباح من الفندق الذي كنت نزيلاً فيه، قبل مغادرتي بوقت قصير للمدينة، وجلست في أحد المقاهي الشعبية الموجودة في المدينة القديمة، وتصادف وجودي فيه مع قدوم وفد سياحي أجنبي، عرفت من خلال لغة أعضائه بأنهم إيطاليون، وما إنْ رمقني أحدهم بعينه، حتى طلب إليّ أنْ أقوم بتصويره، فلم أمانع إطلاقاً ، إنطلاقاً من شهامتي العربية، التي تحثُّ على إيفاد الضيف ومساعدته، والإغداق عليه بالكرم، فما ظنَّكم بهذه المساعدة التي سوف لن تكلفني شيئاً؟ وسُرعان ما تلقفت منه عدسته الرقمية، وبعدما اقترحت عليه أنْ أصوره بجانب مبنى (السراي الحمراء) التركي المنشأ والعمارة، رفض الإيطالي اقتراحي بأنفة، ثم أشار إليّ بأصبعه نحو جهة أخرى، فحسبت بأنه يُفضّل أنْ التقط له صورة عند الـ (الكورنيش) فخرجنا من الزقاق الذي كنت وإياه فيه، عند المقهى الشعبي تحديداً، ومضينا معاً، وما إنْ أفضنا إلى الساحة الخضراء، حتى وقف عند أحد المباني الإيطالية القديمة، التي شُيدت في حِقبة الاحتلال الإيطالي لليبيا، جاعلاً من ذلك الأثر المعماري خلفية له، كي تظهرَ في الصورة التذكارية، التي اختار مكانها، ولعلمي المسبق بما ابتغاه من ذلك، أعرضت عنه وقابلته بالصدًّ والإدبار، بعد أن أبت نفسي ما أراد، مع يقيني التام، بأن ثمة من سيأتي إليه بعدي ويحقق له رغبته هذه، وبمجرد أنْ خطوت بضع خطوات مبتعداً عنه، وإذا بشابٍ ليبي شهم، يهرع إليه، ويتبرع بهذه المَهَمَّة، وأمام هذا الموقف، تقافزت إلى ذهني، إحدى حلقات سلسلة (حكايا المرايا) التي يقدمها الممثل السوري القدير "ياسر العظمة" في كل شهر رمضان، ممّا رأى وقرأ وسمع في حياته، كما تنصُّ مقدمة المسلسل الموسيقية، إذ أنه في إحدى حلقات هذه الحكايات، عرض لنا في سويعة منها، الآلية التي يتعامل بها المواطن العربي السوري مع السائحين الأجانب، الذين يتوافدون على بلادهم، الغنية بالمواقع السياحية المتعددة والمتنوعة، وذلك من خلال لوحات مشهدية كثيرة، أثناء ركوب السائح في السيارات العامة والخاصة، وعند تنقله وتجواله عبر المدن والأرياف، وحين تسوقه، ففي أحد هذه المشاهد، بيّن للمتلقي كيف أنَّ المواطنين يتدافعون أمام أحد أفران الخبز، في طوابير متراصة وغير منتظمة، ينتهك عرفها المتململون من الانتظار، حتى أنَّ مالك الفرن، قد كلّف أحد صبيانه بالإشراف على التنظيم، وبينما هم في تدافع وتراجع متواصل كما أمواج البحر، ويقوم بعضهم بالاحتيال على البعض الآخر، كي يأخذ مكانه المتقدم في الصف، فيجابهه ويواجهه، محدثا هرجاً ومرجاً عند هذا الفرن، إذ ذاك، قدِم أحد هؤلاء السائحون، وأخذ أخر مكان بالصف، كسائر المصطفين حين مجيئهم، غير أنَّ شهامة العربي لم ترضَ بذلك، لأنه عارٌ ما بعده ولا قبله عار، إنْ تـُرٍك هذا الغريب في ذيل القائمة، وهم العرب المعروفون بالكرم، حال عودته إلى بلده، وإخباره لأهله بهذا الأمر، فماذا سيقول عنهم هؤلاء، إذا تناهى وذاع هذا الخبر الفاضح في الأمصار الأخرى؟ لذا أخلوا السبيل أمامه، وطلبوا إليه متفقين، أنْ يأخذ المكان الأول، عن طيب خاطر من المصطفين جميعهم، وبعد أن تناول أرغفة الخبز التي أرادها، وناول البائع ثمنها، أبى الأخير أنْ يقبض منه الثمن، لأن الآخرين ليسوا بأكرم ولا أشهم منه، وما هي إلا لحظات، حتى رأوه يتوارى عنهم فرجعوا إلى حالهم الأول - أي - إلى حالتي الهرج و المرج ، فإنه لأمر مخجل إن شاهدهم يتعاركون على من هو الأول ؛ وفي لوحة أخرى، جعلنا نرى فيها السائح نفسه، يصعد إلى إحدى الحافلات الخاصة، وقبل أنْ يقلها، كان هناك مواطن و مواطنة يتشاجران، لأنَّ الأول، كان يدّخن والثانية تطلب إليه أنْ يُطفئ لفافته، وتذكره بمنع التدخين في الأماكن العامة، وهو يتجاهل الأمر، فاشتكته إلى السائق، الذي كان مسجله يصدح بالموسيقا الصاخبة، فردَّ عليها بأنه ليس وصياً على القانون وتطبيقه، طالما أنَّ هذا الراكب سيدفع أجرته، وبعد أنْ ركب هذا (الخواجة) أقفل السائق المسجل، وأمر بحزم وحسم، بمنع التدخين، وقبل حتى أنْ يُنهي عبارته الناهية ، كان الشخص المدخن قد تخلص من عقب سيجارته، وفتح النوافذ للتخلص من الرائحة النتنة الصادرة من لفافته، وفي اللحظة التي طلب فيها السائح إلى السائق الوقوف، أخرج من جيبه ثمن الأجرة، لكن أحد الركاب تطوع بسداد الأجرة، غير أنّ شهامة اليعرُبيِّ، لم تجعل السائق يقبل بذلك، وقال نحن أولى منكم بهذا الصنيع، وفي ذلك فليتنافس المؤمنون، وبعد أنْ هبط من الحافلة، عاد السائق والمدخن إلى عهدهما الأول، وفي مشهد سريع أوضح لنا الفنان "ياسر العظمة" كيف يقوم المرشد السياحي المرافق لهذه الوفود السياحية، بأخذها إلى المواقع الأثرية التي لا تحكي تاريخنا العربي والإسلامي ، حيث يقوم في كل جولة سياحية، بمصاحبتهم إلى الآثار البيزنطية، ولا يقترح عليهم زيارة قلعة (صلاح الدين) الكائنة بمدينة (حلب) مثلاُ، أو إلى أي حصن عربي آخر، على الرغم من انتشارها على الأرض السورية، وفي النهاية نجد من خلال هذا المسلسل، أنَّ هؤلاء السائحين يعودون إلى ديارهم، بأكبر جزء من مصحوباتهم المالية، التي كانوا يودون إنفاقها، غير أنَّ شهامة العربي وإغاثته للملهوف ، هما من سببتا في ذلك، لكأنَّ العرب لا يعرفون بعكس غيرهم من الأقوام الأخرى، استثمار السياحة في جلب الموارد و العوائد المالية لدخلهم القومي. فالرأي الذي أتبناه في نهاية هذا المقال، هو أنَّ أغلب هذه المدن التاريخية الرومانية المنتشرة على امتداد الساحل الليبي هي مثل (مسمار جحا) أو هي كـ (أحصنة طروادة) تركوها على أرضنا، كي يأتي وقت ويطالبوننا فيه بأهليتهم و أحقيتهم بها، وهذا الرأي لم آتِ به من فراغ، لأنَّ في إحدى الاستضافات المرئية، التي أُجريت مع المخرج العالمي الراحل "مصطفى العقّاد" صرح بأنه أثناء الإعداد لتصوير بعض المشاهد المتعلقة بشريط شيخ الشهداء "عمر المختار" في العاصمة الإيطالية (روما) التفّ حوله المواطنون الطليان، واقتربت منه إحدى الشمطاوات الإيطاليات، لتسأله: ماذا تصنعون بحق السماء؟ وبعدما أخبرها بموضوع الشريط، علقت قائلة له ولبقية طاقم التصوير: "صوروا أو لا تصوروا، فإننا عائدون إلى ليبيا، لأنَّ لنا فيها إرثاً معمارياً ، بناه آباؤنا (الفاشست) وأجدادنا (الرومان) ما يزال يشهد على أحقيتنا بذلك البلد". وهنا يجب التنويه والإشارة إلى أننا لا نبتغي من سرد هذه المقالة، هدم هذه المواقع التي لا تمثل هويتنا العربية والمسلمة، لأنَّ ذلك قد يثير حفيظة بعض المفتخرين بهذه المعالم، ولأنّ في ذلك مظنَّة التحريض على الأخذ بالثأر، على الرغم من أنَّ هذه المباني، أراها تساهم إلى حدٍّ بعيد في تشويه الوجه التاريخي والمظهر الحضاري المعماري لبلادنا؛ كيف هذا؟ فمن المعلوم، أنَّ أغلب المباني المشيدة على ضفة البحر في سائر المدن الساحلية، تنتصب سامقة وتناطح قممها السحاب، لكن ما بناه بُناة تلك الحضارات من مباني، هي في غالبيتها قزمية ولا تتعدى طوابقها طابقين أو ثلاثة، خاصة منها، الموجودة في مدينتي (بنغازي وطرابلس) والقريبة من مينائيهما البحريين، لكن على أقل تقدير، ينبغي علينا، ألا نعيرها اهتماماً مبالغاَ فيه، وألا نصرف ونبذر أموالنا العامة لأجل ترميمها، وعلى أحفاد بناتها المعاصرين، التكفل بهذه المشاق، كما يتكفل العرب والمسلمون بالسهر والعمل على ترميم المساجد والقصور، التي تركها أسلافهم في بلاد (الأندلس) كما ينبغي علينا، ألا نعتبرها الوجه الحضاري المشرف لبلادنا، في المطويَّات المُلصَّقة على الحيطان، والدليل السياحي الخاص للتعريف بمدننا، وأنْ نـُشيّد ونبني صروحاً على أرضنا، يكون لها طابعها العربي و الإسلامي، لتغدو مفخرةً لأبنائنا وأحفادنا، على مرِّ الزمن، وأمام سائر الأمم.
بقلم: زيـاد العـيـسـاوي
تاريخ الكتابة 2009
 Ziad_z_73@yahoo.com

الأربعاء، 31 يناير 2018

أحمد فكرون في أغنية "يا فرحي بيك"

هذه الأغنية من إنتاج منتصف الثمانينيات من القرن الفائت، تبدأ بإيقاع هو أقرب في
وقعه إلى صوت سنابك أحصنة تجر خلفها عربة، وسرعان ما يمتزج بصوت رنين أقراص الدف الذي يلاحقه الناي في رحلة مغرية نحو طرب غير مجهول بالنسبة لي، لاسيما أن اللحن من صنع الفنان أحمد فكرون، وشيئا فشيئا تلتحم وتنصهر معهما وخزات ناعمة من آلة القانون والكمان اللذين لا يملكان سوى مرافقتهما، لتصنع هذه الآلات معاً موسيقى هادئة مؤذنة بتصاعد وتيرة حركة العربة في الشاشة الإلكترونية لتماوج النغمات، ثم يبرز صوت أحمد فكرون عاطفيا في مقدمة العمل، وهو يلالي: ف الليلة ياللي عشقك نجمات واحنا سهرتنا أحلى السهرات في الكوبليه الثاني يفرد الملحن مساحة واسعة لآلة القانون في هذا العمل المحبك ليسنّ به قانوناً موسيقياً، يقول بأن ثمة أعمالاً يصعب تصنيفها على الموسيقى الشرقية والغربية، فكلا المذهبين يود أن تكون هذه الأغنية الابنة الشرعية له، غير أنه من المؤكد هو انتفاء السبق لأحد من الفنانين إلى قالبه الموسيقي البديع هذا، سواء على الساحة العربية أو العالمية. هو حوار فني قائم ومتناغم بين الآلات، يود المطرب من خلاله تصوير هذه الحالة الشعرية: حبك عديت بحوره عشقني فيك وانتي أحلى م الصورة يا فرحي بيك بم يفرح أحمد فكرون في مضمون هذا العمل؟ بل هذا لعمري أمر محير، فآلاته الموسيقية تتراقص على أنغام بعضها البعض ويخفت صوتها كلما تصاعد صوت إحداها حتى إن كل واحدة منها تخفض جناحها لحروف الثانية متى تألمت، وبوسع المستمع أن يلاحظ بأذنه ذلك عند الدقيقة 2:10 لما يعطف الكمان أو هو التشيلو على ألم أوتار القانون ويواسيها ويسقيه من ماء الحب لكثرة ما تألم. وكتبت ف عشقك احلى الكلمات تغنت أوتاري ردن نايات النظرة الوحدة مشوار طويل والكلمة الوحدة بلاد حكايات ومثلما تتصاعد الآلات، ترتفع معها أيضا عقيرة المطرب إلى منتهى سلم الطبقة الصوتية دونما نشاز بل بصوت متماسك لا يخلو من العاطفة الأولى، فهو من يحس بهذه النغمات لأنها الجامع لهذه الآلات وقد تغنت أوتاره بها كما يقول في الكوبليه السابق. بعد هذا يطلق الملحن العنان لآلاته في مساحة واسعة لتعبر موسيقاه عما تريد وليقدم جملا موسيقية اسمية وتسمي اسم مضمون العمل وتعلن عنه فهو يغني لبلاده، كما ينضدها بجمل فعلية تفعل فعلها في إحساس المتلقي: ورحلت ف حبك كل الرحلات لبحور العشقى ومرسى الآهات ياللي ف عيونك رحلة مشوار توصلني دروبها لبلد البسمات وهنا يحين الآوان لتنتهي رحلة هذه الأغنية على هذه العربة المتمهلة من مربضها الأول والمتصاعدة لكن ليس بتدوير مفتاحها وإنما بإيعازات عالية من صوته الذي تنصاع له كل الآلات المتزاحمة، بتكراره: حبك عديت بحوره عشقني فيك وانت أحلى م الصورة يا فرحي بيك والدليل على انصياعها هو أن إيعازه يبدأ مدوياً وفي كل مرة ينخفض بنبرة مختلفة ومتفاوتة. هذه الأغنية الساحرة، تعد قالباً موسيقيا وغنائيا جديدا، لم تألفها المسامع، وأذكر ذات مرة بأنني سألت الفنان أحمد فكرون وأنا موقن بالإجابة "ألم تضع لحن هذه الأغنية أولا ثم طلبت إلى الشاعر نبيل الجهمي أن يصوغ عليه الكلمات؟" فأجابني مثبتا "بلى" وهذا هو ديدن فكرون إذ دائما ما نجده يبحث على قوالب موسيقية جديدة، فهذه الأغنية لا يمكن نسبها إلى أي لون قديم قد سبقها، ولا أظنُّ بأن هناك من عمل عليها واستفاد منها فيما بعد، هذا ما خلصت إليه بعد ان استمعت إليها ألف وألف مرة، فقد رافقتني طويلا. يا فرحي بيك.. أغنية من زمن قادم، لا شرقية ولا غرببة يا فرحي بيك.. أغنية وطنية بأحاسيس عاطفية.

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2017

الكتاب الإلكتروني الثاني للكاتب زياد العيساوي

الكتاب الإلكتروني الثاني للكاتب زياد العيساوي بعنوان (من بدائع الغناء العربي وروائع الغناء الليبي) مقدمة الكتاب: (يمزج الكاتب بين الأدب والموسيقا والغناء في مقالاته بهذا الكتاب، كما يحاول أن يقارب ويربط بين روائع الأغنية الليبية وبدائع الأغنية العربية، وهو في هذا المزج يعتمد على مزاجيته وذائقته الفنية وفيض الجمال الذي اكتسبه ليسبر أغوار تطور الغناء في موطنه الذي وجده ماثلا في تقفي خطوات الرواد والمحدثين الأوائل، مثل فريد الأطرش وفيروز ووديع الصافي ومحمد عبد الوهاب وغيرهم الكثيرون ممن لا تتسع لذكرهم صفحات كتابه هذا). لشراء الكتاب ادخل على هذا الرابط: https://www.morebooks.de/store/gb/book/من-بدائع-الغناء-العربي-وروائع-الغناء-الليبي/isbn/978-620-2-34530-9

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

الهتش

فرش أسنانه بفرشاة وصابون سوسي ثم طبق فكَّه العلوي على السفلي ونظر إلى المرأة.. رأى النصاعة تنتقل من مقدمة أسنانه حتى نابه الأيمن الذي يلمع كنجم في سماء الصحراء الكبرى.. خلّل أصابعه في مقدمة شعره فأرجعه إلى الخلف ثم أسدله على جبينه الذي لم تعد فيه مساحة خالية من الندبات وبلّل سبابته بلعابه ومرّره على حاجبيه ثم رفع سرواله إلى حد السّرة وأحكم خناق الحزام ومضى إلى الشارع.. لم يك يدور في بال مرزوق شيء سوى أن يجد احميده ابن الجيران في ناصية الشارع ليصعد خلفه على مقعد الدراجة فيجوبان أحياء بنغازي وقد وجده في انتظاره قاعداً على كرسيها (السيلة) وقدمه تلامس الأرض والأخرى على (البيدالي).. انطلقا بسرعة بطيئة بسبب البنية التحتية السيئة في شوارع حيهما الغارقة بالماء الآسن حتى دلفا إلى الشارع العام قام احميدة بتعديل المرآتين الجانبيتين وأطلق رنيناً من جرس الدراجة وزاد من سرعتها ومرزوق منتشياً بالريح التي تغازل شعره وقميصه المفتوح الأزرار قد صار مثل (برشوت) منتفخ من الهواء في ذيل طائرة حريية هبطت لتوها على متن حاملة الطائرات (جورج واشنطن) وسماعات الهتفون في أذنيه كقطعتي قطن طويل التيلة وهو يستمع باستمتاع إلى مجرودة شعبية.. أراد احميدة أن يتوقف عند الكوشة ليشتري رغيفي خبز له ولمرزوق التحق بذيل الطابور كما هو النظام المتبع، لكن مرزوق لم يطق الانتظار ونزل إلى بداية الطابور قافزاً أمام طفل صغير يحمل بيده كيساً هو عبارة عن وجه وسادة مزركش.. وبمجرد أن تقدمه مرزوق صرخ الطفل لتنتصب أمامه أخته أوريدة قناطش القادمة من طابور الإناث فقد دخلت هي وأخوها للطابورين لأن الفرن لا يبيع أكثر من عشرة أرغفة للفرد الواحد وهما ينتسبان إلى أسرة عدد أفرادها كبير.. كان الجميع يعلمون بهذا الخرق الذي أحدثته أوريدة وشقيقها لكن لا أحد يستطيع أن يحتج ويهمس بهذا السّر إلى صاحب الفرن.. يُعرَف عن أوريدة شراستها وعدوانيتها وتشبثها بحقها كما أن لها روحاً عدوانية لا تهدأ كإعصار جارف، كما يُعرَف عنها لعبها مع الذكور الكرة، الوابيس، وتيليبرة، طقه واركب عسكري، صياد السمك، وهي ممّن إذا خسرت في أية لعبة من هذه، تقيم الدنيا ولا تقعدها.. لم تستطع اوريدة هضم تصرف مرزوق مع أخيها وسرعان ما وقفت إزاءه بظفيرتيها المعقوصتين اللتين يظهر في نهايتهما شيء من الاصفرار على شعرها نتيجة للتقصف الذي يغزو أطرافه، وبينما كان مرزوق متفرساً في وجه اوريدة باستغراب عجّلته بلكمة على وجهه وبمجرد أن سقط أرضاً تشبثت بشعره وغرست أضافرها في رقبته وبدأت تعضها كلبؤة مرضعة وجائعة.. في البداية حاول مرزوق التسامي بألا يمد يده على فتاة على الرغم من الإحرج الذي وضع فيه، إذ كيف سيقدر على محو هذا العار حينما يُقال إنّ فتاة صرعت مرزوق.. قلقد تربى على قاعدة (أن الرجل لا يضرب امرأة) وبينما هو بتصارع مع مبادئة التربوية وهمسات اللحظة أحس بأن أنيابها قد أخذت تلامس شحمة أذنه فقام بكلتا يديه بليّ رقبتها كأسد مفترس وغرس أنيابه فيها كمنجلين صدئين.. تدخل المصطفون في طابور الرجال لفكّ هذا الشجار الذي دام طويلاً نتيجةً لإصرار اوريدة على تلقين مرزوق درساً في عدم الاعتداء على حقّ غيره، فوجد احميدة الفرصة مواتية ليكون في أول الطابور ولينال الرغيفين. وبينما كان مرزوق غائباً عن البيت وفي نزهته مع احميده في ذلك اليوم، جاء والد اوريدة يشتكيه إلى والده الحاج معتوق، وقد عُرِف عن أبيه بأنه رجل طيب ودائم الاصطفاف إلى جانب الحق ولو على نفسه وأهله، وتوصل مع والد اوريدة إلى اتفاق عام حضره الجيران وشهدوا عليه جميعاً هذا سياقه (لو صارت في قرجوطة اوريدة حاجة يتزوجها مرزوق) مع امتعاض أم مرزوق على الاتفاق لكنها سلمت أمرها لله، بعدما صرحت للمجتمعات (امغير بوها عارفها مكلوبة وشينة وح تقعد في رقبته يبي يلصقها لولدنا). كبرت اوريدة وصارت شابة مليحة وأخذ شباب المنطقة يخطبون ودَّها في سرية تامة لأنهم يعلمون بأنها ستكون لمرزوق الذي صار مدمناً على الكحول، لكنها تعلقت بابن عمها رجب القادم من غرب البلاد وتزوجت به بمباركة من والدها الذي أقام عرساً استمر لأسبوع كامل.. غير أن المفاجأة حدثت لما قام رجب برميها عند باب بيت أهلها غداة ليلة الزفاف لما وجد عقد (اسنون) مرزوق مرسوماً في عنقها ثم ذهب لينتقم من مرزوق الذي بمجرد أن شاهد رجب قادماً نحوه، فغر فمه وقال له: أنا هتش مش اسنوني.. مش شوري.

السبت، 7 أكتوبر 2017

الصنبور

سئمت دورانه في اتجاه عقارب الساعة، وخشيت من ضياع ثوانٍ من القلق أدخرها لغير هذه الأزمة.. نزعت الخرطوم ابتر من حلقته، كما ستنزع الخرطوم من حكم البشير عما قريب، فكرت في أن أضع إصبعي في حلقة مجراه اخيرة، لأتحسس برودة وبللاً يؤذنان بمجيء الماء، دنوت البصمة إلى عينيّ حتى لامست مني الرمش، فوجدتها قد تخضبت بحناء الصدأ.
أجريت شرخاً قصيراً في فوهته، وأحكمت ربط الخرطوم كما يحكم البشير الخرطوم منذ ربع قرن تيس شارد في أم درمان.
انبطحت كمن يجري تمريناً سويدياً، وأخذت في سحب الهواء من عنق الخرطوم السفلي بقوة الرئتين، وقد أخذ شدقي يتكور محدثاً طقطقة في طبلة أذني نتيجةً لضغط الهواء في عنقي الآخذ في التيبس إلى نحو اليسار.. عدّلت من هيأتي إلى الجهة الثانية، أخضوضر عرقٌ بشدقي ايمن، لم أفكر في كرَّة ثالثة، فلست أملك إلا شدقين لم أتنطع بهما في يوم.. شعرت بأن أصابع يديّ وأمشاط قدميّ ما عادت قادرة على حملي ولا تحملي وقد تنكسر في أية لحظة.
ووقتما هممت بالنهوض ونفض ما علق بأسمالي من ذرات لأشياء كثيرة كانت ملتصقة بارض (رمل، كسر خبز، نمل يدب، وريقات أشجار مصفرة، روث عصافير ودجاج)، لمحت بعد ذلك بقعة بللٍ في حجم نملة تقبع فوقها بردة صدِئة تتعامدان مع الصنبور، فكانت الفرحة، حككتها بين إصبعين لتتصير إلى مسحوق مثل الطين تماماً.