الخميس، 9 يونيو 2011

ليبيا في الاستراحة ما بين الشوطين

المشهد السياسي الليبي العام والراهن، يجعل ملعب كرة القدم بالمدينة الرياضية ببنغازي، يرتسم قبالتي الآن، بخطوطه البيضاء وأرضيته الصناعية الخضراء، وباللاعبين وهم يدوسون على لون علم "القذافي" الأخضر المرسوم على مستطيله الكبير؛ فالوضع القائم والطارئ في فترة استراحة المحاربين، وما يشهده من تجاذبات وتنافرات بين أقطاب الرؤى من سياسيين ومثقفين وعوام، أشبه ما يكون بفترة استراحة اللاعبين، بعد إطلاق الحكم لصافرته إيذاناً بانتهاء الشوط الأول، وتشغيل مُكبِّرات الصوت- المنتصبة كخوازيق، مثل هوائيات التجسُّس في العاصمة الرومانية (بوخاريست) أيام حكم الديكتاتور (اتشاوسيسكو) في كل ساحة، التي أرعبت الشعب الروماني في فترة الحكم الشيوعي لمدة طويلة، وعندما سقط الصنم، تهاوت معه هوائياته، لما اكتشف الرومانيون بأنّ هذه الهوائيات، كانت مجرد أعمدة مصمتة وفارغة حتى من الهواء، فلا أجهزة تنصُّت ولا تصوير فيها، فمن أين لدولة مثل رومانيا الشيوعية المتخلفة عن ركب الصناعة آنذاك بمثل هذه المعدات المتطورة؟ هذا السؤال الذي لم يتبادر إلى أذهان الرومانيين وقتذاك، ولو طرحوه أرضاً، لما وجد الخوف إلى قلوبهم مسرباً- على أغنية (دوم وطني ربوعه نايره.. ويرفرف علمه حر/محمد حسن) فيما كانت أعمدة الإنارة الثمانية التي تحوط بالملعب وما تحمله من مصابيح كاشفة لا يعمل إلا ربعها فقط، فأي نور هذا الذي يعنيه في زمن الظلام الحالك الذي خيّم بسواده على بلادنا؟.
فبمجرد أنْ ينسحب ساكنو الملعب الخمسة والعشرون (22 لاعباً و3 حُكّام) إلى الأماكن المُخصَّصة لهم، يعجُّ الملعب بلاعبين آخرين من دكة البدلاء للإحماء، وببراعم صغار يلبسون غلالات الفريقين، جيء بهم لإرجاع الكرات بعد التمريرات التي تخطئ وجهتها خارج خطوط التماس والحماس، والتسديدات غير السديدات التي تعلو العارض الأفقي، فتسقط في مضمار المجاري الذي يحوط بالملعب، كقذفات اللاعبين "سعد الفزاني" و"رمضان البرناوي" التي قد تسقط على المدرجات من شدة قوتها- عمركم شفتو ملعب في مجاري إلا في بلادنا؟- في غياب أو تقاعُس العامل المُكلّف بهذه المهمة "ابلال"، فيتجزأ هذا الملعب الكبير إلى عدة ملاعب صغيرة، تمارس فيه كل مجموعة هوايتها، وهي تتخيل بأنها تشارك في هذه المباراة وبأنّ لها دوراً فاعلاً في مجرياتها، وقد يؤثر في نتيجتها التي لم تــُحسَم بعد، بما فيهم حتى بعض الجمهور، الذي يتجرأ وينزل من المدرجات إلى هذا الملعب الكبير، فيما رجال الشرطة يلاحقونه ويحاولون منعه من الوصول، فتفرَّغ شباك كثيرة ممتلئة بالكرات بينهم، وترى جزءاً كبيراً من الحضور ينسجم مع ما يراه من مهرجان كروي كبير مُتعدِّد السِّمات، يستمر زهاء العشر دقائق أو يزيد عن ذلك بخمس أخريات، وتتنوع فيه المهارات الكروية من تسديدات وركلات جزاء وهمية ومراوغات وفنون ومهارات فردية، حتى أنّ المؤيدين للفريقين يتفقون خارج الوقت الرسمي للمباراة على التصفيق لما يرونه من إبداعات، فيخال هؤلاء الذين يتحاورون مع الكرة ما رجوه، ولكنْ ما أنْ يروا الحكم وزميلاه قد قدِموا من غرفتهم، وقبل أنْ ينادي على اللاعبين بصافرته كي يعودوا إلى الملعب، حتى يُغادر الجميع الميدان، ويتركون الساحة الخضراء للمتنافسين الأصليين، وفقاً لقانون الملاعب.
ففي غياب صياغة الدستور الليبي وقبل أنْ تضع الحرب أوزارها، ويتم التحرير الكامل للأرض الليبية من دنس زعيم لصوص الصحراء والأربعين حرامي، الذين أغاروا معه على مدننا في ليلة ظلماء وسلبونا كل ما نملك، وهروبهم وإياه على نوقهم وبغلاتهم بأي اتجاه سيختارونه ما عدا الشمال، لئلا يبتلعهم البحر الأبيض المتوسط، وقد يركبون الأمواج معه وتحت إمرته كرُبَّان أو هو قرصان أعور في قوارب صغيرة للنجاة بنفوسهم جنباً إلى جنب مع الأفارقة، في هجرة غير شرعية قد ترمي بهم على الشواطئ الإيطالية أو الإسبانية، مخلفين وراءهم النوق والبغال، التي هي من إرثنا وممتلكاتنا، سيجد الكثيرون المناخ الليبي الشبه صحراوي مناسباً، لأن يبحثوا فيه عن موضع قدم يغرسون فيه نخلات رؤاهم وأفكارهم وتطلعاتهم السياسية من دون حتى سقاية، فيرويها عطش الشعب للحرية، وقد يزيد هذا الأمر في الدعاية لمشروعهم السياسي قبل نشأة الدولة الليبية الجديدة، دونما أي قيد ولا أية محاسبة، في غياب القانون المنظم لهذه المسألة والمُفسّر للدستور الذي سيحكم البلاد، ففي هذه المرحلة الانتقالية الأولى- التي تسبق الإعلان عن هزيمة النظام ورفعه لراية الهزيمة الخضراء بدلاً من البيضاء، لأنها منذ أنْ خفقت في مدننا ومياديننا، خفقت قلوبنا بالحزن ولم نعرف النصر يوماً- يجدر بالسياسيين استثمار هذا المخاض الذي من الصعب التكهُن بمدته، فهو مرهون بيوم سقوط الطاغية، فيما سيعود على بلادنا بالخير، من خلال تبنيهم للخطط الرامية إلى الرسو ببلادنا على شاطئ الأمان، ذلك أنّ هناك مرحلة انتقالية ثانية ستستمر مدة من الوقت بحسب ما يتفق عليه الليبيون، إلى أنْ يتم تشكيل الحكومة القادمة تحت سيادة نظام سياسي ديموقراطي مُحدَّد سيتفقون على معالمه هو الآخر، فاللاعبون في الفترة الانتقالية الأولى، يقومون بالإحماء وبدور مشابه للذي يحدث في الوقت الفاصل بين الشوطين من كل مباراة، فليستغلوا هذا الوقت ليس في ممارسة اللعبة السياسية، بل في تكوينها بالإحماء والدُّربة والمران- فالممارسة هنا لا تجوز قانونياً خارج الدستور- وليبرزوا لنا مواهبهم وأجنداتهم السياسية ورؤاهم الإستراتيجية، حتى يعود اللاعبون الحقيقيون من الثوّار إلى دورهم الأول في متابعة إلحاق الهزيمة بميلشيات "القذافي" بعد أنْ يخرجوا من استراحة المُحارب، التي هم عليها منذ فترة، في جو قائظ على جبهة الأربعين التي سينتهي عندها حكم الأربعين سنة والأربعين حرامي مع "معمر بابا"، ما مكّن هؤلاء السياسيين من استثمار هذا الركود الحربي والميداني في الجانب المدني غير المنظم ولا المؤثر، إلا بعد أنْ تعلن صافرة النهاية وقد تكلل النصر على أيدي ثوارنا البواسل، فيستريحون ويعودون إلى ثكناتهم، هذا بالنسبة للعسكريين منهم، أما المتطوعون فسيعودون إلى سابق أعمالهم وتخصصاتهم المدنية، وقد يشاركون هم أيضاً في النشاط السياسي المدني ورسم معالمه على الخارطة السياسية الليبية، ذات المليوني كيلو متر مربعاً، والخمسة مليون نسمة، وحتى ذلك الوقت، يصعب على المتتبع للشأن الليبي أنْ يمتدح أو يدين أيَّ حِراك يقوم به المجلس الوطني الانتقالي، لظروف عسيرة يمرّ وتمرّ بها بلادنا، في ضوء الضائقة المالية والضغط السياسي والاجتماعي اللذين يقعان على كواهل أعضائه، الذين تعهدوا للشعب الليبي بأنهم سوف لن يرشحوا نفوسهم للانتخابات التي ستتلو مرحلة التحرير الكامل لكل شبر من ليبيا، مفسحين المجال أمام القِوى السياسية التي ترغب في ممارسة حقوقها بما يصبّ في مصلحة البلاد والعباد.
بنغازي: 6/6/2011



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية