السبت، 23 يوليو 2011

لغم المصالحة الوطنية

مازال "معمر" مصرّاً على زعمه وعزمه، وهو يحاول إضفاء مسحة أخرى ومغايرة للواقع المعيش والفعلي على ثورتنا المجيدة، فطوراً يعتبرها تمرداً مسلحاً، وفي طور آخر، يدّعي- عبر قنوات وقوات إعلامه المُدجَّجة بترسانة الكذب والتلفيق- بأنّ ما يدور في البلاد ما هو إلا حرب أهلية بين القبائل في شطري البلاد الشرقي والغربي، فيصدّر- من ثم- هذه الصورة إلى المجتمع الدولي، معتقداً بانطلاء هذه الفريّة على الجميع، فالحرب الأهلية التقليدية لها عدة أشكال لا تخرج من أطرها، فهي إما أنْ تكون نزاعاً بصيغة وصبغة إثنيّة أو عرقية أو طائفية أو مذهبية أو قبليّة، وفي الغالب الأعم، تكون صراعاً شرساً على السلطة، لما يحاول الجزء من إحدى هذه التعريفات المكونة لأيِّ مجتمع السيطرة على الكلِّ بمنطق القوة، فمصطلح المصالحة الوطنية في العادة، ينهض على أطلال أية حرب أهلية استنزافية، تجري رحاها على إحدى هذه المُسبِّبات، حينما تـُنهَك الدولة فتحاول القوى الفاعلة بها، إيقاف نزيف الدم وهدر المال العام، بالتفاتة من أطياف النسيج المجتمعي إلى الداخل واحتواء الأزمة لما تصل إلى حقيقة مؤداها أنّ لا فائدة من وراءها، والملاحظ من خلال تجارب الصراع التي حدثت على هذا الأساس، أنّ مثل هذه الحروب لا يخرج فيها منتصرٌ، لذا يتدخل المجتمع الدولي لإيجاد حلّ نهائي لمثل هاته الأزمات، كما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية التي اتسمت بأنها طائفية، وكان حلّ الأزمة على ما اجتمعت عليه مكونات الدولة اللبنانية في اتفاق "الطائف" بالمملكة العربية السعودية، وتمّ فيه الاتفاق على تقسيم السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بين مجموع طوائف هذه البلاد، وكذلك ما يحدث الآن في العراق عقب الفتنة التي أسفر عنها الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني لصالح طائفة معينة، فتنادى المفكرون والعلماء وعليّة القوم لأجل الخروج بالبلاد من هذه الأزمة الخانقة، وأفريقياً، تحارب أبناء الوطن الواحد في أكثر من دولة، ولعلّ أخرها ما دار من حربٍ أهلية في منطقة البحيرات العظمى، نتيجة لما جرى في (رواندا) في تسعينيات القرن العشرين، بين قبيلتي التوتسي والهوتو، وما أجّج تلك الحرب، هو انضمام امتدادهما في الدول المحيطة والحدودية لـ(رواندا) مثل (بوروندي) و(الكونغو)، كلٌّ لإحدى هاتين القبيلتين وبحسب انتمائه إليها، فأصبحت حرباً إقليمية اتسعت ساحتها، وصُعبت السيطرة عليها لمدة طويلة.
أما ما يجري في "ليبيا" الآن، فهو لم يصل إلى هذه الحالة التي تحدثت عنها، فالقضية الليبية تختلف اختلافاً جذرياً وتبتعد بمسافة طويلة عن بؤرة أتون الحرب الأهلية، فهي صراع بين شعبٍ بأكمله ضد دكتاتور يناصره بعض المتكسبين من حكمه، وما قيام أمير الحرب "معمر" بفتح الحدود أمام بعض الميلشيات القادمة من ناحية الحدود القبلية لليبيا إلا محاولة منه لتلوين القضية الليبية باللون الأسود، أي جعلها أزمة إقليمية (أفريقية) لِما لهذه الدول من مصالح قائمة مع نظام حكمه.
يبتغي ما تبقى من كيان حكم "معمر" من خلال إطلاق بالونات الاختبار، والدعوة لقيام مؤتمر للمصالحة الوطنية، أنْ يدّخل المجتمع الليبي في مسار منحرف ومغاير لواقع الحال والأحداث، بل في حفرة عميقة جدرانها ملساء كسطح الجليد، يستحيل الخروج منها تسلقاً وتشعلقاً، وقد قدّم لذلك ببعض الأعمال الإجرامية التي أمر بها جنوده القادمين من مركز السلطة في الجهة الغربية للبلاد، لتزرع في أنفس الضحايا روح الانتقام والثأر والاقتصاص منهم بالمثل، وهي في حقيقتها لا يتحمل وزرها إلا من قاموا بها ولا تحسب على انتساباتهم الجهوية ولا انتماءاتهم القبليّة، فيطول سلك النسيج الليبي وتضيع إبرته ولا يعرف أوله من أخره.
إنّ الأصل في الحروب الأهلية، هو التفاف كل مكوّن وطيف وإثنية وقبيلة حول نفسه، ولا تجد جزءاً من أي مكوّن منشقاً عن القاعدة النسيجية له، وهذا غير متوافر في الأزمة الليبية التي لا يتحمل مسؤوليتها سوى شخص "القذافي" وأتباعه المتوزع انتماؤهم على عديد القبائل، فلا مصلحة من المصالحة التي يدعو البعض إلى قيامها إما خارج البلاد أو داخلها، فهذا لغم آخر وفخ مُفرَّخ من الآلة الجهنمية الاستخباراتية لبقايا منظومة الحكم، يستلزم كاسحة ألغام من صنع ليبي تسير فوقه وتفجره في مكمنه قبل أن تنشطر شظاياه وتتوزع على ربوع البلاد، لأنّ الخوض في مثل هذه المهاترات، هو غباء سياسي ووظيفي، ينفي حسن إدارة هذه الأزمة التي أوقعنا فيها "القذافي"، وهو أيضاً بمثابة الدوس على هذا اللغم الكامن في أرض الفتنة، حريٌّ بنا تخطيه والمضي قدماً للقضاء على اللغم الصدئ والأخطر المزروع في "ليبيا" من واحد وأربعين سنة، كإحدى مخلفات الحرب العالمية الثانية التي شهدت بلادنا الجزء الأكبر من دمارها.







0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية