الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

فريد الأطرش : في ذكرى رحيله ماذا بوسعنا أن نغني ؟




كلمة عتاب يا حب بتدور عليك
كلمة من قلبي يا ريت توصل إليكْ
***
خذت ايه من ناري
لما لعبت بيا بعمري لعبْ ؟
و طلعت بعد الورد بعد الوعد
شوك و سراب يا حبْ
بعتب يا حب عليك
يا دوب كلمة عتاب
م النار م العذابْ
***
هو ده الورد اللي كنت بتقطفه
و تفرشلي بيه خطوة طريقي ؟
هي دي الأحلام و نشوتها
اللي كنت تقول عليها نعيم حقيقي ؟
دي الآمال الحلوة اللي رسمتهالي ؟
دي الوعود الغالية اللي اللي وعدتهالي ؟
ليه تذوقني الهنا كله ؟ و ليه خذت الهنا ؟
اعمل ايه دي الوقت في الأشواق و في الحرمان ؟
***
مرت سنين و سنين كتير
من يوم ما قابلتك يا حبْ
من يوم ما غنيت اللي بتغنيه تملي لكل قلبْ
خذت ايه من ناري
لما لعبت بيّ بعمري لعبْ ؟
و طلعت بعد الورد بعد الوعدْ
شوك و سراب يا حب
بعتب عليك يا دوب كلمة عتابْ
بعتب عليك يا حبْ م النار م العذابْ ..
بهذه الكلمات من بديعته أغنية ( كلمة عتاب ) التي ألفها له الشاعر و الزجّال " أحمد شفيق كامل " وضع الفنان الراحل " فريد الأطرش " أخر حجر كريم في عِقد أعماله ، التي ترنّم بها طِوال أربعة عقود دونما كلل و لا ملل منه ، و لا من من محبي أعماله ، و قد تركها الفنان " فريد الأطرش " مُسجَّلة على آلة العود ، قبل أنْ يقوم بتوزيعها موسيقياً بذاته ، لكن العمر لم يسمح له بذلك ، فأتى من بعده ، المُلحـِّن و المُوزِع الموسيقي " علي إسماعيل " ليقوم بتوزيع هذه الأغنية في هذه الصورة ، التي أنتم تستمعون إليها تواً ، بعد أنْ قام بتركيب التسجيل الصوتي للراحل ، و هوّ يتغنى بهذه الرائعة ، على الموسيقا التي وضعها له ، قـُبيل رحيله عن دنيانا .
حيث أدّخل القدر عصاه في دولاب حياة الفنان الكبير " فريد الأطرش " لتتوقف عربة حياته في يوم الخميس ، عصر ثالث أيام عيد الأضحى المبارك ، الموافق : 26 / 12 / 1974 ميلادياً في العاصمة اللبنانية ( بيروت ) عن عُمر ناهز السابعة و الخمسين سنة ( 1917 – 1974 ) كما تؤكد أغلب المصادر المُقرَّبة من الراحل ، و كما صرّح هو بنفسه ، لجهة ميلاده ، لتنتهي بذلك ، مرحلة مُهِّمة في تاريخ الغناء العربي المعاصر و ككل ، من حيث إنتاج الأغاني المدهشة - لحناً و أداءً و توزيعاً موسيقياً - و كفى ، فأعماله على الرغم من وفاته ، ما زالت تحيا لدى جمهوره ، و آية ذلك ، أننا نستمع إليه الآن ، و هوّ يترنم بهذه الأغنية الفاتنة ؛ فمن كان يعاتب في هذه الأغنية ؟ أي بقصد ، إلى من كان يوجّه كلماته هنا يا ترى ؟ غير الحبِّ ، الذي أنشد فيه دُرّراً و بدائع ستخلـَّد إلى أبد الدهر ، هذا الشعور السامي ( الحبّ ) الذي أعطاه من صميم ألحانه و من صوته ، الذي كان يحترق ألماً و إحساساً في أعماله كلها ، فلم يكافئه إلا بخيبات الظنّ ، على الصعيد العاطفي الشخصي ، لكنه قابله بمحبة الجماهير العربية كلها ، فقد تحصّل الراحل على أكثر من جنسية عربية ، و على حق ِّ المواطنة من أكثر من دولة عربية ، تشريفاً له و تقديراً لجهوده العظيمة للرقي بالغناء العربي - الذي ارتقى في عهده إلى مراق ٍ، يصعب الوصول إليها - و ثمناً للمكابدات الصحية ، التي دفعها كضريبة للنجاح الذي أسعد به الناس ، فقد أصيب بأكثر من ذبحة صدرية في بدايته ، كانت كفيلة بأنْ تخرسه و تقعده قصياً عن فنـِّه ، إلا أنه أبى أنْ يحرم جمهوره من إبداعه - لإحساسِه - بأنه ما خـُلِق إلا لإسعاد الناس بصوته و ألحانه ، فطوال عمره الفني الذي بلغ أربعون عاماً مستمرة ، من دون انقطاع ، و لا تكرار في الجمل الموسيقية التي كان يبتدعها ، ما غاب جديده على المتلقي ، فقد كان الراحل أغزر الفنانين إنتاجاً و إخلاصاً لفنه و أبدعهم لجهة التحديث ، فمن الميزات التي كانت تتصف بها ألحانه ، أنها كانت مُدّهِشة للسمع ، من حيث سرعة تلحينه ، فحتى القصائد و ( الأوبريتات ) الطويلة ، التي لطالما ضمّنها في ( أفلامه السينمائية ) كانت لا تستلزم منه وقتاً طويلاً ، على الرغم من الحشد الكبير من الآلات الموسيقية ، التي كان يستعين بها في أعماله ، كما عُهـِـد عليه حُسن اختياره للكلمة ، و طريقته الفريدة في إعداد اللحن التلقائي الفطري ، الذي يحسسك أوان الاستماع لأية أغنية له ، أنك لو كنت ملحناً مثله ، لسوف تضع لها اللحن عينه ، الذي أُخِذت بروعته ، كما أنه معروف بذكائه في اختار لحظة المفاجأة و على حين غفلة من المتلقي ، نلحظ سمعاً أنه على الدوام ، يبدأ بجملة موسيقية و سرعان ما يقوم بتغيّيرها بعد المطلع و حال دخوله إلى أول ( كوبليه ) من أية أغنية ، فلا يستهلك المذهب و لا المقام ، بالذات في قصيرات الأغاني ، التي عادةً ما لحّنها مجايلوه في شكل ( الطقطوقة ) المعروفة بتكرار جملتها الموسيقية بعد كل مذهب ، ذلك لما يكتنزه من رقة مشاعر في قريحته و صدره المُثخـَّـن بالجراح ، التي لا قِبل لأيِّ إنسان بها ، فهو لم يستسلم لهذه الآلام ، التي أصيب بها عقب الرحيل المبكر لأخته ، أميرة الغناء العربي ، المطربة " أسمهان " إذ أنه وظّف هذه الأحزان جيداً ، و حوّلها إلى نجاحات ، جعلت منه مطرباً ناجحاً على المستوين العربي و العالمي ، فهو الفنان الوحيد من ذلك الجيل الرائع الذي وصل إلى العالمية ، بفنه المعبّر عن ثقافته - لا كما يفعل مغنو اليوم ، الذين يدّعون وصولهم إلى العالمية من خلال ترويجهم للسلع الاستهلاكية على وقع أعمالهم السيئة الذكر و الاستماع ، فشتّان ، بين من وصل إليها باجتهاده و من دون أنْ يطلبها ، و بين من تحوّل إلى مروِّج للـ ( بيبسي كولا ) - و اخترق حدوده الجغرافية بجميل أغنياته ، التي نهلت من معين وجدانياته ، التي كانت زاده الذي يحترق و يخترق به في هذه الرحلة الطويلة إلى مناطق بعيدة من الطرب ، فكانت مثلما الوقود الذي لا ينضب إلا بتعطل الآلة ، و آلته لم تكـُـن سوى آلة العود ، التي عرف كيف يستخلص من بواطنها ما يترجم أحاسيسه و مشاعره ، التي كان يلحنها من خلال معاني الكلمات لا نطقها ، فقد أسّس الراحل هذه المدرسة المنهجية التي ، أُعرِّفها بمدرسة ( تلحين المعنى ) بل و تصويره أيضاً ، لكنّ هذه المدرسة ، التي وضع حجر أساسها ، لم تستمر بعد رحيله ، ربما لأنها لا تفتح أبوابها إلا لمن تتوافر عنده مثل هذه الخصائص ، التي كان يتميّز بها هذا الموسيقار الكبير ، و ذكرت النزر اليسير منها .
هذه الأغنية كانت ، و كما أسلفت ، أخر أغنية للراحل " فريد الأطرش ، لتسجَّـل في ذيل قائمة أعماله التي بوابها بأغنيته ذائعة الصيت ( يا ريتني طير لطير حواليك ) التي كانت أولى أغانية في مشواره الفنّي ، و كانت أول و أخر أغنية ، يغنيها من ألحان غيره ، فقد كتبها و نغّمها ، الفنان الفلسطيني " يحيى اللبابيدي " في سنة 1934 ميلادياً :
ياريتني طير لطير حواليك
مطرح ما تروح عيوني عليك
ما بخلي غيري يقرب ليك
لكن ياريت عمرها ما كانت اتعمر بيت
***
ياريت كل الدنيا ملكي
أنا و حبيبي بالشركي
ما كنت ابفوته و لا تبكي
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني يا قلبي زهرة
لزين صدرك شي مرة
و ابفتح قلبي يا حسرة
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني شعرة بجفونك
لرد الشمس على اعيونك
و اتعلم سحرك و افنونك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني منديل بعبك
دايماً بسمع دقة قلبك
لو كنت بتعرف شو ابحبك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
***
ياريتني عبد من عبيدك
و ليل و نهار ما بين أيدك
يا روحي شو كنت ابفيدك
لكن يا ريت يا ريت
و كلمة ياريت عمرها ما اتعمر بيت
فالفرق بين البداية و النهاية لهذا الفنان ، اللتين تكمنان في هاتين الأغنيتين ، لا يقاس بفارق الزمن فحسب ، و إنما بالنقلات النوعية ، التي حقــّقها في هذه الفترة الفاصلة بينهما ، و المقدَّرة بأربعين عاماً على حدِّ التقريب ، حيث ولج إلى عالم الغناء من خلال هذه الطقطوقة ، التي تفرّد الملحن المذكور بتقديمها له و لنا كمستمعين ، ثم توالت الإبداعات يوماً بعد يوم و لحناً بعد لحن و أغنية بعد أغنية ، ليصعد ذلك الشاب الصغبر القادم من جبال الدروز بسوريا إلى المراتب الأولى في السلم الغنائي و ليزاحم باقتدار من تربعوا عليه قبله ، من حيث العمر لا الموهبة ، فإذا شطّرنا عمره الفني إلى مرحلتين اثنتين ، سنجد أنّ كلتيهما قد شهدت تطوراً كبيراً في أعماله ، و هذا ما يتضح لكم من خلال ما سوف يأتي :
المرحلة الأولى ( 1934 – 1954 ) :
ركـّز الراحل في هذه الفترة ، الممتدة لعشرين سنة ، على تقديم القصائد ، فكانت أولاها قصيدة ( ختم الصبر ) من كلمات الشاعر " حسين شفيق المصري" ثم ( اسألي الفجر و الغروب ) نظم الشاعر " صالح جودت " ثم تحوّل سريعاً إلى تلحين و أداء الأغنية الطربية ، بعكس ما كان يودُّ بعضهم ، حيث إنه ، لم يستمر في إنشاد القصائد ، على الرغم من مراهنة الكثيرين عليه ، فبرأيهم لو أنه تفرّغ لهذا اللون الجميل لكانت له إضافات ذات شأن رفيع في هذا الشأن ، عموماً فقد أنتج أغنية ( يوم اللقاء ) في أواخر الثلاثينيات التي بدا فيها للأسماع تأثره بالإيقاعات الإسبانية ، التي تزيّـنت بها هذه الأغنية ، التي لم تطغَ و لم تغطِ على روح الموسيقا الشرقية ، و استمرت أعماله على هذا المنوال ، حتى قدّم أغنية ( امتى تعود يا حبيب الروح ) في الأربعينيات من القرن المنصرم ، و في هذا العقد تصدّرت أعماله ، أغنية هي من أروع ما قدّمه في مشواره الفني برمته و الأقرب إلى المتلقي ، ألا و هي أغنية ( الربيع ) أو كما أحبُّ أن أسميها بنفسي ( الفصول الأربعة ) ما ينبئ بأنّ وتيرة نجاحه سريعة جداً ، و أنتج أيضاً أغنية ( جميل جمال ) في عام 1952 ميلادياً ، التي أخبرني الفنان الليبي " أحمد فكرون " بأنها أقرب أعمال " فريد الأطرش " إليه ، و ألحقها بأغنية ( أنا و اللي بحبه ) تلك الأغنية ، التي قال في حقـِّها الموسيقار " محمد عبد الوهاب " : " إني على أتم الاستعداد ، لأنْ أشتري هذه المقدمة الموسيقية و اللحنية لهذه الأغنية من فريد الأطرش ، لقاء أعمالي كلها " كما أنتج أغنية ( أنت اللي كنت بدور عليه ) من كلمات الشاعر " مأمون الشناوي " في سنة 1953 ميلادياً ، و من الجدير بالذكر أنّ الافتتاحية الموسيقية لهذه الأغنية بآلة ( الأكورديون ) قد وظِفت في الأغنية الشعبية الليبية ، ما يدل على أنّ موسيقاه ، كانت و ما أنفكت معيناً ، ينهل منه العرب كلهم حتى في أغنياتهم الشعبية ، و هذا أول الطريق إلى العالمية التي سبق أنْ نوهت في مستهل مقالتي هاته ، إلى أنه وصل إليها من دون أنْ يجعلها نـُصب عينيه .
المرحلة الثانية ( 1955 – 1974 ) :
انصبّ اهتمام الفنان الراحل في هذه الفترة ، على تقديم الحفلات الغنائية و من على المسارح المرموقة أدّى الأغنية الشعبية ، بمعنى أنه أعطى من وقته جهداً مضنياً ليقدّم لنا قصارالأغاني ، التي تحوّلت فيما بعد إلى أغاني شعبية ، إذ أنها أوان ظهورها كانت أغاني حديثة ، و لم يقـُم رحمه الله باقتباسها من الأغنية المعهودة الشعبية آنذاك ، منها العاطفية و الدينية و الاجتماعية ، كما في أعماله ( الليلة النور هل علينا ) و ( أحلى الأماني فيك يا زمان ) و ( هلت ليالي حلوة هنية ) و ( اتقل اتقل ) و الأكثر حداثة منها مثل : أغنية ( ما نحرمش طول العمر من عطفك عليا ) و ( غنّي يا قلبي ) ثم مع بداية عقد الستينيات ، قدَّم في حفلاته و وصلاته الغنائية الطويلة ، مجموعة أعماله التي عُرفت من خلال الأشرطة السينمائية الكثيرة له ، مثل أغنية ( حكاية غرامي ) و ( بقى عايز تنساني ) و ( قالت لي بكره ) و القائمة تطول لو أني شرعت الباب لذكر أغنياته في هذه الفترة و الفترة السابقة ، فربما سأسهو على الجزء الأكبر من أعماله ، غير أنّ هذه الفترة و ما حملته من أغنيات ، امتازت بالتحديث و التجديد كما سابقتها تماماً .
تلخيصاً لما لخصته في هذه المقالة ، التي تسبق ذكرى رحيل الموسيقار " فريد الأطرش " بأيام قليلات ، لا يسعني أنْ أقول ، سوى أنه نجح كملحّن و مغنًّ ، و ما حفظته له التسجيلات من أعمال لخير برهان على صحّة ما أقول ، سواءً التي داخل حجرات التسجيل ( الأستوديوهات ) أو التي سمعناها منه على المسارح في الحفلات الغنائية و أشرطة الخيالة ، كما لا تفوتنا الأعمال التي لحنها لغيره من مطربين و مطربات ، تأتي في مقدمتهم الراحلة " أسمهان " و " نور الهدى " و " صباح " و " شادية " و " وديع الصافي " و " فائزة أحمد " و " محرم فؤاد " و " فهد بلان " و " سعاد محمد " و " فدوى عبيد " و " شهرزاد " و القائمة تطول ، لكنّ المناسبة ، تـُحتـّم عليّ ذكر اسم الفنانة " وردة الجزائرية " التي غنّت له بعد رحيله ، أغنية ( كلمة عتاب ) لكنها بتصوري ، لم تجـِد أداءها كما ينبغي ، فكل أغنية لهذا الفنان تستلزم لوحدها ، مقالة تحليلية ، إذا عملت بالمبدأ القائل : " لكل مقام مقال " فـجرياً على ذلك ، أجد أنّ ( لكل مقام موسيقي مقالاً ) في أغاني الفنان العملاق " فريد الأطرش " .
ختاماً :
أترككم الآن في الاستماع إلى إحدى أغنياته ، و هي من قصارها ، التي وصلت إلى العالمية ، لنحدث شيئاً من التنويع في الاختيارات المسموعة ضمن هذه المقالة ، بعد أنْ بدأتها بأخر أغنياته ، و تطرقت إلى أولاها ، فقد اخترت له في الختام ، أغنية جاءت في منتصف عمره الفني ، و بالتحديد في عام 1956 ميلادياً ، و هي أغنية ( مخاصمك يا قلبي ) من كلمات الشاعر " عبد العزيز سلام " - من فيلم ( ودّعت حبك ) الذي لعبت فيه دور البطولة إلى جانبه ، المطربة " شادية " - هذه الأغنية ، التي فيها من الشجن و الحزن ما يكفي لأنْ يجعلا الواحد منا يطرب فرحاً ، و هذا سرّ نجاح هذا الفنان الكبير ، الذي حوّل أحزانه و أشجانه إلى فرح نسعد به ، و هذه كلماتها :
مخاصمك يا قلبي و مش راضي عنك
ياريت كان بأيدي و لا اتبرى منك
***
تحب المحاسن و تهوى الجمال
و تعشق يا قلبي و تبني الآمال
و عشقك مذلة و حبك خيال
سقيتني مرارك كويتني بنارك
و لا حد غيري ايشيل همّي عنك
***
لسحر العيون تسلم سلاحك
و فوق الشجون بتحضن جراحك
و ع الجرح دايماً بتطوي جناحك
دنا ببكي عشانك و اهوّن هوانك
و اواسي و أقاسي عذابك و حزنك
***
يا قلبي كفاية و توب عن هواك
ما دام الحبايب بترضى ببكاك
ما فيش حد منهم بيرحم أساك
و لا حد واعدك و لا شفت سعدك
و لا حد ايواسي عذابك و حزنك ..
ــــــــــــ

فريد الأطرش وإسهاماته في فنّ القصيدة الغنائية

هناك ثـُلة من المغنين ، تظن بأنّ أية أغنية طـُرِزت كلماتها على نسيج قـُـماشة اللغة العربية الفصحى ، تصيرُ قصيدة ًغنائية ً، هكذا بكل سهولة ، و من دون أنْ يتعايش المُغني مع مفرداتها ، و يتفهّم معانيها و مراميها ، فمن ضمن من تحوّل إلى محاولة أداء هذا النمط الغنائي الراقي ، بعضٌ من مغنيي اليوم ، نتيجة لاتساع الساحة أمامه - بعد جفاء المطربين لهذا الأداء ، لعلمهم بصعوبته ، و بالمهارة التي يتطلبها بعد زوال جماليات الصوت لديهم ، لا سيما و أنّ أغلبهم صار في أرذل العمر – و لحدسه بأنّ ما قدّمه هو و غيره من ألوان غنائية ، سوف لن يجعل له وزناً في تاريخ الغناء العربي المعاصر ، ما لم يدلُ بدلوه في هذا الشأن ، فانصب اهتمامه على دواوين الشعراء ، الذين تغنى بروائعهم المطربون الأوائل مثل " نزار قباني " و غيره من شعراء ، فأخذ بذلك من فنّ ( القصيدة الغنائية ) اسمها من غير صفتها ، من دون أن يدرك ، أنها ستصبح قصيدة فقط ، طالما أنه لم يعد لها اللحن اللازم ، متكئاً على شهرة الشاعر ، و عندما قام بتنغيم هذه القصائد ، قدّم للمستمع أعمال عبارة عن أغاني خفيفة و راقصة ، هي أقرب في موسيقاها إلى ( الطقطوقة ) ذات الجملة الموسيقية الواحدة ، المتكررة بعد كل ( كوبليه ) فلا تتصف البتّة بمفهوم القصيدة الغنائية المُتعارف عليها في العقود الماضية ، فقد كان الجيل الرائد ، ممّن أسهموا في تطوير الأغنية العربية عبر عقود طوال ، و بعد أنْ أثبت جدارته في غير لون من ألوان الغناء العربي ، قد أسهم أيما إسهام ، في وضع ركائز القصيدة المغناة ، بعد اندثار الإنشاد بالعربية الفصحى ، و تلحين اللهجات المتعددة بتعدد الجهات و الأمصار ، التي آل إليها الكيان العربي ، بعد سقوط دار الخلافة الإسلامية ، منذ ما يقارب الثمانية قرون ، اللهم إلا ، إعادة تقديم بعض الموشحات التراثية ضمن الفرق العربية المعروفة في كل قطر عربي ، حيث صار لهذا اللون ( القصيدة المغناة ) متخصصون ينشدونه في شكل جماعي ، يتعفف المطربون الكبار من تقديمه ، أو دعوني أقول يتهربون من ذلك ، ذلك أنه بحسب رؤاهم ، سوف لن يضفي لمكانتهم شيئاً ، إذ أنهم بذلك ، سيكونون كما أية موهبة غنائية ، تتربى على أصول الغناء العربي الصحيح ، و هي تشقُّ طريقها إلى عالم الغناء ، و مع ذلك ، تيقنوا بأنهم مطالبون بتقديم شيءٍ من هذا اللون الغنائي ، الذي فقدته الأذن العربية في العصر الحديث ، و ما ساعدهم على القيام بذلك ، أنّ أغلبهم قد تمكّن من ناصية اللغة عن طريق المدارس القرآنية ( الكتاتيب ) و استقى منها بحور الشعر و حفظ كماً كبيراً من قصائد الشعر المعروفة في العصرين الجاهلي و الإسلامي .

كان ذلك فيما يخصُّ اللغة ، و إجادة أحكامها لجهة الإعراب و النطق ، و فنون التجويد من إدغام و غـُنـّة و قلقلة و ما إليها من أحكام أخريات ؛ صحيح أنّ بعضاً ممّن اتجهوا إلى تقديم القصيدة المغناة ، هم على درجة عالية من الفصاحة اللغوية ، و لديهم إلمام كبير بأصول اللغة العربية ، لكن المشكلة و ما يعوزهم لا يكمنان هنا ، حيث إنّ تلحين القصائد يستلزم برأيي ، أنْ يكون الملحن ذا إحساس كبير بالمعنى و على معرفة كبيرة بمقامات الموسيقا العربية ، حتى يستطيع أنْ يوصل فكرة العمل إلى المتلقي بأذنيه و عينيه و عقله على حدًٍّ سواء ، فلا يركز على جارحة واحدة من جوارحه ، بل يتعين عليه أنْ يعمل بتزامن على إشباع هذه الحواس جميعها من الوجبة الطربية التي يقدّمها له ، و هذا لا يتأتى له ، إلا بالجمل الموسيقية المتسقة مع المعنى اللغوي لكل بيت من أبيات القصيدة ، فكم من قصيدة لم يقرأها المستمع و تعرف إليها من خلال اللحن المغنى فأحبها و راقت له ، لأنّ اللحن هو من يقدّم القصيدة على نحو صحيح ، و بأبعادها كلها ، خصوصاً تلك القصائد ذات الزمن الغنائي القصير ، الذي في الغالب يقارب العشر دقائق ، ففي مثل هذه القصائد يجنح الملحن إلى تنضيدها بحشد كبير من الجمل الموسيقية المتنوعة ، التي يساعده في إظهارها للأسماع معرفته بالمقامات الموسيقية المتباينة ، و ما يلحُّه عليه المعنى العام للمفردات ، سواء أكان طابعه الحزن أو الفرح .
و ما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبير " فريد الأطرش " من فنون غنائية ، و ما أثر به مكتبتنا و موروثنا العربي الغنائي من روائع و بدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار " رياض السنباطي " و موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " و لكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة و الضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار " رياض السنباطي " أشاد بتلك القصيدة و نعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال .
و بعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن و الغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر " بشارة الخوري " و قصيدة ( لا و عينيك ِ ) التي نظمها له الشاعر و الزجّال الكبير " كامل الشناوي " و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجارياً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفياً و شكلياً ، فمن الجميل في الفكرة و من جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها .
و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا و عينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعاً من الوقت و هو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها و هو على مشارف الانتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين و ذات اليسار ، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لا يكون راغباً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش و مهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيماً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحراً شرقياً باهراً ، يأخذ بتلابيب العقل و الأذن و العين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر :
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح
أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير و مكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها :
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ
فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح - لا ( الرياح ) - التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث .
أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص .
كل هذه المعاني تستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق و الثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها :
قصيدة : لا و عينيكِ
نظم الشاعر : كامل الشناوي
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجموح
و اهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ
و الفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعته مهب الريح ِ
لا و عينيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي و حاذري أنْ تُريحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فريد الأطرش : المطرب و الموسيقار

بريشة النعام ، التي ما فارقت لحظة ًأنامله الرقيقة ، و عزف بها على أوتار عوده ، رسم لنا لوحاتٍ مسموعةٍ ، تجذّرت بصماتها على جدارية طبول آذاننا ، فرقصت من فرط حلاوتها بناتُ أحلامنا ، و صعدت على سلالمها الموسيقية إلى قمة الطرب الأصيل ، حتى هامت في دنيا الخيال ، فسمت في العلياء ، كما هو سام ٍ في الغناء بسمو الأمراء ، و ما هوت ، و لا تود أنْ تبرحها و لا تطرحها من ذاكرة أفراحنا ، و بها لامس جِراح أفئدتنا ، بعد أنْ نقــّعها في حبر أعيننا الشفـّاف ، كما كان يغمس العاشق - في سالف العصر و الأوان - ريشته في محبرةٍ استجلبها من بلاد الصين ، لا يضيع مِدادها ، على رقعة من أفضل الجلود ، التي دبغها و جفــّفها بملح الخلود ، ليُسطـّر عليها رسائله ، فتغدو - فيما بعد - أسفاراً للعشـّاق بلحن و طعم الحياة ، هكذا هي بسمعي قبل نظري ، أعماله الغنائية و اللحنية و الموسيقية ، فلا تلوموني إنْ عدت و أبديت عناية ًكبيرةً بفقيد الغناء العربي " فريد الأطرش " في هذه المقالة و غيرها من مقالات أخريات ستليها ، و لكم الحقُّ إنْ مللتموني ، فذاك شعور ٌ إنساني طبيعي ، لا أؤاخذكم عليه البتـّة.
فالإرث الفنّي ، الذي تركه لنا هذا الفنان العملاق ، و صرنا كلنا ورثته الشرعيين ، هو حقلٌ خصب ٌ للتناول ، لما فيه من تنوع و غزارةٍ و عذوبةٍ ، فهو كما الأزهار التي يتعذر قِطاف روائحها في قنينةٍ واحدةٍ ، لذا يصعب الإلمام بأعماله كلها في مقالةٍ واحدةٍ ، قد تـُضيَّع عبقها ، فأعماله الغنائية و اللحنية و الموسيقية ، كما البساتين المُزدانـَة بمختلف ورود الدنيا و بتعدُّد ألوانها و عطورها العبقة ، هكذا أراها و أشتمها بأذنيّ ، فقد شربت من تربةٍ خصبةٍ ، و نمت و تكاثرت بتكاثر محبيه من معاصريه و الجيل الجديد ، الذي يشرأب الطرب و يتلمس و ينشد الجمال في غير أوانه الصحيح .
فريد الأطرش المُطـّرِّب :
أرى قـُبالة عينيّ الآن ، بستاناً من بساتينه الخضراء ، مكتوبٌ عليه بأطواق الياسمين ( الأغنية الاجتماعية ) فيه على كل شجرة من شجيراته المزهرة ، عدة أغان ٍ، اخترت لكم منها هذه الأغنية الفاتنة بكلماتها و لحنها و أدائها ، و لعلّ ما يعجبني في هذه الرائعة ، و ربما لا تتصورونه ، هو حُسن اختياره للـ ( كورال ) النسائي من دون الرجال ، ليشعرك و هنّ يردّدن - بطربٍ و فرح ٍ- وراءه مطلع الأغنية في كل مرة ، بأنهن كالحوريات اللواتي يغوينك و ينادينك ، لأجل أنْ تدخل إلى هذا البستان الجميل ، فإذا كانت الدنيا بهذا الطعم ، فما بالكم يا أخواني بالجنة ، التي عرضها السموات و الأرض ؟ التي في مفردات هذه الأغنية ، دعوة للظفر بها ، من خلال ما تخللها من دعوة للاستبشار و التفاؤل و ما إليهما من معان ٍسامياتٍ ، فهذه الأغنية دالة على ذلك ، كما يدّهشني فيها ، أنه على الرغم ، من أنّ هذا الفنان مُشبَعٌ بالهموم ، إلا أنه أدّى لنا هذه الأغنية ، و هوّ في أعلى مراتب الفرح ، كي يطبّـب بها أحزاننا و يجبّر انكساراتنا :
أغنية : الحياة حلوة
ــــــــــــــ
كلمات الشاعر و الزجّال و الأديب : محمود بيرم التونسي
لحن و أداء أمير الطرب العربي : فريد الأطرش
ــــــــــــــــــ
الحياة حلوة بس نفهمها
الحياة غنوة ما أحلى أنغامها
ارقصوا و غنوا و انسوا اهمومها
...
الحياة وردة للي يرعاها
الحياة مرة وحدة نحياها
فوزوا بمتاعها و انسوا أوجاعها
ليه نضيعها .. دي الحياة حلوة
...
الحياة تضحك للي يتبسم
و اللي مكشر ده اللي يتألم
دي الحياة جنة عشها و اتهنى
و أوعى تستنى .. دي الحياة حلوة
...
الطيور غنّت غنّي وياها
ع الغصون حلّت للأليف جاها
هنّي أحبابك ود أصحابك
و ارضى بما نابك .. دي الحياة حلوة ..
كأنني في هذه اللحظات ، بصوتِه يتناهى إلى سمعي ، و هوّ يترنّم في دنيا السحر و الجمال على آلة ( البيانو ) بلوني مفاتيحها الأبيض و الأسود ، لونا المحبة في عُرفه - فإما أو- هكذا يخاطب بكلماته محبوبته ، في معان ٍلطيفة و عفوية ، بتلقائية هذا اللحن الباسق في هذا البستان المُدّون على ثغور وريقاته ، حروف نوتاته الموسيقية العالمية بلهجته العامية ، التي فاح أريجها مع نـُسيمات البحر و وصل إلي حيث منتهاه ، بهذه الترنيمة الأخـّاذة من فيلم ( رسالة من امرأة مجهولة ) :
أغنية : قلبي و مفتاحه
ــــــــــــ
كلمات الشاعر : فتحي قورة
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
ــــــــــــــ
قلبي و مفتاحه دول ملك أيديك
و مساه و صباحه بيسألني عليك
...
كان حبك شمعة في يوم عيدي
و طفاه الدمع و تنهيدي
من يوم ما أيديك لمست أيدي
و كأنك قلت يا نار أيدي
و ما دام مشغول يا حبيبي
مش كنت اتقول يا حبيبي ؟
دا القلب جراحه من رمش عينيك
و مساه و صباحه بيسألني عليك
...
يا حبيبي ياريت ابقى حبيبك
و أكون من بختك و نصيبك
دنا مهما بتقسى برضو راضيبك
و اتسيبني الروح قبل ما اسيبك
قلبي عمل أيه يا حبيبي
ليه تقسى عليه يا حبيبي ؟
وحشته أفراحه من شوقه إليك
و مساه و صباحه بيسألني عليك ..
فريد الأطرش الموسيقار :
فريد الموسيقي ، و ما أدراكم من هو ؟ ها هي موسيقاه تردّ بينا إلى عالم ألف ليلة و ليلة ، و تبعثه من جديد إزاءنا ، و بالتحديد إلى صفحةِ حكاية ( سندباد البحري ) و ( علي بابا ) و ( علاء الدين ) و هيّ تتهادى من خميلة جميلة ، غنّاء بالغِناء في فناء من قصور ( بغداد ) و ( دمشق ) و ( بلاد الأندلس) في مقطوعته الموسيقية ( سوق العبيد ) حينما كان العرب و المسلمون سادةَ المعمورة ، و أيام كان للوالي العبيدُ و الجواري ، جاعلاً نغماتها الصادرة من آلاته الموسيقية ، تترجم هذه المعاني :
أهاتِ و أنّاتِ الكادحين
أصواتِ صياطِ المُعذبين
نغماتٍ من زمن ٍسحيق ٍ
يجودُ بالعبق و الرحيق
صيحاتٍ لجلودٍ لفحتها الشـّمس
تخدّشت على جدار زمن الأمس
رسائل ممّن يتوقون إلى الحرية
هدهداتٍ لطيور ٍتحوم في البريّة
و تغرد بأنغام الانعتاق في الفجرية
هتافاتٍ من زمن أضعناه و ما أضاعنا
ساكنٌ ذاكرة أمجادنا ..
فهذا الفنّان لم يعبّر عنّا و كفى ، بل استطاع أنْ يجعل موسيقاه كما آلة الزمن ، التي عادت بنا إلى تلكم الأزمنة الغابرة ، فعبّر من خلالها ، عن اختلاجات و كلمات و حركات و أفراح و أحزان حتى أولئك المساكين المضطهدين زمن اضطهاد العبيد .

فريد الأطرش في قـِصار الأغاني
اتسمت الأغنيات القصيرات الزمن ، للفنان الكبير " فريد الأطرش " بالكثافة الشجنية العالية و الزخم العاطفي الكبير ، و بالمتعة الطربية التي تؤطرها ، هذا من حيث المسمع الخارجي لها ، أما إذا دخلت إلى عوالمها الموسيقية الفسيحة ، فسوف يتراءى و يتسامع لك ، أنها من العمق في اللحن و الغزارة الموسيقية بمكان ، و ما تقديمه لها في الحفلات الغنائية المباشرة ، إلا برهانٌ مسموعٌ ساطعٌ على ذلك ، فهو من التجديد ، إلى درجة أنه لا يُقدِّم لمستمعه قِصار الأغاني المُسجَّـلة سلفاً ، داخل حجرات التسجيل المسموع ( الأستوديوهات ) كما هي تماماً على المسرح ، بل إنه يلجأ على الدوام ، إلى تحويلها إلى طِوال الأغاني ، من دون أنْ يُحسّس المتلقي ، بأنه كان قد أدّاها سابقاً على نحو زمني قصير ، ذلك أنه ، من النوع الذي يختزل الجملة الموسيقية و المذهب و المطلع ، مع علمه بأنها على مستوى عال ٍ وبديع ، و تستلزم روعتها الإعادة غيرة مرة في العمل الواحد ، حتى لتكاد و أنت تنصت إلى أغنياته ، تحتجّ على ذلك و تهمس إليه : " ليتك يا فريد أعدت المقدمة مثلاً "من أية أغنية له ، لكنه سُرعان ما يُنسيّـك احتجاجك و عتبك ، و عن طيب خاطر ، و يتنقل بك في عوالمه ، الضيقة الشكل الخارجي ، فتسلم له أيديك الثلاث ، أقصد بالطبع ، أذنيك و خيالك ، ليرحل بك إلى عوالم من الفنِّ ، أنت تجهلها ، و ما كنت لتعرفها إلا في حضرته و بصحبته ، فتتنازل عن عتبك عليه ، من دون أنْ يستسمحك عذراً ، اللهم إلا ، بأدائه المُقنِّع .
و منبت اختزاله لهذه الحليات الفنية ، أرجعه إلى الكم الوافر و الزاخر من الموسيقا الذي يحتويه و تضيق به مشاعره المُرهَفة ، فلا يودُّ أنْ يستثمر و يستهلك - كما غيره من مجايليه - الجملة و الفكرة الواحدة في غير موضع من الأغنية ، بل يُسرِّبها لتفسح للجمل الموسيقية المحتشدة الأخريات مجالاً ، لتسفر عن نفسها بنفسها ، فيرتاح بذلك من ثقلها ، و هذه هي تعلتي للاستفهام الذي طرحه موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " حول أغنيته ( أنا و اللي بحبه ) حينما تمنى على الموسيقار " فريد الأطرش " - أعتقد بعد رحيل الثاني - أنه لو قدّم ( الكوبليه ) الثاني أو النقلة السريعة المدهشة و النوعية ، من هذه الأغنية التي يقول فيها : ( أنت روحي و أنت فرحي .. أنت نوحي و أنت جرحي ) باللحن عينه الذي اختاره لمطلعها ( التانجو ) الراقص ، غير اللحن الشرقي الذي خصّصه لها ، لا سيما و أنه ، لم ينتهِ بعد من مطلعها ، عند إنشاده لهذا البيت ، لكأنه لم يكـُن يعلم بأنّ هذه الفكرة ، قد وردت على الموسيقار " فريد الأطرش " نفسه ، لكنه طرحها من مخيلته و عدل عنها بمحض إرادة الجُمل الموسيقية الدافعة لما قبلها ، التي تـُظهر نفسها رغماً عن أنامله ، ليأتي فيما بعد المُلحِّن الراحل " بليغ حمدي " ليُشيدَ بهذه الأغنية البديعة من البداية حتى النهاية - لحناً و أداءً و توزيعاً - فهو فيما اعتمده من ألحان ، كما الكاتب ، الذي نراه أحياناً ، غزيراً في إنتاجه ، على الرغم من أنّ جودة المادة التي يُقدِّمها لقارئه ، تتذبذب و تتباين أحياناً ، كل ذلك ، ليفتح أمام الأفكار الأهم و الأحدث ، فـُرجةً و فرصة لتخرج بانسيابية من عقالها الذي يكرّسها إلى الوراء ، لكني مع ذلك ، أرى أنه ، تتوجب في الأفكار التي يزيحها من أمام أفكاره الأكثر أهمية ، أنْ تكون في سويّة متوسطة على أقل تقدير ، لكنْ في الجانب الغنائي و مع " فريد الأطرش " بالتحديد ، نجد أنّ كل ما ألـّـفه من ألحان قصيرة مُزاحة من سبيل أغنياته الأهم ، كما ( الربيع ) و ( أول همسة ) و ( حكاية غرامي ) و ( سألني الليل ) كان من الأهمية إلى حدّ أنّ أعماله القصيرات ، صارت تنافس أعماله الطويلات ، التي يراها البعض منّا ، هي الأفضل ، فأغنياته القصيرة ، مثل ( دقوا المزاهر ) و ( ما قالي و قلتله ) و ( تقول لا ) و ( زينة ) و ( يا حليوة ) و ( وحداني ) و ( يا مقبل يوم و ليلة ) و ( اشتقتلك ) و ما إليها من أغنيات أخر ، لست في وارد ذكرها الآن ، و يضيق المجال في هذا المقال ، لتعدادها لكم ، ترسَّخت في ذائقة المتلقي ، جيلاً بعد جيل ، على الرغم من أني كنت و ما زلت أراها ، هي من فرضت نفسها على هذا المُطرِّب الراحل ، لكأني بها قد اختارته ، ليكون الطريق التي تصل على أديمها إلى الناس ، لعلِّكم تتساءلون : كيف ذلك ؟ و إجابة ًمني على تساؤلكم ، أعود بكم إلى زمن إنتاج هذه الأعمال القصيرة ، حيث إنها تزامنت في ظهورها مع أغانيه الطويلة ، فأغنيته ( أنا و اللي بحبه ) ، و هذه كلماتها لمن يرغبها :
أغنية : أنا و اللي بحبه
ـــــــــــــــــــ
كلمات الشاعر الكبير : مأمون الشناوي
لحن و أداء الموسيقار الخالد : فريد الأطرش
من فيلم : أخر كذبة – سنة : 1953 ميلادياً
ــــــــــــــــــ
أنا و اللي بحبه و عاهدته افـ بحبي
حبيبين فـ الدنيا عايشين في الجنة سوى
دا غرامي في قلبه و غرامه افـ قلبي
و لا حدش يقدر يفرق بينا
أنت روحي و أنت جرحي
أنت نوحي و أنت فرحي
...
نعيم الدنيا في حبك
و حبك عندي بالدنيا
و كل دقيقة في قربك
تفوت أجمل م الثانية
دا الهنا أنت و المنى أنت
حتى أنا أنت
...
ما هوش ذنبي و لا ذنبك
تزيد في قربنا الأشواق
ما بين قلبي و بين قلبك
غرام ما خطرش للعشاق
دا الهنا أنت و المنى أنت
حتى أنا أنت
...
التي لا يلتفت إليها الكثيرون ، و لم يغنِها في حفلاته ، و كنت قد حدثتكم عنها بعاليه ، و عمّا قاله عنها موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " حيث أردف إلى ما نوه إليه بشأنها ، بهذه العبارة الخالدة " : " لو أخذ فريد من عمري خمسة أعوام نظير هذه الأغنية ، لم أتردد لحظة واحدة " قد جاءت في فيلم ( أخر كذبة ) سنة 1953 ميلادياً ، و بُعيدها بزمن ليس بطويل ، أنتج أغنيته ( طال غيابك ) التي لاقت صدى مدوياً بين محبيه ، سنة ظهورها ( 1956 ميلادياً ) كما أنه ضمّن في ( فيلم : ما ليش غيرك ) سنة 1958 ميلادياً ، أغنية ( يا حليوة ) :
أغنية : يا حليوة
ــــــــــــــــ
كلمات الشاعر : فتحي قورة
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
من فيلم : ما ليش غيرك – سنة : 195 8 ميلادياً
ــــــــــــــــــــــــ
يا حليوة يا حليوة يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
حبك نساني يا حليوة
كل الحلوين يا حليوة
...
لما عيونك شبكتني
و عطفت عليا و جيتني
ما عرفش يا حبيب قلبي
ازاي الدنيا سعتني ؟
و سهرت أفكر فيك
من يوم ما شغلتني بيك
و احلف بغلاوتك يا حليوة
ما لقيت في حلاوتك يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
...
و حياة قلبي الولهان
و عليا ما لك حلفان
لو قالوا دواك نور عيني
اديلك روحي كمان
راح احوشها عنك ليه ؟
من غيرك ح تساوي ايه ؟
و أنا ليا مين يا حليوة
يا سيد الحلوين يا حليوة
في القلب هواك غنيوة
و هي من كلمات الشاعر " فتحي قورة " الذي عُرف بأغانيه القصيرة في أبياتها ، مثل ( قلبي و مفتاحه ) هذه الأغنية ، التي جاءت ضمن كوكبة جميلة من أعماله الطويلة المعروفة في تلك الفترة لتفسح المجال أمام أغنيات له مهمة جداً مثل أغنية ( يا قلبي يا مجروح ) إذ تـُعدُّ مثالاً جيداً أسوقه لكم في هذه العجالة على ما جئت على ذكره سلفاً ، بخصوص أنّ هذا الفنان الكبير ، كان يختزل الأغنيات الطويلة ، فيجعل منها أغاني قصيرة ، و العكس صحيح ، إذ أنّ لهذا الفنان القدرة على تمطيط الأغاني القصيرة و تصيّيرها إلى أغان ٍ طوال ، في حفلاته على ركح المسرح ، كما فعل في أغنية ( اشتقتلك ) و ( يا ويلي ) و ( نورة ) فأغنية ( يا حليوة ) التي نحن بصدد الحديث عنها و الاستماع إليها تواً ، مدّد في زمنها أثناء إحدى حفلاته ، و جعله ضعف زمنها الأصلي المحسوب عند تسجيلها لتعرض في الفيلم المذكور ، نتيجة ً لإعادة المذهب أكثر من مرة واحدة ، و زيادة الأبيات الجديدة ، و ربما الارتجالية ، على الأبيات الأصلية ، و تطعيمها بالمواويل ، و مداعبته للجمهور ، كي لا يشعر بمدى الاختلاف بينهما ، حينما يقارن بين الاثنتين ، مع حرصه على ألا يُصاب الحضور بالملل و الكلل ، عند الاستماع إليه ، و هذه مقدرة لا يستطيع عليها إلا الفنان المتمرس مثله ، و من مثله ؟ .

فريد الأطرش في طوال الأغاني
بادئ ذي بدء ، لنستمع معاً إلى هذه الأغنية ، ثم سيكون لنا عنها و عن فئتها ، حديثٌ في هذه المقالة :
أغنية : قالت لي بكره
ــــــــــ
كلمات الشاعر و الزجّال : حسين السيد
لحن و أداء : فريد الأطرش
ــــــــــــــــ
قالت لي بكره و دحنا بكره
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
ح أقول بكره هو اللي ما جاشي
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
...
و ليه الحيرة بتّسبق في قلبي
و فايتة بتّمسي ؟
حرام يعني الأمل يشفق عليا
مرة من نفسي
و اللا يعني كتير عليا
فرحتي الحلوة اللي جاية ؟
مش جايز تصدق و تجيني
و اتكذب خوفي ماليني ؟
...
طلعت يا فجر بدري
مش كنت تستنى فجري ؟
كان بدي تستنى اشوية
و أعرفك بيها
و اتشوف الفجر على أصله
في اخدودها و عينيها
لو شفتها و اعرفتها
حسنك يتوه فيها
زمنها جاية كمان شوية
لو حتى غابت سنة عليا
دا وعد منها و منها هي
لا غرابة في مضمون هذه الأغنية القصصي ، فقد ألـّفها الشاعر الكبير " حسين السيد " المعروف بنصوصه الغنائية الدرامية ، ومن ضمنها ما تغنى به هذا الفنّان الكبير من أنغام جميلة ، مثل ( ارحمني و طمني ) و ( يا بو ضحكة جنان ) و ( أكلك منين يا بطة ) و الأخيرة من أغاني الأطفال ، و قد شدت بها الفنانة " صباح " و غيرها العديدات ، فهي جميعها تتسم بهذا الطابع الغنائي المتميز و النادر ، و لا غرابة أيضاً ، في أنْ تظهر للأسماع بهذه الروعة ، فوراء ذلك ، تقف قامة موسيقية عظيمة ، و خامة صوتية فريدة ، في عطائها الفنّي . إنّ المتتبع للمنجز الغنائي و الموسيقي للفنّان الراحل " فريد الأطرش " روحاً لا فناً ، يعرف أنّه كان على الدوام ، يتفاعل مع النصوص الغنائية ، التي لا تجنٍّ في كلماتها على الحبيب ، فهو سامٍ في حياته و في فنّه ، و يترفع على مجرد معاتبة الحبيب ، ففي أعماله الغنائية نجده سمعاً ، ينحى إلى جلد الذات و يحيا على الأمل ، و هذا ما تظهره لكم معاني هذه الأغنية ، التي من مطلعها ، يرفع عقيرته عالياً ، في المقطع الذي يقول فيه ( ليه ما استناشي لحد بكره ؟ ) مُمطـّـطاً في كلمة ( ليه ) بنفسه الطويل ، الذي عِهدناه عليه في مثل هذه المواضع من أغنياته الطويلات الزمن ، و مُحتجاً بها على كل من يلومه على انتظاره الذي سيطول ، فقد حسم الأمر من بداية الأغنية بحزم ٍو صبر ، حالما وضع احتمال انتفاء مجيء حبيبته ، حينما ينشد :
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
، و تحسباً لأيةِ نصيحةٍ ، قد تأتيه من أحدهم ، لينهي بها انتظاره ، و قبل ذلك ، ليضع نهاية لظنونه و يسدّ الباب أما مخاوفه ، نظراً لما لاقاه في التجارب التي مرّ بها قبل ذلك ، فهي ليست المرة الأولى ، التي يتعرض فيها لمثل هذا الموقف ، كما تبيّن لمسامعي
عموما فإنّ مقدمة الأغنية الموسيقية ، التي استهلتها الفرقة الموسيقية بآلة القانون ، تبيّن و تعطي من الوهلة الأولى ، إحساساً بأنها أغنية زمنية ، أي بقصد ، أنّ في مضمون كلماتها ، يكمن العامل الزمني ، و هو انتظار الموعد ، فنقرات العازف على آلة القانون ، و أظنه قائد الفرقة الماسية المايسترو " أحمد فؤاد حسن " هي من توحي بهذا الإحساس التمهيدي الذي درج عليه " فريد الأطرش " في ألحانه و موسيقاه و أغنياته ، ثم يندبُ حظـَّـه العاثر ، الذي بدأ يُسرِّب إليه شيئاً فشيئاً ، الشكوك في أمر غياب من ينتظرها ، ثم يعود ليمحو دائرة الظنون ، التي تدور به ، بإعادته لهذا البيت عند نهاية كل مذهب و ( كوبليه ) :
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
ثم يأتي ليلقي باللائمة على الفجر - فجر يوم اللقاء - كأنه رأى أنه قد أتى قبل ساعته ، و منعه من أنْ يبدأ يومه الموعود ، ممتعاً ناظريه برؤية محبوبته ، فهي بـِطلتها في عينيه أجمل من طلعته ، بعدما صوّر لنا إقبال الفجر بتباشيره ، و هو يختال و يمشي الهوينة ، على موسيقا حديثة ، هي شبيهة بالموسيقا الصينية ، الآتية من أقصى الشرق ، جهة مجيء الفجر و شروق الشمس ، ثم يتسول إليه بحزن مُفرِّح ، ليستبقيه في الانتظار هو الآخر ، معانداً حتى الطبيعة ، لما يطلب إلى الفجر ، أنْ يؤخر في قدومه ، حينما يهمس إليه في الكوبليه الثاني ( زمنها جاية كمان شوية ) و يحاول أنْ يصفها له ، لعلـَّه يتراجع عن ذلك ، و ليتهرب من الجرح الذي قد يصيبه ، فهو كالذي لا يريد أنْ يبدأً اليوم أصلاً ، فيعطي لها فرصة انتظار أكثر بتأجيل اليوم المرتقب ، لكأنه أحسّ بأنها ستحنث بوعدها .
إذن فهي دراما غنائية مصورة ، قام الموسيقار الكبير ، بتصويرها لنا من خلال لحنه و موسيقاه و أدائه ، و إظهار المؤثرات الصوتية ، التي يتمتع بها من حشرجات و ارتعاشات ، ليكون بهذه التقنيات الصوتية ، مثل الممثل ، الذي يؤدي دوره بكل تلبس للشحصية ، فقد شاهدناه في هذه الأغنية ، قد شخّص للمستمع بصوته فقط ، دور العاشق الممتلئة وجدانياته بالشاعرية .
لندعه لمشاعره هذه ، التي أعلن من بداية الأغنية ، بأنه عازماً على الاستمرار عليها و لا يريد أنْ يصحو منها ، و أنهى بها ثلث الساعة من الغناء بالإصرار على مقولته في مطلعها ، كأن شيئاً لم يكـُن :
قالت لي بكره و ادحنا بكره
لو صدقت تبقى موش بيعاني
لو خلفت موش ح أقول نسياني
ح أقول بكره هو اللي ما جاشي
و ح استنى ليه ما استناشي لحد بكره ؟
و هذه هي فلسفة العاشق الفنّان ، الذي يخادع نفسه ، و لا يريد أنْ يخسر الرِهان على من أحبّ ، لئلا يكون للكراهية في قلبه موضعٌ ، حال انتفاء إتيانها في الموعد ، فلنتركه لشأنه ، و لا دخل لنا بما ابتغى لنفسه ، و لنمض ِ معاً إلى أغنية أخرى له - مع علمي بأنّ هناك منكم ، من يودُّ أنْ يتمهلني قليلاً ، حتى يتشبع من كم الدهشة ، الذي زخرت به هذه التحفة الفنية - هي من طويلات الأغاني ، سبقت هذه الأغنية الرائعة .
على غرار الأغنية الفائتة ، قدّم لنا الموسيقار الخالد " فريد الأطرش " رائعة من روائعه الطويلة الزمن ، و فيها يستشفُّ المستمع المعاني و المبادئ نفسها ، التي استمر عليها و استمرأها و استغرق في أدائها ، فهو مضى على هذا النهج العاطفي ، الذي بدأ به في مضامين أعماله جميعاً حتى القصيرة ، مثل ( مخاصمك يا قلبي ) و ( علشان ما ليش غيرهما ) و ما نحوهما من تحف فنية خالدة ، إذ أنه أختار ( جلد الذات ) لا وضع اللوم على المحبوب في معظم أعماله العاطفية ، إنْ لم يكـُن في جلها ، فما رأيكم إذن ، في أنْ نخطو الخطوة عينها ، التي بدأنا بها الأغنية الماضية ، لكنها ستكون خطوة أكثر اتساعاً ، بقدر طول الأغنية الآتية و هي أغنية ( الربيع ) التي أنتجها في أربعينيات القرن المنفرط ، لنتدفأ بالشجن الذي يتراقص على أنغامها ، في هذه الليالي الباردات .
في الحقيقة ، إنّ لهذه الأغنية أكثر من تسجيل ٍفي حوزتي ، لكني أحبّبت أنْ أُسمِعكم هذا التسجيل - على الرغم من بعض التشويش الذي يعتريه - لهذا الحفل المهيب الذي أقيم على شرفه ، و قدَّمه الراحل لجمهوره في الستينيات بالقاهرة ، فبمجرد أنْ يمتشق عوده و يبدأ في الدندنة عليه ، نلحظ سمعاً ، كم كان الحضور يتحرق شوقاً لصوت الراحل ، و كم هو متلهف للغناء في حضرة الحضور ، فبعد التقسيم الذي جاء على أوتار عوده و تفاعل المتلقين معه ، على الرغم من أنه ، كان يكرّره في أغلب حفلاته ، تتداخل الآلات الموسيقية و تلتحم فيما بينها و بمختلف أنواعها ، لتنصهر بدفء اللحن ، مُنتِجة ًمقطوعة ًموسيقية ، استمرت زُهاء الثلاث دقائق فقط ، هي بتصوري من أجمل ما يكون في تاريخ الموسيقا العربية الحديثة ، و لو ركّز المستمع جيداً سينصت إلى الراحل و هوّ يحثُّ الفرقة على الإسراع للاندماج في اللحن و على نسق واحد ، حيث إنّ " فريد " تفرَّد من دون مجايليه بخاصية مهمة ، و هي أنه ، لم يكـُن من ذلك النوع ، الذي يُعيد المقطوعة الموسيقية في العمل الواحد لأكثر من مرة - كما كان يفعل الملحنون الآخرون - إلا بطلب و إلحاح من الجمهور ، كما إنه ، لا يعتمد كثيراً ، على إظهار موسيقا ألحانه بتوزيعات مبهرة ، بل إنه يكتفي بإسماع المتلقي جُمله الموسيقية على نحو ٍ مقبول ٍ و معقول ٍ، مكتفياً بجوهرها و ما تكتنفه من جماليات ، لا بشكلها الظاهري ، و ذلك يبدو جلياً حتى من تشكّل الأطقم الموسيقية الواقفة وراءه في حفلاته المصورة تلفزيونياً الباقية حتى الآن ، التي قلما تـُذاع في الفضائيات المعنية ، على النقيض من حفلات سواه من المطربين من ذلك الزمن الجميل ، لنقرأ في الحال ، كلماتها المزدهرة بأجواء الفصول الأربعة - بألوان الربيع و رياح الخريف و ليالي الشتاء الطويلة و حرارة الصيف - التي صاغها بحبر الذهب الخالد ، الصائغ المشهور بمفرداته " مأمون الشناوي " :
1 – فصل الربيع
اد الربيع عاد من تاني
و البدر هلت أنواره
و فين حبيبي اللي رماني
من جنة الحب لناره ؟
أيام رضاه يا زمان
هاتها و خوذ عمري
اللي رعيته رماني
فاتني و شغل فكري
...
كان النسيم غنوة النيل ايغنيها
و اميته الحلوة تفضل تعيد فيها
و موجه الهادي
كان عوده نور البدر أوتاره
يلاغي الورد
و خدوده يناجي الليل و أسراره
و أنغامه بتسكرنا أنا و هو
...
2- فصل الصيف
موّال :
لمين بتضحك يا صيف لياليك و أيامك ؟
كان لي في عهدك أليف عاهدني قدامك
و كان لي في قلبه طيف يخطر في أوهامك
من يوم ما فاتني و راح
شدو البلابل نواح
و الورد لون الجراح
...
3 - فصل الخريف
مر الخريف بعده .. ذبّل زهور الغرام
و الدنيا من بعده .. هوان و يأس و آلام
لا القلب ينسى هواه .. و لا حبيبي بيرحمني
و كل ما أقول آه .. يزيد في ظلموه و يألمني
...
4 - فصل الشتاء
و ادي الشتا يا طول لياليه
ع اللي فاتو حبيبه
يناجي الليل و يناديه
و يشكي للكون تعذيبه
...
5 - فصل الربيع
موّال :
يا ليل يا بدر يا نسمة يا طير يا زهر يا أغصان
هاتولي م الحبيب كلمة تواسي العاشق الحيران
أخذ ورد الهوى مني
و فاتلي شوكوه يألمني
ما عرفش ايه ذنبي
غير أني في حبي أخلصت من قلبي
و غاب عني لا كلمني
و لا قال امتى راح اشوفوه
و أقول يمكن ح يرحمني
و يبعت في الربيع طيفوه
من يطالع كلمات هذه الأغنية ، سيظنُّ للوهلة الأولى ، بأنّ مضمونها يختلف عمّا كنت قد أشرت إليه في مستهل هذه المقالة ، من حيث إنّ أغلب أغنياته العاطفية اتصفت بـ ( جلد الذات ) و هذا ما يبدو لأسماعنا ، إذا قمنا بتحليل بنائي لكل ( كوبليه ) على حِدة ، فما ورد في المقطع الأول ، الخاص بفصل الربيع و ما أوقعه وأحدثه غياب الحبيب في هذا الفصل ، على نفسه لأمرٌ يصعب تصديقه ، فقد ارتبطت مذاق هذا الفصل لديه ، بوجود الحبيب أيام كان لمظاهر الطبيعة معناها الحقيقي و للحياة طعمٌ جميل ، لذا فهو يستهل الأغنية و هذا المطلع تحديداً ، بالاستفهام عن غيابه الذي يتضمن معنى واحداً و كفى ، هو الشوق إليه لا هُجرانه ، لكأنه هو من سبّب في رحيل محبوبه ، و يود رضاه بعدما قاسى من بُعدِه عنه ، حينما يطلب نادماً إلى الزمان أنْ يُرجع أيام الوصال بينهما :
أيام رضاه يا زمان
هاتها و خوذ عمري
اللي رعيته رماني
فاتني و شغل فكري
ذلك أنه يشعرك حينما يشدو بقفلة البيت ، بأنه كالذي يعود بنفسه إلى تلك الأيام الخوالي ، عندما يغني مبتسماً : " و أنغامه بتسكرنا أنا و هو " فهو ينطق قفلة هذه الشطرة ، و هو يبتسم لتلك اللحظات الحلوة التي تخطر بباله .
أما في المقطع الثاني ، و لهول ما جرى فيه ، حيث إنه من خلال كلماته ، التي اختار أنْ ينغـّمها على منوال الموّال العربي المُحزِن ، نستنبط أنّ العهد على الوفاء بينهما كان خلال هذا الفصل ( الصيف ) حتى أصبح كل شيءٍ في هذا الفصل الجميل ، الذي شهد ذلك العهد لا يُطاق بالنسبة له ، فتبدَّلت الألوان و تحوّلت الأشياء إلى نقيضاتها ، و هذا دليلٌ آخر على حنينه لما كان بينهما ، و هذا ما جعل الناي يبكي معه و هوّ يردّد هذا الموّال بهذا الشجن الشجي و الغني بالحزن ، و لمن يصف أعمال الراحل بالمُحزنة و المُجلـِبة للكآبة ، أقول : " أنّى له أنْ يغني هذه المعاني بغير الحزن الذي يحسُّ به " .
يمضي بنا إلى بعد ذلك إلى ثالث هذه المقاطع الموسمية أو الفصلية ، و هو فصل الخريف ، بتتابع و توال ٍ مُنتظِم ، بعد أنْ يفرشه بفاصل موسيقي ، هو عينه الذي بدأ به أغنيته ، و في هذا الفصل ينشد أجمل ما جاء في هذه الأغنية - بحسب ذائقتي - حينما يخرج المجموعة الصوتية من صمتها الذي طال ، و يجعلها تردد من خلفه ، آهة الحسرة و الوجع و الندم ، لما لهذا الفصل من سمات الاضطراب ، تجعل المرء فينا ، يحتاج إلى من يؤنسه و يتدفأ بقربه ، و ينجح كثيراً في اللحمة الصوتية الوجعية ، حينما تنصهر أصوات الـ ( كورال ) من النساء و الرجال فيما بينها ، فالأوليات يُعبّرن عن الطرف الآخر ، و الأخيرون يمثلونه ، فهذا بتصوري ، ما أراد أنْ يُعبر عنه من خلال هذه الأوجاع و الآلام المسموعة ، ثم يجيء ليعلن عن استحالة نسيان محبوبته في نهاية هذا المقطع ، وقتما يغني : لا القلب ينسى هواه .. و لا حبيبي بيرحمني
و بعد هذه الجرعة الخريفية المحزنة ، يأتي بأخرى هي الأكثر إيلاماً ، حين دخوله إلى فصل الشتاء ، فيبدأ هذا المقطع بصوت زمهرير العواصف ، من خلال عزف الآلاتية على آلات الكمان المحتشدة ، لكنه و هو المعروف بلحظة الإدهاش ، سُرعان ما يفاجأ المستمع الحاضر بفاصل موسيقي مُدّهِش للأسماع ، لكونه راقص ، حتى سحر الجمهور ، و جعله يخرج من حالة الحزن و الوجد التي كانت تسيطر عليه طوال الدقائق الماضية ، بالتصفيق و الهرج و المرج و الهتافات ، على رنات عوده التي تظهر جلية للآذان ، على الرغم من علو أصوات الآلات الأخريات ، بعد أنْ ألقى على مسامع الحضور بيتي هذا الـ ( كوبليه ) بشكل سريع من دون غناء ، لأنّ اللحنّ الذي يفترض به أنْ ينغـّمه لهذين البيتين ، سوف يُحدث شيئاً من التناقض مع هذا الفاصل العجيب في وقته و جملته .
و لكي تتمّ هذه السنة ، التي قضاها بعيداً عن محبوبته ، لا بد له من أنْ يعود بنا إلى فصل الربيع ثانية ً، في المقطع الخامس ، لذا أخذت الأغنية اسمها من هذا الفصل و عنّوّنت به ، مع أنه لم يذكر هذا الفصل كمسمى ، مثلما فعل في المقاطع الأربعة السابقة ، لكنه يأتي على ذكر مظاهره ( الطير و النسمة و الأغصان ) و هي المذكورة في أوله ، منادياً إياها و راجياً منها أنْ تعيد إليه الحبيب بعد مُضي عاماً بالتمام على غيابه ، فقد توقفت الحياة بملذاتها و طعمها ، لرحيله عنه ، و مع ذلك ، فهو ما يزال يعيش على أمل رؤيته في هذا الفصل الأخضر ، و إنْ أبدى عتبه عليه ، في نهاية هذا المقطع الأخير من هذه البديعة الربيعية الخضراء .
ننتهي من خلال ما تقدّم ، إلى نتيجة واحدة ، مفادُها أنّ الفنان الراحل " فريد الأطرش " كان يصوّر في أغانيه الطويلة ، مشاعر و أحاسيس يتعذر على أيِّ فنان آخر ، أنْ يجعلك تعيش أسرارها ، فلا غرابة في ذلك إذن ، و لا غرابة كذلك في أنْ تكون هذه المقالة طويلة ، لكي تغدو بحجم و طول هذا النمط من الأغاني ، الذي أبدع فيه هذا الفنان الكبير ، و أتحفنا به من درر ، سأذكر لكم النزرَ اليسيرَ منه ، كأغنية ( أول همسة ) و ( سألني الليل ) و ( حكاية غرامي ) و ( زمان يا حب ) و ما إليها من أغان ٍ أخرى محفورات في ذاكرتنا .
فريد الأطرش في الأغنية الثنائية
هي حالة الاندماج التي أعيشها في هاته الأيام ، مع أعمال الفنان الرائع " فريد الأطرش " من تصرُّ عليّ ، لأجل أنْ أخطَّ لكم هذه المقالات المتعدّدات عنه ، فأعمال هذا الفنان الكبير ، لتعدّدها و تنوعها و تطرقها لطبوع الغناء العربي كلها ، لا يمكنني أنْ أتجاهل نمطاً منها ، و قد بذلت قصارى جهدي ، كي أتطرق إليها ، و بقدر المُتاح و المُباح ، حاولت جاهداً ألا أغفل منها شيئاً ، و بقيّ ليّ بعد المقالات السابقة ، التي خضت فيها بخصوصه ، أنْ أفرد مقالتي هذه ، لأتناول فيها رؤيتي للأغنية الثنائية بشقيها ( الديالوغ و الدويتو ) و ما جاد به هذا الفنان الكبير بشأنها ، فثمة من لا يدري أن هناك فرقاً كبير بينهما ، فـ ( الدويتو ) هو ذلك الصنف من الأغنية الثنائية ، التي يتشارك فيها فنانان اثنان ، بأداء مقاطعها الغنائية في الوقت نفسه ، أما الـ ( ديالوغ ) فهو ذلك الغناء ، الذي يتطارحان فيه بالأداء ، أي أنْ يغني كل منهما مقطعاً و يردُُ عليه الثاني بغناء مقطع آخر إلى نهاية الأغنية ، و لـ " فريد " مع هذين النمطين المنتميين للأغنية الثنائية ، تاريخٌ و باع طويلينٌ سجَّلهما ببصمة أروع و أجمل الأصوات التي غنّت معه ، و معظمها كانت أصوات نسائية ، و يجيء على صدارتها ، صوتُ شقيقته الراحلة " أسمهان " التي أراهن ، إنْ أمدّ الله في عمرها ، لكان لغنائها شأنٌ آخرٌ - فهي لم تغن ِإلا لثماني سنوات و كفى ، و رحلت في عزّ شبابها ، و هي في أحسن حالات صوتها ، و هذا عمر المبدعين من الفنانين و الشعراء ، أمدّ الله في أعمار المتصفحين ، مع علمي بأنه دعاء لا فائدة منه ، فلكلِّ أجلٌ كتاب ، و ما نتضرع به إلا من باب الرجاء فحسب ، بأنْ يكون عمر من ندعو له مسجلاً عند الخالق مديداً .. هكذا - و لاستطاع أخوها أنْ يترجّم على حنجرتها ألحاناً ، ما كان لغيرها من الفنانات الفاتنات الحناجر ، أنْ تؤديها ، على الرغم من كل البهاء الذي عرفناه على أصواتهن ، و هذه الحقيقة ، كان يُصرّح بها الراحل دائماً .

و الحديث عن الأغنية الثنائية ، سيجرنا لا محالة ، إلى أغاني أشرطة الخيالة و المسرح الغنائي ، فهذا اللون الغنائي ، عادة ٌما يُقــُدِّم من خلال هاتين الوسيلتين ، و من حسن الطالع ، إننا حين حديثنا عن الأغنية الثنائية ، سنتطرق حتماً إلى أغاني الفنان " فريد الأطرش " التي سمعها منه المتلقي من وراء الشاشة الكبيرة في شكل ( الأوبريت ) الغنائي ، قبل ظهور ( التفلزيون ) و سيأخذنا كذلك ، إلى الحديث عن ألحانه للآخرين ، و بذلك أكون قد ضربت ثلاثة عصافير بحجرٍ واحدٍ ؛ فقد عرف الجمهور هذا الفنان في أول ( فيلم ) له ، شاركته دور البطولة فيه ، أخته " أسمهان و كان بعنوان ( انتصار الشباب ) و لكم في هذه الرائعة الغنائية الثنائية منه ، محكٌ ، لتبيان جمال صوت الفنانة الكبيرة الراحلة " أسمهان " :

المطربة الراحلة : أسمهان
ديالوج : الليل وادي العشاق
من فيلم انتصار الشباب
إنتاج سنة : 1941 م
ـــــــــــــــ
كلمات الزجّال و الشاعر : أحمد رامي
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : أسمهان و فريد الأطرش
ـــــــــــــــــ
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
و الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
يللي تحبوا الليل النادي
يللي تناجو الطير الشادي
غنوا معايا و قولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت أسمهان :
الليل وادي العشاق
يتلوع فيه قلب المشتاق
يللي كواكم الحب ابناره
يللي سقاكم الشوق أسراره
غنوا معايا وقولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
الليل محلا نجومه
تنسي المهموم كل اهمومه
يللي ضناكم حال الأيام
الدنيا دي كلها أوهام
غنوا معايا وقولوا :
ليل يا ليل يا سلام ع الليل
الكون هادي و الجو جميل
...
بصوت فريد :
يا نسيم احمل سلامي
للي مال قلبي إليه
اشتكيلو من هيامي
و انشغال فكري العليل
قضيت نهاري أناجي طيفك
أقول لروحي امتى اشوفك ؟
و القرب يحلا من غير عزول
لما حواني الليل و زاد في قلبي الميل
...
بصوت فريد :
مريت على بيتك وحدي
أغني من شدة وجدي
و جيت أنا جيت أناجيك بلحني
و الحب ظاهر في عينيا
يمكن فؤادك يرحمني
و اتطلي و تردي عليا
و من الملاحظ على هذا الـ ( ديالوج ) الجميل ، أنّ الفنان الراحل " فريد الأطرش " قد أفرد لأخته مقطعاً غنائياً واحداً ، من هذا العمل من أجمالي ثلاثة مقاطع جاءت فيه ، حيث إنه منحها غناء الـ ( كوبليه ) الأول فقط ، و تفرّد هو بأداء الـ ( كوبليهات ) الأخريات ، و ذلك ربما لأنها التجربة الأولى له في تقديم هذا اللون الغنائي السينمائي ، و مما يلاحظ فيه أيضاً سمعاً ، أنه لم يتشارك و إياها ، في أداء أيِّ مقطع معين منه ، أي أنه لم يلجأ إلى تقديم أيِّ مذهب من الأغنية على نحو الـ ( دويتو ) اللهم إلا وقتما يردّدان معاً صُحبة الـ ( كورال ) مطلع الأغنية و كفى .
لكنه بعد تقديمه لهذا الـ ( ديالوغ ) بحوالي الخمسة عشر عاماً ، أي بعد وفاة الفنانة " أسمهان " استعان بصوت جميل آخر ، هو صوت الفنانة " صباح " التي قاسمته دور البطولة في فيلم ( ازاي أنساك ) و قدّم لها فيه أكثر من لحن ، لكنّ ما يهمنا منها ، هو لحنه لهذه الأغنية الثنائية المتطورة جداً عن سابقتها ، إذ أنّه في هذا العمل ، أعطى للفنانة " صباح " مجالاً أوسع ممّا أعطاه لأخته في العمل الفائت ، و لو نسبياًً ، حيث قدّما معاً الأغنية الثنائية بقسميها ، فقد منحها غناء مقطعين و شاركها في ترديد مطلع الأغنية في نهايتها ، و هذا ما سوف تستمعون إليه ، من خلال التسجيل الآتي :-
أوبريت : صانع التماثيل
من فيلم : ازاي أنسالك
إنتاج سنة : 1956 م
ــــــــــــ
كلمات الشاعر : أنور عبد الله
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : فريد الأطرش و صباح
ـــــــــــــ
بصوت فريد :
يا حبايبي يا أهلي يا ناسي
في هواكم عمري مآسي
طول ما انتم هنا يا حبيبي أنا
و لا فيكم ظالم قاسي
و لا منكم هاجر ناسي
...
و لا في خاين ايخون عهدي
و لا ظالم يبيع ودي
و لا أوهام تسهرني
و لا أحلام تحيرني
لكم قلبي لكم حبي
و ايه يغلى على فني ؟
أنا أنتم .. أنا منكم
و أنتم كلكم مني
...
إله الحب قولي الحب ايه سره ؟
و ليه حلو ما ايدومشي و لا مره ؟
تسهر ناس على ادموعها
و ناس بتقيد لها اشموعها
و الدمع منك و الشمع منك
إله الحب ايه سرك ؟
و ليه حيرتنا في أمرك ؟
...
و انتي اللي شاغلك ايه ؟
سارحة بخيالك ليه ؟
لا الفكر ح ايقرب بكره
و لا حيرجع بالماضي
خللي اللي يجرى خلاص يجرى
و الجنة للي يعيش راضي
بصوت صباح :
ليه ارضى ليه ؟ يرضيني أيه ؟
موش لاقية روحي و لا لاقية قلبي
عاوزني أرضى اديني قلبك
خلليني لحظة أسعد بحبي
يمكن بقلبك اقدر أحبك
حرام شبابي ايروح
لا قلب فيه و لا روح
خوذ مني ادموع عينيا
و آهات و شجن و سهر
حرمت الحب عليا
علشان انا قلبي حجر
و ح عيش من دون الناس
تمثال من غير إحساس
أديني قلبك يمكن احبك
و أفرح بحبك و أسعد في قربك
...
بصوت فريد :
اللي في ايديا يا نور عينيا
قلبك و روحك كتير عليا
و أحلف بحبي و هبت قلبي
لكل واحد منكم شوية
و أنا كدة متهني
طول ما انتم معايا
ارقصي و اتهني و دا كل هنايا
بصوت صباح :
اسمحلي أقولهالك و لو أني تمثالك
شوفلك حبيب هنيه و اتهنى معاه
و أسعد شبابك بيه و أفرح وياه
بصوت فريد :
أنا كده فرحان و متهني
و كفايا غرامي بفني
و يمكن أهواك و في يوم ألقاك
تنسى هواك و زاي أنسالك
دويتو :
يا حبايبي يا أهلي يا ناسي
في هواكم عمري مآسي
طول ما انتم هنا يا حبيبي أنا
و لا فيكم ظالم قاسي
و لا منكم هاجر ناسي
لم يتوقف تطوير الفنان " فريد الأطرش " عند هذه الأغنية ، و لم يكتفِ بما حقّقه فيها من تقدُّم ، فبعد مرور سنة واحدة ، على تقديمه للأغنية الأخيرة ، سرعان ما قفّاها بأغنية ثالثة ، كانت من أبرز الأعمال الغنائية الثنائية ، التي عرفتها الأغنية العربية في العصر الحديث ، بيد أنه ، زاد من وتيرة التطوير في هذا اللون البديع بشكل ملفت للنظر و السمع ، لما تناغم صوته و صوت المطربة " شادية " التي انضمت إليه في أعمال سينمائية كثيرة ، و زوّدها بالعديد من ألحانه الجميلة ، خصوصاً من هذا النمط ، و يتقافز للأسماع منها أغنية ( زينة ) و ( أنا و أنت و الحب اكفاية علينا ) لكن الأبرز من هذه الأعمال ، بحسب سمعي ، هي أغنية ( يا سلام على حبي و حبك ) ففي هذه الأغنية ، لم يقـُم " فريد " بالاستحواذ على الأغنية بأكملها ، بل إنه جعل صوته يتناصف الأغنية مع " شادية " بالتساوي ، إنْ لم تكُن هي من حازت على زمنها كله ، فلم يتعالَ عليها ، بل منحها فرصة كبيرة ، لتبرز محاسن صوتها وقدرتها على التمثيل ، إذ أنها تتمتع بموهبة كبيرة في التمثيل ، على النقيض من الأخريات اللواتي غنين معه ، فعلاوة على هؤلاء ، قدّمت معه فنانات كثيرات الأغنية الثنائية ، أذكر منهن : " نور الهدى " و " سعاد محمد " و " فدوى عبيد " و " فتحية أحمد " و غيرهن العديدات .
على أية حال ، فإن " فريداً " في هذه الأغنية تقاسم مع الفنانة " شادية " أجزاءً كثيرة منها ، إلى الحدِّ الذي لم يجعله يؤثر نفسه عليها ، مع أنه هو صاحب اللحن ، حتى أنه ، جعلها هي من تباشر أولاً في أدائها ، بغناء المقدمة ، و حاورها غنائياً بتشطير حتى البيت الواحد ، كما ستسمعون في غناء هذين البيتين :
حبك حيرني .. أنا زيك برضو
ربي ايصبرني .. أيوه أنا في عرضو
...
حبيتني صحيح ؟ و امال ؟
اتاريني بقيت فرحانة .. عقبال كل العزال يتهنوا زي هنانا

المطربة شادية
ديالوج : يا سلام على حبي و حبك
من فيلم : أنت حبي
إنتاج سنة : 1957 م
ـــــــــــ
كلمات الشاعر : عبد العزيز سلام
لحن الموسيقار : فريد الأطرش
غناء : فريد الأطرش و شادية
ــــــــــــــــــ
بصوت شادية :
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
و لا نمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
بصوت فريد :
يا سلام على حبي و حبك
دا ما كان على بالي أحبك
و لا نمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
...
بصوت شادية :
يا حبيبي هواك جنني
و الشوق ملاني جراح
و حياتك تبعد عني
و تسبني عشان ارتاح
بصوت فريد :
و أنا يعني ماسك فيكي ؟
ماهو قلبي مشغول بيكي
بصوت شادية :
حبك حيرني
بصوت فريد :
أنا زيك برضو
بصوت شادية :
ربي ايصبرني
بصوت فريد :
أيوه أنا في عرضو
...
بصوت شادية :
اعذرني لأني بحبك
ما بنمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
...
بصوت فريد :
موش ممكن أعيش من بعدك
دا خيالك جنبي ليلاتي
و بأقول لو ربنا ياخذك
كنت اعمل ايه يا حياتي ؟
بصوت شادية :
إنشا الله أنت يا حبيبي
يا هنايا و كل نصيبي
ح ولع في روحي يا قلبي و عينيا
بصوت فريد :
لا اوعي يا روحي دا واجب عليا
بصوت شادية :
من ساعة قلبي ما حبك
ما بنمش الليل من حبك
يا سلام على حبي و حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
...
بصوت شادية :
حبيتني صحيح ؟
بصوت فريد :
و امال ؟
بصوت شادية :
اتاريني بقيت فرحانة
بصوت فريد :
عقبال كل العزال يتهنوا زي هنانا
بصوت شادية :
شوف وشي أصفر ازاي من حبك
بصوت فريد :
شوفي جسمي أحمر ازاي من حبك
بصوت شادية :
ح تعيش يا روحي امعايا
دنت حياتي في دنيتي
كفاية حب كفاية
لحسن ايضر بصحتي
...
دويتو :
يا سلام على حبي و حبك
ما بنمش الليل من حبك
وعدي و مكتوبلي أحبك
يا سلام على حبي و حبك
عموماً فإنّ اختياري لهذه الأعمال ، لم يأتِ خبطات عشواوات ، أو بطريقة مزاجية ، و إنما من منطلقٍ واحد ، و هوّ إبراز مراحل التطوير في النمط الغنائي ، بالنسبة لهذا الفنان بخاصة ، و للأغنية العربية بعامة ، و هذا لا يحيلنا البتة ، إلى المضي بالقول ، بأنّ الأعمال التي غضّضت السمع عنها ليست في سوية جيدة ، فلعلّ البعض ، تمنى عليّ لو وضعت أغاني أخرى تأتي في هذا السياق ، مثل أغنية ( غني يا قلبي غني ) أو ربما أغنية ( أنا و أنت و لا حد ثالثنا ) فأرجو أنْ يعجبكم ما اخترته لكم من أغانٍ في هذه المقالة المقتضبة و الجامعة لثلاثة أراء فيما قدّمه لنا هذا المبدع من فنون ، و التي ستكون الأخيرة ، بالنسبة لهذه الحلقات ، التي آثرت فيها ، أنْ أتطرق إلى أهم المحطات و الوقفات في مسيرة هذا الفنان الخالد ، التي لن تكتمل إذا تكلمت فيها عن إبداعه بإسهاب - لذلك سأكبح جماح كلماتي ، التي تأبى إلا أن تستمر في الخوض في روائعه - الذي يُقاس بعدد أعماله ، و ما احتوته من تطوير كبير ، طيلة أربعين عاماً من الغناء و الموسيقا و الألحان ، و لكنْ ليس بالإمكان أبدع ممّا كان .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية