السبت، 30 أكتوبر 2010

القلم نذير شؤم

"وجهُ الكتابة، مثل وجه المرأة العربية الحسناء اللعوب، على خدِّها، تقبع حسنة (شامة شامية أو خال لخليجية) ما تـَزال- لا تـُزال- بعمليات التجميل، على عكس الأوربيات، وعلى خدِّها الآخر، ثمة أكثر من سيئةٍ، ومن ليست على خدِّها حسنة، تطبعها بسن قلم كحلها، ولأنّ الحسنات يُذهبنّ بالسيئات، ينخدع الرجال وراء إغواء وإغراء حسنات الحسناوات، ومن ثم، القراء وراء ما يقرؤون".. "أنا". كلماتي، تتسطر، تتمطر، تتشطر، تتعطر، تتقطر، تتوتر، كلماتي تتبعثر، تتنثر، وتأبى أنْ تؤطّر، ضمن سياقٍ لكادرٍ واحدٍ، سيُرمى به، يوماً ما، خارج الملاك الوظيفي، ولو زُيّن بخطوط الذهب وخيوط الفضة، لا أحبُّ الكوادر ولا الشوادر ولا الصور، فهي يقيناً، ستصبح إطاراً تذكارياً لشخصٍ ما، يُلقى به، بعد عمرٍ ما، مثلما يقذف الصبية الإطارَ المثقوب، لعربةٍ خرِبة من أعالي المنحدرات، أو يُحرق في ليلة (الميلود) في منطقة (اللثامة) تحت أشجار النخيل، ذوات البلح الأصفر.
لا أحتفظ بصورة لوالدي، من يدخل إلى بيتنا، لن يجد في أية زاوية منه، آثاراً لتذكار واحد له، ولا لجدّيّ، فالصورُ، لن تعزينا فيمن فقدنا، أحلامي هي المُعلَّقة في كوادر تذكارية على جدارية الفزع، غير المُصمتة بالإسمنت، لليالٍ لم تكتمل فيها نـُطفة أمشاج الحلم المجهوض، لا أقبل بأنْ أكون عدميّـاً، ولن أرتضي لكلماتي، بأنْ تصبح ذكريات مُعلَّقة من أرجلها، ورؤوسها تتدلى إلى أسفل، مثلما يحدث مع المسجونين والمعذبين في أقبية المخابرات العربية- فكلماتي ليست شعراً، لِتـُعلَّق ضمن المُعلَّقات، كلماتي قولٌ، بل فكرةٌ، تساورُ الناسَ في واقعهم، وصورٌ، في واقع أحلامهم الوردية المُنتكسَة، حينما يغسلون وجوه صباحاتهم، فينزعون عنها قشور اليباس، مثل القطمير من على نواة البلح، أو الضمادات من على الجرح، بعدما يتطبّب ويشفى، ثم يعرضونه للشمس في باحات صباحات بيوتهم، فأحلامي بـِضعة منكم.
في نفسي وجعٌ، لم أعرف له سبباً، في قلبي ألمٌ، لم أجد له طِبّـاً، الجدية تحاصرني في كل شيءٍ، في ابتسامتي، في مشيتي، في ملبسي، في مزاحي، أجدُّ الجِّدّ حتى في فرحي، وفي ألعابي، وفي ألواني.. فالجَّدُّ للأب والأم ، ما سُمي كذلك- بتصوري- إلا لجديّته وصرامته، وجادته السليمة- أكثر من يزعجني، هم المرحون من غير الأطفال، المرحون من كل حدبٍ وجدبٍ، المرحون في الجِّدِّ، المرحون في الحزن، المرحون في الشوارع، المرحون والمتمرجحون ذوو الشعور الطويلة والمشاعر البليدة و(لمّبلدة) على أرجوحات الوهن، ومزاليق الوهم ، فالمرح طرحٌ آخرٌ لا يستهويني، أطروحتي في الحياة: "كـُن جاداً.. لتجد ما يسرُّك".. المرح سُخفٌ ، المرح في الكتابة عندي، هو أنْ أسخّر السخرية بالسُّخرة لشخصياتي، التي لا تنطق، وقلمي هو من ينطقها، رغماً عن ألسنتها الجبانة، كي أمرّر مرارة رأيٍّ وطرحٍ - وجمعٍ وضربٍ وتقسيمٍ - لما أشاء من أفكار.. ليس خوفاً، بل لعلمي المسبق، بأنّ النفس البشرية، إذا انتقدتها بعبارة جديّة، لا تتقبلك، لكن إذا انتقدتها، بالعبارة نفسها، وأنت تبتسم لها، تتلقاها منك - مثلما تتلقى الأم ابنها المسجون، بعد فراق طويل في أحضانها- ولو كانت بأقذع السُّباب، فهي تستمرئ النفاق والعبور تحت الأنفاق، فنحن نجيد، خدّ وحفر الخنادق جيداً، حتى في المقاومة، لا نعلن أننا مقاومون، ونمرّر الأطعمة للجوعى من تحت السراديب، كما في غزة المحاصرة، بل حتى المنهزمون والأبطال المنتظرون لهدايتنا ونصرتنا، هم أيضاً، في حكم المتسربلين في غياهب السراديب، فنحن ما زلنا أسرى لثقافة المخابئ والملاجئ، نخشى السير فوق الأسطح اللامعة، لأنها تعكس حقيقتنا وزيفنا.
لن أكون كاتباً عدمياً، فمن اللؤم ألا أصبح نذيرَ شؤمٍ، من اللؤم ألا أُعبِّر عن السأم، لأعبُّره إلى مراحل وسواحل أخريات، من اللؤم أنْ أمرح مع المرحين، وأخوض مع الخائضين، من اللؤم أنْ أُنطِق من لا ينطقون، لكم تمنيت أنْ أغدو بشيرَ فألٍ حسنٍ، لا تتطيّر الناس من حروفه في عبارات خوفه، لكن ما العمل، والوضع في العراق مُحتل، والجو عندنا مُختل؟ الكتابة، تفجِّر في دواخلي المُضطرِبة، حِمم حُمتي وحَميمتي، فتسيل على سفحي وتنكأ جرحي، لتزلزل كياني غير الصهيوني الهوى، فهمّي كبيرٌ، وجعي أكبر، وأكبر من مساحات كلماتي.
***
اسمحوا ليّ في خاتمة هذه المقالة، أنْ أُدّخِلكم في دائرة التكرار و الملل، بأنْ أعود بحضرات عيونكم إلى مقدمتي لأعلق وأوضح أكثر:
وجهُ الكتابة، مثل وجه المرأة العربية الحسناء اللعوب، على خدِّها، تقبع حسنة (شامة شامية أو خال لخليجية) لا تـَزال- لا تـُزال- بعمليات التجميل، على عكس الأوربيات، وعلى خدِّها الآخر، ثمة أكثر من سيئةٍ، ومن ليست على خدِّها حسنة، تطبعها بسن قلم كحلها، ولأنّ الحسنات يُذهبنّ بالسيئات، ينخدع الرجال وراء إغواء وإغراء حسنات الحسناوات، ومن ثم، القراء وراء ما يقرؤون، فيظلّون، تحت سُمرة ظِلال وضلال الأفكار، التي لا تستقيم ما دامت عيدان الأقلام عوجاء وعرجاء، في طرق السطور الملتوية والمُحفـَّرة، والمُحقـِّرة للعقول، لا يُستند إليها، و لا تصلح أنْ تكون، حتى محض عكاكيز في وحشة دهاليز التجهيل والتبجيل، بل عكاكيز في مهرجانات التحجيل، في يد راقصة شلبية، على ذقنها شامة، وعلى خدِّيها شامتان وثلاث، وثمة من الحضور من يتفرغ لعدِّ النقاط المُستترة الأخرى، فهناك من تستهويه الشّامات والحسنات، ويغضُّ طرف القلم عن السيئات.









































0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية