الأحد، 17 يوليو 2011

السياسة النبيلة إطار تعاملنا مع المجتمع الدولي

السياسة النبيلة لا تـُدرَّس في المعاهد والأكاديميات السياسية العُليا، فكل ما يُحشى في عقلية طلبة العلم من المتدربين على السياسة، هو تكريس تعريفها لديهم على أنها فنّ المُمكن، والمُمكنُ هنا هو كسب المصالح الخاصة لدولة ما على حساب مصالح شعوب الدول الأخرى وحقوقها في العيش بحرية وكرامة، وقد يصل بنا هذا المُمكن إلى درجة لا يمكن تصورها وقبولها، حينما يدفعنا إلى ممارسة المجاملات السياسية، حينذاك يُعرف السياسي الذي يُمارس هذا النوع من فنّ التعامل المشبوه بأنه داهية سياسية، ومن أولئك الساسة الذين عرفوا بهذا اللقب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق (هنري كسنجر) خصوصاً ما قام به لصالح الكيان الصهيوني في رحلاته المكوكية إبان حرب أكتوبر من عام 1973 ميلادية على حساب الفلسطينيين والعرب، وكذلك الرئيس السادات الذي تنكر للفلسطينيين لقاء قيام علاقة سياسية طبيعية بينه وبين ما يُسمى بإسرائيل إلى حدّ اختياره وتفضيله للعلاقة معها وقبوله بمقاطعة العرب لمصر بعد مؤتمرهم في بغداد، ولا ننسى في هذا المقام رؤية "القذافي" العوراء لما جرى في أفغانستان نتيجة لاحتلال الاتحاد السوفييتي لها في الفترة الممتدة من عام 1979-1989 ميلادية على الرغم من أنها بلاد مسلمة، ووقع عليها ظلم الاحتلال لأجل أنْ تصل هذه الدولة العظمى عسكرياً إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي، وأيضاً دعمه للصرب وهو يرى حجم الإبادة الجماعية التي تعرض لها أخواننا من المسلمين في البوسنة على أيديهم في أوائل تسعينيات القرن العشرين، بحجة أن الاتحاد السوفييتي هو المزوّد الأول له بالسلاح، وأنّ هاتين الدولتين (الاتحاد السوفيتي) وما تبقى من الاتحاد اليوغسلافي ممثلاً في (صربيا) تساندان القضية الفلسطينية، وتتعاطفان مع العرب وشعوب العالم الثالث ضد الهيمنة الأمريكية.
والدهاء السياسي قد يستلزم من السياسي أنْ يستعمل لغة المواربة والتحايل والكذب الممزوج برائحة النفاق السياسي، وغيرها من أساليب وضيعة ووضعية، لدرجة أنْ تقوم حكومة ما بتمرير جرائم أيّ حاكم بحجة أنه يضمن مصالحها الإقليمية، وتعزّز معه العلاقات السياسية والاقتصادية وفي مجالات التعاون كافة، فلا يهمها وقتذاك أنْ يفعل الأفاعيل المشينة بشعبه، طالما أنه يحفظ لها امتيازاتها داخل دولته ويحافظ حرفياً على اتفاقياته معها، وهذا السلوك نفسه الذي مضت عليه دول الغرب في تعاملها مع المنطقة العربية، إلى أن انتبهت مؤخراً إلى فداحة ما قامت به، إذ أنّ السير فيه هذه الطريق الوعرة والعوراء في حين، هو من ولّد الاتجاهات والتيارات المضادة لسياساتها- إلى حد بروز ظاهرة التطرف- التي كالت كثيراً بمكيالين، سواء فيما يخص الصراع (العربي/الإسرائيلي)، الذي جعل حكوماتها ترسم خارطتها الخارجية، وفقاً لما يضمن لهذا الكيان أمنه، ولو أدى ذلك إلى خنق الحريات وقيام الديكتاتوريات في الأقطار العربية مجتمعة، التي تدعي- على عينها- مناهضتها لهذا الكيان الغاصب، أو فيما يتصل بدعمها الاستخباراتي والمعلوماتي لهؤلاء المتسلطين على شعوبهم، فبعد أن تفطن الغرب إلى أن مثل هذه الممارسات الأخلاقية التي يقوم بها، بغض البصر عند تجاوزات الحكّام، قد تؤدي بمصالحه الحيوية إلى التهلكة، حالما يستعدي الشعوب ضده، وتولّد عناصر معادية لسياساته، مثلما حدث في المنطقة العربية، فالسياسي المُحنـَّك هو شخص أعور البصر بإرادته مع أنّ عينيه تريان كل شيء، غير أنه يرى ما يريد ويحجم على ما لا تريد دولته، فإذا لم تبنِ الدول سياساتها وفق معايير محدّدة وواضحة المعالم وبعيدة عن الغموض، تقع في مثل هذا النوع من التفكير السياسي، والمعايير المناسبة التي يجب أنْ تعمل بها الحكومات، حين تعاملها مع بعضها البعض فيما يصطلح عليه بالبروتوكول السياسي، أراها يجب أن تستند إلى ميثاق اتفاقية (جنيف) لحقوق الإنسان، وعلى أساس العدل والحرية والتعاون بين الشعوب فيما يحقق الرفاهية والرُّقي والعمل على استدامتها، فتصل هذه المعايير إلى المبادئ العامة والخطوط العريضة، التي يجب أن تسجل نقاطها على حوائط مبنى وزارة الخارجية في أي بلد وبشفافية عالية، حتى تكون في متناول أي سياسي قائم بعمله، أو يودُّ أن يرشح نفسه لأيِّ منصب في وزارة الخارجية لبلاده، لأنّ انتفاء التقيُّد بهذه الضوابط، قد يؤدي بالبلدان إلى حالة من التخبط والحرج ومعاداة الشعوب لها.
حتى وقت قريب، كان يتفق العوام على أنّ أداء سياسية "القذافي" الخارجية هو في أعلى المستويات من التعامل في العلاقات البينية بين الدول وحسن التصرف إزاء القضايا والأزمات الدولية، فهو لم يبعث الجيش الليبي إلى أية بؤرة نزاع ضمن قوات الأمم المتحدة، كما أنه أرسل مساعدات إنسانية كثيرة إلى المناطق المنكوبة لمساعدة الشعوب المتضررة من الحروب الأهلية أو الكوارث الطبيعية من مال الشعب الليبي، وقد درج على معاداة الإمبريالية وانتفاء الاصطفاف وراءها، ما وفّر لليبيا سياسة مستقلة وثقلاً ووزناً دوليين، نتيجة لسياسته الرشيدة، حتى صار لها القول الفصل والمسموع والمشورة المهمة، خصوصاً لدى رؤيتهم للبعثات وهي تتوافد عليه في خيمته، غير أنهم أخذوا عليه سوء سياسته الداخلية تجاه الشعب الليبي، الذي يفترض بأن يكون شعبه- وهو لا يعده كذلك أساساً- والأصل في هذا الشأن، هو أنّ ارتباط السياستين الخارجية والداخلية لا يمكن فصل عراه، فالأداء الخارجي ينعكس بالسلب والإيجاب على الوضع الداخلي، وهذا ما يُلاحظ على السياسة الخارجية للقذافي، حيث إنه لم يحسن التصرف في مدّ جسور التعاون مع دول العالم- ربما لكراهيته لهذا المسمى (جسر)، وخير دليل على ذلك أنه منذ فترة طويلة، لم ينجز أي جسر للمشاة داخل البلاد- وقد جعلها رهناً لمستقبله السياسي واستمراره في السلطة، وهناك مؤشرات كثيرة تدل على هذه الحقيقة، إذ أنّ الحروب التي قام بها مع دول الجوار، لم تكن بسبب فرض المشروع الوحدوي ولو أدّى ذلك إلى استخدام القوة ضد حكّام اتهمهم بالإقليمية- كما كان يدّعي- ولكن لتواجد المعارضين الليبيين له داخل هذه الدول، وبعد أن استطاع تحيّيد الدول التي تنازع معها لفترة طويلة وإخراج مناوئيه منها، أقام علاقات حسن الجوار معها، لكن هذه العلاقات ابتنت أصلاً على اتفاقيات أمنية بينه وبين الحكّام في هذه البلدان، وليست بين الشعب الليبي والشعوب الشقيقة بها، ونظراً لتهوره أقدم أيضاً على بعض الأعمال الإرهابية المعروفة لدى القاص والداني، ما أثر على الحياة الاقتصادية بالسلب وسبّب- من ثم- في تفاقم الوضع الإنساني للشعب الليبي لمدة طويلة، وعلى الرغم من أنّ الدول صاحبة الشأن في هذا الأمر، كانت تدرك جيداً مسؤوليته على هذه الأعمال الجبانة وحقيقة ما يجري في ليبيا من قمع، إلا أنها قبلت بمبدأ التعويض مقابل استمرار نظام "القذافي" الكبحي، وانتفاء زعزعتها لأركان حكمه، ورفع أية مسؤولية جنائية قد تطاله بسبب ما اقترفه من جرائم بحقّ رعاياها، وهذا كله يرجعنا إلى المربع الأول من هذه المقالة حول ما تطرقت إليه بخصوص أن سياسة فنّ الممكن هي في حقيقتها سياسة عوراء لا ترقب القضايا إلا من زاوية واحدة، هي المصالح- أي كما يقول إخواننا المصريون بلهجتهم المحبوبة: "السياسة مصالح يا عمو صالح"- ولولاها ما استطاع "القذافي" أنْ يتسلط على شعبنا طوال هذه المدة.
لذا يحسن بنا نحن الليبيين بعد نجاح ثورتنا، أن نجعل هذه الضوابط ضمن مادة مقدسة لا تخضع للتعديل ولا التجريح في الدستور الوطني، تبين الملامح والشروط العامة للدولة الليبية وقت إقامتها للعلاقات مع الدول، وإطاراً عاماً يجمع بين أضلاعه الأربعة صورة لدولتنا الحديثة حتى يراها العالم بأسره وبعينيه الاثنتين معاً، فلا تزدوج لديه الرؤية ولا تسود، فمن أعجبته هذه الصورة وأحبّ أن يخطب ودّنا لن يجدنا إلا دولة عند مبادئها، ولا تقيم علاقاتها تحت سياسة "فن الممكن" بل وفق لسياسة نبيلة تقول للمحسن أحسنت وللظالم أسأت، ولا تتعامل معه أبداً حتى وإن نالت من وراء هذا التعامل الفائدة، وقبل أن نهم بإقامة أية علاقة مع الدول التي تقمع شعوبها، علينا أن نتذكر دوماً محنتنا وما تعرضنا إليه من ابتزاز من بعض الأنظمة التي ساندت "القذافي" حتى أخر لحظة، لما أدركت أن الثورة في ليبيا قد أفقدته كل شرعية، والتي ما تزال تعاضده على الرغم مما تبين لها من ظلمه واستبداده.
وفي سياق أجده ذي صلة، أودّ أن أبثَّ وجعي من إساءة وقعت في حق الشعب السوري من بعض مثقفينا لما اتخذ من قناة (ANN) منبراً إعلامياً للحديث عن ثورة 17 فبراير، وهو يعلم بأن ملكيتها تعود إلى "رفعت الأسد" فقد أنشأها من مال السوريين المنهوب عقب هروبه من حرس أخيه "حافظ الأسد" وتكوينه للشبيحة التي عاثت فساداً في سوريا، بعد أن اتفق مع ابني شقيقه "بشار وماهر" على أن يعفيا عنه، في مقابل استعمالهما للشبيحة لقمع ثورة السوريين.
بنغازي: 17/7/2011
ـــــــــــــــــــــــــ
للتواصل مع الكاتب: ziad_z_73@yahoo.com
صفحة الكاتب على الفيسبوك:

http://www.facebook.com/profile.php?id=100002322399992







0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية