السبت، 9 أكتوبر 2010

من بنغازي إلى طرابلس ( 3 / 4)


تذكرة لكم ، هذا هو المشهد الأخير من الحلقة الثانية :
لحظتئذٍ ، و على حين غرّة من الجميع ، كبح السائق الفرامل ، حتى انقلبت ( فرملته ) على رأسه ، و رنت النقود المعدنية في جيوبها ، و سقطت ( معرقته ) من النافذة هي و الأمانات - و المصري يولول : ( الله ! .. في أيه يا قماعة .. ما اتفهمونا ايه الحكاية ؟ ) - فنزل مُسرعاً من سيارته ، مثل الإعصار ، و طلب من الحاجة ' فاطمة ' أنْ تسدد له ثمن أجرة مشوار ' مصراتة ' و إلا فلتنزل من فورها ، فقد صار لا يستطيقها : ( يا حاجة صدق فيك السوّاق الأول .. شكلك تبي اتودرينا .. انزلي الله يستر بيتك .. اني مش ناقصك .. و مش ناقص مشاكلك ) .. نزلت الحاجة ' فاطمة ' و حفيدها ، و هبطتُ وراءهما من الحافلة ، و نفسها و نفسي و نفس ' اسلومة ' حافلة بغصّة من السائق الجبان التافه .
***
الحلقة الثالثة :
إذن فقد حطـّطنا أخيراً في ' طرابلس ' و الغريب في الأمر ، أننا دخلنا إليها من دون استئذان ، و لا طرق لأبوابها ، فليس ثمة حواجز و لا بوابات على مشارفها ، بعكس أماكن أخرى ، كنا قد مرّرنا بها ، فيا للعجب ، ألا يكون لهذه المدينة - العاصمة - أية قدسية ! .. نحن الآن بالقرب من الكورنيش المقابل لفندق ( المهاري ) نظرنا بأسى نحو الحافلة ، فبانت أمامنا من خلف الزجاج الخلفي للسيارة ، كفاً سمراء تلوّح لنا و تودعنا ، و إذا بها كفُّ الأفريقي ، الذي يحرك شفتيه الغليظتين ، فدبلجتها ، وفقاً لحركتهما : ( باي باي .. ماما فاتِمة ) .. على الرصيف سألت الحاجة ' فاطمة ' عن وجهتها ، و قبل أنْ تجيبني ، صفـّت سيارة كحلة و بيضا ( تاكسي ) بقربنا .. فتحتُ الباب ، و أصّعدتها هي و حفيدها ، الذي لم يفق بعد من نومه ، وسط ترحيب السائق بنا : ( انستونا .. أنتم شرارقة ؟ ) .. ( نعم ) .. ( عرفتكم من تشميلة الحاجة ) فطلبت إليه ، أنْ يمضي بها إلى حيث وجهتها ( قــُرجي ) و قد أمرت الحاجة ' فاطمة ' أنْ تلتزم الصمت طوال المشوار ، حتى تصل ، و بعد أنْ سألت السائق عن ثمن أجرته .. ( 5 اجنيه ) .. ( مش واجد يا خويا ؟ ) .. ( و اللهي زحمة .. و هاذوما أسعار العاصمة ) .. ( يا حبيبي .. رانا حتى نحنا جيينكم من مدينة كبيرة هي عاصمة الشرق .. و لا تقل في شيء عن مدينتكم ، سوى في بعض الاهتمام من الناس الحلوين ) .. دفعتُ ثمن الأجرة مُكرهـَاً ، من جيبي الخاص ، فالحاجة ' فاطمة ' تستحقُّ كل خير ، و لا يغلى عليها غالٍ ، ثم سألتني و سألتها في آن واحد ، بعد أنْ صعدت ، من زجاج نافذة :
- هي : ما قلتليش يا اوليدي .. أنت لمن جاي هنا ؟ .
- أنا : يا اخويلة .. انتي وين تسكني في بنغازي بالزبط ؟ .

اصطدمت جبهة سؤالي بجبهة سؤالها ، حتى تكدّمتا ، و دارت عصافير الدوخة حولهما ، و سقطتا أرضاً ، حينما تحركت السيارة بعجلة ، فلم تسمع إجابتي : ( أنا جاي انزور .... ) .. و لم أسمع إجابتها : ( نسكن جنب سوق ... ) .. ترى لماذا لم أسألها سؤالي هذا ، طيلة يوم كامل ، و نحن معاً في الحافلة ؟ فيبدو أنني أحبّبت هذه العجوز الطيبة ، إلى درجة أنني ، شعرت بأنها من عائلتي ، حتى أمسيت في حلٍّ من طرح ، و افتراش هذا السؤال .
ها قد صرت على أرض طرابلس ، و طبعاً سوف لن أفعل ، مثلما فعل ( تكميل / شخصية : غوّار الطوشةِ المُزيف ) في أول حلقة من مسلسل ( وادي المسك / رائعة محمد الماغوط ) حينما نزل من الطائرة ، و أوهم كلَّ من حوله بأنه محبُّ لبلاده ، لما ارتدى زيَّهم الوطني ، و سجد سجدة واحدة على أرض المطار ، و قبّـل ثراه ، إجلالاً لوطنه ، فاستخفّ بعقل المُغفل ' ياسينو / ياسين بقوش ' الذي صار فيما بعد ، رئيساً لمجلس البلدية ، و بعاطفة من يُفترض أنْ تكون شقيقته ' كوكب / منى واصف ' و بحِنكة و دهاء ' المحترم / رفيق السبيعي ' فأطاعوه جميعاً .. فأنا لا ألبس زينا الوطني ، إنما بضاعة الأمبرياليين ( سروال أمريكي ) لكنه تركي المنشأ .. خطوت خطوتي الأولى ، بقدمين متثاقلتين ، سرى فيهما التنميل ، نتيجة لتقييدهما لأكثر من يوم كامل ، بالجلوس في مقعد الحافلة ، و أخذت أعطس ، من جرّاء اختلاف درجة الحرارة ، من هواء السيارة البارد ، إلى هواء طرابلس اللافح ، العطسة الأولى ثم الثانية ...... إلى الثامنة ، و غابت التاسعة ، التي أعرف بها عادةً ، نوع هذا العطس ، فهل هو عادتي الدائمة ، إنْ حضرت ، أو هو الأنفلونزا ، هذا إذا غابت ، و حتى مجيئها ، صعدت إلى أعلى الجسر ، أي عند نقطة إنقلابه ، التي يبدأ بعدها الانحدار إلى أسفل ، لأنظرَ بالمجّان إلى مدينة الملاهي ، بعدما أشّعلت أخر لفافة تبغ ، بقيت معي ، و أتكأت إلى الممسك الحديدي الخاص بالمشاة ( التربزيون ) مرتكزاً على رجلي اليسرى ، و رافعاً اليمنى إلى أعلى ، و على هذا الممسك ، لأرى من بعيد ، شاباً عريض المنكبين ، يصعد لعبة ( الصحن الدوّار ) و هو يصرخ ، فتيقنت بأنّ التفاهة هي مصيبة كبيرة ، و قد حلّت بالمجتمع الليبي ، فأنا لست متفرغاً ، و هناك ما يشغلني دوماً ، أنا ( لاهٍ ) فكيف ألعب في هذه الملاهي ، ثم يكفيني أنني نزلت سالماً ، و من معي ، من ملهاة الحافلة ، التي مضت بنا لعشر ساعات متقطعات .. ( خدفت * ) عِقاب السجارة ، نحو ذلك الشاب ، ليسقط قبل أنْ يصله بمسافة طويلة ، فتذكرت صاروخ الحاجة ' فاطمة ' ( فم - وجه ) و هبطت من الجسر ، بسرعة دفع الانحدار - على كتفي ( الصاكو ) باتجاه الكورنيش - لتحضر عطستي التاسعة - الذي كان عامراً في يوم الخميس ، السابق للعطلة الأسبوعية ، أنا الآن أمشي على بّلاط الشعوب الأحمر ، لا في بـِلاط الملوك ، على يميني ، ثمة ذكور و إناث ، خِفافاً و ثِقالاً ، زرافات و أحاد ، أزواج شرعيون ، و أزواج غير مُطهرين ، عائلات و عزّاب ، شباب و شابات ، بعضُهم في حالة انتعاش ، و بعضٌ آخر ، في حالة ارتعاش ، و بعضٌ ثالث ، في حالة اشتباك بالأيادي ، و بعضٌ رابع ، في حالة ارتباك .. هناك طفلة صغيرة ، أراها قادمة نحوي مُسرعة ، فاردة جناحيها ، فركضتُ نحوها لئلا تقع ، و حضنتها و رفعتها ، ثم أطلقتها عالياً ، لتخترق الهواء و هي تضحك ، ثم نظرت إلى عينيها الواسعتين الرقراقتين ، حتى رحلت في ليلهما البهيم ، ثمة أمل فيهما ، ثمة إشراقة فيهما ، ثم ألصقت جبينها الأغرّ بجبيني الأسمر ، حتى نعست عيناها ، و تمغنطتْ بمجالي الكهربائي ، و كادت أنْ تنام ، نتيجة لتقابل و تبادل الشحنات بيننا ، شحناتِها موجبة ، فسلبتني شحناتي السالبة ، حتى أنارت جبيني ، و ناولتها أخر قطعة ( عبمبر ) أعطتني أياها الحاجة ' فاطمة ' كنت قد احتفظت بها في حقيبتي ، ثم ( دودشت ) بها حتى وصلنا إلى أبويها الجالسين على مقعد خشبي ، و حينما سلمتها لهما ، قيّدت أمها حركتها ، فصارت تصرخ ، مُلوِّحة بيدها ، و تناديني ( عمو .. عمو ) المسكينة ما جاءت لتجلس ، بل لتجري و تقع و تنهض ، تريد أنْ تتحرّر من عِقال الطفولة ، حينما تقيّد يدها في يديّ ، و نحن نسير ، صرت أمشي ، و التفت إليها ، و شيئاً فشيئاً ، باتت تصغر حتى أصبحت تتلاشى ، كما نقطة ضوء ، أو هي أشبه بنمظر الشمس ، حينما يبتلعها البحر .. الوقت مساء ، فلم أرَ شمس ' طرابلس ' وضعت حقيبتي أرضاً عند أول ( كافتيريا ) على الكورنيش - مرسومٌ عليها شعار نادي الأهل ، من دون حرف الياء ، فالياء تخص نادي الأهلـ(ي ) ببنغازي ، و ينتهي بها ، مثلما اسم بنغاز( ي ) إذاً فهي ياءٌ بنغازية النسب و الحسب - طالباً كوب ( مكياطة ) و علبة تبغ - بالمناسبة ، أشكر كل من دعا ليّ بترك الدخان ، و قد تركته بحمد الله إلى غير رجعة و لا الحاجة ' فاطمة ' و لا ' اسلومة ' بعد ثلاث سنوات من هذه الرحلة ، و ساعتبر دعاءهم ليّ بتاريخ رجعي - وتفاجأت بأنّ سعر المكياطة ، يزيد عن سعرها في بنغازي بربع دينار ، و كذلك علبة التبغ ، فهي تزيد بنصف دينار عن سعرها في بنغازي ، لكني لم أعرف عِلـّـة ذلك ، إلا بعدما شاهدت زبوناً ، جاء في إثري ، و اشترى كليهما بالسعر البنغازي ، و عرفت أنّ السبب ، يكمن في قولتي : ( بكم الدخان ؟ .. و بيش المكياطة ؟ ) و قولة الآخر : ( قداش للاثنين ؟ ) .. احتجّجت على البائع ، و احتجّ بدوره ، بأنّ المحل على الكورنيش ، و أسعاره سياحية ، فعاتبته : يا حبيبي ، لا تكذب عليّ مرتين ، فهذا لا يجوز ، لأننا أبناءُ بلدٍ واحدٍ ، و نحن في بنغازي ، لا نقوم بذلك حتى مع الأجانب ، فلا تجعل كلمتي ( بكم ؟ و قداش ؟ ) تفرقان بيننا أكثر من المسافة التي تفصلنا ، و سنتنازل عن ياء الأهلي في مقابل ذلك .. فأنت بذلك تزيد من شساعة الفرق بين المدينتين ، و بين أهليهما ، و نصرهما و اتحادهما ، و تحديهما و وحدتهما ، و هلالهما و ظهرتهما ( جمهوراً و أناساً ) .. ( رانا مش ناقصين أمثالك .. ممّن يدقون أسافين الفرقة ) فلا تكـُننّ ممن قال فيهما رسول الله عليه الصلاة و السلام في الحديث ، عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه : ' من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ' .. فأنا لست مُلزَماً و لا مُستعِداً ، لأنْ ألوي لساني ، و أتحدث بلهجتك حتى أقضي مصلحتي ، ليس تعالياً على لهجتكم ، التي أحبُّها ، لكني إنْ فعلت ذلك ، سأكون مُمثلاً و كذّاباً ، و أربأ بنفسي أنْ أكون هكذا ، فلا تكـُن كذلك - و أنا أربت على كتفه - و إلا حُقّ عليك هذا القول .. عموماً شعر بخطئِه ، و تجاوز عن الزيادة في السعرين ، مع أنني كنت قد ناولته ما طلب .

***

بعد أنْ تردّدت ، و أجّلت سفري إلى ( طرابلس ) لأكثر من مرة ، التي في أغلبها تكون مكّوكية - حيث إنني ، لا أمكث هناك إلا لثلاثة أيام ، أو أربعة فقط - لكوني أترك وراءي مدينة جميلة و حبيبة ، أفتقدها و تفتقدني ، لكني لا أحبُّ أنْ أحسبَ على أية واحدة منهما ، لا أحبُّ أنْ يصيح ليّ أحدهم : ( يا شرقاوي و لا يا غرباوي ) فيا ليتك يا عادل عبد المجيد ، غنيت : ( لا تقولي شرق و لا غربي .. أنا ليبي و عربي ) بدلاً من : ( ...... أنا عربي ) - خشية المخاطر و المصاعب ، التي تتهدّدنا في الطرق و الجو إلى هذه المدينة ، التي حالت بيننا و بينها ، عديد الفواصل الطبيعية و البشرية .. أنا جدّ متعبٌ من هذه الفيافي الساحلية التي قطعتها ، قرّرت قبل كل شيء ، أنْ أذهب إلى أول مكتب للسفريات ، لأحجز تذكرة عودة ، عملاً بنصيحة أمي ، و لكي أتخلص من مشقة العودة ، و سفاهة البعض من قوّاد الحافلات .. هناك في شارع ( المقريف ) وجدت محلاً للسفريات ، و عندما علوت عتبته ، تناهى إلى سمعي ، صوتُ مُغنيّة سفـّاحة ، تغني هذه الكلمات الدموية ، التي أرقنها للفئة العمرية ( 35 + ) :

لوكان نلقي من يطول وريدي
لين نمسكه وانجيب قلبي في ايدي
...
نلقي دامي
يدخل علي قلبي بمخية حامي
ينسي المحنه ويفرشه قدامي
لين ننفده ونرتاح من التضميدي
...
نلقي عارف
يوصل لشرياني وصديده دارف
يسحق مكانه وينزفه بالغارف
ويشلحه ويقدده تقديدي
...
نلقي شاطر
يفتح علي قلبي السد القاطر
نوتاح من الوحشه وضيق الخاطر
والنزف والتسطير والتضميدي
...
نلقي قاسي
يفتح علي قلبي العصر الماسي
نقلع عروقه ونسحنه بمداسي
اندير في مكانه قلب صب حديدي ..

الغريب أنّها تبحث عمّن يطول وريدها ، و هو تحت الجلد مباشرة ، فماذا نقول عن المسافة بين بنغازي و طرابلس إذن ؟! .. لا أعرف كيف قام المُنفـِّذ الموسيقي ، بإعداد الموسيقا لهذا اللحن الشعبي لهذا العمل ، من دون أنْ يُبدِي بأية ملاحظة على دموية كلماتها ، و هنا تستوقفني حكاية للسيدة ' أم كلثوم ' حينما استلمت نصاً غنائياً من الشاعر ' حسين السيد ' و ما أدراكم من هو ؟ و أعجـِبت به ، سوى أنها طلبت إليه ، أنْ يستبدل كلمة ( نار ) في إحدى أبياته ، بكلمة أخرى ، أقل إيلاماً منها ، فرفض ، و رفضت هي من ثم ، أداءها ، و لم ينتج أي تعاون بينهما ، فماذا لو قرأت نصّ هذه الأغنية ، أو بالأحرى العمل ؟ أظنها كانت ستعتزل الغناء و هي على قيد الحياة ، حزناً على ما وصل إليه الحبّ و الشعر من يأسٍ و جُرمٍ .. و يبدو كذلك ، أنّ كاتبها ، قد شعر بمدى فظاعتها و دمويتها ، لذا وظـّـفها في رثاء الرئيس العراقي الراحل ' صدّام حسين ' بعد شنقه ، و ها هي مفرداتها ، للفئة العمرية ( 40 + ) :


لو كان نلقى من يطول وريدي
ويحكم عليا إعدام ليلة عيدي
...
نلقى قاضي
يحكم عليا إعدام يمشي راضي
ويسلموا لأهلي جميع إغراضي
عليا اقطعوا التكبير والتشهيدِ
...
نلقى دامي
لا يسال مترافع ولا محامي
مصر في الجمعة يكون إعدامي
الوقفة إعدامي الساعة ثلاثة الفجر بالتحديد
...
نلقى ظالم
علشان يعدمني يتحدى العالم
وجيش العرب كيف عادته مسالم
جيش مسالم اللي نقوله داوم يقول ويش بيدي
...
نلقى قاسي
غاوي إعدام وموت فاشي
وفاسي ينسى العرب ويدير رأسه وراسي
عنده نهار أنموت يوم سعيدِ
...
نلقى طاغي
يحكم بتعليقي يطير دماغي
تبدأ العرب بعدي اتجاغي وماغي
سنة ومراجع ما تقول شهيدِ
...
نلقى كردي
يحكم عليا إعدام يقطف وردي
ويسلموا لامي زبوني وجردي
عليا منعوا العياط والتشليدي
...
لا العروبة
لا جامعة خمسين عام أكذوبة
والإسلام بدري دنسوله ثوبه
لا يفيدني مصحف نقلته في أيدي
...
لا خو داني
لا شعب وفى بالعهود وجاني
في رقبتي حطوا أحبال مواني
ايديا وراي وفي الإقدام حديدِي
...
لا محامي
لا يفيدني شاهد وقف قدامي
والناس ترقص فارحة بإعدامي
تذبح وتسلخ ناشرة القديدِي
...
ليه ما جوني
ساعات أعدائي يفتشوا في أسنوني
ما نيش خايف ولا مغطي عيوني
لاحق اولادي والشهيد حفيدي
...
الموت مش غالي
لا من يعزي والقصور خوالي
ايدورن ابنويتي اظلال لوالي
بهن يبرمن الأيام برم سميدي
...
اتجي العصابة
ترقص على صدري أسفاه طرابة
العلوج تحرسهم.. عالم غابة
وحكام مسيوقة بعقاب عرف جريدِ
...
صرتي لعبة
يقولوا عليا طاغي مكمل شعبه
اللي يسلموا دولار يأخذ كعبة
يقضي حياته في نعيم رغيدي ..



واااااااااااااو .. يا للبشاعة ، لم أعرف ، هل أنا أمام مكتب للسفريات أم أمام جزّار ؟ دخلت متوكلاً على الله ، فوجدت شابة جميلة ( اتقول اغزيّلة ) جمالها في حِجابها ، مسؤولة عن الحجز ، جالسة على كرسيها الوفير ، و حينما دنوت منها ، ابتسمت ليّ ، و أشارت إليّ بسبابتها المختفية تحت قفاز أسود ، نحو فتاة أخرى ، اسمها ' حنان ' ترتدي ( بنطال جينز و تي شرت فاقع اللون ) رأيتها و هي ترشّ ملطف الجو في أرجاء المكتب ، وتدوّر سلسال الميدالية على أصبعها ، و تتبرد بمكيف الهواء ، و تستمع إلى أغنية المذكورة ، فرجوتها أنْ تحجز ليّ غداً مساءً ، خيّرتني : هل تريد الحجز على طائرة شركة البّراق ، أو أيّة شركة أخرى ؟ .. أجبتها : في أية طيارة لأية شركة طيران ، حتى لو كانت الحصان الخشبي ، فلا ثمة أي فرق أراه ، بين هذه الشركات ، فجلست إلى جهاز الـ ( كمبيوتر ) و هي تتفحص مواعيد السفر في الشاشة ، و تردّد بصوت باهت و خفيض ، كلمات الأغنية مع المُغنية التونسية ، بإتقان و اندغام ، ثم سألتني :
- هي : ( أنت شرقاوي صح ؟ .. العفو .. خيرك مستعجل ؟ ) .
- أنا : ما تفرقش يا حنة شرقاوي و اللا غرباوي .. كلنا مضروبين بعصا وحدة .. بس كيف عرفتي أني شرقاوي ؟ .
- هي : من لهجتك .. اني انموت في لهجتكم لين خلاص .. و خاصة غناوي العلم .
- أنا : ايوه .. بس أنا ما انحبش غناوي العلم و ما نستعملش فيهن .. و حتى لما واحد يبعثلي ... قاطعتني : قصدك وحدة .. أكملت مع تفنيصة : لا واحد .. أي أغنية علم على النقال .. نمسحها من جهازي .. من أول ما نقرا أول كلمتين فيها .
- هي : اعلاش العفو ؟ .
- أنا : خللينا في موضوعنا .. ها حصلتيلي حجز بكره ؟
- هي : اييييييه .. عندك حظ .. بس حجز مفتوح مش ( ok)
- أنا : ان شاء الله بس .. ايصير من الرحلة و ما ايعطلونش ؟ .
- هي : خوذ رقم المكتب اهوا ( .....021) و لو عطلوك غادي .. شرين = رن علينا بس .
خرجت من عندها - و أنا أقلب ( كرت ) المكتب لأجد في ظهره ، رقم نقالها ( ... 092 ) مكتوب بخط اليد ، و إلى جانبه اسمها و عبارة ( ماتنسانش من غناوي العلم ) - و لا أحتكم إلا على أربعين ديناراً فقط ، نصفها ثمن المبيت لليلة واحدة في الفندق ، أما النصف الثاني ، فنصفه ، سيذهب ثمن أجرة السيارة إلى المطار ، و العشرة الباقية ، سأعيش بها يوماً رائعاً في عاصمة بلادي الجميلة ، التي وجدتني لا أستطيع مقاومة ، و صدّ رياح الشوق إليها ، و قرّرت السفر إليها من دون تخطيط مسبق ، فغالباً ما تكون قرارتي و حتى كتاباتي ، هكذا ارتجالية و وليدة اللحظة و ابنتها ، فلا تخضع إلا لمبدأ واحد ، هو ( ما في قلبي على قلمي ) .. ليس لدي أصدقاء في طرابلس ، مع أنّ أبناء عمومتي أغلبهم هناك ، و أعتزّ بهم ، فأنا ما جئت لأجلس و أمكث في ( المرابيع ) لأخوض في أصول الناس و مراجعهم ، كما هي عادة جُلاس المرابيع .. هناك أحبّ أن أكون لوحدي ، أنام لوحدي ، أحكي مع نفسي ، و أمضي في شوارعها البكر بالنسبة ليّ ، غير شوارع بنغازي ، التي استهلكتها و استهلكتني ، جميل أنْ يسير المرء منا في شوارع جديدة ، و لا يقف بين الحين و الآخر ، إلا إذا ابتغى استجماع قواه ، لمواصلة المسير ، وقتما يربط شسع حذائه بإحكام ، فيخفُّ به خفـّاه ، و يستخفّ بالضوابط - التي لا معنى لها ، من مثل نهيهم : ( عيب ما اتحطش ايدك في جيبك .. عيب ما اتحطش قدمك ع الحائط ) و ما إليها من عيب غريب و عيب عجيب آخرين ، فهذه برأيي ليست مقاييس للأدب - أو يخرج قدمه منها من شدة التعب .. أنا لا ألبس جوارب ، أنا أسابق الزمن ، كي أستطيع أنْ أمشي و أمشي ، في أكثر عدد ممكن من زواريبها و حاراتها - فالوقت أمامي ليس كافياً - كلما تضورت جوعاً ، أكتفي ( بنفص مفروم ) من الحاج ( أعمُر = عمر ) في ميدان السويحلي ( حانط و اتقوليش ) - يصعب على بنات هذا الوقت إعداده - أو أستريح على مصطبة أمام أي مسجد ، أو عند أقرب مقهى ، لا أريد أنْ أستريح في الفندق ، سأرجيء حجزي إلى أخر الليل ، مع أنني قد وصلت مساءً ، فأنا ما جئت لا أستريح ، جئت لألتهم بقدميّ الطرقات ، أتيت لأدرك النهايات العظمى و الصغرى و النقاط الحرجة و نقاط الانقلاب و الانفلات و الانحدار و الاندحار .. الشوارع لا أهتم بمسمياتها ، و لا أقرأ اللائحات المعلقة في بداياتها ، فلا تعنيني من قريب و لا من بعيد .. الشخوص و النفوس ، لا أنظر إلى ملامحها و لا تهمني ، سواء كانت لرجال أو لنساء ، لا يعرفني أحدٌ ممّن يسيرون فيها ، جميل أنْ يجرب أحدُنا ، رجع طرقات حذائه على أرصفة و معابر ، غير التي ألِفها ، فيغني على وقعها ، و يواصل غناءه بحبٍّ .. أنا الآن في شارع ( شيخ الشهداء ) بعد أنْ تركت ساحة الشهداء ، ورائي ، على كتفي حقيبتي ، لا أضع قلماً في جيب قميصي ، و لا أحمل ( لابتوب ) معي ، أرقن جُملي و خواطري و مشاعري على شاشة صدري و عجزي العموديتين و الحُرتين ، جاعلاً قافيتهما ، ما أقتفيه في الجادات ، من لمحات و ملامح و ملاحم .. في يدي قنينة ماء ، جئت بها من بنغازي ، مع أنني لا أحبُّ أنْ أشرب من هذه المياه ، لأنها تـُشترى و تـُباع ، و لأني مالح الهوية ، مالح العرق ، مالح الدم ، مالح الطعم ، لا أقبـّـلُ أطعمتي بالملح و لا الليمون و لا الفلفل - فيكفيني ملح مائي ( البنيني ** ) و حرقة دمي و حرارة ضميري - و لا أرتوي من هذه المياة العذبة و المُقنـَّنة وضعياً في عُلب بلاستيكية - النـّهريون من الشعوب الأخرى ، على الرغم من نضارة وجوههم ، إلا أنّ لا ملحاً في دمائهم ، و حتى إنْ كانوا خفيفي الظلّ ، فهم يعانون من برودةٍ في الدم ، أما نحن ، فملحُ دمائنا ، يجعلها تنضغط في أوعيتنا ، فتحّمر مُحيانا ، غضبة ًلله لا للنفس ، حينما يحترق القلب ، لرؤية أية موجعة و فاجعة ، و منكر الفعل قبل القول ، حتى تتعبأ في الصدر ، فتنفجر إلى المخّ ، و تـُولدُ لدينا نار الإباء ، التي لا تطفيها إلا مياه أجواف صحرائنا - كلما فرغت ، ملأتها من أول صنبور يقابلني ، حتى إنْ كان خرطوماً في حديقة ، بعد أنْ أكرع منه ، و أبلل رأسي بالماء - الذي أجده مالحاً ، و لا يتباين مع مذاق مائنا في بنغازي - حتى يتبخر من شدة الوهج ، و تتبخر معه أحلامي المستحيلة ، مُكوِّنة سحابة ضائعة في سماوات الله ، يعلم بسرها ، فيعوضني عنها خيراً ، أو تسوقها الرياح الغربية ، للقاطنين و القانطين في الضفة الثانية ، فتمطر عليهم شآبيب الأمل في قلوبهم .. أنتعل ( سفتي إيطالي ) أسمع وقع طرقاته على أرض طرابلس : طق طق ( امشهدر بيا ) هذه ( الطقطقـّات ) ليست بغريبة عن مسامعي ، هي بكل تأكيد ليست بـ ( طقطقة ) الدرباكين على الطبول ، و لا على ( حكاكي النيدو ) .. فهي تذكرني بشيء ما .. ( طق طق .. خليفة طقطق ؟ ) لا لا .. فهذا جارنا الخبّاز في بنغازي ، الذي تركته يغربل دقيقه أمام مخبزه .. ( طق طق .. طق أو دقّ الباب تسمع الوجاب ؟ ) .. لا ليست هي ، فهذا مثل شعبي ، و البيت هو الآخر هناك في بنغازي ، و بابه عمره الآن ، ستون من السنين ، و لم يُغلق يوماً في وجوه طارقيه ، فنحن نتركه من الصباح إلى ساعة المنام ، متعرجاً أمام القادمين ، و ليس لبيتنا العربي جرس استقبال ، و لا حتى جرس إنذار .. ( طق طق .. انطقطق على حالي ؟ ) و لا هذه أيضاً ، التي أبتغيها ، فهذه يتلفظها شباب بنغازي ، الذين يشتغلون على سيارات الأجرة الخاصة ( المشوار بدينار ) .. ( طق طق .. طقطقطقطق ؟ ) .. يا ساتر هذا رمي ( صلي ) - و ليس بمفرد - من مدفع ( كلاشنكوف ) لا أملكه ، مع أنّ هناك لافتة تقابلني تقول : ( .... و .. و السلاح بيد الشعب ) لالا .. ليس كذلك .. الواضح أني ( قريب انطقطق رسمي ) .. ( طق طق .. طق طربق ؟ ) .. لا لا ، فهذه لعبة شعبية عنيفة ، كنا نلعبها - بعد أنْ أغلـِـق متجري الألعاب في بنغازي - و كم من مرة ، انتفخت أصابعنا منها .. ( طق طق .. طق طرباق ) .. ( أأأه يا اكريعتي ) أصطدمت بنتوء عثرة ، فعثرت ، كدت أنْ أقع ، أمام بنات صغيرات مغترات بأنفسهنّ ، عائدات لتوهن من المدرسة .. ( حيه عليا .. تو يضحكن عليا .. و ايقولن من الشلافطي اهوا .. اللي ما يعرف يمشي ع الكيّاس ) .. استجمعت قواي ، و عدّلت قامتي من جديد ، صمّمت أنْ أتذكر هذه الطقطقة ( طق طق طربق .. طرشق يا الوشق ؟ ) و لا هذه كذلك ، فهي أهزوجة شعبية طيّارية ، لا يمرُّ عرس في منطقتنا ، إلا و كانت مصاحبة لدبكة عالية ، و تصفيقة أيادي مرتفعة ، و بأبخرة بخور و وشق تعلو ، لا لا .. فالطقطقة التي أسمعها ، صوتها صادر من مكان منخفض .. ( طق طق .. طق القلب ؟ ) نعم هذه هي ( الطقطقة ) التي أبحث عنها ، حتى وجدتها :

ايطق القلب و مجور عليا .. جابد شوق من ماضي الغية
متقاوي صطيره غير.. يبنين مخلفي الحيرة
قالوا دواه ع غزال السريرة .. هو الطب لاوجاعي الخفيه
ايطق القلب
...
نا غزالي كواني و رمش .. العين ببساطه رماني
القلب شتاق لقربه دعاني .. زاد الشوق مع اوهام العشيه
ايطق القلب
...
ياما شتقت قربه بعد .. لصبر ما هونش حبه
نعيش حزين في وحدة و غربه.. طول الموح و اوهامه الشقيه
ايطق القلب ..

رحم الله من طقـّطقـّها في طبلة أذني و غنّاها ' نوري كمال ' و أطال الله في عمر شاعرها ' مسعود بشّون ' و من لحنها ' عبد الباسط البدري ' .. فهذه الأغنية ، يسمونها من ضمن الأغنية الطرابلسية ، و لم أعرف ما هو تفسير هذه الأغنية ، فإذا كان مُحدِّداً لجهتها ، وفقاً للهجتها فقط ، فهذا قول معقول ، أما إذا كان المقصد من خلف ذلك ، صبغ و تأطير و تقنين و تميّيز ( الأغنية الطرابلسية ) بخصائص موسيقية و فنية ، تخصُّها و ليست منها - كما في الأغنية المرسكاوية ، التي تعرف بألحانها المعروفة ، و القدود الحلبية مثلاً ، التي تتميز بخصائصها عن الأغنية السورية في المدن الأخرى ، بصفة خاصة ، و العربية على وجه العموم - فهذا لا معنى له أبداً ، فليست هناك أية خاصية و لا ميزة فنية من هذا القبيل ، تفرّقها عن الأغنية الليبية في المناطق الأخرى ، سوى اللهجة المُغنى بها ، عليه سأعتبره مُسمى جهوياً - لا ينطبق على هذه الأغنية بالتحديد ، لأنّ ناظمها شاعر من بنغاز(ي) - و أعتقد بأنّ الموسيقيين التوانسة هم من ابتدعوه ، حين تميّيزهم بين الأغنية التونسية و الليبية .. و أذكر حينما خرجت من مكتب السفريات في شارع ( المقريف ) و توجهت قدماً ، أنني وجدت الأستاذ الفنان الكبير ' سلام قدّري ' جالساً أمام محله ، الذي يبيع فيه الآلات الموسيقية و الأشرطة الغنائية ، و حينما اقتربت منه ، دخل أمامي شاب إلى المحل ، و حينما نهض متثاقلاً إلى الداخل ، سأله الشاب : ( معليشي يا أستاذ .. نلقى عندك أغنية حبيبي تجرح فيّ ) .. ( لا ) .. ( باهي عندك أغنية : ايطول وريدي ؟ ) .. ( لا ) .. تدخلت مخاطباً الشاب : ( ستجدها هناك في مكتب السفريات ) .. أحبّبت أنْ أدردش معه بخصوص مفهوم الأغنية الطرابلسية ، غير أنّ صفوه ، قد تعكـّر من ذلك الشاب ، و بان عليّ متعباً جداً من المرض ( صعب عليا ) فلملمت شعث فكرتي و بعضي و عدت ، لأنني لم أقدّر على رؤية ' قدّري ' بهذا المظهر ، شفاه الشافي ، فلك من قلبي سلام ٌيا سلام ، و هذا ليس قدّرك يا قدّري .. لذلك أوجه سؤالي إلى علماء و عظماء الموسيقا عندنا .

نلتقي في الحلقة القادمة بعونه تعالى ، و أرجو مثلكم ، أن تكون الحلقة الأخيرة ، لأنني بالفعل سأعود في طائرة مساء اليوم نفسه .
ـــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : حينما شرعت في سرد هذه القصة ، كتبتها بشكل ارتجالي ، بدليل أنّ البعض سيجد إجابات مني على أسئلته في الجزئيتين الماضيتين ، و لم أكن أعتقد بأنها سوف تطول ، و هذا ليس بغريب ، فالرحلة كانت طويلة ، و الأحداث كثيرة ، و في النهاية ( مش اخسارة في أحبابنا عرب اطرابلس ) إنْ طالت و تعددت التفاصيل .
( * ) : خدف الشيء ، هو رميه بالسبابة و الإبهام .
( ** ) : نسبة ًإلى آبار بنينة في بنغازي .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية