الأربعاء، 29 يونيو 2011

سلامتها أم حسن كاد أن يكون نشيد جماهيرية القذافي

أحمد فكرون

سلام قدري

محمد مختار

لطفي العارف

عادل عبد المجيد

راسم فخري

علي ماهر
سلامتها أم حسن كاد أن يكون نشيد جماهيرية القذافي
"الأغنية الوطنية مادة في دستورنا الجديد"
نخلط أحياناً بين المقامات، فلكلِّ مقام أنغام، ولكل نغم كلام، ولكل كلمة مضمون، والمضمون الغنائي قد يتنوع بين العاطفة والإنسانية والوطنية، وهلم جرا، ويزداد الخلط إلى حدِّ العجن بين مكونات الأغنية السياسية والوطنية، حتى تتصلب هذه التركيبة في تركيبة الإنسان، فلا يستطيع أنْ يفصل بين ذرات بل حتى جزيئات الخلطة الغنائية في طبق ما تـُقدّمه القنوات والإذاعات، فالأغنية السياسية، هي التي تتغنى بمفاتن وبمفاسد أحد مكونات الدولة لما تجعلها مناقب له، فتناصر فئة أو طائفة أو حزب، كذلك النمط من الأغنيات، التي تغزَّلت بحزب البعث، الذي أُجتثــَت جذوره من الخارطة السياسية في العراق، والآخذ في الزوال في سوريا، أو التي تدور كلماتها حول محور ألحان الفرد الحاكم، فتعزف عن الغناء للوطن، وتعزف للحاكم بأمره، مُختزِلة الوطن بخارطته ووجوده في شخص المستبد الداخلي، أما الأغنية الوطنية، فعادةً ما تكون مقاومة ومقارعة بالقرع على طبول معاداة العدو المستعمر وممالئيه في الداخل، بتجنيد وتحشيد جنود أرواح المقاومة في فصيل روح واحدة، فهي التي تزرع روح المواطنة في نبتة النشء وتسقيها وترويها بعذب الألحان، وتغذيها بالشجن وحسن التعبير والموسيقا، لعلم المربين والقائمين على ذلك، بحقيقة أنّ "الموسيقا غذاء الروح"، فتعزّز من مكانة الوطن في نفس الإنسان الذي يعيش على أرضه، حتى تزدهر وتسفر عن وردة حمراء قانية، تستمد لونها من دماء من أُستشهـِدوا في سبيل صون هذه المعاني السامية بسمو هذه الشجرة السامقة الفريدة من سُلالتها، فهي كما شجرة على مدار الاستواء، يستظلُّ الجميع وعلى حدِّ السواء تحت ظلالها الوارفة على مدار السنين وحتى الفناء، فتؤسس- من ثم- لمفاهيم الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والتضحية من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات، وتـُنفـّر من أيِّ عملٍ وعمالةٍ لأعداء الوطن والوطنية.
صحبت التغيُّرات السياسية، التي برزت على سطح الخارطة السياسية للمنطقة العربية، في الفترة التي تلت نيلها للاستقلال عن هيمنة المستعمر البغيض، التي عُرِفت بالانقلابات العسكرية، التي دشّن لها الرئيس المصري الأسبق "عبد الناصر" طفو طفرة جديدة من أغانٍ، خالها المستمع العربي أعمالاً وطنية، وهي بحسب هذا السبر لغور هذين المفهومين للأغنيتين الوطنية والسياسية، اللذين استهللت بهما مقالتي، محض أغنيات سياسية مُؤدّلجة ومُوظّفة بأصوات موظفين في دائرة نقابة الغناء العربي الحكومية، إذ أنّ أغلب هذا النمط الغنائي، أدّاه لفيف من المطربين المعروفين لدى المتلقي العربي، الذين امتازوا بتقديم الأغنية العاطفية الكلاسيكية والحديثة، وليس على سبيل الحصر بل المثال، أذكر منهم "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"فريد الأطرش" وأخرهم المطرب الناشئ آنذاك "عبد الحليم حافظ"، فكانوا مجتمعين ومن حيث شاؤوا أو أبوا عرّابين لما يُسمى بثورة 23 يوليو، فقد عُلِم عنهم وطنيتهم وتضحيتهم لأجل القضية الفلسطينية حتى قبل مجيء "عبد الناصر" إلى سُدة الحكم في مصر، فأربأ بهم أنْ يكونوا قد تواطأوا مع هذا النظام عن قصد، لكن ربما قد استغلهم نظام الانقلاب للدعاية له ولتقديمه إلى المواطن المصري بخاصة والعربي بعامة في ثوب الثورة، التي جاءت على أنقاض حكم مملكي برجوازي وإقطاعي وخائن لأمته.
فالأغنية الوطنية أراها شأناً سيادياً يجب أنْ تـُسطّر كلماتها وتدوّن نوتاتها كمادة مستقلة في الدستور الوطني لأيِّ نظام سياسي ديموقراطي وحُرٍّ، يتفق عليه الشعب، فلا ينبغي لها أنْ تـُمجد فرداً أو تـُجمّد صورته كبطل مغوار في عقلية وعاطفة العوام، ولو كان حاكماً، بل خليقٌ بها أنْ تنأى قصيّاً عن أيِّ مستبد، ولا يحقّ استغلالها في تدعيم أية فئة سياسية ولا حزب بعينه غير الشعب، فهي مثلما الثروة الوطنية التي يعود ريعها وفائدتها على المجتمع بأكمله.
الأغنية الوطنية وقورة تصلح لأيِّ مكان وزمان ويدور شريط تسجيلها في تروس الإذاعات، مهما تعاقب الحكّام على كُرسي الحكم وسيادة البلاد، من هنا استطيع أنْ أُيسّر أمر التفريق بين الأغنية السياسية والوطنية على القارئ، الذي هو في الأصل مستمع- وعلى كل مُتلقٍّ- بهذه القاعدة المنهجية، التي لم أُرتـّب لها قبل خوضي في هذه المقالة، لكنّ موضوعيتي في الكتابة وانتهاجي لمبدأ (لا تستغفل القارئ) في أيِّ شأن فكريّ، هما من لخصا بنفسيهما هذا الاستنتاج، فلكي تشخّص أية أغنية يلتبس عليك أمرها بخصوص هذين النوعين من حيث المضمون، فما عليك إلا أنْ ترى سمعاً، هل هذه الأغنية محتفظة بنصيبها وأسهمها على خارطة الإذاعة مع تغيُّر الخارطة السياسية، أم أنها ستـُنفى وتـُرمى في مكبّات القمامة والقتامة، فإهالة التراب عليها والإبعاد والنفي في هذه الحالة، يعنيان نفي كونها أغنية وطنية، بل سياسية، ستسقط من سجلات التسجيلات الصوتية وقت سقوط الصنم، لأنها ليست سوى كفر بواح، كما أهازيج العرب التي ردّدها الطائفون أيام الجاهلية وهم عراة من الأسمال والإيمان على نصب هُبل- هكذا بكل إيجاز- ولو طبقنا هذا المعيار على الأغنية المحلية، التي أُنتجت في عهد المطرب الأول "معمر القذافي"- لا أظنّ بأنّ زبانيته، قد أطلقوا عليه هذا اللقب من جُملة ما نبزوه به من ألقاب، مع أنه يُجسد ظاهرة صوتية بكل ما يعنيه هذا المدلول الفني وفي أعلى مراتبه، فقد استطاع أنْ يوّفق بين طبقة الجواب في خطبه الجماهيرية في جماهيريته العظمى ووسط الحشود والجموع المنقطعة النظير، كما كانت إذاعته- وهي من أداوات حكمه- تحبذ أنْ تصف لقاءاته بمؤيديه ومريديه، في شبابه الذي أسرفه في غير فائدة، اللهم إلا في مشاداته اللسانية مع زملائه في منتدى الدكتاتورية العربية بجامعة الكذابين والمتاجرين والأفاقين بالقضايا العربية- جامعة الدول العربية- وبين طبقة القرار، حينما تحوّلت نبرات صوته إلى هذه الطبقة فيما بعد، وبالأخص في جلسات المؤتمر الشعبي العام، وكذلك سلامة تنقله إلى الطبقة المتوسطة حين هبوطه من الأولى إليها أو صعوده إليها من الثانية، وقد فاجأني في خطاب أو زلّة (زلقة : زنقة زنقة) التي حفظتها له الذاكرة السمعية والجمعية الليبية، لأنني اكتشفت أنه ما يزال يحتفظ بطبقة الجواب مع تقدُّمه في السنِّ، وهي ظاهرة صوتية فريدة، لا تجتمع إلا في حنجرة من يحسنون الغناء العربي المُتقن بحذافيره، ولم تصح حتى لأكبر جهابذة المطربين العرب سوى "وديع الصافي" الذي أُستغِلت خاصيته الصوتية هاته، ليغني رائعته القذافية "ومنها عشقت الوطن يالصحاب"- على أية حال، فلو طبقنا هذا المعيار والمقياس، لن نخرج سوى بأغنيتين أو ثلاث هي (بلد الطيوب واتعيشي يا بلدي/محمود كريّم) و(يا بلادي/أحمد فكرون) ولست أدّعي إلمامي بكل ما سُجِّل في هذه المرحلة من تاريخ الأغنية الليبية ومن تاريخ بلادنا، لكنْ من لديه أغنية يرى فيها مفهوم الوطنية، فليخضعها لهذا المحك ولهذه المصفاة، ليرى إنْ رشح منها شيءٌ من ذلك، غير أنّ هناك عملاً غنائياً رأيته قد شذ عن هذه القاعدة، وهو أغنية (يا ليبيا يا جنة/حسين الجسمي) فهذه الأغنية من كلمات "عبد الله منصور" المقهور، الذي جُعِل راعي الأغنية الليبية، وهو لا ينفع حتى لرعاية الإبل، وأستطيع أنْ ألخص كل ما كتبه من أغنيات وهو يدير الهيأة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى في مضمون واحد وكفى، هو (العين) وتغزله بسوادها، ففي أشعاره نجد العين ماثلة للأسماع في مثل هذه الأغنيات: (عيني بكت من شوقها والغالي بطا وانا امعلق عيني وعيني فراشك والغطا هو رمشي وكحلت عيني موش زينة ليها)، فأغنية (يا ليبيا يا جنة) التي عرفها المتلقي من خلال الجلسة الغنائية المُفلسة، هي لا تتغنى بحب "ليبيا" بل بدمّرها "القذافي" وهذا ما لا يعرفه الكثيرون ممّن يعتصمون في ساحة التغيير، بل تتراقص لـ"معمر القذافي" وذلك يبدو جلياً للآذان في هذا المقطع منها:
إن ما جيناك لمن بنجو .. إن ما حاكيناك لمن نحكو
ما ساعد القذافي على (تقذيف) الأغنية وتسيِّيسها، أنّ الأغنية الليبية كانت إبان استحواذه على السلطة تمرّ بانتعاشة شهد لها العرب أجمعين، بفضل الخطة التي اعتمدتها الإذاعة الليبية باستقدام الفرق الموسيقية وعلى رأسها الموسيقاران والمايستروان المصريان المعروفان "عطية شرارة" في بنغازي و"الحفناوي" في قسم الموسيقا بطرابلس، فاستطاعا ترجمة الجملة الموسيقية الليبية الحديثة، التي ألّفها- ولم يألفها المتلقي الليبي من قبل- الملحنون المخضرمون، ممّن حملوا راية النهوض بالأغنية المحلية وفكّ أسرها من قيد وعِقال الجملة الشعبية النمطية مع انتفاء تنكرهم للموروث الليبي بل العمل على إظهاره في حُلّة قشيبة، من أمثال "يوسف العالم" و"كاظم نديم" و"إبراهيم أشرف" و"علي ماهر" و"بشير فحيمة" و"عبد الباسط البدري" و"محمد الدهماني" و"سالم بشّون" و"هاشم الهوني" وغيرهم الكثيرون، بالإضافة إلى ثلة من الشعراء كـ"علي السني" و"أحمد الحريري" و"عبد السلام قادربوه" و"مسعود القبلاوي" وباقة كبيرة من زهور الكلمة وقتذاك، ترجمت أحاسيسها بأصوات نخبة من الأصوات الفذة، أذكر منهم "سلام قدري" و"محمد رشيد" و"مصطفى حمزة" و"عبد اللطيف حويل" و"محمود الشريف" و"يوسف عزت" و"عادل عبد المجيد" ومن نافذة الإنصاف ليس إلا، أضم إليهم "محمد حسن" كصوت جميل ورائع، إلا أنه بدّد إمكاناته في أداء الأغنية السياسية المُمجِّدة لشخص "القذافي"، فسقطت دُرّره في مجارير الانحطاط الغنائي، وأضحى في ليل "ليبيا" المُمتد طوال أربعة عقود منطفئة، مثل (البرّاح) في خيمته (خيبته) الغنائية، حتى أنه اقتنع بكونه ملحناً جيداً، فحاول أنْ يجعل من تلك الخيمة قصراً لمدرسة تلحينية، أراد أنْ ينشئها لكي ينسف بها جهود من سبقوه من الملحنين عمراً ومراحل، لكنّ ورشته الموسيقية أثبتت ضحالتها الفكرية، حتى أنه اقتبس بعض الألحان العربية لأجل تقديم الأغنية السياسية على أساس أنها وطنية، ومن ذلك أغنية (تسلم وتعيش يا وطني) في المطلع الذي يقول فيه:
جنودك جاهزين للتحدي .. جنودك جاهزين

جنودك قابلين التصدي .. جنودك قابلين

يا وطني تسلم واتعيش .. علّي راسك ما اتواطيش
بنفس المقدمة اللحنية لأغنية (كعب الغزال يا متحني بدم الغزال/محمد رشدي)، ولو استرجع القارئ اللقاءات العديدة التي أُجريت مع "محمد حسن" لوجد أنه أبدى إعجاباً شديداً بأغنية هذا المطرب الشعبي المصري في غير مرة، وهذه ليست السابقة الأولى التي يُقدّم فيها فنان ليبي بالسطو على ألحان عربية، فقد تكرّرت هذه المسألة حتى في عمل آخر بعنوان (جماهيرية سلطة شعبية) الذي أصبح بمثابة نشيد وطني في إذاعة الجماهيرية، فالجملة اللحنية لهذا العمل، هي نفسها لأغنية (سلامتها أم حسن من العين ومن الحسد/أحمد عدوية) فيا للوضاعة.
فقدّمت أغلب هذه الأصوات والأسماء التي ذكرتها أجمل الأغاني، كقيمة فنية صرفة، وبالتجرد من أيِّ حنق سياسي وأيديولوجي، فأنا هنا أصنفها من حيث الجودة اللحنية والصوتية ومعطلاً لغة الكلام المروِّج لشخص الزعيم الأوحد، وبالمناسبة فإنّ هذه الأعمال الغنائية، تؤكد لمفهوم تطرقت إليه كثيراً في مقالتي عن الأغنية الليبية وشقيقاتها العربيات، حيث إنني أرى في جانب التلحين، أنه أهم عنصر من عناصر الأغنية، يليه الأداء الصحي والصحيح وفق لأصول الغناء العربي الأصيل، فسرّ نجاح الأعمال الغنائية، التي ترنمت بإنجازات وخطب "القذافي"، مرجعيته هي اللحن، بدليل أننا لا نصدق ما تقوله المطربة السورية "سهام إبراهيم" وهي تغني هذه المفردات المُوغِلة في الرجعية الثورية، لكننا نطرب لانصهار صوتها مع اللحن والجملة الموسيقية، التي قدّها لها الموسيقار وعازف القانون الراحل "حسين الزواوي":
عشقتك مبادي خالدة وثورية

عشقتك أمل إنسان فـ الحرية

عشقتك فرحة .. تدخل في صدر الحر تبري جرحه

عشقتك أمل إنسان يبني صرحه ويحكم في نفسه وسلطته شعبية..

فلا سلطة شعبية ولا شيء ممّا تـُغني، لكنّ لهذه الأغنية مخزوناً من الجمل اللحنية الفريدة، التي تستميل المستمع وتخدره بجمالها، فيُسلِّم المستمع- من ثم- بحكم "القذافي" كما يُسلِّم الذميم أمره إلى امرأة حسناء لعوب، مفتوناً ببهائها المخادع.

وعلى غرار هذا المضمون، قد يُسرَب مفهومٌ آخرٌ عبر تلفاز "القذافي"، حرص وزمرته من الضباط الوحدويين الأشرار على تكريسه في الأغنية السياسية، وهو جعل انقلابهم نهاية مطاف حركة الجهاد في بلادنا ضد المعتدي الإيطالي، وهو تسلسل غير منطقي ومنفصل، وقد كان أول عمل غنائي تغنى بهذا الطرح، (أوبريت/شعب لا ينحني)- بمناسبة خروج القواعد الأجنبية أو جلائها أو كما صار يصرُّ إعلام "القذافي" مؤخراً بأنه (إجلاء) أيّ إرغام المستعمر على الخروج، فهو لم يضع عصاه على كتفه ويخرج طواعية.. هكذا- يستهل الملحن "علي ماهر" هذا الأوبريت بمقدمة موسيقية لا تختلف عن الموسيقا التصويرية، التي أعدها لاحقاً لمسلسل (حرب السنوات الأربع) فهي مقدمة موسيقية إيقاعية، انتهج فيها أسلوب الموسيقار المصري الراحل "بليغ حمدي" الذي يبدو مدى ولعه وتأثره به، مُستمدَّة من الجلبة التي تحدثها الخيول وهي تركض في ساحة الوغى، وهو يصف جهاد الآباء بهذه الكلمات الرائعة للشاعر الراحل "علي الفيتوري" أو هو "مسعود القبلاوي" لست أدري ضبطاً، وبصوت مجموعة من النخبة الصوتية المعروفة، أتذكّر وأذكر منها "أحمد سامي" و"راسم فخري" و"لطفي العارف":

يا ليبيا الشجعان يا زينة الأوطان ما ريت زيك زين

يا قاهرة العدوان بأولادك الفرسان ابعزم قوي ما ايلين

أرضك وفاء وأمان وحنان لكل إنسان ونيران للغادرين

جهادك أيام زمان نوره علينا بان

عيد الجلاء عيدين يا ملحمة جيلين..

الجيلان المقصودان، هما جيل المجاهدين الأولين من الآباء والأجداد، وجيل من شاركوا في الانقلاب من الفاشلين، والقفز على مرحلة الاستقلال ورجاله الشرفاء، ينتقل بعد ذلك الملحن "علي ماهر" بتوظيف صوت المطرب الراحل "أحمد سامي" لأداء هذا (الكوبليه) المُدهش، الذي أعلن عن جمال صوت هذا الفنان وتعدّد درجاته:

زمان كافحوا الأجداد .. بارودهم وقـّاد

في ساحة الجهاد .. أهل الفداء والصبر..

زاد العدو وأيش زاد؟ .. زادوا الرجال اعناد

أهل البلاد رجال .. ما راح منها شبر..

يوم فرحة الأولاد .. يوم هلل الميعاد

على أهل العزوم أشداد .. قالوا رخيص العمر..

يوم جمعوا الميعاد .. ما حد شال اتراب

يوم وطن صبره جبال .. جا عدو جرار

جيشه رجال رجال .. ولقوا ترابه جمر..

يوم جمعوا الميعاد .. ما حد شال اتراب

جوا طول ع الجهاد .. لقوا الخوف ولّى نصر..

فارس ركب وعار .. قال ما لهم عمار

خللا الروس حصاد .. صلوا صلاة العصر..

بعد ذلك يستلم منه راية الصوت المطرب "راسم فخري" الذي غنى فيما غنى منذ ولوجه إلى عالم الغناء، مئة وعشرين أغنية- كما يفتخر، وأظنه نادماً- منها مئة أغنية وطنية كما يقول، وهي في حقيقتها سياسية، من مجموع ما قدّمه بصوته الأخـّاذ والدارس لضوابط الغناء العربي:

يا وطن حن الله .. نصر شعبنا وحماه

يوم ما لفو أعداه ورست مراكبهم

جوا ناويين ضناه .. بطيراتهم في سماه

لطمس مجد بناه .. جيش العدو مبداه

وطن ويقربهم..

جا شعبنا ولقاه برجاله وبنساه

جا شاب قال لـ بباه طالع مع نجعه

أنا اللي نحاربهم..

لين زغردت جداه .. وأمه مشت وراه

هو قال نقعد لا .. وطني أنا نفداه

تاريخ تعبهم..

هجموا الرجال اللي معاه .. كثروا العدو موتاه

طبل الفزع لباه .. جهاد في سبيل الله

والنصر مطلبهم..

والوطن من ينساه؟ جيش العدو غطاه

عليه انشد اللي راه.. تاريخ لو تقراه

احني شعب شيّبهم..

إلى هنا لا يوجد حتى مأخذ واحد على الأغنية، من حيث كونها وطنية، لأنها خلّدت ومجّدت لبذل وتضحيات المجاهدين والشهداء، ووطنت في النفس معاني التضحية والإقدام للذود عن الأرض والعرض، وقد أبدع الشاعر والملحن والمطربون في أدائها بحماسة وبأصوات جميلة، تضع الجيل الرابع (نحن)- باحتساب جيل الاستقلال الجيل الثاني، رغماً عن أنف مُعدِّها وباني بيوت شعرها الشعرية بأوتاد العزة في صحراء الأغنية الليبية- في قلب تلك الأحداث الجـِسام، بل إنها قد تـُؤول لصالح ورصد ما قدّمه الليبيون في ثورة السابع عشر من فبراير، فتلغي الجيل الثالث (جيل الانقلاب) الذي أساء لتاريخ الأجداد، حينما اعتبر كلَّ من ناهض حكمه خائناً، وهو يذكّر الشعب الليبي بتلك البطولات ومُحصِّناً نفسه بسياج امتداده لحركة الجهاد ضد المستعمر الاستيطاني، نعم فقد استطاع "القذافي" أنْ يرتهن تلك الأمجاد لنفسه، وقتما نصَّب جده وأباه كأول أبطال المقاومة الليبية، وبذلك طبع في مخيلة العوام، بأنّ من يعاديه يعادي ذلك التاريخ المُشرِّف، وهذا ما أوضحه "محمد حسن" في هذا الكوبليه من أحد أعماله السياسية:

اللي يعاديه .. يعادي خير بلادنا

اللي يعاديه .. يعادي فرح أولادنا

اللي يعاديه .. يعادي أمل لعيالنا

اللي لولاه المد الثوري ضاع رجاه
لكن على الباغي تدور الدوائر، فكما حاول "القذافي" محو وطنية جيل الاستقلال من على خارطة التاريخ الحديث، ها هي ثورتنا الآن تنزع عنه أي دور وطني، ولعلّ ثمة كلمات في مقدمة هذا الأوبريت، التي أدّاها الراحل "أحمد سامي" تـُعدُّ في حقيقتها توصيفاً لهذا الرأي، وهو يغني:
يوم فرحة الأولاد .. يوم هلل الميعاد

على أهل العزوم أشداد .. قالوا رخيص العمر..

فهذه الثورة أوقد شرارتها أولاد صغار بعزائم شديدة، بعدما ألفوا أعمارهم رخيصة لقاء تحرّرهم من ربقة ورقبة السفيه، الذي أكال لهم بها أقذر الشتائم، وكذلك في شدوه بهذا البيت:

فارس ركب وعار .. قال ما لهم عمار

خللا الروس حصاد .. صلوا صلاة العصر..

هو هنا يقصد شيخ الشهداء "عمر المختار"، الذي أحسن أداء الصلاة العصر في حينها، وكما أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقصّر في ومن ركعاتها، ولم يجهر بقراءة القرآن فيها، ليس كما فعل الدّجّال.

ثم اجتمعت أصوات المجموعة لتعترف في نهاية العمل بهذا البيان الختامي والإقرار الخطي والفني الخطير، الذي سيّس الأغنية، وحولها من أغنية وطنية- متجاوزاً الدستور الذي دعوت إلى وضع مفهوم الأغنية الوطنية في قمة أولوياته- إلى أغنية سياسية، لدى غنائهم لهذه الوصلة:

أحرار يا ثوارنا يا ملحمة الأجيال

انتم حميتو ديارنا ثوارنا الأبطال

بيكم بدا مشوارنا وطني كبر ونال

والله صدق اللي قال قهر الشعوب محال

ما عد بعد اليوم حاكم على هالشعب

ياما قعد محروم مظلوم عيشه صعب

ما حال ايدوم وما يعرف المحال لا بجيش الاحتلال

بالخير يوم الفاتح الظلم طلعنا

والعالم يوم الفاتح شايف مصانعنا

خضرة يوم الفاتح خضرة مصانعنا

كل الشعوب بالفاتح صارت تسمعنا

وبيه نضربو الأمثال لحرية الإنسان..

*****

في فجر يوم الاثنين، الموافق للأول من سبتمبر من عام تسعة وستين وتسعمئة وألف للميلاد، أي في يوم الانـ(ك)ـلاب المشؤوم، تهافتت مجموعة من الفنانين، وتنادت على أبواب الإذاعة الليبية في مدينتي بنغازي وطرابلس، لتواكب مسار ما كانت تعتقد بأنه ثورة شعبية حتى النصر، وتؤازر هذا الحدث، لدرجة أننا رأيناهم يؤدّون تلك الأعمال بطريقة ارتجالية بقراءة مفردات الأغاني من الأوراق، فتشعب الحديث حتى شهر سبتمبر من سنة 2010 ميلادية عن أول أغنية- كلمةً ولحناً وصوتاً- واكبته، ودار السجال بين أكثر من اسم لنيل شرف هذا العمل، ولم يحسم هذا الجدال حتى يوم 17 فبراير 2011 ميلادياً، بخصوصه، وكان الجدير بالمتصارعين بأشعارهم وأنغامهم وحناجرهم، أنْ يبادروا كبادرتهم الأولى مع هذه الثورة المجيدة، التي أعطت الفرصة لأولئك الفنانين ممن ما يزالون على قيد الحياة، لأنْ يقدموا لها شيئاً من أعمالهم، التي ستطهّر سجلاتهم وأعمارهم الفنية من ذلك المأزق الذي وقعوا فيه من غير أنْ يحتسبوا- نحسبهم كذلك- لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ففي سُنـَّة الغناء السياسي وكيفما أُتفق، أنْ يتولى مهمته الفنانون المعروفون في العهد الذي يسبق التغيّير السياسي، خصوصاً إذا كان هذا التغيير السياسي نتاجاً لانقلاب عسكري، أما الأغنية الوطنية الخالصة، فهي تولد من رحم الثورات الشعبية الحقيقية، في عملية انسيابية وتبحث لها عن مؤسسين جدد ينهضون بكلماتهم وألحانهم وأصواتهم مع قيامها، وهذا ما أكّدته الثورة الليبية، التي لم يُسند ظهرها من الفنانين السابقين في نقابة فناني الجماهيرية، الذين ربما أُصيبوا بخيبة أمل وظنّ وتقدير، وأحسّوا بمرارة وفظاعة ما سطّروه ولحنوه وترنموا به من دجل فني، وأنهم قد غـُرِّر بهم في فترة ثورة التزييف، التي حوّلت الأغنية الوطنية إلى أغنية سياسية بامتياز، وفي هذا الصدد، حكى ليّ أحد المساجين في سجن الحصان الأسود، إنّ من وجبات العذاب النفسانية غير البدنية، التي كانوا يتعرضون لها، هي إرغامهم على الاستماع إلى أغنية (افتح يا فاتح يا منور في كل مكان/محمد حسن) في زنزاناتهم بواسطة أجهزة تسجيل ضخمة لغسيل الأدمغة من معاني الوطنية وحشوها بمثل هذا الهراء الذي نسمعه في هذه الكلمات من هذا العمل القمعي والإقصائي:

من غير الثورة (امعمر) ما فيش .. تبي وللا ما تبيش

أو بكلمات الأغنية، التي تصوّر شخص العقيد في هيأة الـ(سوبرمان) الذي في يده الفانوس السحري أو عصا موسى عليه السلام، فيفجر الصخر ليخرج منه المياه (النهر الصناعي) فيستحق أنْ يكون سيفاً مُسلّطاً على رقاب الليبيين:

افتح يا فاتح يا منور في كل مكان

افتح يا فاتح يا امداير لناسك شان

افتح كل يوم مصانع للشعب اللي كان محروم

افتح يا مخللي الصحراء رويانة بالخير اتعوم

تسلم لبلادك يا فاتح واتعيش اعيادك يا فاتح..

بل بلغ السفه والعته بهذا المغني أنْ يصنع في ورشته الفنية لحناً سخيفاً لكلمات أغنية أخرى من ألحانه، لم يفلح في خراطة كلماتها ولا لحم لحنها ولا سمكرة ولا طلاء مظهرها الخارجي، فصار مثل صنائعي غشّاش ومُغلوش، لا يجيد الصنعة الحرِفية، وقد اعتبر فيها الليبيين على قلب رجل واحد، لنصرة "القذافي" من دون أنْ يُجري استفتاءً بنعم أو بلا على ذلك، ولعلّ الشعب الليبي الكريم، ما يزال يتذكرها لأنها نالت من كرامته، الأغنية هي بصوت "خالد عبد الله" وها هو مطلعها الزائف:

يا بو عباء دونك ثلاث ملايين

لا هنتهم ولانك عليهم هاين

وهذا ربما ما يفسّر انتفاء نضوج الأغنية الثورية التي خرجت للأسماع مع بداية ثورة 17 فبراير، بعفويتها التي اتخذت السياق الدعائي المُستمد كلماته من شعارات وهتافات الشباب في ساحات (التغيير) بالمدن والقرى الليبية، مُتكِئة على الألحان والجمل الشعبية أو بتركيب كلماتها على قالب موسيقي لملحن معروف، مثلما في أغنية (عاشت بنغازي والبيضاء) فلحن هذه الأغنية هو عينه لحن أغنية (صبّارين نحنا ع السية صبارين/وحيد سالم) للموسيقار "إبراهيم أشرف"، جدير بالسمع أنّ هذه الأغنية قد أُقصيت من البثّ الإذاعي إبان حكم "القذافي" الذي يعي تماماً بأنه ليس ببعيد عن الشُّبهات، لذلك خشيّ أنْ يؤول معنى هذه الأغنية العاطفية في غير صالحه، في الوقت الذي أعد فيه بطريقة التأويل نفسها، أغنية (يا ريح هدّي مركبي ميالة/محمد حسن) للملحن والموسيقار "يوسف العالم" وقبلها أيضاً أغنية جميلة للمطرب الراحل "محمد صدقي" هي بعنوان (ماضي زال نسيته مشى) من إرهاصات انقلابه، وفي سياق تعطش الشعب الليبي للثورة التي أتى بها هو على متن الدبابة تلبية لمطالب الليبيين.

يُعاب على الأغنية المُقدمة في هذه الأيام بأصوات الشباب الجميلة، أنها ليست ذات خصوصية لحنية وأغلبها مُقولب في موسيقا (الراب) هذا النمط من الموسيقا التي أعتبرها نوعاً من التعبير الذي لا يرتقي إلى مرتبة الغناء مع أن الغناء هو وسيلة متطورة للتعبير الناضج والرائق، وعند عقد المقارنة بين الأغنية التي زامنت انقلاب "القذافي" وثورة 17 فبراير، نجد أنّ الأغاني القديمة، أُعدِّت لها الألحان الشجية وأُغدِق عليها فائض من الشجن حتى يستطيع "القذافي" تسريب كلمات سمومه وأفكاره المُضللة إلى روح المتلقي، مثلما يُدس السم في العسل، على خلاف أغنية الثورة، فافتقاد الملحن من جيل الشباب سببه هو إهمال نظام التخلف والجهل للمواهب والأنشطة الفنية وعلى رأسها الموسيقا التي حلّ في يوم ما فرقتها الإذاعية ومعهدها في بنغازي، التي التقيت في أحد شوارعها منذ أيام قلائل بمدير هذا المعهد الأستاذ الملحن "إبراهيم أشرف" ودارت بيننا دردشة فنية أخبرني فيها بأن أجمل ما استمع إليه من أغنيات الشباب في هذه المرحلة الثورية التي تعيشها بلادنا، ولم أستغرب رأيه فهو يوافق رأيي تماماً، على أية حال، فإن الأغنية التي وقع عليها إعجابه هي (سوف نبقى هنا/عادل المشيطي) التي سُجّلت سنة 2005 ميلادية، إنْ لم يخـُني التقدير.
بنغازي: 28/6/2011












0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية