الأربعاء، 25 مايو 2011

بنغازي .. مدينة بياننا الأول وبيانه الأخير

إنّ النّاظر إلى حال ثورة الشعب الليبي الجارية في هذه الأيام، حتى رحيل الطاغية، تحت شعار: "الشّعب يريد إسقاط النظام"، والمستمرة بعون الله، حتى يتحقّق شعارها في المرحلة الثانية: "الشّعب يريد إحلال النظام" بإقامة الحرية ودولة المؤسسات القائمة على العدل وحقوق الإنسان، وهي آتية لا محالة، يرى في هذه الثورة تبايناً جلياً مع ثورتي "تونس" و"مصر" لكون الثورة في هذين القطرين، نجحتا في إسقاط رأسي النظامين فيهما، مع بقاء جسديهما بأعضائهما المتمثلة في رموز ووزراء الحكومتين في مراكزهم، وسيتم الإصلاح- إنْ تم- على نحو بيروقراطي بطيء ومتعثّر، قد يستمر إلى مدة طويلة، حتى يتحقّق للشعبين ما أرادا، وهذا ما تؤكده الوقائع الحادثة فيهما، ذلك أنّ ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني فيهما، التي رأى بعض السّاسة بأنها ستسهم في الانتقال السلمي إلى الديموقراطية، وتحويل المجتمعين من مجتمعين قمعيين إلى ديموقراطيين، لم تقوما أساساً،  على أُسّس المؤسسات المدنية الواجبة، التي تخضع للشفافية والتداول على المراكز الحساسة، بل كانت جميعها تتبع لنظامين متحايلين، حاولا أنْ يصدرا للعالم، صورة باهتة وغير حقيقة للواقع السياسي الدائر على ساحتي بلديهما، حتى يسيرا في ركب المجتمعات الحرّة، فينالا بعض المكاسب السياسية- ومن ثم- الاقتصادية، وليبعدا عن نفسيهما شبح المتابعة والمحاسبة من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وما إليها، فالأصل في هذه المؤسسات أنْ تعمل على تمكين الشعوب من نيل الحرية، والحصول على حقوقها في جو سلمي وآلي وقانوني، غير أنها في هذين البلدين، لم تقوما بما هو منوطاً بهما، بما في ذلك القضاء الذي أعده أهم مؤسسة في مؤسسات المجتمع المدني، كان يتبع للدولة، بفروعه جميعها، بما في ذلك المحاكم العسكرية، التي كانت تحكم بالإعدام والسجن المؤبد على كل معارض مدني، بل قد يحتجز المواطن، لشبهة ومن دون حتى أيّة محاكمة جائرة، وهذا ما تعرّض له بعض الناشطين السياسيين والصحفيين في هذين البلدين العزيزين، ولا ننسى مؤسسة الإعلام، التي تطبّل للحاكم بأمره وأولاده، أي بقصد، أنّ من شأن المؤسسات المدنية القائمة في جو كهذا، أن تكون عوامل سلبية لا إيجابية أمام تطلعات الجموع، حينما تثور.
أما في "ليبيا" فالحال تختلف تماماً، مع عدم وجود مثل هذه المؤسسات الحقيقة ولا المزيفة، وهنا أودُّ أنْ أخبركم بما دار بيني وبين أحد المثقفين، قبل وبعد نجاح الثورة في "مصر" و"تونس" فقد علّل سبب نجاحها إلى الفكرة الخاطئة عن وجود هذه المؤسسات فيهما، فأخبرته إنْ كان ذلك كذلك، فما الذي حمل الشعبين على أنْ يثورا، طالما وُجِدت هذه القنوات، التي بإمكانهما إيصال صوتيهما إلى الدوائر الحاكمة، ومطالبتهم بحقوقهما من خلالهما ؟ فهذا يشي بانتفاء دورها، ويعني بطلان قيامها أصلاً، وعن "ليبيا" عقّب: طالما أنه لا وجود للأحزاب والنقابات والروابط والإعلام الحر والقضاء المستقل.. فالأمر- يعني الثورة- أراه استحالة" والكثير كان على رأي هذا المثقف، الذي لم يعِ ما تعنيه الثورة، فالثورة تجبُّ ما قبلها وتهدم كل ما بُني على جرف هار، وأُسس على باطل، لقد كان لغياب هذه المؤسسات- على سوئه- دورٌ فاعلٌ جداً في حتمية الثورة ونجاحها، والدليل على ذلك، أنّ في الأيام الأولى لها، وبعد استتباب القرار للشعب الليبي، أنْ أقام مجلسه الوطني المؤقت، كنواة لحكومة ممثلة لإرادة الشعب، وليست من بقايا النظام القذافي المنهار، بل هو من سحب الشرعية منه، لإجماع الليبيين عليه، كممثل شرعي لهم، ما يعني أنه بسقوط "القذافي" المُمثِّل لرأس حربة النظام في بلادنا، ستتعفن جثة النظام كلياً، وتدفن تحت تراب التاريخ، ولن يبقى لها أثر، وهذا بخلاف ما جرى في "تونس" و"مصر" مع اعتزازنا بالثورتين المجيدتين فيهما، وهذا ما يُدلل على أنّ "ليبيا" كانت المؤهلة، لأنْ تكون الشرارة الأولى للثورات العربية، والنبراس الذي يوقد منه الآخرون مشاعل ثوراتهم.
لقد كان من شأن هذه القناعة، التي تملأ رأس ذلك المُثقف، أنْ تُفشل هذه الثورة في مهدها، وتُطفئ نارها في غُمدِها، مع غياب الفهم الحقيقي لمعنى الثورة، والإيمان بتحقُّقها ومسوجباتها ودواعيها، ومعرفة تاريخ ثورات الشعوب، التي عادة ما يُكتَب لها النصر المؤزر.
بنغازي، تلك هي المدينة الوادعة على ساحل المتوسط، التي احتضنت ثورة شباب 17 فبراير، تلك المدينة، التي أسقطت جبروت نظام مستبدٍ، منذ أول يوم هذه الثورة المُباركة، تلك المدينة، التي برت بوطنها، وهبّت كأول مدينة من مدننا الحبيبة، صارخة في وجه الطُّغيان، لتزيح عن سمائها ظلاماً، خيّم عليها 42 سنة، تلك المدينة، التي رفضت أنْ تكون بيانه الأول، وانتصرت لسكانها المسحوقين، وانتقمت لاسمها ولشهدائها ولتضحيات أهلها، منذ أنْ دنسها عار بيانه الأول، تلك المدينة، التي كلما حطّ على أرضها زعيم اللصوص، واجهته بغضب الطبيعة، وبرياح القبلي (العجاج) حتى يرحل، ولو كانت زيارته لها في الشتاء، لكأنّي بها تقاوم غزواً من عدو مبين، فكيف تكون بيانه الأول ومهداً لعهد مُعتدٍ أثيم؟.
قالت المدينة قولتها، يوم خرجت في اليوم المنشود، ضاربة عرض الجدار وفي عمق سلة المهملات، كل قول وتحليل وتنظير، قد يُثنيها عن التغيير، ليكتب لها النجاح ويحميها الله من مكر الطاغوت، فتساقطت مُنقبلاته على ترابها، ودُكت عروشه ليلة حاول تهديدها، ليكون وعيده لها البيان الأخير له، خرجت وأفئدة نسائها ورجالها وشبابها وشيبها، تلهج بهذه القصيدة الثورية:
أرحل أيها الطاغية
(عمر الكدي*)
أرحل أيُّها الطاغية
ما عادت البلاد تتسع لك ولنا
أرحل وأترك لنا شمس الشتاء الناعسة
وهذه الأمطار التي تغسلنا من أوساخك
أرحل فلا نريد أن نلوث أيادينا بشنقك
ولا أن ندفنك في تراب سيلفظ جثتك
لا تنسَ أن تأخذ معك أبناءك الفاسدين
وفساتينك العجيبة الفاقعة
خذ كتابك الأخضر وكل هذيانك الأسود
سحناتك المقرفة وخيمتك البائسة
وأترك لنا وطناً
لم يبقَ لنا فيه إلا الأمل
رويناه بالدماء حتى الثمالة
وفي ليلة مظلمة لم يعُد لنا
سرقته منا أيُّها الطاغية
وها نحن نستعيده منك
 ولو بنهر من الدماء
سننظفه من كل أشباحك
ومن كلماتك الرخوة المضحكة
من لجانك وحرسك وأصنامك
أرحل أيها الطاغية
بلادنا تعود لنا جذلانة متعبة
تنفض غبار سنين جنون عظمتك
وتضمد جراحها بكبرياء
 لم تنل منه سنواتك الباهتة
أرحل أيُّها الطاغية
فقد صرت طاعوناً أسود
لا نريدك أن تلوث هواءنا بنتانتك الحامضة
ولا أن تدوس الطرقات بأرتالك المجحفلة
أمهلناك طويلاً
 وها قد تحطم قيدنا وخوفنا
فإذا أنت مجرد جرذ يلوذ بأنفاقه المظلمة
أرحل أيها الطاغية
وأترك لنا بلادنا المكلومة الحافية..
بقلم : زياد العيساوي
بنغازي: مارس 2011


ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): شاعر وصحفي من ليبيا

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية